أمة اقرأ متى تقرأ؟
د. بدر عبد الحميد هميسه
القراءة مفتاح العلم , بل مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة , وأمة لا تقرأ أمة لا تعرف حاضرها من مستقبلها , أمة لا تأخذ عبرة من ماضيها , ولا تمتد جذورها إلى أصولها , أمة لا تقرأ أمة قد ماتت وكبَّر الناس عليها أربعا , ويكفي الأمة الإسلامية شرفا أن أول ما ابتدأ به نزول القرآن الكريم قوله تعالى: " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)سورة العلق.
فقد جمع الله تعالى في هذه الآيات المباركات بين عنصري التعلم : القراءة والكتابة, بل وجعل سورة كاملة من سور القرآن الكريم باسم ( القلم ) .
ومع أننا أمة ( اقرأ) لكن للأسف لا نقرأ، وإذا قرأنا لا نقرأ المفيد من الكتب إلا من رحم الله من هذه الأمة، والأغرب من ذلك تقرير إحدى الجامعات في عالمنا العربي الذي أكد أن 72% من خريجي الجامعات يتخرجون دون أن يقوموا باستعارة كتاب واحد من مكتبة الجامعة!
بل حتى من يقرأ من شبابنا وبناتنا لا يهتم – إلا من وفقه الله – إلا بكتب القصص والمغامرات والروايات الغرامية وفن الطهي , وكتب السحر والجن .
أذكر أنني ذات مرة ذهبت إلى بعض دور النشر ببعض الرسائل والأبحاث العلمية , فاعتذر لي صاحب الدار , وقال لو عندك أبحاث عن السحر والجن والطالع فسوف ننشرها لك فورا .
ومن أسباب عزوف الناس عن القراءة :
1. أسباب تربوية: حيث تغيب ثقافة الكتاب عن بعض البيوت والمحاضن التربوية .
2. أسباب شخصية : كالجهل والغرور والنظرة القاصرة للنفس ويدخل ضمنها ضعف المستوى التعليمي.
3. أسباب اقتصادية: بسب غلاء أسعار الكتب أو فقر الإنسان أو قصور دخله عما هو أهم أو ما يظنه أهم إضافة إلى استغراق بعض الأعمال جل اليوم .
4. أسباب إدارية : وتبرز عند من لا يحسن تنظيم وقته ولا يعرف أولوياته ولا يرتب أدواره الحياتية .
5. أسباب ترفيهية : فبعض الناس رفاهيته هي الأصل ولا مكان للجدية إلا في ركن قصي يضيق ولا يتسع . ولعل انتشار وسائل الإعلام والانترنت مما يدعم هذا الجانب .
6. أسباب منفعية : حيث يقول قائلهم : وأي شيء ناله القراء من كتبهم ؟! هل صاروا " نجوماً " كمن يحسن التحكم في قدمه أو حنجرته أو بعض جسده ؟. أمير بن محمد المدري:أمة اقرأ لا بد أن تقرأ ص 19.
والقراءة هي طريق العلم , ولولا القراءة لم يتعلم الإنسان ولم يحقق الحكمة من وجوده على هذه الأرض وهي عبادة الله وطاعته وعمارة هذه الأرض.
كما أنها من أقوى الأسباب لمعرفة الله سبحانه وتعالى وعبادته وطاعته وطاعة رسوله , وسبب لاكتساب الأخلاق الحميدة والصفات العالية والسلوك المستقيم وسبب لمعرفة الإنسان لما ينفعه ولما يضره في هذه الحياة من العلوم, وسبب لرفعة الإنسان في هذه الحياة وفي الآخرة قال تعالى : " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) سورة المجادلة .
والقراءة تنقلنا من عالم ضيق محدود الأفق إلى عالم آخر أوسع أفقًا وأبعد غاية.
إن القدرة على القراءة نعمة من أهم نعم الله علينا ، كغيرها من الوسائل التي آتاها الله ابن آدم، وإذا أردت أن تعرف هذه النعمة العظيمة فما عليك أيها القارئ، إلا أن تقارن بين نفسك وبين من لا يقرأ من أقاربك أو أصدقائك، لترى الفرق الهائل بينك وبينهم.
إن القراءة تفيد الإنسان فـي حياته، فهي توسع دائرة خبراته، وتفتح أمامه أبواب الثقافة، وتحقق التسلية والمتعة، وتكسب الطفل حساً لغوياً أفضل، ويتحدث ويكتب بشكل أفضل، كما أن القراءة تعطي الطفل قدرة على التخيل وبعد النظر، وتنمي لدى الطفل ملكة التفكير السليم، وترفع مستوى الفهم، وقراءة الطفل تساعده على بناء نفسه وتعطيه القدرة على حل المشكلات التي تواجهه.
لذا فقد اهتم العلماء بالقراءة , ووضعوا الكتاب في أرفع وأعلى الغايات , فقد جعلوه أنيسا وصديقا ورفيقا .
قال الجاحظ : الكتاب نعم الأنيس في ساعة الوحدة ونعم القرين ببلاد الغربة، وهو وعاء مليء علمًا وليس هناك قرين أحسن من الكتاب، ولا شجرة أطول عمرًا ولا أطيب ثمرة ولا أقرب مجتنى من كتاب مفيد، والكتاب هو الجليس الذي لا يمدحك والصديق الذي لا يذمك والرفيق الذي لا يملك ولا يخدعك إذا نظرت فيه أمتعك وشحذ ذهنك وبسط لسانك وجود بيانك وغذى روحك ونمى معلوماتك، وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يحقرك وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة.
ولو لم يكن من فضله عليك إلا حفظه لأوقاتك فيما ينفعك وصونها عما يضرك من فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة ومجالسة من لا خير فيهم، لكان في ذلك على صاحبه أسبغ نعمة وأعظم منة فالكتاب صديق يقطع أوقات فراغك في مؤانسة تنجيك من الوحدة المملة، كما ينقل إليك أخبار البلاد النائية فتعرف أنباءها كما تعرف أنباء بلدتك.
قال أحدهم :
لمحبرة تجالسني نهــاري *** أحب إلي من أنس الصديق
ورزمة كاغد في البيت عندي *** أحب إلي من عطر الدقيق
ولطمة عالم في الخد مــني *** ألذ لدي من شرب الرحيق
وقال آخر:
نعم المؤانس والجليس كتاب *** تخلو به إن خانك الأصحاب
لا مفشيـاً سراً ولا متكـدراً *** وتفاد منه حكمة وصـواب
ويقول أحدهم في وصف أسده على كتب العلم:
أجلّ مصائب الرجل العــليم *** مصائبه بأسفار العــلوم
إذا فقُد الكتاب فذاك خطــب *** عظيم قد يجل عن العميـم
وكم قد مات من أسف عـليهـا *** أناس في الحديث وفي القديم
وقال عمرو بن العلاء: ما دخلت قط على رجل ولا مررت بداره، فرأيته في بابه فرأيته ينظر في دفتر وجليسه فارغ إلا حكمت عليه أنه أفضل منه عقلاً، وقيل لرجل ما يؤنسك؟ فضرب على كتبه وقال: هذه، قيل فمن الناس، قال: الذين فيها.
وقيل لبعضهم أما تستوحش؟ قال: يستوحش من معه الأنس كله؟ قيل وما الأنس؟ قال: الكتب. وقيل لأبي الوليد إنك ربما حملت الكتاب وأنت رجل تجد في نفسك، قال: إن حمل الدفاتر من المروءة.
وعُذِلَ بعضُ العلماء في كثرة شراء الكتب، فقال:
وقائلةٍ أنفقتَ في الكُتْبِ ما حَوَت * * * يمينُك من مالٍ فقلتُ: دعيني
لعلِّي أرى فيها كتابًا يَدُلُّني* * * لأخْذِ كتابي آمِنًا بيميني
وللعلماء أخبار عجيبة في حب القراءة وملازمة الكتاب أكثر من أن تحصى أو تستقصى منها :
قال ابن أبي حاتم رحمه الله : كنت اقرأ على أبي وهو يقرأ وهو يكتب وهو يمشي وهو يركب وهو في بيت الخلاء ، ابن أبي حاتم شيخ الإسلام ولد شيخ الإسلام ، ابن أبي حاتم من كبار حفاظ الإسلام وأبوه أيضاً من كبار حفاظ الإسلام .
وابن تيمية كان إذا دخل الحمام يعطي لولده كتاباً يقول اقرأ في هذا الكتاب وارفع صوتك ، اقرأ في هذا الكتاب وارفع صوتك وهو في بيت الخلاء .
والخطيب البغدادي كان ما يمشي في طريق إلا وفي يده جزء يطالعه ، والنووي أيضاً ، والإمام ثعلب احد أئمة النحو والأدب كان إذا دعاه رجل إلي وليمة يشترط على صاحب الوليمة أن يجعل له فراغا لوضع كتاب ليقرا فيه ، أنا سأحضر لكن أعطني مجالاً ، لعل بيوتهم كانت ضيقة فيحصل فيها ازدحام ، يقول أنا اشترط أن أضع كتاب بين يدي اقرأ فيه ، وكان سبب موته انه خرج يوم الجمعة بعد العصر من المسجد وكان في يده كتاب يقرا فيه فجاءت فرس فصدمته فسقط في هوة فاُخرج وهو يتأوه ويصيح فمات اليوم الثاني ، ما كانوا يضيعون أوقاتهم ، جد واجتهاد في الصباح والمساء.
وروي الخطيب البغدادي في كتابه "تقييد العلم ":"عن أبي العباس المبرد ، قال : ما رأيت أحرص علي العلم من ثلاثه : الجاحظ ـ عمرو بن بحر إمام أهل الأدب ، ولد سنه 163، ومات سنة 255 ـ,والفتح بن خاقان المتوكل العباسي وزيراً له وأخاً ، واجتمعت له خزانة كتب حافلة من أعظم الخزائن ، توفي سنه 247 ، وإسماعيل بن إسحاق القاضي ـ الإمام الفقيه المالكي البغدادي ، ولد سنه 200 ، ومات سنه 282ـ .
- فأما الجاحظ فإنه كان إذا وقع بيده كتاب قرأه من أوله إلي أخره ، أي كتاب كان ، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر في الكتب .
حدث أبو هِفَّان قال : "لم أر قط ، ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ ، فإنه لم يقع في يده كتاب إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان ، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ، ويبيت فيها للنظر .
- وأما الفتح بن خاقان فإنه كان يحمل الكتاب في كمه أو في خفه ، فإذا قام من بين يدي المتوكل للبول أو الصلاة ، أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي ، حتى يبلغ الموضوع الذي يريده ، ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه ، إلي أن يأخذ مجلسه . فإذا أراد المتوكل القيام لحاجه ، أخرج الكتاب من كمه أو خفه ، وقرأه في مجلس المتوكل إلي حين عوده .
وكانت لمحمد بن سحنون سريه ـ أي جاريه مملوكه ـ يقال لها أم مدام ،فكان عندها يوماً ، وقد شغل في تأليف كتاب إلي الليل ،فحضر الطعام , فاستأذنته فقال لها : أنا مشغول الساعة .فلما طال عليها ـ الانتظار ـ جعلت تلقمه الطعام حتى أتي عليه ، وتمادي هو علي ماهو فيه , إلي أن أذن لصلاه الصبح ، فقال شغلنا عنك الليلة يا أم مدام !هات ما عندك , فقالت : قد ـ والله يا سيدي ـ ألقمته لك ،فقال : ما شعرت بذلك ".
وقال أبو حصين: كنا نذهب بأبي عبد الرحمن من مجلسه وكان أعمى. وقال عطاء بن السائب: كنت أقرأ على أبي عبد الرحمن وهو يمشي.
وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم أن أبا عبد الرحمن قرأ على علي -رضي الله عنه، وعن عاصم عن أبي عبد الرحمن قال: خرج علينا علي -رضي الله عنه- وأنا أقرأ.
وقال أبو جناب الكلبي: حدثني أبو عون الثقفي، قال: كنت أقرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، وكان الحسن بن علي -رضي الله عنهما- يقرأ عليه. معرفة القراء الكبار للذهبي 1/10.
وإسماعيل بن إسحق القاضي ، فإني ما دخلت إليه إلا رأيته ينظر في كتاب ، أو يقلب كتابًا ، أو ينفضها".معجم الأدباء: 16/75، ترجمة: عمرو بن بحر الجاحظ.
وقال الحافظ ابن عبدالهادي في وصف شيخه ابن تيمية (لا تكاد نفسُه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تملُّ من الاشتغال، ولا تكلُّ من البحث، وقَلَّ أن يدخل في علمٍ من العلوم في بابٍ من أبوابه إلا ويُفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك أشياء في ذلك العلم على حُذَّاق أهله). مختصر طبقات علماء الحديث (4/ 282)،
وقال الإمام ابن القيم في (روضة المحبِّين) وحدَّثني شيخنا -يعني ابنَ تيمية- قال: ابتدأني مرضٌ، فقال لي الطبيب: إن مُطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقلت له: لا أصبر على ذلك، وأنا أحاكمك إلى علمك، أليست النفس إذا فرحت وسُرَّت وقَوِيت الطبيعةُ فدفعت المرضَ؟ فقال: بلى، فقلت له: فإن نفسي تُسرُّ بالعلم فتقوى به الطبيعةُ فأجدُ راحةً، فقال: هذا خارجٌ عن علاجنا...)) اهـ.
وقال الحافظ يحيى بن عبدالوهاب (ابن منده): كنتُ مع عمي عبيدالله في طريق نَيْسابور، فلما بلغنا بِئر مَجَنَّة، قال عمِّي: كنت ها هنا مرَّةً، فعرضَ لي شيخ جمَّال، فقال: كنتُ قافلاً من خراسان مع أبي، فلمَّا وصلنا إلى ها هنا، إذا نحن بأربعين وِقْرًا من الأحمال، فظننا أنها منسوج الثياب، وإذا خيمة صغيرة فيها شيخ، فإذا هو والدك، فسأله بعضُنا عن تلك الأحمال؟ فقال: هذا متاعٌ قلَّ من يرغبُ فيه في هذا الزمان، هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ . سِيَر النبلاءِ (17/ 37).
ذكر الذهبي في (السير): عن نُعيم بن حماد قال: كان ابن المبارك يُكثر الجلوسَ في بيته، فقيل له: ألا تستوحِش؟ فقال: كيف أستوحِشُ وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟*! اهـ.
وساق ابن عبدالبر بسنده في (جامع بيان العلم وفضله) (2/ 1227- 1228) أن أحمد بن محمد بن شجاع بعثَ غلامًا من غِلْمانه إلى أبي عبدالله بن الأعرابي -صاحب الغريب- يسأله المجيءَ إليه، فعاد إليه الغلام، فقال: قد سألته ذلك، فقال لي: عندي قوم من الأعراب، فإذا قضَيتُ أَرَبي منهم أتيتُ، قال الغلام: وما رأيتُ عنده أحدًا، إلا أن بين يديه كتبًا ينظر فيها، فينظر في هذا مرَّة وفي هذا مرة، ثم ما شعرنا حتى جاء، فقال له أبو أيوب: يا أبا عبدالله! سبحان الله العظيم، تخلَّفت عنَّا وحَرَمْتنا الأُنسَ بك، ولقد قال لي الغلامُ: إنه ما رأى عندك أحدًا، وقلتَ: أنا مع قومٍ من الأعراب، فإذا قضيتُ أَرَبي معهم أتيتُ، فقال ابنُ الأعرابي:
لنا جُلَساءٌ ما نَمَلُّ حديثَهم* * * ألِبَّاءُ مأمونون غَيْبًا ومَشْهدا
يُفيدوننا من علمهم علمَ ما مضى* * * وعقلاً وتأديبًا ورأيًا مُسَدَّدا
بِلا فتنةٍ تُخشى ولا سوء عِشْرةٍ* * *ولا يُتَّقَى منهم لسانًا ولا يدا
فإن قلتَ: أمواتٌ فلا أنتَ كاذِبٌ * * * وإن قلتَ: أحياءٌ فلستَ مُفنَّدا
قال الجاحظ في كتاب (الحيوان): ((قال ابنُ داحة: كان عبدُالله ابن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، لا يجالِسُ الناسَ، وينزلُ مقبُرَة من المقابر، وكان لا يكاد يُرى إلا وفي يده كتابٌ يقرؤه، فسُئل عن ذلك، وعن نزوله المقبُرَة؟ فقال:لم أرَ أوْعظ من قَبْر، ولا أمنعَ من كتابٍ، ولا أسلَمَ مِن الوَحْدة. فقيل له: قد جاء في الوَحْدة ما جاء! فقال: ما أفْسَدَها للجاهل وأصلحها للعاقل ا. الخطيب في (تقييد العلم): (ص/ 142)، وابن عبدالبر في (الجامع): (2/ 1231).
عن الزُّبير ابن أبي بكر بكَّارٍ قال: قالت ابنة أختي لأهلنا: خالي خيرُ رجلٍ لأهله، لا يتخذ ضرَّةً ولا يشتري جارية. قال: تقولُ المرأةُ (أي زوجته): والله لَهَذه الكتب أشدُّ عليَّ من ثلاثِ ضرائر!!)) اهـ. أخرج الخطيبُ في (الجامع لأخلاق الراوي والسامع) وانظر (سير النبلاء): (12/ 313).
وذكر ابن رجب في (الذيل) في ترجمة عبدالصمد بن أحمد ابن أبي الجَيْش البغدادي العلامة المتفنِّن ت (676) أنه صنَّف خُطبًا انفرد بِفنِّها وأُسلوبها وما فيها من الصَّنْعة والفصاحة، وجمع منها شيئًا كثيرًا، ذهبَ في واقعة بغداد مع كتبٍ له أُخرى بخطِّه وأُصوله، حتى كان يقول: ((في قلبي حَسْرتان: ولدي وكُتُبي)) (وكانا قد فُقِدا جميعًا في واقعة بغداد). ذيل طبقات الحنابلة (2/ 292).
وقال ابن خلكان في ترجمة الشريف المرتضى أبي القاسم علي بن الطاهر ت (436) في كتابه: (وفيات الأعيان): (4/ 165). حكى الخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التِّبْريزي اللغوي، أن أبا الحسن علي بن أحمد ابن علي بن سلَّك الفالي الأديب، كانت له نسخة بكتاب ((الجمهرة)) لابن دُرَيْد في غاية الجَوْدَة، فدعته الحاجة إلى بيعها فباعها، واشتراها الشريف المرتضى أبو القاسم -المذكور- بستين دينارًا، وتصفَّحها فوجدَ بها أبياتًا بخط بائعها أبي الحسن الفالي، وهي:
أنِسْتُ بها عِشرينَ حولاً وَبِعْتُها * * * لقد طالَ وَجْدي بعدَها وحنيني
وما كان ظَنِّي أَنَّني سأَبيعها * * * ولو خلَّدتني في السجون ديوني
ولكن لضعفٍ وافتقارٍ وصِبْيَةٍ * * * صِغارٍ عليهم تَسْتَهِلُّ شُؤوني
فقلتُ ولم أَمْلك سوابق عَبْرةٍ * * * مقالة مكويِّ الفؤادِ حَزِينِ:
وقد تُخرجُ الحاجاتُ يا أمَّ مالكٍ * * * كرائمَ من ربٍّ بهنَّ ضنينِ
ولحب القراءة مات الجاحظ تحت كتبه، وتوفي مسلم صاحب الصحيح وهو يطالع كتاباً، وكان أبو الوفاء ابن عقيل يقرأ وهو يمشي.وقال ابن الجوزي: قرأت في شبابي عشرين ألف مجلده،أحمد بن حنبل يطوف
الدنيا ليجمع أربعين ألف حديث في المسند، وابن حجر يؤلّف فتح الباري ثلاثين مجلداً، وابن عقيل
الحنبلي يؤلف كتاب الفنون سبعمائة مجلد، وابن خلدون يسجّل اسمه في عواصم الدنيا، وابن رشد
يجمع المعارف الإنسانية وقال المتنبي: وخير جليس في الزمان كتاب،وقال الطنطاوي: أنا من ستين سنة أقرأ كل يوم خمسين صفحة ألزمت نفسي بها .
جمالَ ذي الدارِ كانوا في الحياةِ وهمْ * * * بعدَ المماتِ جمالُ الكتبِ والسيَرِ
يقول ابن صمادح حيث يقول:
وزهدني في الناس معرفتي بهم * * * وطول اختباري صاحباً بعد صاحبِ
فلم ترني الأيام خلاًّ تسرني * * * مباديه إلاّ ساءني في العواقبِ
ولا قلت أرجوه لكشف ملمةٍ * * * من الدهر إلاّ كان إحدى المصائبِ!
فليس معي إلاّ كتاب صحبته * * * يؤانسني في شرقها والمغاربِ
وقال آخر:
نعم المحدث والرفيق كتاب * * *تلهو به إن خانك الأصحاب
لا مفشياً للسـر إن أودعتـه* * * وينال منه حكمـة وصـواب
وقال شوقي:
أَنا مَن بَدَّلَ بِالكُتبِ الصِحابا *** لَم أَجِد لي وافِيًا إِلا الكِتابا
صاحِبٌ إِنْ عِبتَهُ أَو لَم تَعِبْ *** لَيسَ بِالواجِدِ لِلصاحِبِ عابا
كُلَّما أَخلَقتُهُ جَدَّدَني *** وَكَساني مِن حِلى الفَضلِ ثِيابا
صُحبَةٌ لَم أَشكُ مِنها ريبَةً *** وَوِدادٌ لَم يُكَلِّفني عِتابا
رُبَّ لَيلٍ لَم نُقَصِّر فيهِ عَن *** سَمَرٍ طالَ عَلى الصَمتِ وَطابا
كانَ مِن هَمِّ نَهاري راحَتي *** وَنَدامايَ وَنَقلِيَ وَالشَرابا
إِن يَجِدني يَتَحَدَّث أَو يَجِد *** مَلَلاً يَطوي الأَحاديثَ اقتِضابا
تَجِدُ الكُتبَ عَلى النَقدِ كَما *** تَجِدُ الإِخوانَ صِدقًا وَكِذابا
فَتَخَيَّرها كَما تَختارُهُ *** وَادَّخِر في الصَحبِ وَالكُتبِ اللُبابا
صالِحُ الإِخوانِ يَبغيكَ التُقى *** وَرَشيدُ الكُتبِ يَبغيكَ الصَوابا
هذا عن القراءة الجناح الأول من أجنحة العلم والتعلم , أما عن الكتابة التي هي الجناح الثاني , فقد اهتم بها العلماء اهتماما بالغا , وجعلوا من أسس العلم تقييده بالكتابة .
وقال الحسن بن علي لبنيه وبني أخيه: "تعلموا العلم، فإنكم إن تكونوا صغار قوم تكونوا كبارهم غداً، فمن لم يحفظ فليكتب" المدخل إلى السنن الكبرى رقم 642 وعزاه المحقق إلى ابن سعد في الطبقات 6/87 عن الحماني.
أنشد مالك رحمه الله :
العلمُ صيدٌ والكتابةُ قَيْدُه***قَيدْ صُيودَك بالحِبَالِ الواثقهْ
فمِنَ الجَهَالة أن تصِيدَ غزالة ***وتتركُها بَيْنَ الأوانِس مطلقهْ
فهذا الإمام البخاري –رحمه الله- (جَبَلُ الحِفْظ) يستيقظ مراتٍ كثيرة في الليل ليُقَيِّد الفوائد، قال راويته الفَرَبري: (كنت مع محمد بن إسماعيل بمنزله ذات ليلةٍ، فأحصيت عليه أنه قام وأسْرَجَ يستذكر أشياءَ يُعلِّقها في ليلةٍ ثمان عشرة مرَّة). (السير): (12/ 404).
وهذا الإمام الشافعي (204) يحكي عنه صاحبُه الحُمَيْديُّ –لمَّا كانا بمصر- أنه كان يخرج في بعض الليالي فإذا مصباح منزل الشافعي مُسْرج، فيصعد إليه فإذا قِرْطاس ودَوَاة، فأقول: مَهْ يا أبا عبدالله! فيقول: تفكّرت في معنى حديث –أو في مسألة- فخِفْت أن يذهب عَلَيَّ، فأمرت بالمصباح وكتبته. (آداب الشافعي ومناقبه): (ص/ 44- 45) لابن أبي حاتم.
وذكر ابنُ الأبَّار الحافظُ في معجم أصحاب الصدفي في ترجمة العلاَّمة أبي القاسم ابن ورد التميمي (540) أنه كان لا يُوْتى بكتابٍ إلا نظر أعلاه وأسفله، فإن وجد فيه فائدة نقلَها في أوراق عنده، حتى جمع من ذلك موضوعًا.
وذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة الإمام الزركشي (794) صاحب البحر المحيط وغيره أنه كان يتردد إلى سوق الكتب، فإذا حضره أخَذَ يُطَالع في حانوت الكتبي طول نهاره، ومعه ظهور أوراق يُعلِّق فيها ما يعجبه، ثم يرجع فينقله إلى تصانيفه. (الدرر الكامنة): (3/ 397- 398).
"وقد دوّن كثير من العلماء هذه الفوائد في كتب مفردة، مثل: ((الفنون)) لابن عقيل وهو من أضخم الكتب، و((الفوائد العونية)) للوزير ابن هبيرة، و((صيد الخاطر)) وغيره لابن الجوزي، و((قيد الأوابد)) في (400 مجلد) للدعولي، و((عيون الفوائد)) لابن النجار في (6 أسفار)، و((بدائع الفوائد)) و((الفوائد)) لابن القيم، و((التذكرة)) للكندي في (50 مجلدًا)، و((مجمع الفوائد ومنبع الفرائد)) للمقريزي كالتذكرة له في نحو (100 مجلد) وتذكرة السيوطي في أنواع الفنون في 50 مجلدًا، وتذكرة الصفدي في مجلدات كثيرة أكثر من (30) منها أجزاء مخطوطة. وغيرها كثير."
ومن كلامهم المشهور : لا تحملوا العلم عن صَحَفي ، ولا القرآن عن [ مُصْحَفي فقيل ] الصحفي [ هو ] : الذي يروي الخطأ على قراءة الصحف باشتباه الأحرف . وقيل : إن أصل هذا أن قوماً كانوا أخذوا العلم من الصحف من غير أن ينقلوا فيه من العلماء ، فكان فيما يرويه التغيير ، فقيل عندها : قد صحفوا أي روَوْه عن الصحف ، فهو مصحّف .
روى صالح ابن الإمام أحمد بن حنبل فقال : رأى رجل مع أبي محبرةً فقال له: يا أبا عبدالله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين، فقال : " من المحبرة إلى المقبرة " .
وما من كاتب الا سيبلى * * * ويبقى الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شئ * * * يسرك في القيامة أن تراه
وأخيرا تذكر ثم تذكر أن ما قرأته وعلمته سيكون حجة ...إما لك أو عليك ... فلا تستكثرن من حجج الله عليك .
فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول :كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن ).
أثر عن علي رضي الله عنه وعن غيره : " هتف العلم بالعمل ، فإن أجابه وإلا ارتحل ".اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي 36.
وقال الزهري: "إن للعلم غوائل، فمن غوائله أن يترك العمل به حتى يذهب، ومن غوائله النسيان، ومن غوائله الكذب فيه، وهو شر غوائله".
وسئل سفيان الثوري: طلب العلم أحبّ إليك أو العمل؟ فقال: "إنما يراد العلم للعمل، فلا تدع طلب العلم للعمل، ولا تدع العمل لطلب العلم".
فالعمل هو : ثمرة العلم ، والعلم مقصود لغيره بمنزلة الشجرة ، فلا بد مع العلم بدين الإسلام من العمل به ، فإن الذي معه علم ولا يعمل به شر من الجاهل .
وقد ألف الخطيب البغدادي رسالة لطيفة سماها : (العلم يقتضي العمل ، فحذار أن تتشبه باليهود والنصارى ، فاليهود يعلمون ولا يعملون ، والنصارى يعملون بلا علم ، فاليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ) .
عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ.أخرجه الدارمي (537". والترمذي (2417).
قال الشاعر:
فاعمل بعلمك تغنم أيها الرجل * * *لا ينفع العلم إن لم يحسن العمل
والعلم زينٌ وتقوى الله زينته* * * والمتقـون لهم في علمهم شغـل
عَنْ أم سَلَمَةَ ؛أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ يُسَلِّمُ : اللَّهُمَّ إِنَي أسالك عِلْمًا نَافِعًا ، وَرِزْقًا طَيِّبًا ، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً.
أخرجه "أحمد" 6/294 و"ابن ماجة" 925 و"النَّسائي" في عمل اليوم والليلة (102) .
اللهم اجعلنا ممن يقرأون فيفهمون , ويفهمون فيعملون , ويعملون فيخلصون , ويخلصون فيقبلون.