بيع ما ليس عندك :عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ r يَأْتِينِى الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّى الْبَيْعَ لَيْسَ عِنْدِى أَفَأَبْتَاعُهُ لَهُ مِنَ السُّوقِ فَقَالَ « لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ »([1])
عن عَمْرو بْن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عن جده عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r «لاَ يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلاَ شَرْطَانِ فِى بَيْعٍ وَلاَ رِبْحُ مَا لَمْ تَضْمَنْ وَلاَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»([2])
علة النهي عن بيع ما ليس عندك :
جاء النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده ؛ لأنه من بيوع الغرر ، فهو يبيعه شيء معين ليس في حوزته بعد ، وسيذهب ويشتريه له ، فإن العقد على هذه الحال عقد باطل ، لأنه قد يعجز عن تسليمه ما وعده بشرائه.
ثم فيه نوع من الطمع والجشع ، فهو إن لم تكن السلعة عنده ، فليتركه حتى يشتريها ممن هي عنده فينتفع أخوه المسلم من ذلك أيضا ، فكذلك هو أكيد عنده ما ليس عند غيره ، فلو جاء كل واحد مشترِ وأوقفه على نفسه ولم تسمح نفسه أن يتركه ليشتري من غيره فلا شك أن هذا طمع وجشع ، وقد أمرنا النبي r (أن نحب لغيرنا ما نحب لأنفسنا)
معنى بيع ما ليس عندك :
قال ابن المنذر رحمه الله([3]): كان الشافعي يقول([4]): معناه أن أبيع شيئا بعينه ، وليس عندي.
والدليل على ذلك : أن النبي r رخص في السلف (بيع السلم) ، وهو بيع الطعام المضمون بصفة ، وإن لم يكن عندي.
وقال أحمد وإسحاق ([5]): معناه أن يقول لصاحبه : اشترِ كذا وكذا ، وأشتريها منك.
وقال بعضهم : معناه بيع العبد الآبق والبعير الشارد والرهن والشيء المغصوب.
وقال ابن المنذر : وأصح ذلك :
أن أبيع ما ليس عندي ، مما ملكه لغيري ، على أن عليَّ خلاصه ، وهذا من بيوع الغرر ، لأني قد أقدر عليه ، ولا أقدر عليه.
قلتُ : ما ذكره ابن المنذر هنا كله يدخل في بيع الإنسان ما ليس عنده.
والصورة التي رأى ابن المنذر أنها أصح ، هي ما تُشبه بيع الفضولي ، الراجح عدم صحة هذا البيع.
- ومذهب مالك في تفسير (النهي عن بيع ما ليس عندك)
قال في كفاية الطالب([6]) معلقا على قوله في الرسالة : (ولا يجوز بيع ما ليس عندك على أن يكون عليك حالا): يحتمل أن يكون معناه :
أن السلع المعينة يمتنع بيعها قبل شرائها ، مثل أن يقول له : اشترِ مني سلعة فلان ؛ لأنه غرر إذ لا يدري ، هل يبيعها فلان أم لا ؟ وهل يكون بمثل الثمن أو أقل ؟ فيكون ما بقي له من أكل أموال الناس بالباطل ، أو يكون بأكثر من الثمن ، فيخسر الزائد .
ويحتمل وهو الظاهر : أنه أراد السلم الحال ، وهو أن يبيع شيئا في ذمته ليس عنده على أن يمضي للسوق فيشتريه ويدفعه للمشتري ، لأنه غرر لأنه إما أن يجده أو لا ، وإذا وجده فإما بأكثر مما باعه فيؤدي من عنده ما يكمل به الثمن ، وذلك من السفه المنهي عنه وإما أن يجده بأقل فيأكل ما بقي باطلا وهو لا يجوز.انتهى.
وقال ابن القاسم في المدونة([7]) : ولا يجوز للرجل أن يبيع ما ليس عنده بعين ولا بعرض، إلا أن يكون على وجه السلف مضموناً عليه.انتهى.
أما مذهب الأحناف : فبيع ما ليس عندك : معناه : أن يبع الإنسان ما ليس في ملكه.
قال الكاساني الحنفي([8]) : شرط انعقاد البيع للبائع أن يكون مملوكا للبائع عند البيع فإن لم يكن لا ينعقد ، وإن ملكه بعد ذلك بوجه من الوجوه إلا السلم خاصة ، وهذا بيع ما ليس عنده. ثم قال والمراد منه : بيع ما ليس عنده ملكًا. انتهى.
ما يستثنى من بيع ما ليس عند الإنسان :
يستثنى من هذا البيع بيع السَّلَم([9]) ، وفيه يتم قبض رأس المال في مجلس التعاقد على سلعة ليست حاضرة ، يضبطها المشتري للبائع بالصفات ، يُحضرُها له في وقت اتفقا عليه ، على أن يكون الغالب وجود تلك السلعة في ذلك الوقت.
فعَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عَبَّاسِ رضي اللّه عَنْهُمَا قَالَ : قَدِمَ رَسُولُ اللّه r الْمَدِينة وَهمْ يُسْلِفون في الثّمَارِ السنةَ والسنتين والثَّلاثَ. فقال r ( مَنْ أسلَفَ في شَيءٍ فَلْيُسْلِفْ في كَيْل مَعْلُوم، وَوَزْنٍ مَعْلُوم، إلَى أجل مَعْلُوم)([10])
[1] ) (سنده حسن لغيره ) مسند أحمد [15346] سنن أبي داود [3505] الترمذي [1232] ابن ماجة [2187] الطيالسي [1456] وعلة سنده : أن : يوسف بن ماهك لم يسمع من حكيم بن حزام، إلا أنه يشهد له الحديث الذي بعده.
[2] ) (سنده حسن) مسند أحمد [6628] سنن أبي داود [3506] الترمذي [1234] ابن ماجة[2188] سنن النسائي الكبرى [6204] الطيالسي [2371]
[3] ) الإشراف لابن المنذر [ج6- ص24] والأوسط له [ج10 – ص51] وانظر شرح ابن بطال للبخاري [ج6 –ص260]
[4] ) انظر الأم للشافعي [ج7 – ص20] ط دار الفكر. قال الماوردي في الحاوي [ج5 – ص325] (بيع ما ليس عندك) اختلف أصحابنا في مراد الشافعي : فقال بعضهم : أراد به أن يبيع الرجل سلعة لا يملكها بيعا عن نفسه لا عن مالكها ، ثم يمضي فيبتاعها ويدفعها إلى مشتريها ، وهذا بيع باطل ، لا أعلم فيه خلافا : لورود النهي نصًا فيه.
وقال آخرون : بل أراد الشافعي بقوله : ومن بيوع الغرر عندنا بيع ما ليس عندك ، بيع العين الغائبة على خيار الرؤية ، فإن أصح القولين من مذهبه بطلان أصل البيع فيها : لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ، وبيع العين الغائبة غرر .
واتفق أصحابنا على أن الشافعي لم يرد بهذا القول بيع ملك الغير على إجازته : لأنه قد نص عليه من بعد ، واحتج على مخالفيه فيه.انتهى.
قلتُ : نص الشافعي على المراد من النهي عن بيع ما ليس عندك فقال كما في الأم [ج7 – ص20] فقال : نهى النبي r عن بيع ما ليس عندك على بيع العين لا يملكها وبيع العين بلا ضمان.انتهى.
[5] ) مسائل أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه [ج6- ص2658] قال ابن الكوسج : قلت (أي لأحمد) : بيع ما ليس عندك ؟ أن يقول لصاحبه : اشتر كذا وكذا اشتريه منك؟ قال: أكرهه.
قال إسحاق: كما قال ، وهو أن يبيع الرجل الشيء كيلاً، أو وزناً، وليس عنده أصله.انتهى.
وذكر ابن قدامة الحنبلي ما يوافق قول الشافعي [ج5 – ص590] قال : ولا يجوز أن يبيع عينًا لا يملكها ليمضي ويشتريها ويسلمها رواية واحدة وهو قول الشافعي ولا نعلم فيه مخالفاً.
[6] ) كفاية الطالب الرباني مع حاشية العدوي [ج2 – ص182] ط دار الفكر.
[7] ) تهذيب المدونة لابن القاسم [ج2]
[8] ) بدائع الصنائع [ج6 – ص 504] ط دار الحديث.
[9] ) وسيأتي الحديث عن بيع السلم حديثا مفصلا مستقلا إن شاء الله.
[10] ) (صحيح) البخاري [2124] مسلم [1604]