وأهل المغرب جميعاً مقلدون لمالك رحمه الله. وقد كان تلاميذه افترقوا بمصر والعراق، فكان بالعراق منهم القاضي إسماعيل وطبقته مثل ابن خويز منداد وابن اللبان والقاضي أبو بكر الأبهري، والقاضي أبو الحسين بن القصار والقاضي عبد الوهاب ومن بعدهم. وكان بمصر ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم والحارث بن مسكين وطبقتهم. ورحل من الأندلس يحيى بن يحيى الليثي، ولقي مالكاً. وروى عنه كتاب الموطأ، وكان من جملة أصحابه. ورحل بعده عبد الملك بن حبيب، فأخذ عن ابن القاسم وطبقته، وبث مذهب مالك في الأندلس ودون فيه كتاب الواضحة. ثم دون العتبي من تلامذته كتاب العتبية. ورحل من إفريقية أسد بن الفرات، فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أولاً، ثم انتقل إلى مذهب مالك. وكتب علي بن القاسم في سائر أبواب الفقه، وجاء إلى القيروان بكتابه وسمي الأسدية نسبة إلى أسد بن الفرات، فقرأ بها سحنون على أسد ثم ارتحل إلى المشرق ولقي ابن القاسم وأخذ عنه، وعارضه بمسائل الأسدية، فرجع عن كثير منها. وكتب سحنون مسائلها ودونها وأثبت ما رجع عنه منها، وكتب معه ابن القاسم إلى أسد أن يمحو من أسديته ما رجع عنه، وأن يأخذ بكتاب سحنون فأنف من ذلك، فترك الناس كتابه واتبعوا مدونة سحنون، على ما كان فيها من اختلاط المسائل في الأبواب فكانت تسمى المدونة والمختلطة. وعكف أهل القيروان على هذه المدونة وأهل الأندلس على الواضحة والعتبية. ثم اختصر ابن أبي زيد المدونة والمختلطة في كتابه المسمى بالمختصر ولخصه أيضاً أبو سعيد البرادعي من فقهاء القيروان في كتابه المسمى بالتهذيب، واعتمده المشيخة من أهل إفريقية واخذوا به، وتركوا ما سواه. وكذلك اعتمد أهل الأندلس كتاب العتبية وهجروا الواضحة وما سواها. ولم يزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الامهات بالشرح والإيضاح والجمع ، فكتب أهل إفريقية على المدونة ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن يونس واللخمي وابن محرز والتونسي وابن بشير وأمثالهم. وكتب أهل الأندلس على العتبية ما شاء الله أن يكتبوا، مثل ابن رشد وأمثاله. وجمع ابن أبي زيد جميع ما في الامهات من المسائل والخلاف والأقوال في كتاب النوادر،. فاشتمل عين جميع أقوال المذاهب، وفرع الامهات كلها في هذا الكتاب. ونقل ابن يونس معظمه في كتابه على المدونة، وزخرت بحار المذهب المالكي في الآفقين إلى انقراض دولة قرطبة والقيروان. ثم تمسك بهما أهل المغرب بعد ذلك، أ إلى ان جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب، لخص فيه طرق أهل المذهب في كل باب، وتعديد أقوالهم في كل مسئلة، فجاء كالبرنامج للمذهب. وكانت الطريقة المالكية بقيت في مصر من لدن الحارث بن مسكين، وابن المبشر وابن اللهيت وابن رشيق وابن شاس. وكانت بالإسكندرية في بني عوف وبني سند وابن عطاء الله. ولم أدر عمن أخذها أبو عمرو بن الحاجب، لكنه جاء بعد انقراض دولة العبيديين، وذهاب فقه أهل البيت وظهور فقهاء السنة من الشافعية والمالكية. ولما جاء كتابه إلى المغرب آخر المائة السابعة، عكف عليه الكثير من طلبة المغرب، وخصوصا أهل بجاية، لما كان كبير مشيختهم أبو علي ناصر الدين الزواوي هو الذي جلبه إلى المغرب. فإنه كان قرأ على أصحابه بمصر ونسخ مختصره ذلك، فجاء به وانتشر بقطر بجاية في تلميذه، ومنهم انتقل إلى سائر الأمصار المغربية. وطلبة الفقه بالمغرب لهذا العهد يتداولون قراءته ويتدارسونه، لما يؤثر عن الشيخ ناصر الدين من الترغيب فيه. وقد شرحه جماعة من شيوخهم كابن عبد السلام وابن رشد وابن هارون، وكلهم من مشيخة أهل تونس، وسابق حلبتهم في الإجادة في ذلك ابن عبد السلام، وهم مع ذلك يتعاهدون كتاب التهذيب في دروسهم. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.