بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة التاسعة
(بعض أذكار الصباح والمساء والثابت منها)
حديث: "من قال إذا أصبح وإذا أمْسى: حَسْبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلتُ، وهو ربُّ العرش العظيم، سَبْع مرات؛ كفاه الله ما أهمه، صادقًا كان بها أو كاذبًا"
جاء هذا الحديث مسندًا، ومرسلاً، وموقوفًا، وبالزيادة الأخيرة، وبدونها:
فأما الموقوف: فقد أخرجه أبو داود في "سننه" (5/201/برقم 5081) – من رواية أبي بكر بن داسة، كما قال المزي في "الأطراف" (8/246)- من طريق يزيد بن محمد الدمشقي، وأخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (36/149) من طريق أبي زرعة الدمشقي – وهو عبد الرحمن بن عمرو الحافظ- وأخرجه في (36/149-150) من طريق محمود بن أبي زرعة عن إبراهيم بن عبدالله بن صفوان، ثلاثتهم عن عبد الرزاق بن عمر بن مسلم الدمشقي ثنا مُدْرك بن سعد عن يونس بن ميسرة بن حَلْبَس عن أم الدرداء عن أبي الدرداء – رضي الله عنه- قال: .... فذكره.
وهذا سند موقوف حسن: عبد الرزاق بن عمر بن مسلم: صدوق عابد، ومُدْرك: لا بأس به، ويونس بن ميسرة: ثقة عابد مُعَمَّر، وأم الدرداء: زوج أبي الدرداء – رضي الله عنه- هي الصغرى، واسمها هجيمة، وهي ثقة فقيهة.
فهذا سند حسن موقوف، ومثله لا يقال بالرأي، فإن فيه ذِكْرًا مقيّدًا بعدد، وثوابًا ترتَّب على هذا الذِّكْر، وهذا أمر غيبي، وأبو الدرداء – رضي الله عنه- لم يُعرف بالأخْذ عن بني إسرائيل، فمثله له حُكْم الرفع، والله أعلم.
وأما المسند: فقد أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص36-37/برقم 71) من طريق أحمد بن عبد الله بن عبد الرزاق الدمشقي، من رواية أحمد –وفي نسخة: محمد- بن سليمان الجرمي عنه، ثنا عبد الرزاق بن مسلم الدمشقي ثنا مُدرك بن سعد عن يونس بن ميسرة سمعت أم الدرداء عن أبي الدرداء عن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: "من قال في كل يوم حين يُصْبح وحين يُمسي، حسبي الله، لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، سبع مرات؛ كفاه الله – عز وجل- همه من أمر الدنيا والآخرة".
وأخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (36/193): من طريق أبي محمد عبد الرزاق نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرزاق به، فذكره دون قوله: "حسبي الله" ولعله سقط، والله أعلم، وذكره أيضًا بزيادة: "صادقًا كان بها أو كاذبًا".
ومن نظر فيما سبق؛ وجد ما يلي:
1- أن عبد الرزاق بن عمر بن مسلم قد اختُلف عليه: فرواه يزيد بن محمد الدمشقي، (وهو صدوق) وأبو زرعة الدمشقي، (وهو أحد الحفاظ) وإبراهيم بن عبد الله بن صفوان، وظاهر كلام شيخنا الألباني – رحمه الله- في "الضعيفة" (11/450) أنه ثقة، إلا أن في السند إليه محمود بن أبي زرعة، وترجمته في "تاريخ دمشق" (57/124) تدل على عدم الاحتجاج به، وهؤلاء الثلاثة أوقفوه عن عبد الرزاق بن عمر بن مسلم به.
أما أحمد بن عبد الله بن عبد الرزاق الدمشقي، الذي ترجمه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (71/234) بقوله: "الشيخ الصالح الثقة" فقد خالفهم، مع الاختلاف عليه في ذكر جملة "صادقًا كان بها أو كاذبًا" لكن لا خلاف عليه في إسناد الحديث، وإن كان في السند إليه في لفظ "كفاه الله همه من أمر الدنيا والآخرة": أحمد – وفي نسخة محمد- بن سليمان الجرمي شيخ ابن السني، وترجمته في "تاريخ دمشق" (53/174) تدل على أنه لا يُحتج به، وأما الرواية الأخرى عن أحمد بن عبد الله بن عبد الرزاق، ففي السند إليه من يحتاج إلى نظر، ومن فيه نظر أيضًا.
وعلى كل حال: فالتصريح بالرفع – لو فرضنا صحة السند إلى أحمد بن عبد الله بن عبد الرزاق- لا يسْلم من الشذوذ، لمخالفته من هم أكثر وأحفظ.
2- الراجح رواية الوقف، لكن لها حُكْم الرفع لما سبق ذِكره، وقد قال المنذري في الترغيب والترهيب" (1/332): "وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال من قِبَل الرأي والاجتهاد، فسبيله سبيلُ المرفوع" اهـ.
3- زيادة: "صادقًا كان بها أو كاذبًا" حَكم عليها الحافظ ابن كثير بأنها زيادة غريبة، وذكر الحديث بالزيادة، وقال: هذا منكر اهـ من "تفسير ابن كثير" آخر سورة التوبة (4/244).
قلت: ولعل وجْه الغرابة أو النكارة: أنه كيف يكون هذا الثواب لمن قال هذا الذِّكْر حال كونه كاذبًا فيما يقول؟ وهذا الوجه له حظٌّ من الوجاهة، وإن كان من الممكن أن يقال: قد يُؤجَر الرجل دون أن ينوي ما فَعَل، إكرامًا لجلسائه، أو لغير ذلك، كما في الحديث القدسي "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" أخرجه البخاري برقم (6408) ومسلم برقم (2689)، قاله سبحانه وتعالى جوابًا على قول الملائكة لما سمعوا قوله عز وجل: "أُشْهدكم أني قد غفرت لهم" فقالوا: "فيهم رجل ليس منهم" فقال سبحانه وتعالى جوابًا عليهم: "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" فهذا الرجل غُفِر له، مع أنه ما نوى حضور مجلس الذِّكر، وإن كان قد يقال: فَرْقٌ بين من لم ينوِ الفعل، ومن كان كاذبًا في فعله، والله أعلم.
وقد يقال: إن الحديث هذا خرج مخرج الترغيب في العمل، ومن لازمه انتقل من كونه كاذبًا فيما يقول، إلى كونه صادقًا في ذلك، أو قد يقال: الحديث بهذه الزيادة محمول على أن الصادق فيما يقول: هو الموقن المستحضر لقلبه حال الذكْر، والكاذب هو الغافل عن حقيقة معنى الذكْر، فهو يدعي أنه قائم بما تتضمنه كلمات الذِّكْر، مع ما يكذبه حالُه من الغفلة والذهول، ومع هذا كله ففي النفس شيء أيضًا.
والحديث قد أخرجه الطبراني في "الدعاء" (2/1281/برقم 1038): ثنا سليمان بن أيوب بن حذلم الدمشقي ثنا هشام بن عمار ثنا مدرك بن أبي سعد – وعند غيره ابن سعد- الفزاري عن يونس بن ميسرة عن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: "من قال: حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم؛ قال الله: لأكفين عبدي صادقًا كان أو كاذبًا".
وهذا سند فيه هشام بن عمار، وهو صدوق ضعف حفظه لما كبر، فصار يتلقن، وهو هنا مخالف لعبد الرزاق بن عمر بن مسلم الدمشقي، فرواه عبد الرزاق موقوفًا متصلاً، ورواه هشام مرسلا، لأن يونس بن ميسرة لم يدرك رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ورواية عبد الرزاق أرجح من رواية هشام، فلا يُعل الحديث بالاضطراب لذلك، كما ذكر شيخنا الألباني – رحمه الله- في "الضعيفة" (11/451/برقم 5286) وعدَّها علة أخرى، وهما الإرسال، والاضطراب في متنه.
- ولا يخفى أن رواية هشام بن عمار على ما فيها من مخالفة؛ فإنها ليس فيها عدد سبع مرات، ولا جَعْل ذلك من أذكار الصباح والمساء.
والحديث هذا عزاه شيخنا الألباني – رحمه الله- في "الضعيفة" إلى عبد الغني المقدسي في "سننه" (1/235) من طريق هشام بن عمار به.
والخلاصة أن الموقوف الذي له حكم الرفع حسن الإسناد، وذلك إلى جملة: "كفاه الله ما أهمه" أما جملة: "صادقًا كان بها أو كاذبًا" فقد حكم الحافظ ابن كثير عليها بالنكارة، وهذا ما صدَّر به شيخنا الألباني – رحمه الله- حكمه على الحديث في "الضعيفة"، بأنه منكر، إلا أنه لما نقل كلام المنذري في كون الحديث له حكم الرافع، وأن مثله لا يقال بالرأي، قال شيخنا الألباني – رحمه الله-: "فأقول: ذلك من الممكن بالنسبة لأصل الحديث، بخلاف الزيادة؛ فإنها غريبة منكرة، كما قال ابن كثير، وهو ظاهر جدًّا؛ إذْ لا يُعْقل أن يُؤْجَر المرء على شيء لا يُصَدِّق به، بل هذا شيء غير معهود في الشرع، والله أعلم" اهـ (11/450).
ففي كلامه – رحمه الله- ما يدل على إمكان تمشيته لأصل الحديث، وهذا ما ترجح عندي، والحديث قد صحح سنده الشيخ عبد القادر والشيخ شعيب الأرناؤوطيين في تعليقهما على "زاد المعاد" (2/342) الحاشية (3).
(تنبيـه) أخرج ابن أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة" – كما في موسوعة رسائل ابن أبي الدنيا" (3/40/برقم 54) -: ثنا أبو حفص الصفار أحمد بن حميد ثنا جعفر بن سليمان ثنا خليل بن مرة عن فقيه أهل الأردن، قال: بلغنا أن رسول الله– صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان إذا أصابه غّمٌّ أو كرْبٌ يقول: "حسبي الرب من العباد، حسْبي الخالق من المخلوقين، حسْبي الرزاق من المرزوقين، حسْبي الذي هو حسْبي، حسْبي الله ونعم الوكيل، حسْبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم".
ومع كون هذا الحديث بلاغًا من مبهم لا يُحتج به، فإن متنه فيه غرابة وركاكة، وليس فيه عدد، ولا ذِكْر الصباح والمساء.
والحديث قد ذكره شيخنا الألباني - رحمه الله- في "الضعيفة" (9/193/4173) وقال: "إسناد ضعيف، مسلسل بالعلل: فقيه أهل الأردن فقيه لم يُسّمَّ، والظاهر أنه تابعي، فهو إلى ذلك مرسل، والخليل بن مرة ضعيف" اهـ. والله أعلم.
كتبه/ أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
دار الحـديث بمأرب
15/محرم/1432هـ