بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة الثامنة
(بعض أذكار الصباح والمساء والثابت منها)
حديث أبي بكرة – رضي الله عنه-:
من طريق عبد الجليل بن عطية عن جعفر بن ميمون، قال حدثني عبد الرحمن بن أبي بكرة، أنه قال لأبيه: يا أبةِ، إني سمعتُك تدعو كلَّ غداةٍ: "اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا إله إلا أنت" تعيدها ثلاثًا حين تُصبح، وثلاثًا حين تُمسي، وتقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت"، تعيدها ثلاثًا حين تُصبح، وثلاثًا حين تُمسي، فتدعو بهن؟ فقال: إني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يدعو بهن، فأنا أحب أن أسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ، قال: وقال رسول الله– صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: "دعوات المكروب: اللهم رحمتَك أرجو، فلا تكِلْني إلى نفسي طَرْفة عين، وأَصْلِحْ لي شأنه كلَّه، لا إله إلا أنت" فهذا الحديث فيه ثلاث جمل:
الأولى: "اللهم عافني في بدني..." الخ.
الثانية: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر..."الخ.
الثالثة: دعاء المكروب: "اللهم رحمتك أرجو...." الخ.
أما الجملة الأولى والثانية: وردا في أذكار الصباح والمساء.
وأما الجملة الثالثة: فدعاء عام.
ويهمنا في هذا المقام معرفة كون ما ورد في أذكار الصباح والمساء ثابتًا أم لا.
فالحديث أخرجه أبو داود (5090) بالجمل الثلاث، وأخرجه النسائي في "الكبرى" (6/9-10/برقم9850)، (6/147/برقم 10407) وفي "عمل اليوم والليلة" (ص146/برقم 22)، (ص382/برقم 572) مقتصرًا على الجملتين الأوليين، ومن طريقه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" برقم (69)، وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (ص117/ برقم 868) بدون الثالثة، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" برقم (23) وكذا الحافظ في "نتائج الأفكار" (2/389)، وأخرجه الطبراني في "الدعاء" (2/954-955/برقم 345) مقتصرًا على الجملة الأولى، وأخرجه أحمد في "مسنده" (34/74-75/برقم 20430) تامًّا بالجمل الثلاث، وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (6/24/برقم 29175) مقتصرًا على الجملة الأولى، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1/368/برقم 70) تامًّا بالجمل الثلاث.
وقد عزاه الحافظ في "نتائج الأفكار" إلى إسحاق في "مسنده".
وهذا إسناد لا يُحتج به من أجل جعفر بن ميمون، فإنه "صدوق يخطئ" ومثله لا يرقى حديثه إلى درجة الاحتجاج به، ولذا قال النسائي بعد إخراج حديثه هذا: "جعفر بن ميمون ليس بالقوي في الحديث" اهـ.
وأما تلميذه: عبد الجليل بن عطية، فقد ترجمه الحافظ بقوله: "صدوق يهم" ومن نظر في ترجمته؛ تبين له أنه أعلى من ذلك، والأوْلى أن يقال فيه: صدوق ربما وهم، وذلك لقول البخاري فيه: يهم في الشيء بعد الشيء، والرجل قد وثقه غير واحد، وقال فيه أبو أحمد الحاكم: حديثه ليس بالقائم، فالجمع بين أقوال الأئمة يقتضي ما رجحتُه، فإن البخاري أعلم من أبي أحمد الحاكم، ومن كان كذلك: فالأصل تحسين حديثه حتى يظهر وهمه.
نعم الرجل وصَفه ابن حبان بالتدليس، فقال: "يُعتبر حديثه عند بيان السماع في خبره إذا رواه عن الثقات، ودونه ثبت" اهـ من "الثقات" (8/421) وقوله هنا: "يُعتبر حديثه" أي يعتمد عليه إذا استوفى الشروط المذكورة.
وهذا القول من ابن حبان يدل على أن عبد الجليل يدلس، لكن الرجل قد صرَّح بالسماع في بعض الروايات عنه، كما رواه عنه الطيالسي في "مسنده" قال: ثنا عبد الجليل ثنا جعفر....، وكذا في رواية زيد بن الحُباب عنه، وإن كان زيد قد اختُلف عليه، لكن لا إشكال من جهة عبد الجليل، سواء من جهة الحفظ، أو وردو العنعنة عنه في بعض الطرق، والله أعلم.
وهذا الحديث قد قال فيه الحافظ الذهبي: "هذا إسناد متقارب" اهـ.
وحسَّن شيخنا الألباني – رحمه الله- سنده في "صحيح الأدب المفرد" وفي "صحيح سنن أبي داود" (3/959/برقم 4245) لكنه قال في "تمام المنة" (ص232): فالإسناد حَسَنٌ، أو قريب من الحسن اهـ.
وأنت خبير أن كون السند قريبًا من الحسن لا يلزم منه الحسن، وأن هذا من جنس المضعَّف الذي لا يُحتج به، وهو كذلك، والله أعلم.
هذا، وقد جاء الحديث من طريق جعفر بن ميمون به مقتصرًا على دعوات المكروب، وكذا من طريق مسلم بن أبي بكرة عن أبيه مقتصرًا على جملة: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، وأعوذ بك من عذاب القبر" وجاء ذِكْر ذلك دبر الصلاة، أو عند النوم، أو جاء الذكْر مطلقًا بدون تحديد، ولا يخفى عليك أن ما صح من ذلك كله فإنه ليس في أذكار الصباح والمساء، ولستُ بحاجة إلى التوسُّع في جمع طرق هذه الشواهد لبعض جُمل هذا الحديث، طالما أنها وردتْ في غير أذكار الصباح والمساء، ويبقى أن هذا الذكر بجملتيه الأولى والثانية لا يثبت في أذكار الصباح والمساء، وأما دعوات المكروب فعامة حتى في حديث جعفر بن ميمون عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، والله أعلم.
كتبه/ أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
دار الحـديث بمأرب
15/محرم/1432هـ