وبين النبي صلى الله عليه وسلم نوعية ربا الفضلوربا النساء وحرم كلاً منهما في كثير من الأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم :" لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعواالورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز" رواه البخاري ومسلم . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهبوالفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاًبمثل سواء يداً لبيد " رواه احمد ومسلم .
وأجمعت الأمة على تحريمه واشتهر ذلك بين المسلمين شهرةتغني عن الاستدلال عليه وصار تحريمه واشتهر ذلك معلوما من الدين بالضرورة فمنأنكره فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل كفراً ، إلا إذا كان جاهلا بيتوقع من مثلهجهله فيعذر ويعلم كحديث عهد بكفر وما وقع بين الفقهاء من اختلاف فيه فإنما هو فيالتفصيل وتطبيق النصوص على الوقائع والجزئيات .
وصرحت السنة بستة أنواع يجري فيها الربا وهي المذكورة فيرواية احمد ومسلم السابقة فلذا لم يختلف فيها الفقهاء وإنما اختلفوا في قياس غيرهاعليه بناء على الاختلاف في تعليل حكمها فمن قال أنه غير معلل قصر تحريم الربا عبلىالأصناف الستة السابقة وأقدم من يروي عنه ذلك قتادة وهو مذهب أهل الظاهر واختارهابن عقيل في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس ، قال : لأن علل القياسين في مسألة الرباعلل اختلفوا في علته فقال عمار وأبو حنيفة : هي الكيل والوزن وهو ظاهر مذهب احمد\وخصه الشافعي بالطعام وإن لم يكن مكيلاً ولا موزوناً وهو رواية عن احمد . وخصهسعيد بن المسبب بالطعام إذا كان مكيلاً أو موزوناً وهو قول الشافعي ورواية عن احمد. وخصه مالك بالقوت وما يصلحه ورجحه ابن القيم بما ذكر في كتابه إعلام الموقعين .وهذا الخلاف بينهم في علة الربا في البر والشعير والتمر والملح .
والذي يعنينا هنا بيان علة الربا في الذهب والفضة عندالجمهور القائلين بالتعليل مع الترجيح وقد ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين مافيها من خلاف بين الفقهاء فقال : وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة : العلةفيهما من خلاف بين الفقهاء فقال : وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة : العلةفيهما كونهما موزونين وهذا مذهب احمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة .
وقالت طائفة : العلة فيهما الثمنية وهذا قول مالكوالشافعي واحمد في الرواية الأخرى وهذا هو الصحيح بل الصواب فأنهم أجمعوا على جوازإسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد ونحوهما فلو كان النحاس والحديد ونحوهماربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسهجاز التفاضل فيه دون النساء والعلة إذا انتفضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها .وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض ، بخلاف التعليل فالتعليلبالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية فإن الدراهم والدنانيرأثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال فيجب أن يكونمحدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض ، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكنلنا ثمن نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعاتحاجة ضرورية عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة وذلك لا يكون إلا بثمنتقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوم هو بغيره ، إذ يصير سلعة يرتفعوينخفض فتفسد معاملات الناس ويقع الخلف ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهموالضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم ولو جعلتثمنا واحدا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم بها الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمرالناس ، فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير – مثل أن يعطي صحاحا ويأخذ مكسرةأو خفافاً ويأخذ ثقالاً أكثر منه – لصارت متجراً أو جر ذلك إلى ربا النساء فيهاولا بد فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد التوصل بها إلى السلع فإذا صارت فيأنفسها سلعاً تقصد لأعيانها فسد أمر الناس وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدىإلى سائر الموزونات . أ هـ .
ثم ذكر ابن القيم أن ربا الفضل حرم تحريم الذرائع وأنربا النساء حرم تحريم المقاصد فكان تحريم ربا الفضل وإن كان من الكبائر أخف منتحريم ربا النساء ولذلك أستثنى منه بيع المصوغ والحلية المباحين بجنسهما منالدراهم والدنانير نقداً مع التفاضل لشدة الحاجة إلى استعمالها ولا يمكن تكليف كلإنسان أن يصنع لنفسه ولا يمكن إهدار الصنعة ببيعها بجنسها من الدراهم والدنانيروزنا بوزن ولا يعقل إبطال هذه الصناعة ومن الحرج تكليفهما المعاوضة مع اختلافالجنس وبين أن الضرورة الداعية إلى اختلافهما استثناء العرايا ونحوها مما رخص فيهفروع الفقه وأورد اعتراضات منها إنه يلزم على ذلك جواز بيع الفرع بأصله نتفاضلاًكالخبز بالبر .
فألتزم جوازه ومنها أنه يلزم جواز الزيادة في معارضةالرديئة من الفضة بالجيدة منها لتقابل الزيادة الجودة وأجاب عن ذلك بالفرق بأنالجودة هنا طبيعية والصناعة كسبية فأورد عليه الدراهم والدنانير المضروبة معالمكسرة فأجاب بالفرق أيضا فإن السكة لا تتقوم فيها الصناعة للمصلحة العامةالمقصودة منها وهي أن تكون معياراً للناس فلا تقابل بالزيادة في العرف وإلا لفسدتالمعاملة بخلاف بخلاف المصوغ فإن العرف جرى بتقويم زيادة الصناعة فيه وليس فيتقويمها نقض للمصلحة العامة ولا إفساد المعاملة للناس .
وقد يناقش نقد ابن القيم تعليل الربا في النقدين بالوزنبأنه لا إجماع على جواز إسلام الذهب أو الفضة في الحديد والنحاس والرصاص ونحوها منالموزونات فإن من الحنابلة من منع من ذلك وجعلها ربوية بناء على أن العلة الوزنكما في إحدى الروايتين عن أحمد أما على الرواية الأخرى وهي تعليل الربا في النقدينبالثمنية فيجوز إسلامهما في الحديد ونحوه من الموزونات .
وقد يناقش أيضا تعليل الربا في النقدين بأنه غير منعكسفإن التفاضل محرم باتفاق في المعرضة بين أفراد الجنس الواحد من الأجناس الأربعة ،البر والشعير والتمر والملح وإن كانت يداً بيد وكذا النساء محرم باتفاق في المعرضةبين أفراد بينها وان اختلف الجنس وليس منها ما هو ثمن عرفاً فوجد الحكم ولم توجدعلة الثمنية ويمكن أن يجاب بأن الحكم بتحريم الربا واحد بالجنس لا بالشخص فيصحتعليله في كل نوع بعلة فيعلل تحريم الربا في النقدين بالثمنية ويعلل تحريم الربافي الأربعة المذكورة بكونها قوتاً مثلاً وكل منهما علة مطردة منعكسه فيما جعلت علةفيه .
وقد يناقش التعليل بالثمنية أيضاً بأنها قاصرة غيرمتعدية مستنبطة ، ليست منصوصاً على عليتها ولا مجمعاً عليها فلا يصح التعليل بهالعدم الفائدة . ويجاب أن فائدة التعليل غير منحصرة في التعدية فإن الحكم إذا كانمعقول المعنى كان أدعى إلى الانقياد وأسرع إلى القبول وأيضاً يمتنع بتقدير ظهوروصف آخر في محل العلة القاصرة تعدية الحكم به دون ترجيحه على القاصرة إلى فوائدأخرى للتعليل ، فصح التعليل بها.