بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري

الحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على رسول الله خاتم النبيين والمرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, اما بعد

فانّ خير الحديث كتاب الله الكريم, وخير الهدي, هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشرّ الأمور مُحدثاتها, وكلّ مُحدثةٍ بدعة], وكلّ بدعةٍ ضلالة, وكلّ ضلالة في النار, أجارني الله واياكم من نار جهنم , وأد\خلني الله واياكم جنات الفردوس العلى, انه وليّ ذلك والقادر عليه.

يقول المولى تبارك وتعالى في محكم تنزيله في سورة النور 36- 37
فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡڪَرَ فِي?َا ٱسۡمُهُ ۥ يُسَبِّحُ لَهُ ۥ فِي?َا بِٱلۡغُدُوِّوَٱلۡأَصَالِ * رِجَالٌ۬ لَّا تُلۡهِي?ِمۡ تِجَـٰرَةٌ۬ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ*ۙ يَخَافُونَ يَوۡمً۬ا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَـٰرُ

ويقول المولى تبارك وتعالى في محكم تنزيله الكريم في سورة المائدة 6
يَـٰٓأَيُّ?َا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَڪُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِ*ۚ

ويقول المولى تبارك وتعالى في سورة البقرة 222
إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٲبِين وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِين َ

وروى الامام احمد رحمه الله من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:

احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداةٍ في صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرنَ الشمس فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً فثوب بالصلاة ـ وصلى وتجوّز في صلاته فلما سَلّم قال :كما أنتم على مصافكم ثم أقبل إلينا فقال : إن سأحدثكم ما حبسني الغداة: اني قمتُ من الليل فصلّيتُ ما قدر لي فنعستُ في صلاتي حتى استثقلتُ فإذا أنا بربي ـ عز وجل ـ في أحسن صورة فقال : يا محمد ! فيم يختصم الملأ الأعلى ( أي الملائكةعليهم السلام) قلتُ : لا أدري رَبِّ , قال : يا محمد ! فيمَ يختصم الملأ الأعلى ؟ قلتُ : لا أدري رب , قال : يا محمد ! فيمَ يختصمُ الملأ الأعلى؟ قلت : لا أدري يا رب, فرأيته وضع كفّه بين كتفي حتى وجدت بردَ أنا مله في صدري , وتجلّى لي كلُ شيء وعرفتُ , فقال : يا محمد ! فيمَ يختصمُ الملأ الأعلى ؟ قلتُ : في الكفارات والدرجات قال : وما الكفارات ؟ قلتُ : نقلُ الأقدام إلى الجُمعات وفي لفظٍ " المشي على الأقدام إلى الجماعات " والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء على الكريهات, فقال: وما الدرجات ؟ قلتُ : إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام , قال : سَلْ ! قلت : اللهم إني أسألك فعلَ الخيرات وترك المنكرات وحبَّ المساكين وأن تغفر لي وتَرْحمني , وإذا أردت فتنةً , في قومِ فتوفني غيرَ مفتون , وأسألك حُبَّكَ وحبَّ مَنْ يحبُك وحبَّ عملٍ يقرّبني إلى حبك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها حق فادرسوها وتعلموها .

وفي رواية أهرى للحديث للامام الترمذي رحمه الله من حديث ابن عباس رضي الله عنه وصححها الالباني رحمه الله, أنّ النبي صلى الله عليه وسلم:احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداةٍ في صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرنَ الشمس فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً فثوب بالصلاة ـ وصلى وتجوّز في صلاته فلما سَلّم قال :كما أنتم على مصافكم ثم أقبل إلينا فقال : إن سأحدثكم ما حبسني الغداة: أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت :لا , فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السموات وما في الأرض, فقال: يا محمد ! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم في الكفارات والدرجات, فقال: وما الكفارات؟ قلت: المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في المكاره قال: صدقت يا محمد! ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه قال: وما الدرجات؟ قلت: إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام قال :صدقت, ثم قال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وتتوب علي وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون والدرجات: إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:إنها حق فادرسوها وتعلموها

يستفاد من الحديث الشريف على أن النبيصلى الله عليه وسلم

لم يكن من عادته تأخير صلاة الصبح ، وإنما كانت عادته التغليس بها، وكان أحياناً يسفر بها عند انتشار الضوء على وجه الأرض، لأجل ذلك بيّن النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام رضوان الله تعالى عنهم السبب الذي حبسه عن صلاة الفجر, وقد قيل أنّ تأخير صلاة الفجر إلى هذا الإسفار الفاحش لا يجوز لغير عذر، وأنه وقت ضرورة كتأخير العصر إلى بعد اصفرار الشمس، وأما قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما طوّل في صلاة الفجر و قرأ بالبقرة فقيل له: كادت الشمس أن تطلع! فقال: "لو طلعت لم تجدنا غافلين". فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعتمد التأخير إلى طلوع الشمس ولا أن يمدها ويطيلها حتى تطلع الشمس لأنه دخل فيها يغلس، وأطال القراءة وربما كان قد استغرق في تلاوته فلو طلعت الشمس حينئذ لم يضره لأنه لم يكن متعمداً لذلك. وهذا يرى على أنه كان يرى صحة الصلاة لمن طلعت عليه الشمس وهو في صلاته كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم : من طلعت عليه الشمس وقد صلى ركعة من الفجر أن يضيف إليها أخرى.


وأما وصف النبي صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل هو حق وصدق يجب علينا الإيمان به ايمانا مطلقا لا ريب فيه والتصديق به , مع النهي التمثيل والتشبيه والتكييف لذات سبحانه وتعالى ، ومن أشكل عليه فهم شيء من ذلك أواشتبه عليه , فليقل : آمنّا كلٌّ مِنْ عندِ ربنا...تماما كما مدح الله تعالى به الراسخين في العلم , وأخبر عنهم أنهم يقولوا كذلك عند المتشابه... وكما روى الامام احمد والنسائي رحمهما الله , عنه , صلى الله عليه وسلم أنه قال عن القرآن الكريم: وما جهلتهم منه فكِلُّوهُ إلى عالمه
ولا يتكلف ما لا علم له , فإنه يُخشى عليه من ذلك الهلكة.

لذا كان كلما سمع المؤمنون شيئاً من هذا الكلام قالوا: هذا ما أخبرنا الله ورسوله , وصدقَ الله ورسولُه وما زادَهُم إلاّ إيماناً وتسليماً.

وفيه دلالة على أن الملأ الأعلى وهم الملائكة أو المقربون عليهم السلام منهم يختصمون فيما بينهم (أي يبحثون) ، ويتراجعون القول في الأعمال التي تقرّب بني آدم إلى الله عز وجل وتكفّر بها عنهم خطاياهم، وقد أخبر الله عزوجل في كتابه الكريم عنهم بأنهم يستغفرون للذين آمنوا ويدعون لهم.
وورد في الحديث الصحيح: أنّ الله إذا أحب عبداً نادى: يا جبريل ! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه. فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض.



فالملائكة اذن يَسألون عن أعمالنا نحن البشر ولهم اعتناء واهتمام بذلك.
وبقي الكلام على المقصود من الحديث، وهو: ذكر الكفارات والدرجات ونعقد لكل واحدة منهنّ جزءاً منفرداً باذن الله تعالى.


الفصل الأول: الكفارات

وهي كما وردت في الحديث الشريف ثلاثة: إسباغ الوضوء في الكريهات، ونقل الأقدام إلى الجُمُعات أو الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات.

وسميت كفارات لأنها تكفر الخطايا والسيئات، ولذلك جاء في بعض الحديث: من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه.

وهذه الخصال الثلاثةالمذكورة من شأن فاعلها أن تكفر عنه السيئات، وترفع له الدرجات , كما ثبت في صحيح مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, أنه قال:

ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط.

فهذه ثلاثة أسباب مضمونة وبضمانة سيد الخلق وصفوة الأنبياء وأكرمهم على الله عزوجل, نبينا صلى الله عليه وسلم على أنها تكفر الذنوب, وسنبدأ بشرحها تقصيلا ان شاء الله.


الحافز الأول المكفر للذنوب - اسباغ الوضوء على الكريهات - المكاره


وقد دلّ القرآن على تكفيره للذنوب في قوله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا إذا قُمْتُم إلى الصلاةِ فاغسِلوا وُجوهَكم وأيديَكم إلى المرافقِ وامسحوا برؤوسِكُمْ وأرجُلَكُمْ إلى الكعبين إلى قوله تعالى ما يُريدُ الله ليجعلَ عليكم من حَرَجٍ ولكن يُريدُ ليُطَهِّرَكم وليُتِمَّ نعمتَهُ عليكُم

وقوله تعالى- ليُطَهِّركُم – وهذا المعنى يشمل طهارة ظاهر البدن بالماء، وطهارة الباطن من الذنوب والخطايا، وإتمام النعمة إنما يحصل بمغفرة الذنوب والخطايا وتكفيرها، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليغفرَ لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر ويُتِمَّ نعمتَه عليك.

و هذا المعنى استنبطه محمد بن كعب القرظي رحمه الله ، ويشهد له الحديث الذي رواه الترمذي رحمه الله من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو، يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتدري ما تمام النعمة؟. قال:دعوةٌ دعوت بها، أرجو بها الخير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن تمام النعمة: النجاة من النار، ودخول الجنة.
ولا تتم نعمة الله عزوجل على عبده إلا بتكفير سيئاته.

وهناك احاديث كثيرة تحث عليها لتكفر عنه خطاياه بالوضوء , منها ما في صحيح مسلم أنّ عثمان رضي الله عنه أنه توضأ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مثل وضوئي هذا ثم قال: من توضأ هكذا غُفر له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة.

وفيه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره.
وفيه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يديه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب.


وفيه أيضاً عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرّت خطاياه وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرّغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه.

وفي الموطأ ومسند الإمام أحمد وسنن النسائي وابن ماجة رحمهم الله من الصُّنابحيّ رضي الله عنه قال, أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له. (ومعنى نافلة أي زيادة في الأجر)

وفي المسند عن أبي أمامة رضي الله عنه قال , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يتوضأ فيغسل يديه ويمضمض فاه ويتوضأ كما أمر إلا حطّ الله عنه ما أصاب يومئذ: ما نطق به فمه، وما مس بيده، وما مشى إليه، حتى إن الخطايا تحاذر من أطرافه، ثم هو إذا مشى إلى المسجد فرجل تكتب حسنة، وأخرى تمحو سيئة.
وفيه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم, انه قال: أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه، نزلت خطيئته من كفيه مع أول قطرة، فإذا مضمض واستنشق واستنثر نزلت خطيئته من لسانه وشفتيه مع أول قطرة، فإذا غسل وجهه نزلت خطيئته من سمعه وبصره مع أول قطرة، فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كل ذنب هو له، وكان من لك خطيئة كهيئته يوم ولدته أمه، فإذا قام إلى الصلاة رفع الله بها درجته، وإن قعد قعد سالماً.
وفي صحيح مسلم رحمه الله من عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله"، فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه, انّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء.
وعنه رضي الله عنه أيضا, انّ النبي صلى الله عليه وسلم, قال: أنتم الغرّ المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء.


وفي صحيح الامام البخاري رحمه الله عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال
إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجّلين من آثار الوضوء

واعلم أن حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه في حديث المنام , إنما فيه ذكر إسباغ الوضوء على الكريهات، وأيضا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه فها هنا أمران: أحدهما: إسباغ الوضوء= إتمامه وإبلاغه مواضعه الشرعية. كالثوب السابغ المُغطي للبدن كله.

وفي مسند الزّار رحمه الله عن عثمان رضي الله عنه مرفوعاً الى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم, أنه قال: " من توضأ فأسبغ الوضوء غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وروى كل من النسائي وابن ماجة رحمهما الله من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم , أنه قال: "إسباغ الوضوء شطر الإيمان- أي نصف الايمان. وفي رواية للامام مسلم, انّ: الطهور شطر الإيمان.

وأن يكون إسباغه على الكريهات، والمراد أن يكون على حالةٍ تكره النفس فيها الوضوء، وقد فسر بحال نزول المصائب فإن النفس حينئذ تطلب الجزع فالاشتغال عنه بالصبر والمبادرة إلى الوضوء والصلاة من علامة الإيمان كما قال عز وجل في سورة البقرة: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنَّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين

وفي موضع آخر قال تعالى : يا أيُّها الذين آمنوا استعينوا بالصبرِ والصلاةِ إن الله مع الصابرين

والوضوء مفتاح الصلاة، وقد يطفأ به حرارة القلب الناشئة عن ألم المصائب، كما يؤمر من غضب بإطفاء غضبه بالوضوء.

وفسرت الكريهات بالبرد الشديد، ويشهد له أن في بعض روايات حديث معاذ:...إسباغ الوضوء على السبرات، والسبرة: شدة البرد.

ولا ريب أنّ إسباغ الوضوء في شدة البرد يشق على النفس وتتألم به، وكما هو معلوم بأنّ كل ما يؤلم النفس ويشق عليها فهو كفارة للذنوب , وحتى وإن لم يكن للإنسان فيه صنع ولا تسبب , كالمرض وكما دلت النصوص الكثيرة على ذلك.

وأما إن كان ناشئاً عن فعل هو طاعة لله عزوجل فإنه يُكتب لصاحبه به أجر، وترفع به درجاته كالألم الحاصل للمجاهد في سبيل الله تعالى، قال الله عز وجل: ذلك بأنَّهم لا يُصيبُهُم ظَمأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ في سبيل الله ولا يَطئُون مَوطِئاً يَغيظُ الكُفّارَ ولا يَنالون من عدوٍّ نَيلاً إلا كُتِبَ لهم به عملٌ صالحٌ إنَّ الله لا يُضِيعُ أجرَ المحسنين.

وكذلك ألم الجوع والعطش الذي يحصل للصائم، فكذا التألم بإسباغ الوضوء في البرد. ويجب الصبر على الألم بذلك، فإن حصل به رضىً فذلك مقام خواص العارفين المحبين، وينشأ الرضى بذلك عن ملاحظة أمور اربعة:

أحدهما: تذكر فضل الوضوء من حطّه الخطايا، ورفعه للدرجات وحصول الغرّة والتحجيل به، وبلوغ الحلية في الجنة إلى حيث يبلغ، وهذا كما انكسر ظفر بعض الصالحات من عثرةٍ عثرتها فضحكت وقالت: أنساني حلاوة ثوابه مرارة وجعه. وقال بعض العارفين: من لم يعرف ثواب الأعمال ثقلت عليه في جميع الأحوال.

وثانيهما: تذكر ما أعده الله عز وجل لمن عصاه بالبرد والزمهرير، فإن شدة برد الدنيا يذكر بزمهرير جهنم، وفي الحديث الصحيح: إن أشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم.


فملاحظة هذا الألم الموعود يهوّن الإحساس بألم برد الماء كما روي عن زُبيد اليامي رحمه الله أنه قام ليلة للتهجد، وكان البرد شديداً، فلما أدخل يده في الإناء وجد شدة برده فتذكر زمهرير جهنم , فلم يشعر ببرد الماء بعد ذلك، وبقيت يده في الماء حتى أصبح، فقالت له جاريته: مالك لم تصل الليلة كما كنت تصلي؟!. فقال: إن لما وجدت شدة برد الماء ذكرت زمهرير جهنم فما شعرت به حتى أصبحت، فلا تخبري بهذا أحداً ما دمت حياً

وثالثهما: ملاحظة جلال مَنْ أمر بالوضوء، ومطالعة عظمته وكبريائه، وتذكر التهيؤ للقيام بين يديه ومناجاته في الصلاة فذلك يهون كل ألم ينال العبد في طلب مرضاته من برد الماء وغيره، وربما لم يشعر بالماء بالكلية كما قال بعض العارفين: بالمعرفة هانت على العاملين العبادة.

قال سعيد بن عامر رضي الله عنه: بلغني إن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام كان إذا توضأ سُمع لعظامه قعقعة. وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما إذا توضأ اصفرّ، فيقال له: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟!. فيقول أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم له؟.

وكان منصور بن زاذان رحمه الله إذا فرغ من وضوئه يبكي حتى يرتفع صوته، فقيل له: ما شأنك؟! فقال: وأي شيء أعظم من شأني، إني أريد أن أقوم بين يدي من لا تأخذه سنة ولا نوم، فلعله يرضى عني.

وكان عطاء السليمي رحمه الله إذا فرغ من وضوئه ارتعد وانتفض وبكى بكاءً شديداً، فقيل له في ذلك، فقال: إني أريد أن أتقدم إلى أمر عظيم: إني أريد أن أقوم بين يدي الله عز وجل.

ورابعهما: استحضار اطلاع الله عز وجل على عبده في حال العمل له، وتحمل المشاق لأجله، فمن تيقنّ أن البلاء بعين من يحبه هان عليه الألم كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله عز وجل مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: واصبر لحكم ربك فانك باعيننا


وكقوله تعالى لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: لا تخافا اني معكما أسمع وأرى

وكقوله صلى الله عليه وسلم في الاحسان: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك.

وقال أبو سليمان رحمه الله: قرأت في بعض الكتب: يقول الله عز وجل: بعيني ما تحمل المتحملون من أجلي وكابد المتكبدون في طلب مرضاتي، فكيف بهم وقد صاروا في جواري، وتبحبحوا في رياض خُلدي؟ فهنالك فليبشر المصفُّون لله أعمالهم بالمنظر العجيب من الحبيب القريب، أترون أني أضيع لهم عملاً؟ فكيف وأنا أجود على المولين عني، فكيف بالمُقبلين عليّ؟

فإسباغ الوضوء في البرد لا سيما في الليل يطّلع الله عليه، ويرضى به، ويباهي به الملائكة عليهم السلام، فاستحضار ذلك يهون ألم برد الماء، وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عقبة بن عامر رضي الله عنه, أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطهور وعليه عُقد فيتوضأ، فإذا وضّأ يديه انحلت عقدة، وإذا وضأ وجهه انحلّت عقدة، وإذا مسح برأسه انحلّت عقدة، وإذا وضّأ رجليه انحلّت عُقدة، فيقول الرب عز وجل للذي وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه يسألني، ما سألني عبدي هذا فهو له.

وروى عطية رحمه الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله يضحك إلى ثلاثة نفر: رجل قام من جوف الليل فأحسن الطهوروعليه عُقد فيتوضأ، فإذا وضّأ يديه انحلت عقدة، وإذا وضأ وجهه انحلّت عقدة، وإذا مسح برأسه انحلّت عقدة، وإذا وضّأ رجليه انحلّت عُقدة، فيقول الرب عز وجل للذي وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه يسألني، ما سألني عبدي هذا فهو له.

انّ اسباغ الوضوء على المكاره يعتبرعلامة متميزة من علامات المحبين , كما في كتاب الزهد للإمام أحمد عن عطاء بن يسار رحمه الله, قال: قال موسى عليه السلام: يارب! من أهلك الذين هم أهلك، الذين تُظلهم في ظلّ عرشك!. فقال عزوجل: هم البرية أيديهم، الطاهرة قلوبهم، الذين يتحابون بجلالي، الذين إذا ذُكرت ذُكروا بي، وإذا ذكروا ذكرت بذكرهم، الذين يسبغون الوضوء في المكاره، وينيبون إلى ذكري كما تنيب النسور إلى أوكارها، ويكْلفون بحبي كما يكلف الصبي بحب الناس، ويغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حُرِب.

الحافز الثاني المكفر للذنوب - المشي الى المساجد

اما المشي على الأقدام إلى الجماعات وإلى الجمعات، ولا سيما إن توضأ الرجل في بيته ثم خرج إلى المسجد لا يريد بخروجه إلا الصلاة فيه , ما خطا خطوة الا رفع له بها درجة وحطّ عنه سيئة, كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم, انه قال: صلاة الرجل في الجماعة تَضْعُف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسةً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخطُ خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاّه: اللهم صلي عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه: إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة.
وفي المسند وصحيح ابن حبان رحمه الله من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا تطهر الرجل ثم أتى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات.
وفيهما أيضاً عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم, أنه قال: َن راح إلى مسجد جماعة فخطوتاه: خطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب حسنة ذاهباً وراجعاً.
وفي سنن أبي داود رحمه الله من أبي أمامة رضي الله عنه, أنّ النبي صلى الله عليه وسلم, قال: من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاجّ المحرم.
وفي الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى الصلاة، لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله له بها حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حطَّ الله عنه بها خطيئة، فليقرب أو ليبعد، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غُفر له.
والأحاديث في فضل المشي الى المساجد أكثر من أن تُحصى , ذكرنا منها ما تيسّر لنا ولله الحمد والمنة.

أما عن فضل المشي للجمعات فله مزيد من الفضل ولا سيما ان كان بعد الاغتسال, وكما في السنن من ابي أوس رضي الله عنه, أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة أجر سنة: صيامها وقيامها

وكلما بعد المكان الذي يمشي منه إلى المسجد كان المشي منه أفضل لكثرة الخطا، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: كانت دارنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقرب من المسجد، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال: ن لكم بكل خطوة حسنة.


وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بني سلمة! ألا تحسبون آثاركم؟!".

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الشعري رضي الله عنه قال, أن النبيصلى الله عليه وسلم, قال: إن أعظم الناس أجراً في الصلاة: أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم.

والمشي إلى المسجد أفضل من الركوب كما تقدم في حديث أوس رضي الله عنه في الجُمع، ولهذا جاء في حديث معاذ رضي الله عنه ذكر المشي على الأقدام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج إلى الصلاة إلا ماشياً حتى العيد يخرج إلى المصلى ماشياً، فإن الآتي للمسجد زائر لله، والزيارة على الأقدام أقرب إلى الخضوع والتذلل.
وفي صحيح البخاري من أبي هريرة رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: "من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له منزلاً في الجنة كلما غدا أو راح. والنُّزُل: هو ما يُعدُّ للزائر عند قدومه.

وروي الطبراني رحمه الله من حديث سلمان رضي الله عنه مرفوعاً الى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: من توضأ في بيته فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد فهو زائر الله تعالى، وحق على المزور أن يكرم الزائر

وفي صحيح مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة في المسجد، قال: فقيل له أو قلت له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء. فقال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يُكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جمع الله لك ذلك كله.

وكلما شق المشي إلى المسجد كان أفضل، ولهذا فُضل المشي إلى صلاة العشاء وصلاة الصبح، وعُدل بقيام الليل كله , كما في صحيح مسلم من عثمان رضي الله عنه, أنّ النبي صلى الله عليه وسلم, قال: من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله.
وفي الصحيحين من أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أثقل صلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حبواً.

وإنما ثقلت هاتان الصلاتان على المنافقين لأن المنافق لا ينشط للصلاة إلا إذا رآه الناس كقوله تعالى:
وإذا قامُوآ إلى الصلاةِ قاموا كُسالى يُرآءون الناسَ ولا يذكُرُونَ الله إلا قليلاً

وصلاة العشاء والصبح يقعان في ظلمةٍ، فلا ينشط للمشي إليهما إلا كل مخلص يكتفي برؤية الله عز وجل وحده لعلمه به.

وثواب المشي إلى الصلاة في الظُّلَم: النور التام في ظلم يوم القيامة, كما في سنن أبي داود والترمذي رحمهما الله من حديث بُريدة رضي الله عنه, وابن ماجة رحمهما الله من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه من حديث بُريدة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم , انه قال: بَشِّر المشَّائينَ في الظُّلَم إلى المساجدِ بالنُّورِ التّام يومَ القيامة.

وكما أن مواضع السجود عن عصاة الموحدين في النار لا تأكلها النار، فكذلك الأقدام التي تمشي إلى المساجد في الظلم لا تقيد في النار، ولا يسوي في العذاب بين من خدمه وبين من لم يخدمه وإن عذبه.

ولما كانت الصلاة صلة بين العبد وربه، ومناجاة تظهر فيها آثار تجليه لقلوب العارفين وقربه، شرع قبل الدخول فيها الطهارة، فإنه لا يصلح للوقوف بين يدي الله عز وجل والخلوة بمناجاته إلا طاهر، فأما المتلوث بالأوساخ الظاهرة والباطنة فلا يصلح للقرب، فشرع الله عز وجل للمصلي غسل أعضائه بالماء، ورتب عليها طهارة الذنوب وتكفيرها، حتى يجتمع لمن يريد المناجاة طهارة ظاهره وباطنه، ثم شرع المشي إلى المساجد، وفيه أيضاً تكفير الخطايا حتى تكمل طهارة الذنوب إن بقي منها شيء بعد الوضوء، حتى لا يقف العبد في مقام المناجاة إلا بعد كمال طهارة ظاهره وباطنه من درن الأوساخ والذنوب، ولهذا شرع له تجديد التوبة والاستغفار عقيب كل وضوء حتى تكمل طهارة ذنوبه , كما روى النسائي رحمه الله من حديث أبي سعيد الخدري رحمه الله مرفوعاً وموقوفاً: من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم قال عند فراغه من وضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك، استغفرك وأتوب إليك, خُتم عليها بخاتم، فوُضعت تحت العرش فلم يكسر إلى يوم القيامة.
ومتى اجتهد العبد على تكميل طهارته ومشيه إلى المسجد ولم يقوَ ذلك على تكفير ذنوبه فإن الصلاة يكمل بها التكفير، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟. قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا.


واعلم أن جمهور العلماء ذهب على أن هذه الأسباب كلها إنما تكفر الصغائر دون الكبائر، ذلك ان الكبائر لا يكفرها الا التوبة النصوح, وشروطها ثلاثة ان تعلقت بحق الله عزوجل, وأربعة شروط ان تعلقت بحق العباد, ويُدلّ على أن الكبائر لا تكفر بذلك قوله تبارك وتعالى في سورة النساء: ان تجتنبون ما تُنهوْن عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما

وايضا ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتُنِبَت الكبائر.

وفي صحيح مسلم عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من امرئٍ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيُحسنُ وضوءها وخشوعها وركوعها وسجودها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله.
فانظر إلى كم تُيَسر لك أسباب تكفير الخطايا لعلك تطهر منها قبل الموت فتلقاه طاهراً، فتصلح لمجاورته في دار السلام، وأنت تأبى إلا أن تموت على خبث الذنوب فتحتاج إلى تطهيرها في كير جهنم. يا هذا! أما علمت أنه لا يصلح لقربنا إلا طاهر؟! فإن أردت قربنا ومناجاتنا اليوم فطهر ظاهرك وباطنك لتصلح لذلك، وإن أردت قربنا ومناجاتنا غداً فطهر قلبك من سوانا لتصلح لمجاورتنا في يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بَنُونَ, إلا مَنْ أتى الله بقلبٍ سليم

والقلب السليم الذي ليس فيه غير محبة الله عزوجل ، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، اذن فليسكل عبد يصلح لمجاورة الله تعالى غداً، ولا كل عبد يصلح لمناجاة الله اليوم.

الحافز الثالث المكفر للذنوب: الجلوس في المساجد بعد الصلوات

والمراد بهذا الجلوس انتظار صلاة أخرى كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط. فجعل هذا من الرباط في سبيل الله عز وجل، وهذا أفضل من الجلوس قبل الصلاة لانتظارها، فإن الجالس لانتظار الصلاة ليؤديها ثم يذهب تقصر مدة انتظاره، بخلاف من صلى صلاة ثم جلس ينتظر أخرى فإن مدته تطول، فإن كان كلما صلى صلاة جلس ينتظر ما بعدها استغرق عمره بالطاعة، وكان ذلك بمنزلة المرابط في سبيل الله عز وجل.

وفي المسند وسنن ابن ماجة رحمه الله من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما, قال: صليت مع رسول الله عليه وسلم المغرب، فرجع من رجع، وعقب من عقب، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً قد حَفَزه النفَس، وقد حسر عن ركبته فقال: أبشروا! هذا ربكم قد فتح عليكم باباً من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى.
وفي المسند عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: منتظر الصلاة بعد الصلاة كفارس اشتد به فرسه في سبيل الله على كَشْحِهِ، تُصلي عليه ملائكة الله ما لم يحدث أو يقوم، وهو في الرباط الأكبر.
ويدخل في قوله: والجلوس في المساجد بعد الصلوات: الجلوس للذكر والقراءة وسماع العلم وتعليمه ونحو ذلك, لا سيما بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، فإن النصوص قد وردت بفضل ذلك، وهو شبيهٌ بمن جلس ينتظر صلاة أخرى، لأنه قد قضى ما جاء المسجد لأجله من الصلاة وجلس ينتظر طاعة أخرى.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده.
وأما الجالس قبل الصلاة في المسجد لانتظار تلك الصلاة خاصةً فهو في صلاة حتى يصلي، وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أخّر صلاة العشاء الآخرة ثم خرج فصلى بهم: قال لهم: إنكم لم تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة.

وفيهما أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الملائكة تصلي عل أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. ولا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة. وفي رواية لمسلم: ما لم يؤذِ فيه، ما لم يحدث فيه (أي حديث السان ونحوه)

وفي المسند عن عقبة بن عامر رضي الله عنه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: القاعد يرعى الصلاة كالقانت، ويُكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه". وفي رواية أخرى: فإذا صلى في المسجد ثم قعد فيه كان كالصائم القانت حتى يرجع.


وبالجملة فالجلوس في المسجد للطاعات له فضل عظيم، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يوطن رجل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله عز وجل كما يتبشبش أهل الغائب إذا قدم عليهم غائبهم.

وروى دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: من ألف المسجد ألفه الله.

وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: من جلس في المسجد فإنما يجالس الله عز وجل.

وصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عدّ من السبعة الذين يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظل إلا ظله: رجل قلبه معلّق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود.

وإنما كان ملازمة المسجد مكفراً للذنوب لأن فيه مجاهدة للنفس، وكفّاً لها عن أهوائها فإنها لا تميل إلا إلى الإنتشار في الأرض لابتغاء الكسب أو لمجالسة الناس ومحادثتهم أو للتنزه في الدور الأنيقة والمساكن الحسنة ومواطن النّزه ونحو ذلك، فمن حبس نفسه في المساجد على الطاعة فهو مرابط لها في سبيل الله، مخالف لهواها وذلك من أفضل أنواع الصبر والجهاد

وهذا الجنس أعني ما يؤلم النفس ويخالف هواها فيه كفارة للذنوب وإن كان لا صنع فيه للعبد كالمرض ونحوه، فكيف بما كان حاصلاً عن فعل العبد واختياره إذا قصد به التقرب إلى الله عز وجل ؟! فإن هذا من نوع الجهاد في سبيل الله الذي يقتضي تكفير الذنوب كلها.

ولهذا المعنى كان المشي إلى المساجد كفارة للذنوب أيضاً، وهو نوع من الجهاد في سبيل الله أيضاً، لما رواه الامام الطبراني من حديث أبي أمامة رضي الله عنه , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الغدوّ والرواح إلى المساجد من الجهاد في سبيل الله عز وجل.
كان زياد مولى ابن عباس رضي الله عنهم أحد العباد الصالحين، وكان يلازم مسجد المدينة، فسمعوه يوماً يعاتب نفسه ويقول لها: أين تريدين أن تذهبي؟! إلى أحسن من هذا المسجد!! تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان!.
لما كانت المساجد في الأرض بيوت الله أضافها الله إلى نفسه تشريفاً لها، وتعلقت قلوب المحبين لله عز وجل بها، لنسبتها إلى محبوبهم، وانقطعت إلى ملازمتها لإظهار ذكره فيها كما في قوله تعالى في سورة النور 36


في بُيُوتٍ أذِنَ الله أنْ تُرفَع ويُذْكَرَ فيها اسمُهُ يُسبِّحُ لهُ فيها بالغُدُوِّ والأَصَالِ* رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكرِ الله وإقامِ الصلاة وإيتآءِ الزكاة يخافونَ يوماً تتقلّبُ فيه القلوبُ والأبْصارُ


ويقوله تعالى ناتي على مسك ختام الجزء الاول على امل اللقاء مع الجزء الثاني من الحديث وسيكون بمشيئة الله تحت عنوان- الدرجات