بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ اشرحً لي صدري ويسّر لي أمري



يقول المولى تبارك وتعالى في سورة نوح عليه السلام
فقلت استغفروا ربَّكم انهُ كانَ غفَّارا * يُرسلُ السماءَ عليكُم مِدرارا * ويُمددكُمْ بأموالٍ وبنينَ ويجعلُ لكمْ أنهاراً

انّ دعوة نوح عليه السلام بهذه الآيات الكريمات لهي والله مقام الدعوة الى الله عزوجل بالترغيب ي ارجعوا الى الله عزوجل عما أنتم فيه من الفسوق والعصيان وتوبوا اليه توبة صادقة نصوحا , فان فعلتم ذلك وتبتم الى الله عزوجل بكل الصدق والاخلاص فانّ الله تبارك وتعالى سوف يتوب عليكم متابا ويجعل السماء تنهمر عليكم بأمطار متواصلة يتبع بعضها بعضا ويسقيكم من بركات السماء وينبت لكم من بركات الأرض, ويرزقكم بأموالٍ لا حصر لها ويعطيكم الذرية الصالحة ويجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وخلالها بالانهار الجارية بينها.

ويقول المولى تبارك وتعالى في محكم تنزيله الكريم في سورة البقرة186
واذا سألك عبادي عني فاني قريبٌ , أُجيبُ دَعوةَ الداعِ اذا دعانِ , فليَستجيبوا لي وليُؤمنوا بي لعلهم يرشُدُون

وهذه الآية الكريمة لا تختلف بمعناها ومضمونها عن الآيات التي تناولت دعوة نوح عليه السلام, واذا تصفحنا جميع آيات القرآن الكريم التي ورد فيها لفظ سألك أو يسألونك: لوجدنا أنه يتبعها قُلْ, ولفظ قل مُوّجَّهٌ لحضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ليكون وسيطا بيننا وبين الله عزوجل بايصال الأمر الالهي لنا سواء بالترغيب او الترهيب, الا في هذه الآية الكريمة لم يجعل الله عزوجل أي وسيطا بيننا وبينه سبحانه وتعالى, لماذا؟ لأنه كما قال الله عزوجل فاني قريبٌ , اي قريب من عباده عند الدعاء دون وسيط بينه وبينهم , وفي الحديث: أقرب ما يكون العبد الى ربه وهو ساجد , وهذا الحديث الشريف يطابق الآية الكريمة واسجد واقترب, ودعاء العبد لربه عزوجل لا يحتاج الى وسيط في ايصال الدعاء, لكن المهم ان نعرفه في استجابة الدعاء هو الالتزام بما تبقى من الآية من شروط اشترطها الله عزوجل لتحقيق استجابة الدعاء وهي ثلاثة شروط أولها: الاستجابة لأوامر الله عزوجل ونواهيه, والايمان المطلق بأنّ الله عزوجل سميع مجيب, ثانيا: مجيب دعوة المضطر اذا دعاه, ثالثا: علينا أيضا أن ندعو الله في أوقات الرخاء كي يستجيب الينا في وقت الشدة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح
تعرّف الى الله في الرخاء يعرفك في الشدة

فالدعاء يعني الاستغاثة والعبادة والرغبة والصلاة والطلب, وهذه المعاني كلها ليست عملا وانما مقدمة لعمل, أو بمعنى آخر أن الدعاء وسيلة لاكمال عمل ما وطلب الحاجة واتمامه على أحسن وجه.
ولهذا يُخطى] من يتصور أن الدعاء بديل على العمل, أو انه يكفي بلا عمل, ولكن الدعاء كي يكون مستجاب يحتاج الى عمل, وليس أي عمل, بل عملا باخلاص كامل يتحقق فيه صدق النية لقوله تعالى في محكم تنزيله الكريم في سورة التوبة 105
وقل اعملوا فسيرى عملكم ورسوله والمؤمنون

ولعلّ هذه الآية الكريمة وعيد من الله تعالى للمخالفين أوامره بأنّ أعمالهم ستُعرض عليه تبارك وتعالى ، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى المؤمنين . وهذا كائن لا محالة يوم القيامة.
وقد ذكر الله عزوجل المؤمنون في هذه الآية لأنه ورد في الحديث أنَّ أعمال الأحياء تُعرض على الأموات من الأقرباء في البرزخ أي في قبورهم, فان وجدوا خيرا حمدوا الله عزوجل, وان وجدوا غير ذلك أحزنتهم أفعالهم وسألوا الله عزوجل لهم الهداية ، لما رواه ابو داوود الطيالسي رحمه الله من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّ
النبي صلى الله عليه وسلم قال
إن أعمالكم تُعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم ، فإن كان خيرا استبشروا به ، وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم ، ألهمهم أن يعملوا بطاعتك

لذا نجد أنفسنا دائما في احتياج دائم اليروح الفطرة البسيطة الكائنة بين
الكائنات , وأنوار الحق تتجدد علينا كل يوم من واقع استغفارنا وصلاتنا
ولن تتحقق ثمار الإستغفار في عدّ الصيغ فحسب , بل ثماره في اننتراجع بالفعل عن اخطاءنا و صفاتنا السيئة حتى ولو مرة واحدة كل يوم , فالنبي صلى الله عليه وسلم المغفور له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر كان يستغفر الله كل صباح مائة مرة, ويستغفر الله عزوجل في اليوم اكثر من سبعين مرةو وكان يقوم الليل حتى تتفطر قدميه الشريفة, وحين سألته السيدة عائشة رضي الله عنه عن بذله لهذا الجهد في العبادة وهو المغفور له عليه الصلاة والسلام أجابها: أفلا أكون عبداً شكورا
لأجل ذلك قال الامام الحسن البصري رحمه الله
ان استغفارنا يحتاج الى استغفار

وهذا القول اشارةلما نحن عليه من المعاصي والذنوب, حيث نكون قبل الصلاة في معصية وما نلبث أن نصلي ما فرض علينا وسرعان ما نعود بعد الصلاة الى المعصية من جديد سواء بالكذب أو العلك في سيرة الناس والغيبة والنميمة والافساد ما بين الناس وقطع الأرحام واذى الجار وكأنّ صلاتنا لم تنهانا لا عن فحشاء ولا عن منكر, واذا سال سائل اذن لمن قول الله تعالى في سورة العنكبوت 45
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ

نقول بأنّ الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي الصلاة الحقيقية التي يُقبل صاحبها إليها بقلبهِ وروحهِ ونفسهِ ، يتذللُ بها بين يدي الله عزوجل ، إظهارا لربوبيته ولعبوديته عزوجل, واعترافا بالفقر بين يديه سبحانه وتعالى بأنه الفقير الذليل المفتقر لرحمته وعفوه ومغفرته والتجاوز عن سيئاته ، وهو في ذلك راغب فيما عنده عز وجل ، صادق التوبة والإنابة ، مُخلص السريرة له سبحانه وتعالى

ومن لم تقم في قلبه هذه المعاني الجليلة حين يقف بين يدي الله عزوجل للصلاة ، لم تثمر صلاته الثمار الحقيقية المرجوة ، التي من أهمها التذكير بالله عزوجل , والنهي عن الفحشاء والمنكر ، ولم يُكتب له من أجرها إلا بقدر ما حققه من معانيها ومقاصدها وخشوعها وتمام ركوعها وسجودها وأركانها.
وروى الامام احمد رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :
قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ فُلَانَةَ - يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا - غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ قَالَ : هِيَ فِي النَّارِ .
قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَإِنَّ فُلَانَةَ - يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا - وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ قَالَ : هِيَ فِي الْجَنَّةِ
.
وأما من كانت صلاته كصلاتنا وصلاة معظم مسلمي اليوم ، لا خشوع فيها ، ولا تذكر ، ولا فضائل : فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان ، فإن كان على طريقة معاصي تبعده من الله تعالى : تركته الصلاة يتمادى على بُعده ، وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن والأعمش قولهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
مَن لم تَنْهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر لمْ تُزدْهُ مِنَ الله إلا بعدا

فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح الله عزوجل في ركوعه عشر مرات وفي سجوده عشر مرات وهذا في صلاته اماما بالمسلمين, وأما عندما كان يصلي عليه الصلاة وحده كان يبقى ساجدا لدرجة انهم كانوا يظنونه قد قبض لطول سجوده عليه الصلاة والسلام, وأما اليوم ما نراه من مسلمي اليوم من أئمة ومأمومين أنه لا يكاد أحدنا يركع أو يسجد حتى يرفع رأسه لتغدو صلاتنا كصلاة المسيء صلاته والتي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم
لو مات هذا لمات على غير ملة محمد


أي لو مات هذا المسيء لصلاته على هذا الكيفية من الصلاة السريعة والتي هي كنقر الديك , فلا يطمئن بركوعه ولا بقيامه ولا بسجوده لمات على غير ملة الاسلام, اي أنّ صلاته ليست مقبولة لموازاتها لصلاة المنافقين الذين قال عنهم الله تعالى في سورة النساء 142
انَّ المنافقينَ يُخادعونَ الله وهو خادعُهُمْ واذا قاموا الى الصلاةِ قاموا كُسالى يُراؤونَ الناسَ ولا يَذكرونَ اللهَ الا قليلا * مُذبذبينَ لا الى هؤلاءِ ولا الى هؤلاءِ , ومَنْ يُضللِ اللهُ فلنْ تجدَ لهُ سبيلا

من علامات النفاق هنا أن نصلي بسرعة دون اطمئنان أو خشوع وكأننا نرائي الناس بأعمالنا , اي كأننا نصلي للناس كي يقولوا عنا أننا نصلي,والعلامة الثانية هي أن نصلي ثم نقوم مباشرة لانجاز عمل دنيوي ما , كمتابعة لعبة او مباراة او مشاهدة تلفاز او غير ذلك مع أنه من مستلزمات الكتاب والسنة أن نأتي على الأذكار التي علمنا اياها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة , تحقيقا لقوله تبارك وتعالى في سورة ق
ومن الليل فسبحه وادبار السجود
ومعنى ادبار السجود: أي بعد الصلوات المفروضة

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
الصلاة إذا أتى بها كما أمر نهته عن الفحشاء والمنكر ، وإذا لم تنهه : دل على تضييعه لحقوقها وإن كان مطيعاً ، وقد قال تعالى في سورة مريم 59
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة

وإضاعة الصلاة هنا في هذه الآية الكريمة انما هو : التفريط في واجبات وأركان الصلاة, فما بالنا بما مات ولم يُصلَّ أبداً؟
يقول الإمام علي بنأبي طالب رضي الله عنه: يعلمنا كيف نصل الى حالة الاستغفار بتعريف الاستغفار فيقول
الاستغفاردرجةالعليين . وهو اسم واقع على ستة معان
أولها : الندم على ما مضى .
والثاني : العزم على ترك العود إليه أبداً
.
والثالث : أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتىتلقى الله أملس ليس عليك تبعة
.
والرابع : أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيّعتهافتؤدي حقها
.
والخامس : أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت(المال الحرام)فتذيبه بالأحزانحتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد
.
والسادس : أن تذيق الجسم ألمالطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ،

فعند ذلك تقولاستغفر الله
ويقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أيضا
ما ألهم الله عبداًالاستغفار وهو يريد أن يعذبه
.
ويقول الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله
الاستغفار هو طلب الستر منأوصافك بالرجوع إلى أوصافه
.
ويقول الشيخ اسماعيل حقي البروسوي رحمه الله
الاستغفار هو فرار العبد من الخلق إلى الخالق ، ومن الأنانية الى الهوية الذاتية , وذلك عند صدق الطلب ومن طلبه وجده, والله تعالى
غفور منحيث الأفعال ، يتجلى لأهل التزكية من مرتبة توحيد الأفعال .
وغفور من حيث الصفات، يتجلى لهم من مرتبة توحيد الصفات
.
وغفور من حيث الذات ، يتجلى لهم من مرتبة توحيد الذات
.
فيستر أفعالهم وصفاتهم وذواتهم وينعم عليهم بآثار أفعاله وأنوارصفاته وأسرار ذاته فيتخلصون من الفاني ويصلون إلى الباقي

.
ويقول الشيخ ابن عطاء الأدمي رحمه الله
في تأويل قوله تعالى : في سورة آل عمران 17
وَالْمُسْتَغْفِ رِينَ بِالْأَسْحَار.
والمستغفرين بالأسحار : هم الذين لزموا الباب إلى أن يأذن لهم .


ويقول الشيخ عبد الحق بن سبعين رحمه الله
المغفرة : هي: ملَكيةالأثر وإنسية الأكثر ،وحفيقة الأقل, وربانية التعلق,
وكون الكون المحور ، وحال الاسم الموصول, وماهيّة الصورة القاصرة,
وآنية النفوس المستجلبة ، ونتيجة مقدمة الاستدعاء, وأمل المشاهد الذي يطلب مشاهدته.


وبمسك الختام قول الله تبارك وتعالى في سورة طه 82 نأتي على مسك الختام
وانّي لغفّار لمنْ تابَ وآمنَ وعملَ صالحاً ثمّ اهتدى

وقوله تعالى في آية ختم بها سورة الحجر
واعبد ربّك حتى يأتيَكَ اليقين

سبحان ربك ربّ العزّة عما يصفون * وسلامٌ على المرسلين * والحمد لله ربّ العالمين