لا شك أنَّ ترك إنكار المنكر إذا كان على سبيل الرضا أو عدم المبالاة يُعدُّ مِن المداهنة ، ويُوجب عقاب الله .
كما في الحديث : "إنَّ مَن كان قبلكم كانوا إذا عمل العامل منهم بالخطيئة ، نهاهُ الناهي تعذيرًا ، حتى إذا كان الغد جالسه وواكله وشاربهُ ، كأنَّه لم يره على خطيئةٍ بالأمس ، فلما رأى الله ذلك منهم ، ضرب قلوب بعضهم على بعض ، ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، والذي نفس محمد بيده ، لتأمرنَّ بالمعروفِ ولتنهونَّ عن المنكر ، ولتأخذنَّ على يدي الظالم ، ولتأطرنَّه على الحق أطرًا ، أو ليضربنَّ الله قلوب بعضكم على بعض ، ثم ليلعننَّكم كما لعنهم" ..
وفي الحديث : "ما مِن قومٍ يُعمل فيهم بالمعاصي هم أعزُّ وأكثر ممَّن يعمله فلم يغيروهُ إلاَّ عمهم الله بعقاب" .
والأصل أنَّ المنكر يُغيَّر باليد ، ولا يُلجئ للسان إلاَّ عند عدم القدرة ، كما في الحديث : "مَن رأى مِنكم مُنكرًا فليغيره بيده ..." فهي المرتبة الأولى .. "فإن لم يستطع فبلسانه ..." مرتبة ثانية ..
وقد ورَدَ عن السلف الكثير والكثير مِن القصص والعبر في تغيير المنكرات باليد ، وقاسوا مِن أجل ذلك ، فمن ظنَّ أنَّ مطلق الأذى يُخوِّلهُ للانتقال إلى الإنكار باللسان ، فهو مخطئ جاهل ، إنَّما العبرة بترتب مفسدة أكبر من المصلحة المرجوة مِن إنكار ذلك المنكر ، وليست العبرة بحصول الأذى ، فقد قاسى الأنبياء وهم أفضل منا أذىً عظيمًا ..
وقد ذكر الذهبي في السير ، في ترجمة الإمام عبد الغني المقدسي رحمه الله ، أنَّه كان يمشي في الأسواق ويكسر آلات الملاهي ، وكان يحصل له مِن الأذى ويصبر ، وتارةً يهابونه ويسكتون ..
وروى الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل في "السنَّة" بإسنادٍ رجاله ثقات : ( إبراهيم بن سعيد قال : سمعتُ وكيعًا يقول : كان أبو حنيفة يقول : لو أنَّ رجلاً كسَرَ طنبورًا ضَمِنَ ) أهـ .
قلت : ساق هذه الرواية في معرض ذم أبي حنيفة ، ومع أنَّ ذم أبي حنيفة أمرٌ منكر ، إلاَّ أنَّ العبرة باستنكاره قول أبي حنيفة بالضمان على مَن كسر الطنابير !
أمَّا مداهنة العاصي فليست كفر ، إنَّما هي معصية موجبة للعقاب الأليم .. في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : "لا يحقر أحدكم نفسه" ، قالوا : يا رسول الله ، كيف يحقر أحدنا نفسهُ ؟ قال : "يرى أمرَ الله عليه فيهِ مقالٌ ثم لا يقول فيه ، فيقول الله له يوم القيامة : ما منعك أن تقول فيَّ كذا وكذا ؟ فيقول : خشيةُ الناس ، فيقول : إيَّاي كنتَ أحقُّ أن تخشى" .
والله أعلم ،،