تشهد الساحة الدرامية للتاريخ الإسلامي تحولا مريبا في تناولها للأحداث التاريخية الإسلامية و بالأخص شخصيات كبار الصحابة و أمهات المؤمنين رضوان الله عليهم الذي ضل تشخيصهم بممثلين خطا أحمرا لم يتجاوزه أي عمل درامي طيلة عقود أصبح اليوم على ما يبدو أمرا مباحا.

و الحقيقة أن واقع الدراما العربية بصفة عامة هو جزء من واقع الثقافة العربية المتأزم، فلا الثقافة و لا الموهبة و لا المهنية أو الشغف بمعيار لإختيار الممثلين أو المخرجين بل الإستسهال و الإستعجال في الإنتاج هو السنة المعمول بها في جل الأعمال التي نراها ناهيك عن العجز المادي و ضعف التمويل و إفتقاد الخبرة و التكنولوجيا الازمة ليكون العمل قويا و ساحرا

و في ضل هذا الواقع الصعب إضافة للتكوين الديني الضعيف لأغلب رواد ذلك القطاع، لن يكون هناك من منفذ للإثارة و جلب المشاهد إلا المساس بالمسلمات أو الخطوط الحمراء الأخلاقية المتعارف عليها في المجتمعات العربية و الإسلامية الذي أصبح تقليدا خاصة في ضل أيضا تحجير معالجة قضايا ذات بعد سياسي أو إجتماعي ملحة بحكم التوجه الرسمي المعروف في هذا المجال. و يتجلى هذا التقليد في خدش الحياء العام كعنصر لإستدرار المشاهدين، خاصة في المسلسلات التي نشاهدها خلال شهر رمضان حيث يبدأ العمل جادا هادفا في بداياته، ثم بعد تواصله في السنوات الموالية يأخذ، مع ملل المشاهدين له، في خلق الإثارة لشد الدهماء من الجماهير العربية فمرة إستهزاء بأحكام الشريعة الإسلامية و مرة أخرى تطاول على عرف إسلامي أو أخلاقي و هكذا دواليك...

و جريا على هذا يسهل على المتابع أو الباحث أن يفهم السبب من ظهور أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بجوار أبيها الصديق رضي الله عنه ، و هو يحتضر على فراشه، في مسلسل القعقاع إبن عمرو التميمي. فالأمر لم يكن سوى تجسيد أو تواصل لتقليد شد الإنتباه و خلق الإثارة عبر التعدي على الحدود الشرعية و الأخلاقية أو كسر المألوف أو بعبارة أوضح ما لم يقدر على فعله بالحرفية العالية و الإقناع يقدر عليه بالتعدي على حدود الله عز و جل.

لكن و من باب الإنصاف الحري بنا أن نذكر أيضا أن ذلك التجسيد جاء بفتوى أباحته.

تلك الفتوى التى صدرت من جهة فقهية معروفة بتوجهها الذي تسميه " وسطيا "، هي في تقديري بحاجة إلى مراجعة حقيقية و ملحة في تعاطيها مع كثير من القضايا المعاصرة، خاصة التي لها علاقة بالتحصين الأخلاقي للمجتمعات الإسلامية، لأن التكوين النفسي و الذهني الذي رسم رؤية معظم رواد ما يسمى بالمعسكر الفقهي أو الدعوي "الوسطي" و الذي أثر بدوره على الفتاوي التي يصدرونها من حين لآخر. أدى إلى خلق نوع من الإهتزاز في فهمهم لثنائية الغاية و الوسيلة.

لأن الإسلام هو دين الوسيلة قبل الغاية بأتم معنى الكلمة و تجسد هذا المعنى في كل أحكام الشريعة الإسلامية فلا نأكل إلا حلالا و لا نتزوج إلا حلالا و لا نتصدق إلا بما نملك و لا نأخذ الجزية إلا على من هو قادر على حمل السلاح و ليس من المسلمين و الأمثلة كثيرة و متعددة، لكن على بساطة هذا المعنى فهو صعب في تطبيقه أو إدراكه دائما خاصة في الظروف الحرجة أو بالأحرى في فترات الضعف التي مرت أو تمر بها الأمة الإسلامية، حيث يصبح من العسير على المسلمين تحديد الوسيلة الأصح و التوقيت الأمثل و ترتيب الغايات حسب الأولويات.

و نعي أكثر بصعوبة إدراك ثنائية الغاية و الوسيلة في زماننا عندما نتذكر أن العالم العربي و الإسلامي قد عاش منذ بداية التغلغل الإستعماري الغربي في القرن الثامن عشر و بشكل خاص القرن التاسع عشر و العشرين، فترة صراع إجتماعي عنيف لم يشهد له مثيلا منذ إنهيار الدولة العباسية. أثر هذا الصراع في تقديري على كل مناحي الحياة الثقافية و الإجتماعية و السياسية و خاصة الدينية فأصبح في الإسلام أنماط من "وسطي" إلى " متشدد " إلى "أصولي" ... وغيرها من الأسماء و المسميات التي ما زادت الأمور إلا تعكيرا و الجمهور إلا خبالا.

لقد كان فيلم الرسالة الذي أخرجه الراحل العملاق مصطفى العقاد فيه عبرة كبيرة جدا خفت في مايبدو على من أفتوا بجواز تمثيل شخصيات الصحابة الكبار و المبشرين بالجنة و أمهات المؤمنين و هو أن ذلك الفيلم كان رائعة بما تحمله الكلمة من معاني ، و لم و لن يصنع مثله في تقديري، فقد إجتمعت فيه قوة الإخراج بجمالية الصورة و براعة الممثلين و صدق إحساسهم فوفقهم الله عز و جل أيما توفيق و أسلم المئات أو ربما الآلاف تأثرا بما جاء فيه، في أمريكا و أوروبا و كل قارات العالم.

و لم يكن مع ذلك يجسد كبار الصحابة أو المبشرين بالجنة أو أمهات المؤمنين رضوان الله عليهم أجمعين.

إن تجسيد أم المؤمنين و زوج الرسول الأكرم صلى الله عليه و سلم بممثلة في مسلسل القعقاع إبن عمرو التميمي، و الذي أشار بعض المختصين و المتابعين أنه تضمن بعض الإيحاءات الطائفية بإيعاز ربما من جهات ذات مشروع تبشيري طائفي في المنطقة العربية و الإسلامية ، ليطرح سؤالا غاية في الخطورة و الإلحاح :

هل الذي سولت له نفسه بالطعن في زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم و أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها و أرضاها، علنا ، قد مهد له ظهورها ممثلة في مسلسل القعقاع إبن عمرو التميمي الطريق لفعلته تلك ؟؟؟

كما مهد تصوير الكنائس للمسيح عليه السلام و نحتهم له في ثماثيل، ظهوره عاريا في ما بعد في أفلام أحفادهم.

أرجو أن يطرح هذا السؤال على من يرون في تجسيد كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم و أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أمرا مباحا... فيجيبونا...!!!



---------------------------------------

إبن سليم