لقاء الجزائريين مع الشيخ ابن عثيمين
يوم (17 من ذي الحجَّة 1420هـ)
السائل: (( فضيلة الشيخ حفظك الله! ما هي نصيحتُكم وتوجيهُكم لأولئك الذين غُرِّرَ بهم ثمَّ تابوا وأَلقَوا السِّلاحَ، ورجعوا إلى حظيرَة المسلمين، وهم الآن يُصلُّون في مساجدهم، ويعيشون مع النَّاسِ، وقد يَجدون بعضَ الحرَج أو الإحراجَ من طرَف الغير، فما هي نصيحتُكم للناسِ في معاملتِهم لهم، ونصيحتكم لهم؟ كيف يُعاملون الناسَ؟ وكيف يُستَقبَلون؟ وكيف يعيشون في هذا الجوِّ الجديد بالنِّسبة إليهم؟ جزاكم الله خيراً.
الشيخ: الحمد لله ربِّ العالَمين، نصيحتي للإخوان الذين مَنَّ اللهُ عليهم بإلقاءِ السِّلاحِ، ورجعوا إلى مُدُنهم وديارِهم أن يَشكروا اللهَ عزَّ وجلَّ على هذه النِّعمَةِ قبل كلِّ شيءٍ؛ لأنَّ هذه نعمةٌ من الله عليهم وعلى الجزائريِّين الآخرين.
ثانياً: أن يَنسوا ما سبق، وألاَّ يعيشوا في أفكارهم السابقة، يمحضونها محضاً تامًّا من أفكارهم، ولا يتذاكروها، حتى إذا تذاكروها فليقولوا: أعوذ بالله من الشيطان الرَّجيم.
ثالثاً: أن يعيشوا مع النَّاسِ وكأنَّهم لَم يفعلوا شيئاً؛ لأنَّهم إذا عاشوا وهم يشعرون بأنَّهم فعلوا ما فعلوا بقُوا في نفْرَةٍ من الناس وبُعدٍ منهم، وهذا يَضُرُّ بالمصلحةِ العامة.
رابعاً: أن يُقبِلوا على علم الكتاب والسُّنَّة، وعلى معاملة السَّلَف لحُكَّامهم، فها هو أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ إمام أهل السنة يقول للمأمون: (يا أمير المؤمنين)! وهو الذي آذاه في القول بخلق القرآن، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مخاطبتِه لِمَن حبَسَه، تَجد خطاباً ليِّناً، قال الله لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَونَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه 43 ـ 44].
خامساً: بالنسبة للآخرين: أن يتلقَّوا هؤلاءِ بوجهٍ طلْقٍ وصدرٍ مُنشرِحٍ، وأن يفرحوا بهم، وأن يُكرموهم، وألاَّ يروهم جفاءً أو كراهيةً أو عبوساً في وجوههم؛ لأنَّ الحالَ بعد وضع السِّلاح ليس كالحال قبل وضع السِّلاح، وأن يتناسَوا كلَّ ما جرى.
سادساً: بالنسبة للدُّعاة أيضاً: يَحثُّون الناسَ على أن يتآلفوا ويتقاربوا، ويتعاونوا على البرِّ والتقوى، ويتناسَوا ما سبق، وتبدأ الحياة من جديد.
أمَّا ما سمعناه ـ والحمد لله ـ عن رجوع الكثير منهم إلى الصواب وإلقاء السِّلاح، وما سمعنا كذلك عن العفوِ العامِّ من قِبَل الدولة، فقد سرَّنا هذا كثيراً، والحمد لله ربِّ العالَمين، نرجو اللهَ عزَّ وجلَّ أن يُتَمِّمَ في الباقي، هذا رأيي في المسألة.
السائل: يا شيخ! البقيَّةُ الباقية التي بقيت في الجبال، يعني الحكومة
ـ كما قلتَ الآن يا شيخ ـ أعطت العفوَ، والكثير منهم بقوا في الجبال على أساس أنَّهم لا يُعطون الأمان للحكومة.
الشيخ: لا يأمنونها؟
السائل: إي! لا يأمنونها، لكن الحكومة وعدت أنَّها لن تُصيبَهم بأذى، وقد نفَّذت هذا في الذين نزلوا، يعني: لَم تُصبهم بأذى، وهي فقط تقول: سلِّموا السِّلاحَ، وعودوا إلى حياتكم الطبيعيَّة، فالكثيرُ منهم يتردَّد ويقول: نحتاجُ إلى فتوى من مشايخِنا؛ حتى إمَّا ننزل، وإمَّا نجلس.
وبعضُهم نزل ـ والحمد لله ـ خاصَّة بعدما أُذيعت فتوى الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ في التلفاز، وفتوى الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ بعدَم جواز هذا الأمر، والبعضُ لا زال شاكًّا في هذا الأمر، فماذا تقولون في هذا؟
الشيخ: نرى أنَّه يجبُ عليهم وضعُ السِّلاح وإلقاءُ السَّلام، وإلاَّ فكلُّ ما يترتَّب على بقائهم من قتلٍ ونهب أموالٍ واغتصابِ نساءٍ فإنَّهم مسئولون عنه أمام الله عزَّ وجلَّ، والواجب عليهم الرجوع، وقد سمعنا
ـ والحمد لله ـ أنَّ الكثيرَ منهم رجع، وهذا هو الواجب.
ونحن نشكرُ الدولةَ على العفوِ العام، ونشكرُ مَن ألقى السِّلاحَ على استجابتِه.
ولا يتشكَّكون في هذا أبداً، وليرجِعوا إلى حياتهم الطبيعية.
السائل: فيما يَخُصُّ الذين تورَّطوا ورجعوا، وقد قضوا مدَّة طويلةً
في الأودية والجبال، فما هي أنفعُ السُّبُل لتعليمهم وإرشادِهم حتى يعودوا إلى حياتهم الطبيعيَّة؛ لأنَّه ليس من السَّهل أن يَقضيَ رجلٌ منهم مدَّةً مديدةً في الجبال ثمَّ يعود كأن لم يكن شيء؟! فما هي أنفع السبل لتعليمهم وإرشادهم وتوجيههم؟
الشيخ: هذا يرجع إلى الحكومة والمجتمع، فينشأ لهم مدارس لتعليمهم حسب حالهم.
السائل: من الفساد الذي حدث في هذه الفتنة: هو أنَّ بعضَ النساء أو الفتيات تعرَّضْنَ للاغتصاب من طرف هؤلاء الذين يصعدون الجبال!
الشيخ: نسأل الله العافية!
السائل: فكثيرٌ منهنَّ حوامل، وبعضُهم أصدر فتوى ... بجواز الإجهاض في مثل هذه الحالة ... أنَّ هؤلاء الفتيات اغتُصبن، والآن وقعنَ في هذه المشكلة، فكثيرٌ منهنَّ يسأل؟
الشيخ: إفتاؤهنَّ هؤلاء المغتصَبات بإجهاضِ الحمل صحيحٌ، ما لَم يبلغ الحملُ أربعةَ أشهر، فإذا بلغ أربعةَ أشهرٍ نُفخت فيه الرُّوح ولا يُمكن إسقاطه، أمَّا قبل ذلك فإسقاطُه أولى من إبقائه.
السائل: مِن الذين تابوا بقيَ في أيديهم أموالٌ قد اغتصبوها وسلبوها أيامَ الفتنة، حُكمُ هذه الأموال بعد ما تابوا وقد جُهل أصحابها؟
الشيخ: الأموال التي انتهبوها من المواطنين لا شكَّ أنَّها حرامٌ عليهم، فالمواطنُ مسلمٌ، والمسلمُ حرامٌ دمُه ومالُه وعِرضُه، فعليهم أن يَردُّوها إلى أصحابها إن عَلِموهم، أو إلى وَرثَتهم إن كانوا قد ماتوا، فإن لم يمكن فإمَّا أن تُجعلَ في بيت المال، وإمَّا أن يُتصَدَّق بها عن أصحابها.
السائل: لعلَّه هذا المتيسِّر؛ لأنَّه لا يُمكن إرجاعُها إلى بيت المال.
الشيخ: يُتصَدَّقُ بها عن أصحابها، والله يعلَم بهم عزَّ وجلَّ.
السائل: بالنسبة للحاكم الجزائري يا شيخ! الآن الشباب الذين طلعوا من السجون أكثرُهم لا زال فيهم بعض الدَّخَن، حتى وإن طلعوا من السجون وعُفي عنهم، لكن لا زالوا يتكلَّمون في مسألة التكفير، ومسألة تكفير الحاكم بالعين، وأن هذا الحاكم الذي في الجزائر حاكمٌ كافرٌ، ولا بيعة له، ولا سمع ولا طاعة لا في معروفٍ ولا في منكرٍ؛ لأنَّهم يُكفِّرونهم، ويجعلون الجزائر ـ يا شيخ! ـ أرض ـ يعني ـ أرض كفر.
الشيخ: دار كفر؟
السائل: إي، دار كفر، نعم يا شيخ! لأنَّهم يقولون: إنَّ القوانينَ التي فيها قوانين غربية، ليست بقوانين إسلامية، فما نصيحتُكم أولاً لهؤلاء الشباب؟ وهل للحاكم الجزائري بَيْعَة، علماً ـ يا شيخ! ـ بأنَّه يأتي يعتمِر ويُظهرُ شعائرَ الإسلام؟
الشيخ: يُصلِّي أو لا يُصلِّي؟
السائل: يُصلِّي يا شيخ!
الشيخ: إذن هو مسلمٌ.
السائل: وأتى واعتمر هنا من حوالي عشرين يوماً أو شهر، كان هنا في المملكة.
الشيخ: ما دام يُصلِّي فهو مسلمٌ، ولا يجوز تكفيرُه، ولهذا لَمَّا سُئل النَّبِيُّ r عن الخروج على الحُكَّام قال: (( لا ما صلَّوا )) ([1])، فلا يجوز الخروجُ عليه، ولا يجوزُ تكفيرُه، من كفَّره فهذا ... بتكفيره يُريد أن تعودَ المسألة جَذَعاً([2])، فله بيعة، وهو حاكمٌ شرعيٌّ.
أما موضوعُ القوانين، فالقوانينُ يجب قبول الحقِّ الذي فيها؛ لأنَّ قبول الحقِّ واجبٌ على كلِّ إنسانٍ، حتى لو جاء بها أكفرُ الناس، فقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا} فقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالفَحْشَآءِ} [الأعراف 28]. وسكت عن قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا}؛ لأنَّها حقٌّ، فإذا كان تعالى قبِل كلمةَ الحقِّ من المشركين فهذا دليلٌ على أنَّ كلمةَ الحقِّ تُقبلُ من كلِّ واحد، وكذلك في قصة الشيطان لَمَّا قال لأبي هريرة: (( إنَّك إذا قرأتَ آيةَ الكرسي لَم يزل عليك من الله حافظ ولا يَقرَبْك الشيطان حتى تُصبح )) قبِل ذلك النَّبِيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم([3])، وكذلك اليهودي الذي قال: (( إنَّا نجد في التوراة أنَّ الله جعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع ـ وذكر الحديث ـ فضحك النَّبِيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى بَدَت أنيابُه أو نواجِذُه؛ تصديقاً لقوله، وقرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر 67] ))([4]).
فالحقُّ الذي في القوانين ـ وإن كـان مِن وَضعِ البشرِ ـ مقبولٌ، لا لأنَّه قول فلان وفلان أو وضْعُ فلان و فلان، ولكن لأنَّه حقٌّ.
وأمَّا ما فيه من خطأ، فهذا يُمكنُ تعديلُه باجتماع أهل الحلِّ العقدِ والعلماء والوُجهاء، ودراسة القوانين، فيُرفَضُ ما خالف الحقَّ، ويُقبلُ ما يُوافِقُ الحقَّ.
أمَّا أن يُكفَّرَ الحاكم لأجل هذا؟!
مع أنَّ الجزائر كم بقيت مستعمَرة للفرنسيين؟
السائل: 130 سنة.
الشيخ: 130سنة! طيِّب! هل يُمكن أن يُغيَّر هذا القانون الذي دوَّنه الفرنسيَّون بين عشيَّة وضحاها؟! لا يُمكن.
أهمُّ شيء: عليكم بإطفاء هذه الفتنة بما تستطيعون، بكلِّ ما تستطيعون، نسأل الله أن يقيَ المسلمين شرَّ الفتن.
السائل: فتكمِلة لمسألة الشباب الآن ـ يا شيخ! ـ مثلاً في مناطق كثيرة، ليست كل المناطق، لكن في مناطق كثيرة لا زالوا يخوضون في مسألة هي كبيرة عليهم، يعني مسائل ـ مثلاً يا شيخ! ـ التكفير، التشريع العام، والتكفير العيني، هذه المسائل ـ يا شيخ! ـ قد يأخذون الفتوى منكم، ثمَّ يُطبِّقونها على الحاكم، هكذا تطبيقاً يعني ...
الشيخ: عملهم هذا غير صحيح.
السائل: نعم! ثمَّ لَمَّا نقول له: يا أخي ما قالها الشيخ ابن عثيمين، يقول لك: لكن الشيخ ابن عثيمين ـ مثلاً ـ في كتبِه قال: التشريع العام: مَن حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر بدون تفصيل، والآن عندنا هذا الحاكم لا يحكم بما أنزل الله، فهو كافر، فهِمتَ المسألة يا شيخ؟
الشيخ: فهِمنا، أقول ـ بارك الله فيكم ـ: الحكم على المسألة بالحكم الذي ينطبق عليها غيرُ الحكم على شخصٍ معيَّن.
فالمهمُّ يجب على طلبة العلم أن يعرفوا الفرقَ بين الحكم على المسألة من حيث هي مسألة، وبين الحكم على الحاكم بها؛ لأنَّ الحاكمَ المعيَّن قد يكون عنده من علماء السوء مَن يُلبِّس عليه الأمورَ، وغالبُ حُكام المسلمين اليوم ليس عندهم علمٌ بالشرع، فيأتيهم فلانٌ يُموِّه عليهم، وفلانٌ يُموِّه عليهم، ألَم ترَ إلى أنَّ بعضَ علماء المسلمين المعتبرين قال: جميع مسائل الحياة ليس للشرع فيها تدخُّل! واشتبه عليهم الأمر بقوله r:
(( أنتم أعلم بأمور دنياكم ))([5])! قال هذا رجالٌ نشهدُ لهم بالصلاح، ولكن تلبَّس عليهم، وهم لو تأمَّلوا الأمرَ لوجدوا أنَّ هذه بالنسبةِ للمصانع والصنعة وما أشبه ذلك؛ لأنَّ الرسولَ تكلَّم عن تأبير النخل، وهم أعلم به؛ لأنَّه r أتى من مكَّة، ما فيها نخل ولا شيء، ولا يعرفه، فلمَّا رأى هؤلاء يصعدون إلى [النخل] ويأتون بلقاحه، ثمَّ يُؤبِّرون النخلةَ ويلقِّحونها، فيكون فيه تعب وعمل، قال: (( ما أظنُّ ذلك يُغني شيئاً ))، فتركوه سنة، ففسدت النخلة، فأتوا إليه، فقالوا: يا رسول الله! فسد التمر! قال: (( أنتم أعلم بأمور دنياكم ))، ليس بأحكام دنياكم، لكن بأمور دنياكم، ثم الناس يُلبِّسون الآن، ألَم تروا بعض العلماء في بلاد ما أباحوا الرِّبا الاستثماريِّ؟ وقالوا: المُحرَّم الربا الاستغلالي، وشبهتُه قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}! [البقرة 279].
الحاكم إذا كان جاهلاً بأحكام الشريعة، وجاءه مثلُ هذا العالِم، أليس يُضلُّه؟
السائل: يُضِلُّه.
الشيخ: فلذلك لا نحكم على الحُكَّام بالكفر إذا فعلوا ما يَكفُر به الإنسانُ حتى نُقيم عليه الحُجَّة.
السائل: مَن الذي يُقيم الحُجَّة يا شيخ؟
الشيخ: ما دُمنا ما أقمنا عليهم الحُجَّة لا نحكم بكفرهم.
السائل: سمعتُكَ ـ يا شيخ! ـ تقول في رمضان قلتَ: (( إلاَّ أن ترَوا .. ))، يعني: الرؤية العينية، قلتَ ـ يا شيخ! فيما أذكر ـ قلتَ: مثل رؤية العين.
الشيخ: نعم! هذا هو، أي: أن نعلمَ علمَ اليقين ـ مثل ما نرى الشمس ـ كفراً بواحاً، صريحاً ما فيه احتمال ))([6]).
([1]) رواه مسلم من حديث عوف بن مالك، وقد تقدَّم.
([2]) يُقال: أعدتُ الأمرَ جَذَعاً: أي: جديداً كما بدأ.
([3]) رواه البخاري (3275) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([4]) أخرجه البخاري (4811)، ومسلم (2786) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
([5]) أخرجه مسلم (2361 ـ 2363 ) من حديث طلحة بن عُبيد الله ورافع بن خَديج وأنس رضي الله عنهم.
([6]) من شريط سمعي: فتاوى الأكابر في نازلة الجزائر.