حين يبحث الداعية عن ذاته!

صلاح عبدالشكور – كاتب وصحفي


الدعوة إلى الله، وحمل همّ إصلاح الناس وحب الخير لهم؛ مهنة لا يتجاسر عليها إلا أولو الهمم العلية والنفوس الزكية، وهي وظيفة الأنبياء ومركب الصلحاء من الناس قديماً وحديثاً، الداعية إلى الله شخص سمت نفسه، ورقت آماله، وشمّر يصعد سلّم المعالي والمكرمات، ولا يرضى أن يرتقي بنفسه فحسب، بل يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يحمل معه أكبر عدد من الناس، ليكونوا من عباد الله المؤمنين، باذلاً كل ما في وسعه ليكون سبباً في إنقاذ من يستطيع؛ فهذا إمام الدعاة وسيدهم صلى الله عليه وسلم يصف حاله في الدعوة إلى الله ويقول: (إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً ، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحمون فيها) أخرجه البخاري في صحيحه (6483).


وكل داعٍ إلى الله عز وجل له نصيب من هذا المثل الذي بينه نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا يظن ظانٌّ أن الدعوة إلى الله كلمات تقال وشعارات ترفع وبرامج تقام وندوات تعقد هنا وهناك بل الدعوة في أصلها جانب تعبدي لله تبارك وتعالى، مبعثها القلب والنية، وتحتاج إلى تضحية وبذل وصبر عظيم، وإلى ذلك كانت الإشارة القرآنية حين أردف الله التواصي بالصبر بعد التواصي بالحق في سورة العصر فقال سبحانه {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.(سورة العصر: 3)

ورغم ذلك فإن الداعية معرض لكل ما يمكن أن يصرفه عن دعوته، أو يغيّر في قناعاته سلباً ويؤثر في توجهاته وأهدافه السامية العلية حتى يصبح أسيراً لهوى نفسه ونزعات فطرته ووساوس شيطانه، يتجلى هذا الأمر حين يصل الداعية إلى مرحلة لـ (أنا) والبحث عن الذات فيردد على الناس منجزاته وأعماله الدعوية، ويعدّد جهوده وصولاته وجولاته وويل ثم ويل لمن يتجاهل أدنى كلمة قالها أو نصيحة أهداها أو نشاط دعوي قام به، فإذا وصل الداعية إلى هذه المرحلة من حب المحمدة والسمعة والمراءاة وانتظار أو طلب الثناء من الناس على أعماله وجهوده تلميحاً أو تصريحاً؛ جرّه الشيطان تدريجياً إلى قيعان النفس وحظوظها الدنية، فتتغير أهداف ومقاصد الدعوة لديه، وربما أصبح ممارسة الدعوة إلى الله من حيث يدري أو لا يدري باباً من أبواب الشهرة والمكانة والمنفعة العاجلة.


إن آفات العمل الدعوي كثيرة متشعبة، يلفها الغموض والخفاء في أحيان كثيرة، وتستعصي على تعرف المريض عليها؛ خاصة إذا كان المصاب بهذه الآفات مبتدءاً في مجال الدعوة أو يصاحب أشخاصاً مصابين بهذه الأدواء أو ببعضها، فيعيش في شرنقة ضيقة باحثاً عن الضوء واللمعان فتضيع أجوره وتتشتت حسناته وهو يحسب أنه يحسن صنعا.


أعمال دعوية كثيرة لم يكتب الله لها البقاء والاستمرار ليس لعدم جدواها أو قلة مواردها أو ضعف متابعتها وتنفيذها؛ وإنما لدَخَنٍ كان في قلوب أولئك الدعاة فتأثرت أعمالهم بتلك الغبرة، ففقدت حضورها وقلت منفعتها وزالت بركتها، حتى صارت إلى الاضمحلال والزوال، وفي المقابل نجد أعمالاً دعوية يسيرة وجهوداً قليلة لا تذكر في المحافل الدعوية، بعيدة عن أضواء الإعلام وفلاشاته، ولا يشار إليها بالبنان، وربما جهل الناس جميعهم من يقف وراء تلك الأعمال والبرامج الدعوية، ولكن يكتب الله من ورائها نفعاً عظيماً ويستفيد منها خلق لا يحصون، والمعول في كل ذلك ما يحمله كل عامل من نية حسنة وقصد صالح مع المتابعة، وهما الركيزتان عند الله تبارك وتعالى في قبول الأعمال أو ردها .


لا بد للداعية والمصلح أن يتذكر على الدوام أن عملية الدعوة إلى الله تحتاج إلى إخلاص في النية، و ومجاهدة النفس في ذلك للتغلب على حظوظها، ولا بد أن يعي الدعاة جميعاً أنه بقدر الإخلاص يكتب الله النجاح والقبول في الدنيا والآخرة، وبقدر قلته أو انعدامه يكون الفشل والزوال.


ولعلي أختم بما كان يتواصى به الفقهاء بينهم كما قال عون بن عبدالله: كان الفقهاء يتواصون بينهم بثلاث وكتب بذلك بعضهم إلى بعض: من عمل لآخرته كفاه الله دنياه، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس. ورحم الله الشافعي يوم قال: وددت أن كل علم أعلمه يعلمه الناس وأوجر عليه ولا يحمدوني. (حلية الأولياء: 2/27).