بسم الله الرحمن الرحيم
هل سمعت بجيفري لانغ؟ مدرس رياضيات أمريكي كان كافرا فأسلم وقصة إسلامه جميلة ذكرها في بعض كتبه، ألف بعد إسلامه أكثر من كتاب يذكر فيها شيئا من أفكاره، منها كتاب: ( حتى الملائكة تسأل ) ويعني بهذا العنوان قول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) فهو يرى أنه يحق لكل مسلم أن يسأل: لمَ حرم الله هذا، ولمَ أوجب أوجب هذا ونحو ذلك، فهذا السؤال عنده أقرب للاعتراض منه إلى الاستفسار لذا فإنه يرى في كتابه هذا أن شهادة المرأة تعدل شهادة الرجل مع أنه قد ذكر الآية الكريمة الدالة على خلاف هذا قبل رأيه بقليل ومع هذا فإنه عارضها صراحة.
ولو أكمل الآية التي استدل بها واقتبس منها اسم كتابه لوجد الرد عليه واضحا: (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) فالله سبحانه له العلم المحيط (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) والحكم الأحسن (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وهو كما قال عن نفسه سبحانه (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) فالله سبحانه لا يشرع لعباده إلا الأكمل فهو الذي خلقهم وهو أعلم بما يصلحهم كما قال تعالى (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير ُ) فهو عليم خبير لطيف لا يشرع لعباده إلا الأفضل والأرحم والأرفق، وإن كان ظاهر العبادة المشقة فهي في الحقيقة يسر كما رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ) رواه البخاري، فرجم الزاني يسر وقطع يد السارق يسر وقتل المرتد والقاتل يسر وكل أحكام الشريعة يسر لأن الله أمرنا بها وما أمر الله به فهو من الدين والدين يسر كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
فالمؤمن يؤمن بهذا ولو لم يعرف الحكمة، والعاقل الحصيف إذا تأمل أحكام الشريعة عرف حقيقة اليسر فيها ولو كان كافرا، ألا ترى فوائد تطبيق الحدود على المجتمع المسلم, أليس هذا من اليسر؟
لذا فإن الله قال بعد أن قال للملائكة: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) بين لهم بمثال واقعي كمال علم الخالق ونقص علم المخلوق الذي هو أقرب إلى الجهل منه إلى العلم فقال: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) فلما خق الله آدم جعل فيه من الخصائص ما ليس في الملائكة وبين الله لهم بهذه الواقعة أن وراء خلق آدم أمور لا يعلمونها ولا يستطيعون الحكم عليها لنقص علمهم، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية قوله: ( هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس إنسان ودابة وسماء وأرض وسهل وبحر وخيل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها ) وجاء عن قتادة في ذكر في ذكر شرف آدم عليه السلام الذي لم يعرفه الملائكة: ( كان في علم الله أنه سيكون من الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة )
*استطراد: جيفري لانغ ليس الوحيد، بل هناك من يشبهه فمراد هوفمان رجل ألماني أسلم، توصل في كتابه ( الإسلام عام 2000 ) إلى أن حد الرجم ليس من الإسلام وأنه ليس على الزاني إلا الجلد، وعندما أعلن روجيه جارودي إسلامه كان لهذا الخبر ضجة كبيرة فقد كان مفكرا فرنسيا مشهورا ولكنه بعد هذا أتى بالعجائب، فقد أعلن عن دعوته إلى الإبراهيمية وهي ديانة جديدة ابتدعها يجتمع فيها اليهود والنصارى والمسلمون لأنهم كلهم يعظمون إبراهيم عليه السلام.
والتاريخ يعيد نفسه، فقد كان لبعض الداخلين في الإسلام في عهد التابعين فمن بعدهم أثر سيء على الأمة إلا من استسلم لأمر الله وأمر رسوله ولم يعدل بالكتاب والسنة شيئا، فإن بعض هؤلاء يدخل في الإسلام وهو لم يتخل عن خلفيته الثقافية السابقة تخليا كاملا فيحدث في الأمة آراءً بدعية وآثارا سيئة، ولا يعني هذا أنه لا يوجد من يستسلم الاستسلام الكامل كما قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً) أي في الإسلام ولا تتركوا منه شيئا، فقد كان منهم عكرمة وعطاء والحسن البصري ومكحول وطاوس بن كيسان وغيرهم من أئمة السلف ومن المعاصرين الداعية الأمريكي يوسف إستس والداعية الألماني أبو صلاح وغيرهم.
عودا على ما سبق: ويشبه هذا المعنى في القرآن أيضا ما جاء في سورة الأعراف في ذكر قصة آدم وإبليس، اقرأ بتدبر، قال الله تعالى: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ) فقد نهى الله آدم وحواء عن قربان الشجرة، فأتاهما إبليس فقال لهما ما معناه: قد صح من الله نهيه عن قربان الشجرة، لكن المصلحة في أن تأكلا منها، فأطاعاه فبدت لهما سوآتهما أي عوراتهما المغلظة ولم تكن بادية قبل ذلك بل كانت مغطاة، كما قال تعالى: (مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا) فقد بين لهما بعد ذلك أن الأكل من الشجرة سبب بدو عوراتهما وأن الحكمة كانت خفية جدا، فمن يخطر بباله أن هذه هي الحكمة، ولو أطاعا الله ورسوله لما حدث شيء من هذه المفاسد الحادثة بعد ذلك.
وكل أمر من الله ورسوله ينطبق عليه هذا الحكم ومع هذا فإن كثيرا من بني آدم وحواء لم يتعظا بما وقع لأبويهما، فتجد كثيرا من العصرانيين المتتبعين للرخص يقدمون عقولهم على أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال لهم المؤمن المعظم لأمر الله وأمر رسوله: قال الله كذا وقال رسوله كذا، ردوا النصوص بصراحة أو بتأويل، فيقولون: لعله أريد به كذا، أو لعله يحمل على كذا، أو هذا النص يصعب تطبيقه في الواقع، أو المصلحة تخالف ظاهر النص فلا تكن نصيا ظاهريا متشددا....إلى آخر تأويلاتهم البارد التي هي في الحقيقة رد للنصوص، ويا سبحان، لقد خفي على عيسى بن مريم عليه السلام ما في نفس الله فقال: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) أفيعلمون هم ما في نفس الله حتى يقولوا أريد به كذا أو كذا.
وأقسم بالله غير حانث لتظهرن مفاسد معصية الله ولو بعد حين، بل قد ظهرت، والله المستعان.
لذا فإن الله تعالى قال لآدم وحواء بعد أن أهبطهما من الجنة إلى الأرض بذنبهما مبينا لهما المنهج الذي يجب عليهما أن يسيرا عليه جاعلا قصتهما عظة لهما ولذريتهما من بعدهما إلى قيام الساعة كما في سورة طه: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) فقد أمر الله آدم وحواء وذريتهما من بعدهما أن يتبعوا ما يأتيهم من الهدى من ربهم على مر العصور ومن استجاب لأمر الله هذا فإنه لا يضل ولا يشقى قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
أما من أعرض عن ذكر الله ولم يعمل بشرعه وهديه فإن له معيشة ضنكا من وجهين:
1_ بما يكون في قلبه من الظلمة والكآبة المترتبتان على معصية الله وذهاب نور الطاعة الطارد لهما.
2_ بالمفاسد المترتبة على عصيان الله كما حدث لآدم وحواء فقد أدت معصيهما إلى بدو سوآتهما وهبوطهما من الجنة إلى الأرض.
وكأني بإبليس لحسده آدمَ وحقده يريد أن يوقعه فيما وقع فيه هو من قبل وكان سبب طرده من السماء، فلنتدبر هذه الآية: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) فقد أمر الله إبليس بالسجود لآدم وهو أمر صريح لا لبس فيه، ولكن إبليس الشقي رد أمر الله بحجة عقلية منطقية بحتة، مكونة من ثلاث مقدمات ونتيجة، أما المقدمات فهي:
1_ خلقتني من نار.
2_ خلقته من طين.
3_ النار خير من الطين.
النتيجة:
أنا خير من آدم فلن أسجد كما أمرتني.
فلا تسألوا عن شقاء هذا الشقي الرجيم بمعارضته أمر الله برأيه، ولنحذر من أن يوقعنا فيما وقع هو فيه، وقد أشار إلى هذا المعنى ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة.

خاتمة
(يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا)
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ)
أخوكم أبو عبد العزيز بن محمد
الأحد 15/12/1431