ما أحلى الأخوة أيها الأحباب، إنها حادي المسافرين في الطريق، ومسلي القلب عن الأحزان إذا حل الضيق، ولا يعرف حقيقة هذه المعاني إلا من عاشها، ولا يدرك قيمتها إلا من عايشها، ألم تروا أن نبينا - صلى الله عليه وسلم- كان من أول ما قام به حين مقدمه المدينة أن آخى بين الأنصار والمهاجرين، أتحسبون أن هذا الأمر جاء اعتباطا، حاشا وكلا، إنما هو تعليم لهذه الأمة كي تدرك قيمة ما يبدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم- المعلم من أفعال، فتوليه مزيد عناية واهتمام، ثم انظر كيف راح نبينا- صلى الله عليه وسلم- يحافظ على هذه الرابطة السامية، ويحذر من كل ما من شأنه أن يضعف قوتها، ويوهن متانتها، فقال - عليه الصلاة والسلام-:"لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا"(مسلم) ، ورغب المسلمين في رعاية هذه العلاقة بتحاشي ما يفسدها فقال:"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره" (مسلم)، وكان يحذر من الجدال خشية تنافر القلوب، ويسوّي صفوف أصحابه في الصلاة حتى كأنما يسوّي بها القداح، ويقول:"لتسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" (مسلم)، ووجد يوماً أصحابه متباعدين في جلوسهم فآسفه ذلك وقال:"ما لي أراكم عِزين" (مسلم)، كما عظّم ربنا شأن هذه الرابطة، فأرشدنا إلى المحافظة عليها، باتقاء ما قد يكون سببا في زعزعتها فقال:﴿إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم﴾.
إن الأخوة - إخواني- معنى وأيّ معنى، معنى سامٍ لا تُعبِّر عنه الأقلام، ولا تترجمه الكلمات، ولهذا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه أخوان ربطتهم المحبة في الله فاجتمعا عليه وافترقا عليه، ومن أجل هذه القيمة الغالية التي أوتِيَتْهَا علاقة الأُخوة بات الشيطان حريصا على قطعها بالتحريش بين أهلها كما أخبر بذلك الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم-:"إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم" (مسلم)، وبسبب مكانتها عُذِّب النَّمّام في قبره أن كان يريد إفسادها، وظلت النميمة من كبائر الذنوب.
إنها الأخوة - أيها الأحبة- التي عرف قيمتها السلف فعظَّموها وعَظُموا بها ،كان ابن عمر يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلينا، لأن إخواننا يذكروننا الآخرة، و أهلينا يذكروننا الدنيا. ألا فلتكن الأخوة على هذا النمط الراقي كي نستشعر قيمتها، ونذوق لذتها، فيشق علينا فقدها ومفارقتها، ولتكن - إذن- مبنية على النصح والتذكير بالآخرة، وأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا من الخير، وأن نلطّف جوَ الأخوة - إن تعكر يوما- بهدية نبذلها لأخ يذهب عنه وحر الصدر، وأن نحسن الظن بإخواننا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وأن نلتمس المعاذير، فإن لم نجدها قدرناها فيما غاب عنا ولم نعلمه، فنقول: لعل لأخينا عذرا.
وإيانا أن نخرب بيوتنا بأيدينا فنقدم متاع الدنيا الرخيص على هذا العلق النفيس، وما أكثر الخلافات اليوم التي جعلت شعار الأخوة تحت الأقدام بسبب الأموال، فباع الأخوان أخوتهما بثمن بخس دراهم معدودة وكانا فيها من الزاهدين.
تعالوا معي نطل من هذه النافذة على الرعيل الأول الذين صار لهم الصلاح لقبا، فما اسطاع خلفهم أن يحوزه، وما استطاعوا منه قربا، إلا قليلا منهم.
قال أحدهم: لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا - و ذكر منها- مصاحبة إخوان ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر. فوا أسفاه على هذا المعنى الجميل والوصف الجليل: ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر، لولا خشية التألي على الله لكدنا نجزم أن هذا الأمر قد عقمت رحم الزمان أن تلد مثله، ولكن الخير في هذه الأمة موجود، غير أنه في زماننا قليل ومحدود.
يا أهل الإسلام ! تعالوا نجدد هذه العلاقة، وننفض عنها ما علاها من غبار، ونُصَفِّهَا مما خالطها من أكدار، ونشرب منها بعد أن صفت أكدارها، وذهبت عنها أقذارها، ولنحافظ عليها بسياج متين يمنع اللصوص من الرتع في حماها، ولنرابط على ثغورها، فمن اقترب منها لقي حتفه قبل أن يغشاها، فإن فعلنا فإنا -بإذن الله- لمفلحون.