الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ
بقلم: أحمد البراء الأميريآهٍ لو عرفنا أقدار الرجال من غير تقديس يرفعهم إلى مراتب الكمال، أو سوءِ أدب معهم، وجهلٍ بأقدار أنفسنا، فنحطّهم عن المكانة اللائقة بهم، أو نحاول الطيران إلى آفاقهم بأجنحتنا الهزيلة، فتهوي بنا الريح في مكان سحيق.
قال الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله تعالى ـ وهو على جلالة قدره، وعظمته، وعبقريته، أخذ العلم عن الشافعي، مع أنه كان أعلم منه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
«كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، فهل ترى لهذين من خَلَفٍ، أو عنهما من عوض»؟!.
وقال: « لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث، وكان الفقه قِفلاً على أهله حتى فتحه الله بالشافعي».
وقال لصديقه الإمام العظيم إسحاق بن راهويه: « تعال أريك رجلاً لم تر عيناك مثله»، قال إسحاق: « فأراني الشافعي، فلم تر عيناي مثله قط»، ثم قال إسحاق ـ رحمه الله تعالى ـ :« الشافعي إمام العلماء، وما يتكلم أحد بالرأي إ‘لا والشافعي أقلُّ خطأ منه».
وقال الجاحظ، شيخ الأدباء في عصره : «لم أر أحسن تأليفاً من الشافعي كأنَّ فاه ينظم دراً إلى در».
وقال عنه بعض الأئمة من تلامذته: «كانت ألفاظ الشافعي كأنها سُكَّر، وكنا إذا قعدنا حوله لا ندري كيف يتكلَّم، كأنه سحر».
كان الشافعيُّ ـ رحمه الله تعالى ـ شديد المحبة للعلم، قيل له مرة: كيف شهوتك للعلم؟ فأجاب ما معناه: أسمع من العلم شيئاً جديداً فتودّ أعضائي أن لها أسماعاً تتنعم به، مثل ما تنعمت به الأذنان، فقيل له: فيكف حرصٌك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع (أي البخيل) في بلوغ لذّته للمال، فقيل له: فكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة التي ضاع ولدها ليس لها غيره».
وكان بارعاً جداً في المناظرة حتى قيل عنه: « لو ناظر الشافعي الشيطان لقطَّعه وجدَّله». وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: « ما رأيت الشافعي ناظر أحداً إلا رحمتُه. ولو رأيت الشافعي يناظرك لظننت أنه سبعٌ يأكلك، وهو الذي علَّم الناس الحجج»، ومع ذلك فإنه كان لا يرفع صوته في المناظرة، وكان لا يريد إلا الحق، ولا يريد قهر الطرف الآخر، يقول ـ رحمه الله تعالى ـ : « ما ناظرت أحداً قط إلا أحببتُ أن يُوفَّق، أو يُسدَّد، أو يعان، ويكون له رعايةٌ من الله وحفظ، وما ناظرتُ أحداً إلا ولم أبال بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه، وما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ، وما ناظرت أحداً على الغلبة، إنما على النصيحة».
كان الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ إماماً في اللغة يرى عدد من العلماء الأعلام أن كلامه حجة فيها، مع أنه توفي عام 204 للهجرة، وقد أقام الشافعي في قبيلة هذيل التي اشتهرت بالفصاحة، ونبغ فيها من الشعراء نيفٌ وسبعون شاعراً، حفظ الشافعي أكثر أشعارهم عن ظهر قلب. قال الأصمعي الإمام العلامة راوية العرب : صحَّحتُ أشعار الهُذليين على شابٍّ من قريش بمكة يقال له : محمد بن إدريس الشافعي، وقال: صحَّحت شعر الشَّنفرى على الشافعي. قال مصعبٌ، عم الزبير بن بكار : «كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى الشافعي شعر هذيل حفظاً، وقال: لا تُعلم بهذا أحداً من أهل الحديث فإنهم لا يحتملون هذا! وقد وردت هذه الرواية في معجم الأدباء (14/299) والمراد منها ـ فيما يبدو لي ـ أن أصحاب الحديث سينكرون عليه حفظ الشعر بدلاً من حفظ الحديث، والله أعلم.
أما تقوى الشافعي، وأمثاله من الأئمة العلماء فأشهر من أن يتحدث عنها فإنهم ما نالوا الذي نالوه إلا بالتقوى أولاً، ثم بالأسباب الأخرى.
يقول الكرابيسي: «بتُّ مع الشافعي ثمانين ليلةً، وكان يُصلِّي نحو ثُلُث الليل، وما رأيته يزيد على خمسين آية في الركعة، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين، ولا يمرُّ بآية عذابٍ إلا تعوّذ بالله، وسأل الله النجاة لنفسه، وللمؤمنين والمؤمنات».
«وكان قد جزّأ الليل ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام».
رحم الله الإمام الشافعي وأبا حنيفة ومالكاً وأحمد بن حنبل، وأمثالهم من مصابيح الدُّجى، ومنائر الهداية.