إلى عرفات الله
لوعة المشتاقين ورجاء المذنبين
بقلم/ أحمد زكريا
يا لفرحة من أكرمه الله بالوقوف بعرفات
ويا هناءة من تكحلت عيناه برؤية البيت العتيق
ويا لري من أطفأ ظمأه بماء زمزم
ويا لسعادة من تعطرت أنفاسه بأريج قبر الرسول –صلى الله عليه وسلم -.
أتأمل في يوم عرفة.. وأتساءل:
ماذا سماه القرآن عرفات بالجمع.. وسمته السنة بالإفراد؟.
والحقيقة أن "عرفات" هنا ليست جمعا لعرفة.. بل نفس المعنى للمكان المعروف في الحج.. وهي اسم من لفظ الجمع فلا تجمع ولا واحد له.
لكن أشعر في اللفظ القرآني :"عرفات"الذي جاء في صورة الجمع،بالشمول وتعدد المعاني.
فهي عرفة لمن اشتاق إلى لقاء ربه،وأراد أن يتعرف على الله - عز وجل – في بيته،فيجد الأنس والفرحة والسرور بزيارة الرب العليَ في بيته الحرام.
فيه وصل الحب وتجديد العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،وزيادة المعرفة عن قرب بالحبيب المحبوب.
فيه معرفة بمهد الرسالة،ومبعث الوحي،ورؤية الأرض التي شرفت بنزول الوحي،وفاح النور على ثراها.
فيه معرفة بالجهد المضني ،والدم المبذول من صاحب الرسالة وصحابته الكرام،لنعرف كم بذل في سبيل هذا الدين،وأن وصوله إلينا كان دونه المهج والأرواح والأموال.
فيه معرفة للعبد بنفسه ،وخروج عن زخرف الدنيا وبريقها الزائف،إذ يتجرد العبد من حطامها،ويرى نفسه على حقيقتها وفي قمة ضعفها.
فيه فرصة للمذنبين يعترفون لربهم بذنوبهم،ينبعث أنينهم بعيدا عن القوالب المزيفة التي نعيش فيها،نصارح أنفسنا بحقيقتها وتقصيرها،نخرج من الوهم الذي نعيش فيه بأننا من الزهاد العباد الذين لا يخطئون،نتذكر فيه وصية لقمان:"لا تظهر للناس أنك تقي .. وقلبك فاجر"
فكم يشعر الإنسان بمرارة هذه الكلمة كلما عصى الله - عز وجل – فيأتي عرفات يجدد الأمل في القلوب،ويبعث في قلوبنا المنكسرة من ذل المعصية الحياة من جديد.
فيه نستشعر معنى التوحيد الصافي ،والانسلاخ الكامل من ذواتنا،والانطلا ق إلى الفضاء الرحب،والملاذ الآمن،لذلك كان أفضل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم:لا إله إلا الله....
وقد جاءت عرفات في القرآن بصيغة الجمع قال تعالى: "فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ"[البقرة:198].
والتنوين في عرفات يسميه النحويون تنوين المقابلة.. أي: مقابلة النون في جمع المذكر السالم، وجاءت في الحديث مفردة قال صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، وقال: (وقفت ههنا وعرفة كلها موقف). ......
سبب تسمية عرفة بهذا الاسم
بعض العلماء يقولون: من العرف.. وهو الطيب.
قال الله جل وعلا عن أهل جنته: "عَرَّفَهَا لَهُمْ" [محمد:6] ففي أحد أوجه التفسير يعني: طيبها لهم، وقالوا: سميت بعرفة؛ لأن آدم عليه السلام أهبط بالهند وحواء أمنا عليه السلام أهبطت في جده فالتقيا في عرفات فتعارفا فسميت عرفة.
و الرأي الأول أوجه، وبعض العلماء يقول: لا يوجد دليل صريح صحيح على سبب تسميتها بعرفة.
قال بعض العلماء كـابن الجوزي في كتابه " تحريك الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن".. قال:
إن القبضة التي قبضها الله جل وعلا من الأرض.. ليخلق منها أبانا آدم كانت مخلوطة من عرفات.. فقال: لهذا كل إنسان على الفطرة يجد في قلبه حنيناً إلى عرفات؛ لأن النفس تنزع إلى ما خلقت منه، والجسد يحن إلى الشيء الذي خلق منه.
وهذا لا يوجد عليه دليل.. لكن نقول: العقل يقبله ولا يوجد في الشرع ما يمنعه، لكن لا نستطيع أن نجزم به.
هذا باب الله فاطرقوه...
أحبائي في الله :
هاهي أبواب الرحمات تفتح للجميع سواء الحجيج أو غيرهم.. فلا نفوت الفرصة،بل نتمسك بها إلى أقصى درجة،فلعلها لا تعود.
ولنجعله يوما استثنائيا في عمرنا،نتعالى فيه على حظوظ أنفسنا،وعلى رغباتنا،ونتناسى - ولو في هذا ليوم فقط - ذواتنا،ونتصافى مع أنفسنا وإخواننا ومع كل خلق الله .
لنعش في سلام وصفاء ،نستلهمه من تلك اللحظات الغالية،التي لا تعوض ولا تقدر بثمن.
والأمل يحدونا ألا يحرمنا الله عز وجل من عرفات عاجلا غير آجل.. والله المستعان.
وأدعك قارئي العزيز تعيش مع أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته الرائعة إلى عرفات الله،والتي أهداها للخليفة العثماني حين حج بيت الله الحرام،فلنعش بقلوبنا معها،نتأمل جميل بلاغته،وروعة بيانها،على أمل أن أكون أنا وأنت هذا الزائر قريبا بإذن الله.

إِلى عَرَفاتِ اللَهِ يـا خَيـرَ زائِـرٍ عَلَيكَ سَـلامُ اللهِ فـي عَرَفـاتِ
وَيَومَ تُوَلّى وُجهَةَ البَيتِ ناضِـرًا وَسيمَ مَجالي البِشرِ وَالقَسَمـاتِ
عَلى كُلِّ أُفقٍ بِالحِجـازِ مَلائِـكٌ تَـزُفُّ تَحايـا اللهِ وَالبَـرَكـاتِ
إِذا حُدِيَت عيسُ المُلـوكِ فَإِنَّهُـمْ لِعيسِكَ في البَيداءِ خَيـرُ حُـداةِ
لَدى البابِ جِبريلُ الأَمينُ بِراحِـهِ رَسائِـلُ رَحمانِيَّـةُ النَفَـحـاتِ
وَفي الكَعبَةِ الغَرّاءِ رُكنٌ مُرَحِّـبٌ بِكَعبَـةِ قُصّـادٍ وَرُكـنِ عُفـاةِ
وَما سَكَبَ الميزابُ مـاءً وَإِنَّمـا أَفاضَ عَلَيكَ الأَجرَ وَالرَحَمـاتِ
وَزَمزَمُ تَجري بَينَ عَينَيكَ أَعيُنًـا مِنَ الكَوثَرِ المَعسـولِ مُنفَجِـراتِ
وَيَرمونَ إِبليسَ الرَجيمَ فَيَصطَلـي وَشانيكَ نيرانًـا مِـنَ الجَمَـراتِ
يُحَيّيكَ طَهَ في مَضاجِـعِ طُهـرِهِ وَيَعلَمُ ما عالَجتَ مِـن عَقَبـاتِ
وَيُثني عَلَيكَ الراشِدونَ بِصالِـحٍ وَرُبَّ ثَناءٍ مِـن لِسـانِ رُفـاتِ
لَكَ الدينُ يا رَبَّ الحَجيجِ جَمَعتَهُمْ لِبَيتٍ طَهورِ الساحِ وَالعَرَصـاتِ
أَرى الناسَ أَصنافًا وَمِن كُلِّ بُقعَـةٍ إِلَيكَ انتَهَوا مِن غُربَـةٍ وَشَتـاتِ
تَساوَوا فَلا الأَنسابُ فيها تَفاوُتٌ لَدَيكَ وَلا الأَقـدارُ مُختَلِفـاتِ
عَنَت لَكَ في التُربِ المُقَدَّسِ جَبهَةٌ يَدينُ لَها العاتـي مِـنَ الجَبَهـاتِ
مُنَوِّرَةٌ كَالبَدرِ شَمّـاءُ كَالسُهـا وَتُخفَضُ في حَقٍّ وَعِنـدَ صَـلاةِ
وَيا رَبِّ لَو سَخَّرتَ ناقَةَ صالِـحٍ لِعَبدِكَ ما كانَت مِنَ السَلِسـاتِ
وَيا رَبِّ هَل سَيّـارَةٌ أَو مَطـارَةٌ فَيَدنو بَعيـدُ البيـدِ وَالفَلَـواتِ
وَيا رَبِّ هَل تُغني عَنِ العَبدِ حَجَّةٌ وَفي العُمرِ ما فيهِ مِـنَ الهَفَـواتِ
وَتَشهَدُ ما آذَيتُ نَفسًا وَلَم أَضِـر وَلَم أَبغِ في جَهري وَلا خَطَراتـي
وَلا غَلَبَتنـي شِقـوَةٌ أَو سَعـادَةٌ عَلـى حِكمَـةٍ آتَيتَنـي وَأَنـاةِ
وَلا جالَ إِلّا الخَيرُ بَيـنَ سَرائِـري لَدى سُـدَّةٍ خَيرِيَّـةِ الرَغَبـاتِ
وَلا بِتُّ إِلّا كَابنِ مَريَـمَ مُشفِقًـا عَلى حُسَّدي مُستَغفِـرًا لِعِداتـي
وَلا حُمِّلَت نَفسٌ هَوىً لِبِلادِهـا كَنَفسِيَ في فِعلـي وَفـي نَفَثاتـي
وَإِنّي وَلا مَـنٌّ عَلَيـكَ بِطاعَـةٍ أُجِلُّ وَأُغلي في الفُروضِ زَكاتـي
أُبلَغُ فيها وَهـيَ عَـدلٌ وَرَحمَـةٌ وَيَترُكُها النُسّاكُ فـي الخَلَـواتِ
وَأَنتَ وَلِيُّ العَفوِ فَامـحُ بِناصِـعٍ مِنَ الصَفحِ ما سَوَّدتُ مِن صَفَحاتي
وَمَن تَضحَكِ الدُنيا إِلَيهِ فَيَغتَـرِر يَمُت كَقَتيلِ الغيـدِ بِالبَسَمـاتِ
وَرَكِبَ كَإِقبالِ الزَمانِ مُحَجَّـلٍ كَريمِ الحَواشي كابِـرِ الخُطُـواتِ
يَسيرُ بِأَرضٍ أَخرَجَت خَيـرَ أُمَّـةٍ وَتَحتَ سَماءِ الوَحيِ وَالسُـوَراتِ
يُفيضُ عَلَيها اليُمنَ فـي غَدَواتِـهِ وَيُضفي عَلَيها الأَمنَ في الرَوَحاتِ
إِذا زُرتَ يا مَولايَ قَبـرَ مُحَمَّـدٍ وَقَبَّلتَ مَثوى الأَعظَمِ العَطِـراتِ
وَفاضَت مَعَ الدَمعِ العُيونُ مَهابَـةً لِأَحمَدَ بَيـنَ السِتـرِ وَالحُجُـراتِ
وَأَشرَقَ نورٌ تَحـتَ كُـلِّ ثَنِيَّـةٍ وَضاعَ أَريجٌ تَحتَ كُلِّ حَصـاةِ
لِمُظهِرِ ديـنِ اللهِ فَـوقَ تَنوفَـةٍ وَباني صُروحِ المَجدِ فَـوقَ فَـلاةِ
فَقُل لِرَسولِ اللَهِ يا خَيرَ مُرسَـلٍ أَبُثُّكَ ما تَدري مِـنَ الحَسَـراتِ
شُعوبُكَ في شَرقِ البِلادِ وَغَربِهـا كَأَصحابِ كَهفٍ في عَميقِ سُباتِ
بِأَيمانِهِـمْ نـورانِ ذِكـرٌ وَسُنَّـةٌ فَما بالُهُمْ في حالِـكِ الظُلُمـاتِ
وَذَلِكَ ماضي مَجدِهِمْ وَفَخارِهِـمْ فَما ضَرَّهُمْ لَـو يَعمَلـونَ لِآتـي
وَهَذا زَمـانٌ أَرضُـهُ وَسَمـاؤُهُ مَجـالٌ لِمِقـدامٍ كَبيـرِ حَيـاةِ
مَشى فيهِ قَومٌ في السَماءِ وَأَنشَؤوا بَوارِجَ فـي الأَبـراجِ مُمتَنِعـاتِ
فَقُل رَبِّ وَفِّـق لِلعَظائِـمِ أُمَّتـي وَزَيِّن لَهـا الأَفعـالَ وَالعَزَمـاتِ