يقول الشيخ الدكتور خالد محمود الحايك
حفظه الله وجزاه الله كل خير
في موقعه مانصه
بُلْغَةُ ذَوي الإِنْصافِفي حَقيقةِ حديثِ الاعتكَافِ
بقلم:د. أبي صهيب خالد الحايكبِسّمِ اللهِ الرَّحمنِ الرّحيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسلامُ على نبيّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله، وصحبه أجمعين، ومن سارَ على نهجهم إلى يومِ الدِّين، وبعد:
فإِنَّ مِما يُثارُ كلَّ عامٍ مسألة الاعتكاف في المساجد خلالَ شهر رمضان، وهي مسألة خلافية بين أهل العلم، ورُغمَ اختلافهم فيها إلا أنهم لم يُرغموا الناس على ترك الاعتكاف في عامة المساجد.
وقد ابتلينا – والحمد لله – في هذا الزمان بطائفة تدَّعي تمسكها بمنهج السلف لا شُغل لهم إلا صدّ الناس عن العبادة ظنّاً منهم أنهم يطبقون السنّة! ويا ليت شِعري من لا يريد تطبيق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنهم هم الحاكمون على السُّنّة، وهم الذين بيدهم الأمر والنهي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد ألّف (عليّ حلبيّ) كتاباً في الاعتكاف سماه (الإنصاف في أحكام الاعتكاف)، وهو كتاب جمعه من عدّة كتب دون تحرير!
وقد أفاض في مسألة الموضع الذي يجوز فيه الاعتكاف، وهي المسألة التي عليها النِّقاشُ في هذه الورقات.
وهو في هذه المسألة تبعٌ للشيخ الألباني – رحمه الله - حيث يقول في كتابه ((قيام رمضان)): "وينبغي أن يكون مسجداً جامعاً؛ لكي لا يضطر للخروج منه لصلاة الجمعة، فإن الخروج لها واجب عليه لقول عائشة في رواية عنها في حديثها: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع)، ثم وقفت على حديث صحيح صريح يخصص المساجد المذكورة في الآية بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة))، وقد قال به من السلف فيما اطلعت: حذيفة ابن اليمان، وسعيد بن المسيب، وعطاء، إلا أنه لم يذكر المسجد الأقصى، وقال غيرهم بالمسجد الجامع مطلقاً، وخالف آخرون فقالوا: ولو في مسجد بيته. ولا يخفى أن الأخذ بما وافق الحديث منها هو الذي ينبغي المصير إليه، والله سبحانه وتعالى أعلم" انتهى.
وقد ذكره الشيخ أيضاً في ((السلسلة الصحيحة)) رقم (2786)، ووقعت له بعض الأوهام سأفردها في نهاية الموضوع إن شاء الله تعالى.
وقد قسّمتُ هذا الكتاب إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: كشفُ النّقاب عن طُرق الحديث رفعاً ووقفاً، وبيان الراجح.
المطلب الثاني: الاختلاف في متن حديث حذيفة، وبيان حقيقة الشكِّ الذي وقع فيه، وأثره في الفَهم.
المطلب الثالث: مناقشة (عليّ حلبيّ) في تعليقه على هذا الحديث. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المغالطات الفاسدة، وبيان نكارة قصة منسوبة للإمام مالك.
المسألة الثانية: الخلط في الاستدلال بالنصوص، ونسبة أشياء إلى الأئمة دون تحرير.
المسألة الثالثة: تفنيدُ مزاعم وشبهات سمّاها حلبيّ دفع بها عن حديث حذيفة:
أولاً: إنكار ابن مسعود على حذيفة.
ثانياً: تقديم فهم ابن مسعود على فهم حذيفة.
ثالثاً: الشكّ في رواية حذيفة.
رابعاً: أنّ الحديث منسوخ.
خامساً: أن الحديث مضطرب.
سادساً: الحديث معارض ومخالف لحديث عائشة.
المطلب الأول: كشفُ النّقاب عن طُرق الحديث رفعاً ووقفاً، وبيان الراجح:
رُوي الحديث مرفوعاً وموقوفاً على حذيفة رضي الله عنه. وطريقة حلبي تصحيح المرفوع، وعدم الالتفات إلى الموقوف، وكلامه كلّه انطلاقاً من هذا.
أولاً: طُرق الحديث المرفوع:
1- رواهُ الطحاويُّ في ((مشكل الآثار))(1) عن محمّدِ بنِ سِنانٍ الشَّيْزَريِّ، قالَ: حدَّثنا هشامُ بنُ عَمَّارٍ، قال: حدَّثنا سفيانُ بنُ عُيينةَ، عن جَامعِ بنِ أبي راشدٍ، عن أَبي وائلٍ، قالَ: قال حذيفة لِعبدالله: ((النَّاسُ عُكوفٌ بَيْنَ دَارِكَ، وَدَارِ أَبِي مُوسَى لا تُغير! وقد علمتَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: لا اعْتِكَافَ إِلا فِي المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومسجد بيت المقدس)).
قال عبدُالله: ((لعلكَ نسيت وحَفظوا، أو أخطأتَ وأصابوا)).
2- ورواهُ أبو بكرٍ الإسماعيليُّ في ((مُعجم شيوخه))(2) قال: حدَّثنا أبو الفضل: العباسُ بنُ أحمد الوشَّاء، قال: حدَّثنا محمَّدُ بنُ الفَرجِ، قال: حدَّثنا سفيانُ ابنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ جَامِعِ بن أَبِي رَاشِدٍ، عَن أَبي وَائِلٍ، قالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ لِعَبْدِاللَّهِ : ((عُكُوفٌ بَيْنَ دَارِكَ، وَدَارِ أَبِي مُوسَى لا يَضرُّ؟ وقد علمتَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: لا اعْتِكَافَ إِلا فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلاثَةِ)).
فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: ((لَعلكَ نَسِيتَ وَحَفِظُوا، أو أَخْطَأْتَ وَأَصَابُوا)).
3- ورواه البيهقي في ((السنن الكبرى))(3) قال: أخبرنا أبو الحسنِ: محمَّدُ بنُ الحسينِ العّلويُّ، قالَ: أنبأنا أبو نَصرٍ: محمَّدُ بنُ حَمدُويَه بنِ سهلٍ الغَازي، قالَ: حدَّثنا محمودُ بنُ آدمٍ المروزيُّ، قالَ: حدثنا سفيانُ ابنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ جَامِعِ بن أَبِي رَاشِدٍ، عَن أَبي وَائِلٍ، قالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ لِعَبْدِاللَّهِ – يعني ابنَ مسعودٍ رضي اللهُ عنه-: ((عُكُوفٌ بَيْنَ دَارِكَ، وَدَارِ أَبِي مُوسَى، وقد علمتَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: لا اعْتِكَافَ إِلا فِي المسجدِ الحرَام – أو قالَ: إلا في الْمَسَاجِدِ الثَّلاثَةِ)).
فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: ((لَعلكَ نَسِيتَ وَحَفِظُوا، أو أَخْطَأْتَ وَأَصَابُوا)). - الشك مني-.
4- ورواهُ ابنُ الجوزيّ في ((التحقيق))(4) مِن طريقِ سعيدِ بنِ منصورٍ، قالَ: حدثنا سفيان، عن جامع بن أبي راشد، عن شقيق بن سلمة، قال: قال حذيفة لابن مسعود: ((لقد علمت أن رسول الله قال: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة - أو قال - مسجد الجماعة)).
ثانياً: طُرق الحديث الموقوف:
1- رواهُ عبدُالرَّزاق في ((مصنفه))(5) عن سفيان بنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ جَامِعِ بن أَبِي رَاشِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، يَقُولُ: قَالَ حُذَيْفَةُ لِعَبْدِاللَّهِ : ((قَوْمٌ عُكُوفٌ بَيْنَ دَارِكَ، وَدَارِ أَبِي مُوسَى لا تَنْهَاهُمْ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُاللَّهِ:"ف َلَعَلَّهُمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْتَ، وَحَفِظُوا وَنَسِيتَ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لا اعْتِكَافَ إِلا فِي هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاثَةِ: مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَمَسْجِدِ مَكَّةَ، وَمَسْجِدِ إِيلِيَاء)).
2- ورواهُ الفَاكهيُّ في ((أخبار مكة))(6) قال: حدَّثنا سعيدُ بنُ عبدِالرَّحمن ومحمّدُ بنُ أَبي عُمر، قالا: حدَّثنا سُفيان، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل، قال: إِنَّ حذيفةَ بنَ اليمان رضي الله عنه قال لعبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ((إنَّ ناساً عكوفاً بين دارك ودار أبي موسى وأنت لا تُغير؟ وقد علمت أنه لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، أو في المساجد الثلاثة: مسجد المدينة ومسجد بيت المقدس)).
قلتُ: فهؤلاء أربعةٌ (هشامُ بنُ عمَّار ومحمدُ بنُ الفرج ومحمودُ بنُ آدم وسعيدُ بنُ منصورٍ) رووه عن سفيان مرفوعاً.
وخالفهم ثلاثةٌ (عبدُالرزاق وسعيدُ بنُ عبدِالرحمن ومحمدُ بن أبي عمر) فرووه عن سفيان موقوفاً.
وقد ذهب بعض أهل العلم المعاصرين(7) إلى ترجيح رواية عبدالرزاق ومن معه على رواية من رفعوه؛ لأنَّ عبدالرزاق أثبت منهم.
وهذه طريقةٌ حسنةٌ، لكن يُشكل عليها أن الذين رفعوه ثقات أيضاً!
والذي أراه أن رواية هشام بن عمار ليس لها أصل، وقد رواها عنه محمّد بن سنان الشَّيْزَريّ، قال الذهبي: "صاحب مناكير، يُتأنَّى فيه"(8).
قلت: له تفردات عن الشَّاميين بروايات مشهورة! ومنها ما رواه الطبراني في ((المعجم الصغير))(9) عنه عن عبدِالوهاب بن نَجدة الحُوطيِّ، قال: حدَّثنا الوليدُ ابنُ مُسلمٍ، عن الأَوزاعيِّ، عن عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ، قالَ: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ أيامٍ العملُ فيهنَّ أفضلُ مِن عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ, قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ)).
قال الطبرانيُّ: "لَمْ يَروهِ عن الأَوزاعيِّ إلا الوليدُ، ولا عنهُ إلا الحُوطيّ، تفرد به محمدُ بنُ سِنانٍ".
قُلتُ: إِنَّ مثله لا يُقبل تفرده عن هشام بن عمار، وما أظنّ هشاماً حدّث به! ولو صحّت روايته له، فهو فيه كلام أيضاً، وكان قد تغيّر، وكلّ ما دُفع إليه قرأه، وكلّ ما لُقِّن تلقّن، وحديثه القديم أصح؛ حيث كان يقرأ من كتابه كما قال أبو حاتم الرازي(10).
وبهذا يتحصّل لنا ثلاثة من الرواة الثقات (محمد بن الفرج ومحمود بن آدم المروزي وسعيد بن منصور) رفعوه، مقابل ثلاثة أيضاً من الثقات (عبدالرزاق وسعيد بن عبدالرحمن ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العدني) وقفوه.
وقد ذهب إلى تضعيف رواية محمد بن الفرج؛ لأن الراوي عنه: العبّاس بن أحمد الوشّاء، وهو رجلٌ صالحٌ، وكان من الدارسين للقرآن(11)، وقال إِن كلام الخطيب هذا يرفع عنه جهالة العين فقط، ولا ترفع عنه جهالة الحال.
قلت: وهذا فيه نَظرٌ! فهو صدوقٌ إن شاء الله، ولحديثه أَصلٌ صحيحٌ.
وأما رواية محمود بن آدم المروزي فرواها عنه: محمد بن حمدويه وهو ثقة، وكان آخر من روى عنه. ومن أجل هذا صحح روايته الذهبي.
وقد قال الشيخ العلوان إِن البخاري لم يخرج لمحمود بن آدم، ولم يوثقه إلا ابن حبان، فمالَ إلى تضعيف روايته!
قلت: وهذا مردود؛ فالبخاري لم يُخرِّج له؛ لأنه من أقرانه فلم يَحْتَجْ إلى حديثه، وهو ثقة ثبت، ولم يتفرد ابن حبان بتوثيقه، بل قال ابن أبي حاتم: "وكان ثقة صدوقاً"(12).
وأما رواية سعيد بن منصور فقد ردّها ابنُ حَزْمٍ، فقال: "قلنا: هذا شك من حذيفة أو ممن دونه، ولا يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشك، ولو أنه عليه السلام قال: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة لحفظه الله تعالى علينا، ولم يدخل فيه شكاً، فصح يقيناً أنه عليه السلام لم يقله قط"(13).
قلت: ليس هكذا تُرد الأحاديث! والشك ليس من حذيفة، وإنما هو إما من سعيد بن منصور، أو من شيخه سفيان.
وسعيد بن منصور من الثقات الأثبات، وهو رَاوية سفيان بن عُيينة، وهو متابعٌ جيّد لروايتي محمد بن الفرج ومحمود بن آدم! وتوهيمُهُ في هذا الحديث مدفوع، وإن قال يعقوب الفسوي في سعيد: "كان إذا رأى في كتابه خطأ لم يرجع عنه"(14).
قلت: قال الحافظُ ابن حجر: "ثقة مصنف، وكان لا يرجع عما في كتابه لشدة وثوقه به"(15)، فجعل عدم رجوعه عما في كتابه؛ لأنه يثق بما فيه.
وعليه، فإن هؤلاء الستة الثقات اختلفوا على ابن عيينة، فنصفهم رفعه، ونصفهم وقفه، وهذا يعني أن سفيان بن عيينة هو الذي حدّث به هكذا وهكذا.
قال ابنُ حَجر: "أورد أبو سعدٍ ابن السمعاني في ترجمة (إسماعيل بن أبي صالح المؤذن) من ((ذيل تاريخ بغداد)) بسندٍ له قويّ إلى عبدالرحمن بن بشر بن الحكم قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: قلت لابن عيينة: كنت تكتب الحديث وتحدّث اليوم وتزيد في إسناده أو تنقص منه، فقال: عليك بالسماع الأول، فإني قد سَمِنتُ. وقد ذكرَ أبو مُعِين الرَّازي في زيادة كتاب الإيمان لأحمد: أنَّ هارون ابن مَعروف قال له: إنَّ ابنَ عيينةَ تغير أمره بآخره"(16).
قلت: فالزيادة والنقصان في الإسناد هو ما حَدَّثَ هنا من رفع الموقوف، فكان سفيان يَقفه أحياناً، ويرفعه أحياناً.
فإذا ثبت ذلك فإما أن نتوقف في حديثه هذا ونردّه، وإما أن نأتي بمرجِّح خارجيّ. والذي أراه صواباً هو الموقوف؛ لقرائن:
1- أنّ الذين رووا الوقف عنه ممن سمع منه قديماً، وهو نفسه قال: "عليك بالسماع الأول"، كما سبق نقله.
فعبدالرزاق (126-211هـ) ممن سمع من ابن عُيينة قديماً. وقد حدَّثَ ابن عُيينة عنه(17).
ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العدني الحافظ كان أحمد يُوصي بالكتابة عنه، وقال محمد بن يحيى: "اختلفت إلى ابن عيينة ثمانية عشر سنة"، وقال: "حَججت سبعين حجة ماشياً"(18).
وسعيد بن عبدالرحمن المخزومي ثقة، وقد قال مَسلمة بن القاسم الأندلسيُّ القرطبيُّ في ((كتاب الصلة))(19): "سعيد بن عبدالرحمن بن سعيد بن حسان... أخبرنا عنه غير واحد، وهو ثقةٌ في ابن عيينة"(20).
2- ما رواهُ ابنُ أبي شَيبةَ في ((مصنفه))(21) عن وكيع.
وعبدُالرَّزَّاق في ((مصنفه))(22).
والطبراني في ((المعجم الكبير))(23) مِن طريق أبي نُعيمٍ.
ثلاثتهم عَن سُفيانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخعيِّ، قَالَ: جَاءَ حُذَيْفَةُ إِلَى عَبْدِاللَّهِ، فَقَالَ: ((أَلا أُعَجِّبُكَ مِنْ نَاسٍ عُكُوفٍ بَيْنَ دَارِكَ، وَبَيْنَ دَارِ الأَشْعَرِيِّ – يعني المسجد -؟ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَلَعَلَّهُمْ أَصَابُوا، وَأَخْطَأْتَ. فقَالَ حُذَيْفَةُ: مَا أُبَالِي أَفِيهِ أَعْتَكِفُ أَمْ فِي سُوقِكُمْ هَذِهِ، وَإِنَّمَا الاعْتِكَافُ فِي هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلاثَةِ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى)). وَكَانَ الَّذِينَ اعْتَكَفُوا فَعَابَ عَلَيْهِمْ حُذَيْفَةُ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ الأَكْبَرِ.
ورواهُ الطبراني(24) أيضاً عن عَلِيِّ بنِ عَبْدِالْعَزِيز ِ البغويِّ، قالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ ابن الْمِنْهَالِ، قال: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بن سَلَمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ – هو ابن أرطأة -، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ الأَعْوَرِ – هو ابن إياس الشيبانيّ -، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: ((أَنَّ حُذَيْفَةَ، قَالَ لابْنِ مَسْعُودٍ: أَلا تَعْجَبْ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَ دَارِكَ، وَدَارِ أَبِي مُوسَى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُعْتَكِفُونَ! فَقَالَ: لَعَلَّهُمْ أَصَابُوا، وَأَخْطَأْتَ)).
ورواه أيضاً عن عَلِيٍّ، قال: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بن الْمِنْهَالِ، قال: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ – هو الوضّاح اليشْكريّ -، عَنْ مُغِيرَةَ – هو ابن مِقْسم -، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: ((أَنَّ حُذَيْفَةَ، قَالَ لابْنِ مَسْعُودٍ: أَلا تَعْجَبْ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَ دَارِكَ، وَدَارِ أَبِي مُوسَى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُعْتَكِفُونَ! قَالَ: فَلَعَلَّهُمْ أَصَابُوا، وَأَخْطَأْتَ أَوْ حَفِظُوا، وَنَسِيتَ. قَالَ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لا اعْتِكَافَ إِلا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ)).
قلت: فهذا الحديث يَشهد للحديث الموقوف الذي رواهُ ابنُ عُيينةَ.
ولا يُعترض عليه بأنه مُنقطع؛ لأنَّ إِبراهيم لم يُدرك ابن مسعود!
نعم، لم يلقَ إبراهيم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة، ولكنه لم يسمع منها، فإنه دخل عليها وهو صغير.
وقد روى الترمذي من طريق شعبة عن الأعمش قال: قلت لإبراهيم النخعي: أَسْنِدْ لي عن ابن مسعود؟ فقال: "إذا حدثتكم عن رجلٍ عن عبدالله بن مسعود فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبدالله فهو عن غير واحد عن عبدالله"(25).
وقال الحافظ أبو سعيد العلائي: "هو مكثرٌ من الإرسال، وجماعة من الأئمة صححوا مراسيله، وخصّ البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود"(26).
المطلب الثاني: الاختلاف في متن حديث حذيفة، وبيان حقيقة الشكِّ الذي وقع فيه، وأثره في الفَهم:
وهذا الاختلاف في موضعين:
الموضع الأول:
في رواية محمد بن الفرج وعبدالرزاق: ((لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومسجد بيت المقدس)).
وفي رواية محمود بن آدم: ((لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام - أو قال: إلا في المساجد الثلاثة)).
وفي رواية سعيد بن منصور: ((المساجد الثلاثة - أو قال - مسجد الجماعة)).
وفي رواية سعيد بن عبدالرحمن ومحمد بن يحيى: ((المسجد الحرام، أو في المساجد الثلاثة: مسجد المدينة ومسجد بيت المقدس)).
وفي رواية واصل الأحدب عن إبراهيم النخعي: ((المساجد الثلاثة)).
وفي رواية مغيرة بن مِقسم عن إبراهيم: ((مسجد جماعة)).
قلت: أَكثر الروايات على ذكر المساجد الثلاثة، وكأنه هو المحفوظ، وعلى كلِّ حَالٍ فإن كان هو المحفوظ أو أي لفظ آخر، فإننا رجّحنا أن هذا من اجتهاد حذيفة، فلا يَضرّ إذا كان رأيه المساجد الثلاثة أو المسجد الحرام، وإذا كان رأيه: ((مسجد جماعة))، فيعني: أنه قصد الناس الذين يعتكفون بين الدارين، وليسوا هم داخل المسجد، والله أعلم.
الموضع الثاني:
في رواية محمد بن الفرج ومحمود بن آدم: قال عبدالله: ((لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطأت وأصابوا)).
وفي رواية عبدالرزاق: فقال له عبدالله: ((فلعلهم أصابوا وأخطأت وحفظوا ونسيت))!
وفي رواية واصل الأحدب وعبدالملك الأعور عن إبراهيم النخعي: قال عبدالله: ((لعلهم أصابوا وأخطأت)).
وفي رواية مغيرة عن إبراهيم: قال عبدالله: ((فلعلهم أصابوا وأخطأت أو حفظوا ونسيت)).
قلت: أما في حديث ابن عيينة فإنه بالشك دون خلاف، وما ذُكر في رواية عبدالرزاق في المطبوع بواو العطف فلا يصح، وكأنه من النُّسخ أو من الطباعة، والصواب أنه بالشك كما في رواية الآخرين.
وهذا الشك إنما هو من سفيان أيضاً، ولا يمكن أن نقول بأن ابن مسعود قاله؛ لأنه لا يتجه لُغوياً، وهو إنما قال عبارة واحدة فقط.
والذي أرجّحه أنه قال: ((لعلك أخطأت وأصابوا))، ويؤيده ما عند واصل وعبدالملك عن إبراهيم حيث إنهما ذكرا هذه العبارة فقط دون الشك.
وما جاء في رواية مغيرة عند إبراهيم يؤيد ما عند ابن عيينة، ولكن رواية اثنين من الثقات الملازمين لإبراهيم تقضي على هذه الرواية.
وعبارة: ((لعلك أخطأت وأصابوا)) تتوافق مع اجتهاد حذيفة في هذه المسألة، وليس كذلك عبارة: ((لعلك نسيت وحفظوا))؛ لأن هذه الأخيرة تتوافق مع المرفوع من الحديث، ومن هنا جاء شك ابن عيينة فيه، فلو كان الحديث مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فحينئذ لا مجال للخطأ والإصابة فيه، وإنما هو الحفظ أو النسيان، والاجتهاد لا مجال فيه للحفظ والنسيان، وإنما هو الإصابة أو الخطأ، والله أعلم.
المطلب الثالث: مناقشة (عليّ حلبيّ) في تعليقه على هذا الحديث:
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المغالطات الفاسدة، وبيان نكارة قصة منسوبة للإمام مالك:
نقل (حلبي) مذاهب أهل العلم في هذه المسألة، وذكر قول الجصاص في ((أحكام القرآن)): "وظاهر قوله {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} يبيح الاعتكاف في سائر المساجد لعموم اللفظ، ومن اقتصر به على بعضها، فعليه بإقامة الدلالة. وتخصيصه بمساجد الجماعات لا دلالة عليه. كما أن تخصيص من خصَّه بمساجد الأنبياء لما لم يكن عليه دليلٌ سقط اعتباره"!! إلى أن قال: ".. فغير جائز لنا تخصيص عموم الآية بما لا دلالة فيه على تخصيصها".
قال الحلبي (ص29) معقباً على هذا: "قلت: رحم الله الإمام الشافعي القائل: ((وليس يُخالف الحديثُ القرآن، ولكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبين ما أراد: خاصاً وعاماً، وناسخاً ومنسوخاً، ثم يلزم الناس ما سُنَّ بفرض الله، فمَنْ قَبِلَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قَبِلَ)).
ولقد وَرَدَ – ولله الحمد والمنة – حديثٌ نبويٌّ مرفوع صحيحٌ يخصص الآية المذكورة، ويحلُّ النّزاع الذي أوردناه بين أهل العلم لعدم وقوفهم على حديث يخصص الآية كما قالوا!
ولقد قال الإمام الشافعي – رحمه الله -: ((ما من أحد إلا وتذهب عليه سنةٌ لرسول الله وتعزُب عنه، فمهما قلت من قول: أو أصلت من أصل، فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقولُ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي)).
وهذا هو المنهج العملي لسائر الأئمة – رحمهم الله -؛ فقد قال ابن وهب: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك عليه الناس، قال: فتركته حتى خفَّ الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة! فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليثُ بن سعدٍ، وابنُ لَهيعة، وعَمرو بن الحارث، عن يَزيد بن عَمرو المعافري، عَنْ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَ نِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ القرشيّ، قَالَ: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْلُكُ بِخِنْصَرِهِ ما بينَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ)). فقال: إنّ هذا الحديث حسنٌ، وما سمعت به قط إلا الساعة، ثم سمعته بعد ذلك يُسألُ، فيأمر بتخليل الأصابع.
قلتُ: وهكذا الأمر عندنا اليوم في مسألة الموضع الذي يجوز فيه الاعتكاف:
أ- ليس الناس على ذلك!.
ب- عندنا في ذلك سنّة!.
ج- الحديث فيها حسنٌ بل صحيحٌ!.
د- لم يسمع به الناسُ، إلا قريباً!.
فهل هذا يجعلهم يردّون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لمخالفته ما ألفوه، أم أنهم يقبلون حديثه صلى الله عليه وسلم ولو خالف عاداتهم وما هم فيه؟؟
نأخذ الجوابَ من سيرة العلماء وسلوكهم، فقد روى الإمام الشافعي – رحمه الله– يوماً حديثاً، وقال: إنه صحيح، فقال له قائل: أتقول به، يا أبا عبدالله؟ فاضطرب الشافعيّ وقال: يا هذا! أرأيتني خارجاً من كنيسة؟! أرأيت في وسطي زناراً؟ أروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا آخذ به!!؟
وفي رواية أخرى قال: متى ما رويتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب!
فليس من شكٍّ أبداً أن كلّ منصف طالب حقٍّ إذا وقف على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنده، ولم يعارض بشيء ثابت، يجب عليه وجوباً أكيداً أن يأخذ به، ولو قال عنه الناس مهما قالوا!! فهل هو معاملته مع الناس؟؟ أم مع ربِّ الناس سبحانه؟؟
فإذا كان الأمر كذلك، فلا يلتفت إلى أقاويل المتقوّلين، ولا إلى تُرَّهات الزاعمين طالما أن معه السنة النبوية المشرفة!". انتهى.
قلتُ: هذه طريقةٌ سقيمةٌ قائمة على المغالطات الفاسدة، والجهل بعلم الحديث، وتفصيل ذلك في الآتي:
1- لا يجوز نقل كلام الأئمة ثم التعريض بهم! وكأنهم لا يعرفون أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالف القرآن!
فـ (حلبي) نقل كلام ابن رشد والنووي والجصاص، ثم أتى بكلام الشافعي النفيس ولكنه لا يصلح في هذا المقام، وهذه طريقة خبيثة منه يحاول فيها الالتفاف على القارئ لإقناعه أن كلامه هو الصواب!!!، فإذا ما قرأ القارئ كلام الشافعي سلّم له وأذعن لرأي حلبيّ، ولكن السؤال هو: هل ينفع الاستدلال بكلام الشافعي في هذا المقام؟! والجواب واضحٌ وبيّن.
ثُم إن هؤلاء الأئمة إذا ثبتت السنة عنه صلى الله عليه وسلم لا يتأخرون عن الأخذ بها، إلا إذا كان هناك سبب متجه عندهم، وكم من حديث صحيح رواه الأئمة ولم يعملوا به، وليس هذا مقام تفصيله، بل محلّه كتب الأصوليين والمذاهب.
2- دعواه بأن حلّ النّزاع بين المختلفين في هذه المسألة هو هذا الحديث الذي صححه، وتصريحه بأنهم لم يقفوا عليه، فيه تناقض عجيب!! فكيف يكون هناك نزاعٌ بينهم وهم لم يقفوا على هذا الحديث؟! وأصل النّزاع هو هذا الحديث، وهم يعرفونه قطعاً بخلاف ما ادّعاه حلبيّ، ولكنهم ضعّفوه.
3- استدلاله بكلام الشافعي في أن هؤلاء الأئمة فاتتهم هذه السنة لا يصلح هنا؛ لأنهم لم يعدوها سنّة؛ ولم تصح عندهم، والحديث عندهم، ولكنهم لا يعدونه صحيحاً، كما تقدّم آنفاً.
4- المنهج العملي للأئمة سليمٌ، ولا غبار عليه، ولكن الاستدلال بما روي عن ابن وهب مع الإمام مالك لا يصح؛ وكان يتجه الاستدلال به على المنهج لو صح! أما وقد ثبت عدم صحته فلا يجوز الاستدلال به في هذا المقام.
وقد دلّس حلبيّ ولبّس بجزمه في هذه القصة أنها حدثت مع ابن وهب فنسبها له، ولم يذكر إسنادها مُسلِّماً بها وملبّساً على طلبة العلم!
وهذه القصة من رواية أحمد بن عبدالرَّحمن ابن أخي ابن وهب عن عمّه، وقد تفرد بها! والحديث لم يروه الليث ولا عمرو بن الحارث! وهو محفوظ من حديث ابن لهيعة، ولهذا قال الترمذي بعد أن رواه من حديث ابن لهيعة: "لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة".
وقد رواهُ الإمام أحمد في ((مسنده))(27) عن مُوسَى بنِ دَاوُدَ.
ورواهُ أبو داود في ((السنن))(28) والترمذي في ((الجامع))(29) كلاهما عن قُتَيْبَةَ بنِ سَعِيدٍ.
ورواهُ ابن ماجه في ((السنن))(30) عن مُحَمَّدِ بنِ الْمُصَفَّى الْحِمْصِيِّ عن مُحَمَّدِ بنِ حِمْيَرٍ.
ورواهُ البزَّارُ في ((مسنده))(31) عن محمد بن يحيى القطعي عن بِشر بن عمر.
ورواه الطبراني في ((المعجم الكبير))(32) قال: حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُوسَى، قال: حدَّثنا أَبُو عَبْدِالرَّحْمَ نِ الْمُقْرِئُ، [ح] وَحَدَّثَنَا الْمِقْدَامُ بن دَاوُدَ، قال: حدثنا أَسَدُ ابن مُوسَى.
كلّهم (موسى وقتيبة ومحمد بن حمير وبشر بن عمر والمقرئ وأسد) عن عبدِالله بنِ لَهِيعَةَ، قالَ: حدَّثنا يَزِيدُ بن عَمْرٍو الْمَعَافِرِيُّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَ نِ الْحُبُلِيِّ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بن شَدَّادٍ، قَالَ: ((رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ خَلَّلَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ)).
بل إن المحفوظ من رواية ابن وهب عن ابن لهيعة فقط.
رواهُ الطَّحاويُّ في ((شرح معاني الآثار))(33) عن ابن أبي عقيل، ورواهُ البيهقي في ((السنن الكبرى))(34) من طريق محمَّد بن عبدِالله بن عبدِالحكم وبَحر ابن نصر، ثلاثتهم عن ابن وهبٍ، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافري، قال: سمعت أبا عبدالرحمن الحبلي يقول: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه)).
قال أبو عيسى الترمذي: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة".
وقال البزار: "وهذا الحديث لا نعلم أحداً يرويه بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد عن المستورد".
وبهذا يتبيّن لنا أن ابن أخي ابن وهب خلط فيه، وزاد في إسناده: الليث بن سعد وعمرو بن الحارث! وزاد عليه هذه القصة الباطلة عن الإمام مالك!
وابن أخي ابن وهب متكلّم فيه، وكان قد اختلط وكان يُدخَل عليه(35).
قال النسائيُّ: "أحمد بن عبدالرحمن بن أخي ابن وهب: كذاب"(36).
وقال ابن حِبَّان: "وكان يحدِّث بالأشياء المستقيمة قديماً حيث كتب عنه ابن خزيمة وذووه، ثم جعل يأتي عن عمّه بما لا أصل له، كأن الأرض أخرجت له أفلاذ كبدها"(37).
وقال ابنُ عَدي: "رأيت شيوخ أهل مصر الذين لحقتهم مُجمعين على ضعفه، ومن كتب عنه من الغرباء غير أهل بلده لا يمتنعون من الرواية عنه، وحدّثوا عنه، منهم: أبو زرعة الرازي وأبو حاتم فمن دونهما"(38).
قلت: له مناكير عن عمّه، ومنها أشياء تفرد بها، وأشياء خالف فيها غيره، فلا يُعتمد أبداً. ولم يصل إلى درجة أنه يتعمد الكذب، وكأن النسائي لما رأى ما يحدّث به من منكرات مخالفاً لغيره أطلق عليه هذا الوصف.
قال أبو سعيد ابن يُونُس: "ولا تقوم بحديثه حُجة"(39).
قلت: وابن يونس هو المعتمد في أهل مصر.
وعموماً فهذه القصة باطلة، ولا تصح نسبتها إلى الإمام مالك، ولهذا أخرجها الإمام الدارقطني في ((غرائب مالك))، وهو كتاب جمع فيه الدارقطني ما رُوي عن الإمام مالك ولا يصح عنه في مُجمله.
وأما قول ابن حجر في ((التلخيص))(40): "وفي إسناده ابن لهيعة، لكن تابعه الليث بن سعد وعمرو بن الحارث، أخرجه البيهقي وأبو بشر الدولابي والدارقطني في غرائب مالك من طريق ابن وهب عن الثلاثة، وصححه ابن القطان"، فهو مما لم يحرره ابن حجر، ومشى فيه على ظاهر الإسناد تبعاً لابن القطان الفاسي!
5- تشبيهه هذه القصة بحديث الاعتكاف الذي صححه لا يستقيم بعد أن عرفنا عدم صحتها.
فقوله: "ليس الناس على ذلك"؛ لأن هذا هو الصواب، لا أن الناس لا يعرفون هذه السنة، ولو صحت قصة ابن وهب مع مالك ما أظنه يذهب إلى هذا الحديث ويترك عمل أهل المدينة الذين لا يعرفون هذا الحديث، ونحن نعلم ارتكاز الإمام مالك على عمل أهل المدينة في مسائل الفقه.
ولعل مُتوهماً يتوهم أن الإمام مالك يردّ السنّة، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الإمام مالكاً له منهجه الخاص في هذه المسائل، وهو اتباع عمل أهل المدينة، وقد وهم ابن أبي حاتم في ترجمته لهذه القصة بقوله: (باب ما ذكر من اتباع مالك لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزوعه عن فتواه عندما حدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه)!
فالإمام مالك من أشد الناس اتباعاً لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل أهل المدينة عنده هو اتباع هذه الآثار، فلا تصلح هذه القصة لهذه الترجمة؛ بل إن هذه الترجمة لا ينبغي أن تذكر؛ لأنّ كلّ فتاوى الإمام رحمه الله اتباع للآثار كما ذكرت.
6- قوله: "عندنا في ذلك سنة"! أيّ سنة هذه التي كانت غائبة إلى أن جاء (حلبي) فدلّ الناس عليها؟!
وما أشبه فعله هذا بقوله لدى ردّه على لكونهِ أثنى على كتاب
قال حلبي في كُتيبه ((حقّ كلمة الإمام الألباني في )) (ص6) شاتماً : "أقول: فهل يعي الدكتور سلمان (!) مال هذا الهذيان؟! وهل (لم يشعر قرّاء القرآن – طيلة هذه الدّهور – بأن القرآن ليس كتاباً نزل لبيئة خاصة في المكان والزمان) إلا بعد ؟! وما حكم الشرع الحكيم فيمن لم يعتقد (هداية القرآن للناس أجمعين؛ أياً كان زمانهم، أو مكانهم) – ولو حيناً من الدهر!-؟! أمِنْ أجل ، والدفاع الحزبي – أو الفكري!- عنه: نهدر جهود الأمة – عبر القرون – في صيانة كتاب الله؟! وتعريفهم بهديه وهداه؟!" انتهى كلامه.
7- قوله: "الحديث فيها حسن؛ بل صحيح"! اغتر فيه بما جاء منسوباً إلى الإمام مالك: "إن هذا الحديث حسن"!! فنسأل (حلبي): ما معنى: الحديث حسن؟ وهل هو حكمٌ على الحديث من الإمام مالك؟ وهل كان من عادة الأئمة في عصر الإمام مالك أن يقولوا عن بعض الأحاديث: هو حديث حسن؟
أقول: إن نسبة هذا الكلام لمالك لهو دليل على بطلان القصة؛ لأنهم لم يكونوا يقولون مثل هذا الكلام في هذه الأحاديث!
ولو كان كذلك عند الإمام مالك، فَلِمَ لَمْ يُحدّث به في موطئه، وكم من راوٍ قد روى الموطأ حتى قريباً من موت الإمام مالك - رحمه الله – ولم نجد هذه السنة عندهم!!
8- قوله: "لم يسمع به الناس إلا قريباً"، فيه إيهام أن هذه سنة، وكان الناس قد تركوها مع علمهم على مر العصور أنها سنة صحيحة!!
وكَمْ مِنْ حديث صححه حلبيّ وأمثاله ممن تطفَّلُوا على هذا العلم الشريف فاتهموا الناس أنهم قد تركوا السنن، وأنهم خالفوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! سبحانك ربنا هذا بهتانٌ عظيمٌ.
9- إيهامه أن الناس ردّوا هذا الحديث الذي صححه لمخالفته ما ألفوه! وهذا إيهام باطل مردودٌ عليه! فمن ردّه حجّتهُ أنه لم يصح عنده، لا أنه ردّه لكونه مخالفاً لما ألفه!
وانظر كيف يستغل (حلبي) إحساس الناس وحبهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "أم أنهم يقبلون حديثه صلى الله عليه وسلم ولو خالف عاداتهم وما هم فيه؟"
قلت: فكفى التلاعب بأحاسيس المسلمين، وادّعاء الوصاية على السنّة؛ فإن كلّ مسلم حقّ حريص على اقتفاء السنة المطهرة، وإذا ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم فلن تجد من يقدم عادته على السنة الصحيحة إذا بيّنت له بعلمٍ وحلمٍ.
10- الجواب الذي أتى به للسؤال الذي طرحه من خلال قصة الشافعي ليس في محله! وهذا إما أنه يدلّ على جهل حلبي! أو أنه يُخادِع قرّائه؛ فقصة الشافعي مع هذا الرجل ليست في حديثٍ مختلف في صحته وضعفه، بخلاف حديثنا هذا!
11- تقريره في نهاية الكلام: "فإذا كان الأمر كذلك، فلا يلتفت إلى أقاويل المتقولين، ولا إلى ترهات الزاعمين طالما أن معه السنة النبوية المشرفة!"
قلت: أين أدب أهل العلم في مناقشة غيرهم؟ وهل كان أهل العلم يقولون بأن كلام الواحد منهم هو الحقّ وكلام غيره أقاويل وترّهات؟!
والله لو كانت هذه هي السنة لما تأخر عنها ابن مسعود عندما تناقش مع حذيفة فيها كما سبق بيانه، ولله الحمد.
المسألة الثانية: الخلط في الاستدلال بالنصوص، ونسبة أشياء إلى الأئمة دون تحرير:
قال حلبيّ: "أقولُ: أما الحديث النبويّ المخصِّص للآية الكريمة فهو ما رواه البيهقي في ((سننه)) (4/316)، والطحاوي في ((مشكل الآثار)) (4/20)، والذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (15/81) كلّهم من طريق سفيان بن عُيينة، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل، قال: قال حذيفة لعبدالله [يعني: ابن مسعود]: عكوفٌ بين دارك، ودار أبي موسى لا يضرُّ!؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة))!
فقال عبدالله: لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطأت وأصابوا!!
قال الحافظ الذهبي بعد روايته الحديث: صحيحٌ غريبٌ عال. [قال حلبي في الحاشية: وهو في ذلك مثل الحديث الذي رواه الستة عن عمر بن الخطاب مرفوعاً: ((إنما الأعمال بالنيات...)) فهو صحيحٌ لا مطعن في إسناده، غريبٌ لم يثبت إلا من طريق عمر بن الخطاب، وهذا الحديث يزيد عليه بأنه عال، أما ذاك فليس كذلك، إذ يرويه عددٌ من التابعين بعضهم عن بعض، بخلاف هذا الحديث].
قلت – أي حلبي -: وإسناده على شرط البخاري.
وقد عمل بعض السلف بهذا الحديث، فقد روى ابن أبي شيبة في ((مصنفه)) (3/91)، وابن حزم (5/194) بسند صحيح عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا اعتكاف إلا في مسجد نبيّ. [قال حلبي في الحاشية: وإن تعجب فعجب قول الإمام النووي – رحمه الله – في ((المجموع)) (6/483): ((وما أظن أن هذا يصح عنه))! قلت: الظنُّ لا يغني من الحقّ شيئاً، فقد صحّ، ولله الحمد. وقال أبو زرعة العراقي في ((طرح التثريب)) (4/171) عن أثر سعيد هذا: ((وهو بمعنى الذي قبله)). قلت: يريد أن المساجد الثلاثة هي مساجد أنبياء].
وروى عبدالرزاق في ((مصنفه)) (8019) عن عطاء بسند صحيح قال: لا جوار إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة.
قلت – أي حلبي -: وهو لا يخرج عن معنى ما أوردته قبلُ، وقد قال ابن حزم (5/194): وقد صحَّ عن عطاء أن الجوار هو الاعتكاف.
ولقد ذكر ابن وهب – كما تقدم في الخبر عنه (ص28) – أن الإمام مالكاً – رحمه الله – قد رجع يأمرُ بتخليل الأصابع بعد أن أفتى بعدمه!! إذ لما وصله الحديث لم يلتفت لقول أحد كائناً من كان، بل سارع – بعد أن ثبت له حُسنُ الحديث – إلى الأمر بما يقتضيه.
وهكذا نحن – ولله الحمد – كنّا نقول كما يقول كثير من أهل العلم: بجواز الاعتكاف في كل مسجد، معتمدين على عموم الآية الكريمة! حتى عرفنا هذا الحديث الصحيح، وتثبتنا من صحته، ولم نر شيئاً يعارضه فصرنا نفتي بما يقتضيه الحديث، ويمليه علينا الاقتداء بأئمة السنة، وعلماء السلف". انتهى كلامه.
قلت:
1- تخصيص حلبي الآية بالحديث كان يتجه لو كان الحديث صحيحاً! أما وأهل العلم يضعفونه فكيف يخصص الضعيف الآية؟!
2- احتج حلبي بحكم الذهبي على الحديث المرفوع بأنه صحيح غريب عال، وشبهه بحديث الأعمال بالنيات! وهذا منه مُستنكرٌ عجيبٌ! فحديث الاعتكاف إن سَلِم له تصحيح الذهبي له، فإن غير الذهبي يخالفه في حكمه، وسيتبيّن لنا لم حكم عليه الذهبي بهذا فيما بعد إن شاء الله تعالى، وأما حديث النيات فلا مخالف في تصحيحه. وقول الذهبي بأنه: "عال"، لا مدخل له في الحكم على الحديث، وإنما يعني أنه وقع له بعلو فقط، وهذا العلو كان يتطلبه أهل العلم المتأخرين.
3- كيف يكون على شرط الإمام البخاري، وهو مختلفٌ في إسناده؟! بل إن البخاري لا يرى صحة هذا الحديث كما سيأتي بيانه، ثم أيّ إسناد من هذه الأسانيد هو الذي على شرط البخاري؟
4- قوله بأن بعض السلف عملوا بهذا الحديث فيه نظر؛ لأن من ذكرهم من السلف – وهم اثنان فقط: سعيد بن المسيب وعطاء، وهو تبع في هذا للشيخ الألباني كما تقدم نقل كلامه(41)، بل إنه سرق معظم كلامه من الصحيحة (2786) ولم ينبه على ذلك ولا أحال عليه! – لم يأت أنهم عملوا بهذا الحديث، وظاهر ما نقل عنهم أنه ذلك اجتهاد منهما، ويؤكد هذا أن عطاءاً لم يذكر مسجد بيت المقدس، فكيف يقول بأن بعض السلف عمل بهذا الحديث؟!
5- مساواته لرواية ابن أبي شيبة وابن حزم لا تصح! – وإنما هذا هو كلام الشيخ الألباني في الصحيحة فسرقه ووقع في الخطأ(42) - لأن هناك خلاف في كلا الروايتين! ثم إن ابن حزم لم يرو هذه الرواية حتى يقول حلبي: "فقد روى... وابن حزم.."! وإنما ابن حزم قال: "كما روينا من طريق عبدالرزاق..."، والرواية عند عبدالرزاق في ((مصنفه))(43) عن معمر، عن قتادة - أحسبه عن ابن المسيب، قال: "لا اعتكاف إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم".
وكان ينبغي لحلبي – لو كان يُحكم صنعة هذا الفنّ – أن يرجع إلى مصنف عبدالرزاق، لا أن ينسب الرواية إلى ابن حزم!!
ثُم إن ابن حزم قال بعد أن ذكر رواية عبدالرزاق وما فيها من شك: "إن لم يكن قول سعيد فهو قول قتادة لا شك في أحدهما".
وعلى هذا فيحتمل أن يكون هذا قولاً لقتادة!
ورواه ابن أبي شيبة في ((مصنفه))(44) عن أبي داود الطيالسي عن همام عن قتادة عن ابن المسيب قال: "لا اعتكاف إلا في مسجد نبيّ".
وهذا اختلاف في المتن لم يذكره حلبي؛ فرواية معمر ذكرت فقط مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، بينما رواية همام أدخلت كلّ مساجد الأنبياء!!
هذا وقد رجّح الحافظ ابن حجر رواية مَعمر، فقال - وهو يتحدّث عن موضع الاعتكاف: "وخصّه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة، وعطاء بمسجد مكة والمدينة، وابن المسيب بمسجد المدينة"(45).
قلت: إنَّ قول ابن حجر: "وخصه حذيفة" يعني ترجيحه لحديث حذيفة الموقوف على الموصول، فليعلم حلبي ذلك.
6- وأمَّا ما نسبه إلى عطاء فلا يعدو كونه رأياً له، وقد كان له رأي موافق لجمهور أهل العلم، ثم غيّره، وما مِنْ علاقة له بحديث حذيفة.
روى عبدالرزاق في ((مصنفه))(46) عن ابن جُرَيجٍ، عن عطاءٍ، قال: "لا جِوار إلا في مسجد جامع". ثم قال: "لا جوار إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة".
قالَ ابنُ جُريجٍ: وقالَ عَمرو بنُ دِينارٍ: "ما أراه أن يجاور في مسجد الكوفة والبصرة".
ثُمَّ روى عبدُالرزاق عن ابنِ جُريج قال: قلتُ لعطاء: أَرأيت لو أن إِنساناً من أهل هذه المياه نذر جِواراً سميت له الظَّهْرَان وعُسْفَان في مسجدهم؟ قال: "يقضيه إذا جعله عليه في ذلك المسجد". قلت: نذر جواراً في مسجد مِنى؟ قال: "فليجاور فيه، فإن له شأناً". قلت: أيجعل بناءه ثَمَّ بمنى في الدار؟ قال: "لا، من أجل عتب الباب". قلت: ففي مسجدنا إذاً مثل ذلك؟ قال: "لا، إنما ذلك العتب للدار، وليس كهيئة مسجدنا هذا". ثم قال بعد: "لا جوار إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة". قال: "وإن أهل البصرة ليجاورون في مسجدهم حتى أن أحدهم ليجاور مسجده في بيته".
ثُمَّ روى عبدُالرَّزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء؟ فمسجد إِيلياء؟ قال: "لا يجاور إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة".
قلت: هكذا كانت آراء عطاء: مسجد جامع، ثم مسجد مكة ومسجد المدينة، ولا بأس بمسجد منى، ولا جوار في مسجد إيلياء.
فإذا كان عطاء لا يرى الجوار في مسجد إيلياء، فلا ينفع حلبي نقل كلام أبي زرعة العراقي: "وهو بمعنى الذي قبله"، قال حلبي: "قلت: يريد أن المساجد الثلاثة هي مساجد أنبياء"! نعم لا ينفعه هذا؛ لأن عطاءاً لا يرى الجوار في المسجد الثالث.
وكذلك فليسكن عَجب حلبي!!! من النووي عندما ظن أن هذا القول لم يصح عن عطاء! فردّ عليه حلبي بسوء أدب! والنووي إنما ظن ذلك؛ لأن عطاء له عدة آراء في المسألة كما بينت، ولا حرج عليه - رحمه الله - في ذلك.
وقد روى الفاكهي في ((أخبار مكة))(47) عن ميمون بن الحكم الصنعانيّ قال: حدَّثنا مُحمَّدُ بنُ جُعْشُمٍ، عن ابنِ جريجٍ، قال: قلت له - يعني عطاء-: فامرؤٌ نَذرَ جواراً في مسجد خَيْفِ مِنى، أتوجبه أم لا من أجل أنه مسجد غير جامع إلا أيام منى قط، أم أن بمكة؟ قال: "بل يوفيه"، ثم قال بعد: "لا جوار إلا في مسجدين: مسجد مكة ومسجد المدينة".
قال ابن جريج: قلت له: فنذر جواراً على رؤوس هذه الجبال، جبال مكة، أيقضي عنه أن يجاور في المسجد؟ قال: "نعم، المسجد خيرٌ وأَطْهر". قلت له: وكذلك في كلِّ أرض إن نوى الإنسان جواراً في جبالها: أمسجدها أحبّ إليك أن يجعل فيه جواره؟ قال: "نعم". ثُمَّ أخبرني عند ذلك قال: "نذرت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها جواراً في جَوف ثَبِيرٍ مما يلي منى"، قلت: نعم فقد جاورت. قال: أجل وقد كان عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه نهاها عن ذلك عن أن تجاور، ثم أراه منعها خشية أن يتخذ ذلك سنة. قال: فقالت عائشة رضي الله عنها حاجة كانت في نفسي.
قالَ ابنُ جُرَيجٍ: فَرَّقَ لي عطاء بين جوار القروي والبدوي، فقال: "أما القروي إذا نذر الجوار هجر بيته، وهجر الزوج، وصام. وأما البدوي الذي ليس من أهل مكة فإذا نذر الجوار كانت مكة كلها حينئذ مجاوراً له في أي نواحي مكة شاء، وفي أي بيوتها شاء، ولم يصم، وأصاب أهله إن شاء".
قلت: إنَّ هذه آراء منقولة عن عطاء – رحمه الله – وقد استحب الجوار في مسجد مكة ومسجد المدينة لمجيء الفضل فيهما.
وروى عبدُالرزاق في ((مصنفه))(48) عن ابن جريج، عن عطاء، قال: "زعم أنّ الخير من المساجد أحبّ إليه أن يجاور فيه الإنسان، وإن كان نذر جواراً بغيره"، - يعني: أن الخير من المساجد ما جاء فيه الفضل: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد إيلياء.
وروى أيضاً عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت لو أن إنساناً نذر جواراً في بيت المقدس، أيقضي عنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة؟ قال: نعم. قال ابن جريج: ويأبى عمرو بن دينار ذلك.
7- ذِكْرُ حلبي لِخبر ابن وهب المتقدم عن مالك في رجوعه إلى تخليل الأصابع لا ينفعه هنا؛ لأن القصة لم تصح كما أثبت فيما سبق.
8- أما قوله عن حديث حذيفة: "وتثبتنا من صحته، ولم نجد شيئاً يعارضه فصرنا نفتي بما يقتضيه الحديث ويمليه علينا الاقتداء بأئمة السنة، وعلماء السلف"، ففيه تمويه وطعن في علماء السنة.
وكيف تثبّتَ (حلبيّ) من صحته، وما هو إلا مُقلدٌ للشيخ الألباني – رحمه الله- في تصحيحه! وقد سرقَ كلامه، ولكنه وَلدٌ عَاقٌّ لم يُوثّق عنه إلا فقرة واحدة (بتصرف) – بحسب قوله -!!
وأنت يا حلبي لم تثبت مَنْ مِن أئمة السنة وعلماء السلف عَمل بهذا الحديث أبداً!! ولن تستطيع.
فتبقى الآية: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} على عمومها تضم كلّ مسجد.
وأين أنت من فَهمِ تراجم الإمام البخاريّ حيث قال في ((صحيحه))(49) في (كتاب الاعتكاف): "باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقربُوها كَذلكَ يُبيِّن اللهُ آياته لِلنَّاسِ لعلهُمْ يَتقون}".
أتظنّ يا (حلبي) أن البخاريّ – إمام الدنيا في الحديث - لا يعرف حديث حذيفة الذي صححته أنت؟!
قال ابن حجر في ((الفتح))(50): "والاعتكاف في المساجد كلها، أي مشروطية المسجد له من غير تخصيص بمسجد دون مسجد. (قوله: لقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} الآية، ووجه الدلالة من الآية: أنه لو صح في غير المسجد لم يختص تحريم المباشرة به؛ لأنّ الجماع مناف للاعتكاف بالإجماع، فعلم من ذكر المساجد أن المراد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها".
وقال العيني في ((العمدة))(51): "الاعتكافُ يصحُّ في كلِّ مسجدٍ. رُوي ذلك عن النّخعيّ، وأبي سلمة، والشعبي، وهو قول أبي حنيفة، والثوريّ، والشافعي في الجديد، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وداود، وهو قول مالك في الموطأ، وهو قول الجمهور، والبخاري أيضاً حيث استدل بعموم الآية في سائر المساجد. وقال صاحب الهِداية: الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد الجماعة. وعن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه: أنه لا يصح إلا في مسجد يصلى فيه الصلوات الخمس. وقال الزُّهريُّ والحكمُ وحماد: هو مخصوص بالمساجد التي يجمع فيها. وفي الذخيرة للمالكية: قال مالك: يعتكف في المسجد سواء أقيم فيه الجماعة أم لا. وفي المنتقى عن أبي يوسف: الاعتكاف الواجب لا يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة، والنفل يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة. وفي الينابيع: لا يجوز الاعتكاف الواجب إلا في مسجد له إمام ومؤذن معلوم يصلى فيه خمس صلوات، ورواه الحسن عن أبي حنيفة. ثُم أفضل الاعتكاف ما كان في المسجد الحرام، ثُم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ثُم في بيت المقدس، ثُم في المسجد الجامع، ثُم في المساجد التي يكثر أهلها ويعظم. وقال النووي: ويصح في سطح المسجد ورحبته كقولنا لأنهما من المسجد".
قلت: فهل هؤلاء الذين ذكرهم العيني من السلف وأئمة السنة لا يعرفون هذا الحديث يا حلبي، وأنت ببراعتك عرفت السنة؟!!