نهدها يا باشا.. العيد في ذاكرة معتقل
بقلم/ أحمد زكريا
يأتي العيد يحمل ذكريات متنوعة لكل إنسان بحسب التجارب التي مر بها في مختلف فترات حياته.
فإذا كانت المناسبات سعيدة، كان الفرح والبشر، وإن كان غير ذلك وجدت الحال كما قال أبو الطيب المتنبي وهو يصف سوء حالته في مصر مع كافور:

عيـدٌ بأيّـةِ حـالٍ جِئْـتَ يا عيـدُ بما مضـى أم بأمْـرٍ فيكَ تجديـدُ


أمّـا الأحِبـة فالبيـداءُ دونَـهــم فليـت دونـك بيـداً دونهـم بيـدُ

وتجربة السجن والاعتقال من التجارب الثرية جدا ً في النظر إلى المناسبات، وبخاصة العيد، فمنها المبكي، ومنها المبهج المفرح.. بل منها في بعض الأحيان المبكي المضحك في نفس الوقت.
وأحكي للقراء الأعزاء موقفا ً أراه من هذا النوع الأخير، وللقارئ الحرية في تصنيفه كما يحب:
كنا في سجن دمنهور في عام 1997، أي قبل تفعيل المبادرة، وكانت أحوال السجون لا تسر حبيبا وقد تسر العدو، وكان عيد الأضحى، وكانت الإخوة تحرص على تغيير نمط الحياة الروتينية اليومية فكانت تغير الشكل العام للزنزانة بما تيسر من إمكانيات متواضعة للغاية.. من بعض الملايات والأقمشة بعض الألوان المصنوعة من الكركدية والزهرة.
وكان في الغرفة أخ متميز في الرسم، فاستخدم بقايا الصابون الموجودة ورسم مجسما للكعبة المشرفة على حائط الزنزانة.
وبعد يوم طويل – يوم الأضحى – من اللعب والضحك، وإقامة الروضات، والخروج للزيارة – وكانت زيارة سلك وقتها- أي يرى الأخ أهله من وراء أسلاك بعيدة، يحتاج الأخ وأهله لبذل مجهود جبار، أولا ليراهم وسط أكثر من مائة زيارة.. وثانيا ليسمعهم وهي عادة لا تستغرق أكثر من خمس دقائق.
فبعد هذا المجهود المضني يظهر الإعياء على الإخوة.. وبخاصة المرضى منهم - وما أكثرهم في هذا الوقت -.. كان في الزنزانة أخ مريض بالربو ومع الرطوبة العالية وسوء التهوية والمجهود المبذول، أصيب أحد بأزمة صدرية شديدة، فأخذ الإخوة ينادون على الشاويش وكان ذلك ليلا، وكان الرد معروفا مسبقا:
إما تسمع من الشاويش ما لذ وطاب من الكلام الذي تستحي من سماعه آذان الأسوياء.
وإما يقول لنا بصوته الذب الرخيم: دعوه حتى يموت.
وإما لا يجيب أصلا.
ولكن كان في هذه الليلة ضابط،كان يعرف بالشهامة والرجولة،- وهذه رحمات ومنح من الله الرحيم،يهديها إلينا في آتون المحنة، ليخفف عن عباده المستضعفين.
فعندما ضج العنبر بالصراخ على الشاويش لنجدة الأخ المريض، إذا بنا نسمع أبواب العنبر تفتح ويأتينا الضابط ومعه شاويش العنبر ومجموعة من المخبرين.
فلما فتحوا باب الزنزانة، كان المتبع أن نقف ونتجه نحو الحائط،ولا ننظر إلى الداخل، وكانت الزنزانة في ظلام دامس وهذا هو الأصل في السجون في هذا الوقت.. وكان مع المخبرين كشافات.. فلما دخل الضابط نظر إلى الحائط ورأى الكعبة.. فقال:
ما هذا؟
فرد عليه الإخوة: هذا رسم للكعبة من أجل الاحتفال بالعيد.
فصرخ المخبرون – بصوت يشبه المسلسلات الدينية المصرية -:
نهدها يا باشا؟
فتبسم الرجل، وقال: لا.. ولكن امسحوها بعد العيد،حتى لا يؤذيكم أحد.

روضة العيد

كان من عرف الأعياد في السجون إقامة الروضات، وهي تشتمل على ألعاب وضحك، ومقالب، ومزاح مشروع.
ومن أهم الفقرات الإنشاد، ومن الذكريات في ذلك كان معنا أخ فاضل من منفلوط وكان مدرسا وكان في الأربعين من عمره، وهو الأخ أيمن الكاشف(أبو الطيب)،إن لم تخني الذاكرة.
وكان لا يحفظ إلا نشيدا واحدا، أو ربما لم يسمعنا غيره طول فترة الاعتقال معه، وهو نشيد "اليوم عيد" للشيخ إبراهيم عزت – رحمه الله – وكان يقوله بصوت رخيم، ومن شدة تأثره به، كنا نضحك حتى نستلقي على ظهورنا.
وهذا النشيد من أناشيد السجون المشهورة، لأنه يعبر عن مشاعر جياشة تثور مع عودة العيد على المعتقلين في السجون.. خصوصًا إذا كان السجن ظلمًا.. فتثور الذكريات ويعيش كل منهم ذكرياته مع الأهل والأصدقاء والأطفال.
يقول الشيخ إبراهيم عزت في يوم العيد:

اليومَ عيد


قد عشتُ فيه ألفَ قصةٍ حبيبةِ السِّمات


أردِّدُ الأذانَ في البُكور


أراقبُ الصغارَ يمرحونَ في الطريقِ كالزُّهور


وهذه تحيةُ الصَّباح


وهذه ابتسامةُ الصديقِ للصديق


الكلُّ عائدٌ بفرحةٍ تطلُّ مشرِقة


من الشفاهِ والعيون


ودارُنا ستنتظر


صغيرتي ستنتظر


والشُّرفةُ التي على الطريقِ


تسمَعُ الصدور


تعزفُ الأشواقَ


تعصِرُ الأسى


هشامُ لن ينام


قد كان نومه على ذراع والده


نهادُ لن تذوقَ زادَها


لأنها تعوّدتْ أن تبدأَ الطعامَ من يدِ الأسير


شريكةُ الأسى بدا جناحُها الكسير


تُخَبِّئُ الدُّموعَ عن صغارِها


وحينما يلفُّها السُّكون


سترتدي الصَّقيع


كي تقدّمَ الحياةَ للرضيع


الأعياد وانتظار الفرج

كانت الأعياد بالنسبة للمعتقلين الأمل في الفرج.. حيث كانت دفعة من المعتقلين تخرج في العيد، فكنا ننتظره على أحر من الجمر، وكم من إخوة فرج الله كربهم في العيد.. فالعيد يمثل مع الفرحة والسرور الأمل والاستبشار.
كيف يأتي العيد على أهالي المعتقلين نظرنا لبعض أحوال المعتقلين في العيد.. وإن كان اليوم يأتي على البعض.. وبخاصة المتزوجين ومن له أطفال تجد الحسرة تغمره والألم يعتصره والعيون ذارفة.
وكنا نبذل قصارى الجهد لإخراجهم من هذه الحالة الشديدة باللعب والمزاح ودمجهم معنا حتى تمر المناسبة بخير.
أما الأهل في خارج السجن، فهم المعتقلون على الحقيقة، يشعر الأطفال باليتم، النساء بالترمل، والأمهات بالحسرة.
ولو لم يكن للمبادرة من فضل إلا في التخفيف عن هؤلاء الضعاف لكفى – فاللهم اجز كل من ساهم في التخفيف عن المسلمين خير الجزاء –
ويصور الشاعر الطاهر إبراهيم ذلك حين يقول:

يا رب هذا العيد وافى والنفوس بها شجون


لبس الصغار جديدهم فيه وهم يستبشرون


بجديد أحذية وأثواب لهم يتبخترون


ولذيذ حلوى العيد بالأيدي بها يتخاطفون


وهناك خلف الباب أطفال لنا يتساءلون:


أمي صلاة العيد حانت أين والدنا الحنون؟


إنا توضأنا - كعادتنا - وعند الباب (أمي) واقفون


زفرت تئن وقد بدا في وجهها الألم الدفين


ورنت إليهم في أسى واغرورقت منها العيون


العيد ليس لكم أحبائي فوالدكم سجين

هذه بعض ذكريات وخواطر معتقل في العيد، وأرجو من الإخوة التواصل وكتابة التعليقات المدعمة لهذه الذكريات، بما فيها من مواقف طريفة ومؤثرة.
وحتى لا ننسى ما نحن فيه من فضل ونعمة، ونعرف حق مشايخنا الذين كانوا سببا في تفريج الكرب، مع الشرفاء الذين ساهموا في إنجاح المبادرة.

وتقبل الله منا ومنكم أجمعين