جريمة لفظية
فاديا رمضاني




كانت الخامسة مساءً عندما دخَل المستشفى مسرعًا، وكأنه صقر غاضب، كان غامضَ التقاطيع، مقضبَ الوجه، شاحِبَ اللون، وكم كان صعب التنبُّؤ بأحاسيسه حينها، أكانت خوفًا؟ غضبًا؟ كُرهًا؟ أم غرورًا؟ لا أحد يعلم! اتجه إلى غرفة الإنعاش بعدما دلَّتْه عليها مُوظفةُ الاستقبال، دخَل الغرفة في حالةٍ مُزرية، كان يَلهث، يَتَعَرَّق، فإذا بالممرضة تعترض سبيلَه، وتُطالبه بالخروج قائلة: سيدي، الرجاء الخروج، لا يُسمَح لك بالدخول إلى هنا!

نظر إليها بعيون غاضبة، فتَنَحَّتْ جانبًا!
أخَذ يقترب من السرير بخطواتٍ متأنِّية، حذِرَة، مُتردِّدة، يمزج في تقاطيعه بين الأمل والندم، أخذ مقعدًا واستقرَّ جالسًا بعد أنْ دنَا منها.

التقَط يُسراها بيدَيْه المرتجفتينِ، الباردتينِ، تأمَّلها للحظاتٍ مَعدوداتٍ، وهي في تلك الحال الساكنة، كصنَمٍ لا يتحرَّك، ثم أخَذ يَمسَح دمعه، محاولًا استرجاع نبرته القاسية المُعتادة!

قال: أهذه إحدى حِيَلك الجديدة؟ أوَلَم تسأمي بعدُ؟ أنتِ لن تُؤثِّري بي، هيا استيقظي وكفاكِ تمثيلًا، لقد كبرنا يا (صوفيا)، وما تفعلينه لن يجديك نفعًا، أتفهمين؟ أتيتُك فقط لأنَّ رفيقتَك رجتني، فلا تتألَّمي كثيرًا مِن ناحيتي.

أتعلمين؟ تعرفتُ مؤخرًا على فتاة قمة في الجمال والرقة، أظنني أُعجبتُ بها، وبما أنه السن المناسب لتأسيس عائلة، فأنا أظن بأنه لا بأس إن أذنتُ لِعلاقتي بها بأن تتطوَّر، سأصِفُها لك؛ هي متوسِّطة القامة، شقراء، ذات عيون زرقاء...، إنها حقًّا فاتنة، لديها كلُّ ما قد يجذب الرجل، كما أنها واعية! أَرَأيتِ، أنا أُخطِّط لحياةٍ جديدةٍ، لم لا تفعلين مثلي، وتقلعين عما تفعلينه؟!

فجأة تنهمر الدموع مِن عيونها دون أن يدري...!
فيكمل: لا أفهم لم تُصرين على عنادك؟ لم تتعمَّدين إيذاء نفسك؟ لم تُعكِّرين صفو حياتي بتصرفاتك الطفوليَّة؟ أوَلَم يَحِن الوقت بعدُ لتكبري ولو قليلًا؟! افهمي بأننا لن نجتمعَ، ليس مقدرٌ لنا أن نجتمع معًا، أنتِ تعيشين على وَهْم الطفولة، لكن الواقع غير ما تخالينه!

لقد كبرتُ، وأنتِ كذلك، عليك التخلُّص مِن تبعيتك المرضية للماضي، أتفهمين؟! ما شعرتِ به كان مراهقةً، كان... لا شيء، كنتِ فقط تتوهمين، أنا لم أُبادِلْك يومًا ما تُسمينه حبًّا، أنتِ كنتِ لا شيء، أتفهمين؟!

لذا...، آه! أنتِ تبكين، إذًا أنتِ تسمعينني! هيَّا، قومي، كفاكِ ضعفًا وتذلُّلًا، فصولك لن تُعيدني إليك، لَم أكنْ أعتقد بأنك بهذه الدرجة مِن العتَهِ والغباء! كنتُ أعرفك فتاةً ذات مبادئ لا ذات حيلٍ رخيصة، ما تفعلينه يُقلِّل مِن شأنك، وأنا لم تلفت انتباهي يومًا فتاةٌ ذليلة، أنصحك بتغيير الإستراتيجية!

فجأة تبدأ آلاتُ جسِّ النبض بالتصفير، ثم تدخُل الممرضات بجانب الأطباء، فيدفعونه إلى الخارج حيث بقي تحت الصدمة، شاحب اللون، مكتومَ الصوت لدقائق، ثم حمل نفسَه بعيدًا عن فوضى ذاك المكان بخطوات ثقيلة، كان يجرُّ نفسَه جرًّا، متجهًا نحو المخرَج العام، تائهًا بأفكاره، فجأة تلقَّاه رفيقُه القادم بسرعةٍ، فاستوقفه متسائلًا:
ما بك يا (آدم)؟
ما بي؟!
لم أنتَ في هذا الوضع المزري؟ هل أصابك مكروهٌ؟
مكروه؟ كلَّا، بل أصابها هي!
هي! مَن هي؟
لم يَرُدّ..
هل والدتك بخير؟
أجل.
إذًا...؟
لقد قتلتُها!
عمَّن تتحدث؟
أتحدَّث عنها! كانت في غرفة الانعاش، وبدلًا مِن أن أُنقذها، أخرستُ نبضَها نهائيًّا.

وانتابَتْهُ نوبة ضَحِك هستيرية... لكن بالله عليك، عمَّن تتحدَّث؟
الفتاة التي لطالما أحبَّتْني، واهتمَّتْ لأمري أكثر مني، تلك التي أنشَبْتُ فيها أنياب غُروري، رغم أنها لم تُؤذني، تلك الفتاة الذي عشِقَها غُروري، ومَن يحيا على قيدها ويستقي منها، تلك الذي أخلصتْ لي نالتْ مني نصيبًا مميزًا؛ الموت... الموت... القتل.


أَتتحدث عن (صوفيا)؟
أجل، أتعلم.. كانتْ بالإنعاش، وأنا سألتُها أن تَكُفَّ عن التمثيل، إنها ماكرةٌ، لكنني أشد مكرًا منها.
لكن، لِمَ تفعل بنفسك كل هذا؟ ألم تُدرك حتى الآن حجمَ حبك لها؟ لِمَ تقهر نفسك وتُعذبها معك؟ لماذا؟
لقد خلصتُها مِن عذابها..
كيف؟
قلتُ لك بأنني قتلتُها يا صديقي، لقد قتلتُها، أنا مجرمٌ، دعني أرحل.
إلى أين؟
دفَعَهُ وواصل المسير مُغَمْغِما كالمجنون: قتلتُها، لقد قتلتُها، أنا مجرمٌ، مجرٌم، أنا قاتل، قاتل، مجرمٌ.