عَقَدُوا عَنِ الحَرَامِ مَآزِرَهُم..، (عَفافُ العُلَماءِ)
هُم أناسٌ عَقَدُوا عن الحرام مآزِرَهم، وأوْرَثَهُم العلمُ عفافًا آزَرَهم، فأطلقوها كلماتٍ عنهم رُويِتَ، وسَطَّروها عباراتٍ عنهم حُفظت، شاهدةً على نقاوة وطهارة مَعْدِن الشَّرَف، وعلى أنهم أشرفوا من العِفَّة على أعلى الشُّرَف، فتلفَّعتْ ببياض التصوُّنِ أعراضُهم، وكان عن مُوَاقَعَة الحرام غايةُ إعراضِهم، ودالَّةً على شيوعِ الفُحْش في زمنهم ويُسْرِ السبيل إليه، وعلى الرُّغم من ذلك لم يتلوَّثوا بعفنِهِ، ولم يتلطَّخوا بنتَنَهِ، لا يحجُزُهم عن مُقَارَفة ذاك الجُرمِ إلا خشيةُ الله تعالى، ورجاءُ ما عندَه سبحانه من حسنِ العاقبة والجزاء. فكانت السلامة من سلوك ذاك السبيل- أي الزنا- وساما ونيشانا، ولصاحبها رِفعة وشانا، فأعْظِم بها من منقبة، وأكْرِم بها من محمدة، أفصحوا عنها اعتزازا وفَخْرًا، ومزجوها حياءً وطُهرًا، وكان الباعثُ على جمعها: نار عُزُوبة تلظَّيْتُ بأوارها، ولا زال لموقدها اضطرام، فأجد نفسي تَجْمَحُ لإطفاء تلك الجذوة، فيحول بيني وبين ذلك ما منع أولئك الأئمة الأطهار -رحمهم الله- دون ركوب ذاك المركب، ورأيتُ في تلك الأقوال من الحثِّ على العفة وحفظ الشرف، ما خفَّف عني وقْع عواصف الشهوة، وسلا قلبي عن شدائد الصَّبوة، فكانت مَسْلاة القلب، وعُلالة النفس، بل كانت المُنى والمراد، حتى أنال شرف الإنحياش ضمن تلك الكواكب الزاهرة، وأقول كلمتهم التي قالوها، و أُرَدِّدَها بعد أن سطَّروها، فيكتب اسمي في ذيول أسمائهم، ويكون لي موضعُ قدمٍ في دَوْحِ الطهر والعفاف الذي تفيؤوا منه بظل وارف، وسقوا في خلاله من أعذب المراشف.
فلي ولأمثالي فيهم قُدوة -رحمهم الله ورضي عنهم-، وإني مُوردٌ لك من أقوالهم وشهاداتهم ما تكتحل به العين، وينثلج له الصدر، وأول من يُختطُّ اسمه في هذا الباب، هو:
مفخرة الإسلام، وزينة الأيام، الإمام ابن حزم الأندلسي الظاهري -رحمه الله ورضي عنه-، إذ نشْر مقولته فاح وتضوَّع، وبلغ شذاه كل محفِل ومجمع، وذاك حين قال: "..، ومع هذا يعلم الله -وكفى به عليما- أني بريء الساحة، سليم الأديم، صحيح البَشْرة، نقي الحُجزة، وإني أقسم بالله أجلَّ الأقسام أني ما حللتُ مِئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا مذ عقلتُ إلى يومي هذا، والله المحمود على ذلك، والمشكور فيما مضى، والمستعصم فيما بقي"([1]).
وليس مكمن الإعجاب في بثِّ براءته، بل في عُلوِّ تعبيره و براعته، حيث انتقى أبلغ الألفاظ وأوضحها، مع سلاسة نظمها، وجمال سبْكها، فشفَّتْ عن بهاء ونُضرة، أغرت الفتى الوامقَ بنَظرة، وهذا ليس غريبا من جاحظ الأندلس -رحمات ربي عليه-.
ثم نأتي لعَلَمِ ثانٍِ لم يُحفظ من كلامه إلا تبرئة شرفه من الدَّنَس، وهو: المحدث أبو زكرياء يحيى بن محمد الدِّبثْاَئي-رحمه الله-، وذاك حيث روى عنه الحافظ الخطيب البغدادي -رحمه الله- براءته، فقال: " قال لي الأزهري: سمعت جدي أبا زكريا يحيى بن محمد الدِّبْثائي يقول: ما رفعت ذيلي على حرام قط ".([2])
فالبنظر في نص براءة الثاني ومقارنتها بنص براءة الأول، يلوح أن كلام الدِّبْثائي أدخلُ في باب التعريض والتلويح من كلام الإمام ابنِ حزم، الذي كان صريحا مُفصحا عن قصده غاية الإفصاح، وصنيع الدِّبْثائي هو الأليق بهذا المقام، إلا أن اللوم يُدْرأ عن الإمام ابنِ حزم إذا علمنا سياق كلامه، بخلاف كلام الدِّبْثائي الذي نجهل باعثَه، فالإمام ابنُ حزم ذكر من شأنه مع النساء- أيام صِباه وفُتوته- أنه كان كثير المخالطة لهن، شديد الاطلاع على خفاياهن، كما أنهن كُنُّ يكاشفنه من أسرارهن ومكونانتهن ما رأى كتمه وعدم البوح به، وكذا إخباره عن نفسه أنه أحب وعشق وغير ذلك، مما يأخذ بظنون الناظرين إلى مهامه وسباسب لا يظفر منها سالكُها إلا بالحيرة والسدَر، فأتتْ براءة الإمام -رحمه الله- تزيل هذا الوارد الذي قد يَرِد، وتُذهب تلك الظنون الآخذة بصاحبها إلى مكمن العطب، فكان التعريض والتلميح في هذا المقام غير مُغنٍ ولا لائقا، وكان التصريح مطلوبا بل مفروضا، ليأخذ بظنون الناظرين إلى موارد الرشد، فأحسن الصنيع وأجاد رحمه الله.
ومن أولئك الذين انتظموا في هذا السِّمْط، وترفعوا عن ذاك الفِعل المُنْحَط، الإمام الحافظ أبو الفرج ابنُ الجوزي -رحمه الله ورضي عنه-، وذاك حيث يقول: "..، حتى أنني أذكر من زمان الصَّبوة، ووقت الغُلمة والعُزبة، قُدرتي على أشياء، كانت النفس تتوق إليها تَوَقان العطشان إلى الماء الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي من العلم من خوف الله عز وجل"([3]).
رحم الله ابنَ الجوزي وأسكنه فسيح جنانه، فقد كان ممن نفعه علمه، و أورثه من الصبر ما سيجد حُسنَ عاقبته يوم القدوم على الله تعالى، و أما نص كلامه فهو أبلغ في التعريض من كلام المحدث الدِّبثائي -رحمه الله-، وإن أفصح عن الغُلمة (أي شدة الشهوة) التي خالجت صدره، وقدرته على إخماد أوارها، ولكن خوف الله تعالى حَجَزَه عن ذلك، ونِعْم الحاجز.
ورابعهم - وإن كان متقدما عليهم-، وهو: الإمام الجليل،و المقرئ الزاهد، أبو بكر ابن عياش الكوفي -رحمه الله ورضي عنه-، وهو من طبقة أتباع التابعين، فقد قال مُخبرا عن نفسه: "..، وإنه -يقصد نفسه- لم يأت فاحشةً قط."([4])
ولعل مثل هذا الكلام لا يستغرب من مثل تلك الطبقة، ولكن الغرابة في وقت ذكره لهذه البراءة من إتيان الفاحشة، إذ قالها وهو يحتضر، وروحه تُسلُّ من بين جنبيه، فما إن غرَبتْ شمْسُ حياته، حتى أطلعها بنور كلماته، التي ستُخلِّد ذكره، وتُشْهِر عِفة عِرْضِه وطُهرَه، فرحمه الله ورضي عنه.
وممن انتظم في سِلكهم، وإن أربى على رُتبتهم: الإمام اللغوي أبو الحسن علي بن محمد ابن خروف الحضرمي الإشبيلي، فقد كان يقول: "والله ما حللت مئزري قط على حلال ولا حرام".
فقد قال عنه ابن عبد الملك المراكشي :" وكان أبو الحسن - رحمه الله - صرورة([5]) لم يتزوج قط إلى أن توفي،...،وكان مشهورا بالصدق وطهارة الثوب والصيانة والعفاف".([6])
وما شدَّني في كلامه مُشابهته الشديدة لنص كلام الإمام ابن حزم، وليس مستبعدا أن يكون متأثرا به في حَبْكه([7])، أما ترْكُهُ للحلال -أيضا- فيه ما فيه، ولعلّه معذور في ذلك، رحمه الله ورضي عنه.
فهذا ما التقطته من درر وقفتُ عليها أثناء البحث والمطالعة، وقد يفوتني غيرُ ما أوردت، إذ أنني لم أجعل همي جمع تلك المقولات واستيعابها، وقد قصدتُ برصِّها ورصْفِها في هاته المقالة، أن أشحذ همتي وهمتك أيها الشاب، حتى نغالب هاته المُغرِيات المُؤجِّجَة لنار الشهوة، والتي عمَّتْ وطمَّتْ، فأحذقتْ بنا من كل جانب، وتعلمَ بأنك لستَ الوحيد الذي حلَّت به هاته الفتن، بل كابدها ثُلَّة من أئمتنا وعلمائنا، فما إن خرجوا منها سالمين ناجين، حتى أخبروا بذلك عن أنفسهم بما يوجب لهم المدح والثناء، و وافر النوال عند الله والجزاء، فبأمثالهم يصح الاقتداء،كما أنَّ لي قصْدٌ ثانٍ، وهو:
أن أُلْفِتَ انتباه مشايخنا وعلمائنا إلى هاته السُّنة الحسنة التي سنَّها أئمتنا، فيقتدوا بهم في الإخبار عن أنفسهم بما يدل على براءة ساحتهم، ونقاوة حُجَزِهم، مما يدفع هذا الجيل إلى اقتفاء أثرهم، والسير على خُطاهم في عدم تدنيس شَرَفهم بمقارفة ذاك الجُرم الخسيس، فإنني لم أجد من مشايخ العصر -بحسب اطلاعي القاصر- من انتهج تلك السنة، إلا شيخا وعالما واحدا، به أختم هاته الكوكبة النيرة من العلماء، وهو:
شيخنا العلامة، المحدث المحقق، الأديب الشاعر، محمد بن الأمين بوخبزة التطواني الحسني -شفاه الله وحفظه-، وذلك حيث ذكر عبارة الإمام ابن حزم - وقد سبق سَوْقُها- في إحدى كنانيشه.([8])
وتلك منقبة من مناقبِه، تُعلي من ذكْرِه و مراتبِه، وتنأى بالسوء عن جانبِه، فلْيَهنأْ حين أتى الطُهر والعفاف من أعذب مشَارِبه، ومتع الله ببقائه ووقاه حوادث المَلَوان.
فبهذا الشيخ الجليل كان الختام، وأرجو من الله تعالى أن يوفقني وأمثالي للانحياش ضِمن تلك الزمرة الخيِّرة، والاتصاف بتلك الصفة التي وسم بها "عباد الرحمان"، وهي: أنهم لا يزنون، كما أسأله تعالى أن يغفر لي خطاياي، وأن يُنجِّيَ من حر النار مُحياي، فهو ولي ذلك والقادر عليه.
انتهى من رقْمها: نور الدين بن محمد الحُميدي الإدريسي، ليلة يوم الإثنين 3 ذي القعدة 1431هـ، الموافق لـ11 أكتوبر 2010م.
______________________________
([1]) عن كتابه البديع (طوق الحمامة، 272) ضمن مجموعة رسائل، تـ: الدكتور إحسان عباس رحمه الله، وقد عقد الإمام فصلا في بيان قبح فاحشة الزنا والنكال والعذاب الذي ينزل بصاحبها في الدنيا والآخرة، نسأل الله العفو والعافية.
([2]) عن (تاريخ بغداد،14/237)، وقد تصحفت نسبة الدبثائي إلى "الدبنائي"، وصححته من (الأنساب،2/453) للسمعاني، وقد أورد هاته المقولة أيضا، ووثق الأزهري راويها عن جده من أمه.
([3]) عن (صيد الخاطر،213)، ونقلت عنه بواسطة.
([4]) عن (تهذيب الكمال،33/135).
([5]) صرورة: أي متبتلا تاركا للنساء.
([6]) عن (الذيل والتكملة،1/321).
([7]) قلت: فهو قد وقف على كتب الإمام ابن حزم وطالعها، بل ألف في الرد عليه رحمهما الله.
([8]) استفدت هذا من كلام أستاذنا الدكتور بدر العمراني –حفظه الله- الوارد في كتابه الماتع (مظاهر الشرف والعزة، المتجلية في فهرسة الشيخ محمد بوخبزة،48)، وأما ذاك الشيخ فيعلم الله -وكفى به عليما- ما أكن له من صافي المحبة، وأضمر له من خالص المودة، التي تُزعج بالي عند تذكره وأنا بالدارالبيضاء بمنأى عنه، فأكاد من شوقي إلى مرآه، والنظر إلى محياه، -الذي تقر له العين، ويسكُنُ له القلب- أن أطير لتنائي الديار وطول البعاد، فهو قرة عبني، وسكن مُهجتي، كما أن أفضاله وأثاريده عليَّ لا يجازيه بها عني إلى االله تعالى على قِصَر المدة التي ثافنته فيها، وأسأله تعالى أن يمتعنا ببقائه.