السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأفاضل ،
حول تفسير قوله - سبحانه وتعالى -: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]
يقول الشيخ/ عبد الرحمن بن محمد الدوسري - رحمه الله - في كتابه "صفوة الآثار والمفاهيم من تفسير القرآن العظيم" المجلد الخامس - باختصار -:
وههنا فوائد:
....
سادسها: يجب على وُلاة الأمور أن يَرفضوا طلب مَن أراد القضاء أو أراد أيَّ ولاية من قيادات المسلمين؛ اقتداء بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وامتثالاً لحكمه؛ فقد روَى البخاري في كتاب الأحكام من "صحيحه" حديث (1129) عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: دخلتُ على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنا ورَجُلان من قومي، فقال أحَدُ الرجلين: أَمِّرنا يا رسول الله، وقال الآخَر مثلَه، فقال الرسول: ((إنا لا نولِّي هذا الأمر مَن سَأَله ولا من حَرَص عليه)).
وأخرج البخاري أيضًا في هذا الباب حديث (2488) عن عبدالرحمن بن سَمُرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا عبدَالرحمن، لا تَسأل الإِمَارة؛ فإنَّك إن أُعطِيتَها عن مسألة وُكِلتَ إليها، وإن أُعطيتها عن غير مسألة أُعِنت عليها، وإذا حلَفْتَ على يمين فرأيتَ غيرها خيرًا منها، فكفِّرْ عن يمينك، وائْت الذي هو خير))؛ ورواه الإمام مسلم أيضًا في "صحيحه".
وأخرج أبو داود في كتاب الأقضية حديث (3578) عن أنس بن مالك قال - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن طلب القضاء واستعان عليه وُكِل إليه، ومن لم يَطلبه ولم يَستَعِن عليه أَنزل الله إليه ملَكًا يسدِّده))؛ ورواه أهل السُّنن.
سابعها: قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - في كتابه المشهور "السياسة الشَّرعية في إصلاح الراعي والرَّعية" ما نصُّه: "ثم إنَّ المؤدِّي الأمانة مع مخالفة هواه يُثِيبه الله فيحفظه في أهله وماله بَعدَه، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصْدِه، فيذلُّ أهله ويذْهب ماله....".
ثامنها: إذا كان الله - سبحانه - قد أوجب أداء الأمانات المقبوضة بحقٍّ، فإنَّ أداء المسروق والمغصوب والمنتَهَب والمقبوض بأيِّ حيلة من حِيَل الخيانة أولى بوجوب الأداء، ولْيُنظَر تفصيل ذلك في الكتاب المُشَار إليه للشيخ - رحمه الله.
تاسعها: ما ذكَرناه من رفْض النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - طلَبَ من أراد توليته على شؤون الناس بقوله: ((إنَّا لا نولِّي هذا الأمر مَن سأله ولا من حرص عليه))، فيه تعليمٌ لأمَّته أن يأخذوا حذرَهم من الانتهازيِّين الذين يتقدَّمون بطلب الوظائف الكبرى؛ ليستغِلُّوا نفوذهم على الناس، وهذا من بصيرته - صلَّى الله عليه وسلَّم - التي بصَّرَه الله بها؛ فإنه حاذِرٌ من الدَّوافع الخفيَّة التي تَدْفع الطالب إلى توليته، وتجعله يحْرِص عليها، فبَنَى الأمر على الحزم والحذر، وإن كان بعضهم قد يندفع بحسن نية أو تحمُّس إلى الإصلاح، فإنَّ هذا من النَّادر الذي لا حُكْم له.
ويا ليت المسْلِمين في هذا الزمان يَحذرون ممن يرشِّح نفسه للانتخاب في نيابة مجالس الأمة والوزارات أو العضويَّات الأخرى، ويفكِّرون في الدوافع المذهبيَّة أو الحِزْبية أو النَّفعية التي دفعَتْهم إلى تزكية أنفسهم، غيرَ مبالين بإعلانهم افتراءَ الكذب على الله، ويفكِّرون فيما يبذلونه للناخبين من ولائم الذبائح أو شراء الأصوات، وما يقوم به أعوانُهم من الدعاية لترشيحهم بأنواعٍ شتَّى من المدْح والوسائل!
ولا شك أنَّ طريقة الانتخابات المتَّبَعة هي طريقةٌ يهودية لإبْراز مَن يريده عُمَلاء اليهود من الشُّيوعيِّين ونحْوِهم، فمَتى ينتبه المسْلِمون، ويَسلكون طريقة نبيِّهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أخْذ الحَذَر من كلِّ من يرشح نفسه لأيِّ منصب؟!
..........
ثم قال صاحب "المنار": "ليس بين القانون الأساسي الذي قرَّرَتْه هذه الآية على إيجازها، وبين القوانين لأرقى أُمَم الأرض في هذا الزمان، إلاَّ فرقٌ يسير، نحن فيه أقربُ إلى الصواب، وأثبَتُ في الاتِّفاق منهم إذا نحن عَمِلنا بما هدانا إليه ربُّنا.
هم يقولون: إنَّ مصدر التشريع هي الأمَّة، ونحن نقول بذلك في غير المنصوص عليه في الكتاب والسُّنة، كما قرَّره الرازي، ولكنَّنا نَقْصر الحقَّ فيه على العلماء الصالحِين الذين يَخْشون ربَّهم بالغيب، ولا نُنِيط هذا بالخبراء المادِّيِّين الذين لا يَستنبطون من وحْيِ الله، ولا يَلتفتون إليه.
وهم يقولون: لا بدَّ أن يَنُوب عن الأُمَّة من يمثِّلها في ذلك؛ ليكون ما يقرِّرونه كأنَّه بلسان الأمَّة، ونحن نقول بذلك مع التحفُّظ بأمانة الله.
وهم يقولون: إنَّ ذلك يُعرَف بالانتخاب، ولهم فيه طرُق مختَلِفة، ونحن لم يقيِّدْنا القرآن بطريقة مخصوصة، فلَنَا أن نسلك في كلِّ زمان ما نراه مؤدِّيًا للمقصود، لكنْ ينبغي لنا الحذَرُ مما وقعوا به من شرور الانتخاب، فنجتنَّب الطُّرق التي وقعوا فيها والتي هي من دسائس يَهُود، وصارت ملعبة لهم لا يَفُوز فيها إلاَّ من يرشِّحونه بأصواتهم الخفيَّة، وأموالهم المتدفِّقة من أجْلِه.
وهم يقولون: إن هؤلاء المنتَخبِين إذا اتَّفقوا وجب على الحكومة تنفيذُ ما اتَّفقوا عليه، وعلى الأمَّة الطَّاعة، ولهم إسقاط من لا ينفِّذ تقاريرهم، ونحن نقول بذلك، وهذا هو الإجماع المعدود من شريعتنا، لكن مع ملاحظة تطبيق الأحاديث النبوية السَّالفة الذِّكْر ونحوها؛ حتَّى لا تكون فتنة يعمُّ خطرُها، وتَرتعُ الأحزاب فيها، وينال الأبرياء شرورًا مع معرَّتِها.
وهم يقولون: إنَّه إذا اختلفوا يجب العمل برأي الأكثر، ونحن نتَّبِع أمر الله - سبحانه - بقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، فنَعرِض ما جرَى به الاختلاف على الكتاب والسُّنة، فما وافقَهُما عَمِلنا به، وما خالفَهما رفضناه إلى غير رجعة، ونحن نَعلم كما يعلمون أنَّ رأي الأكثرين ليس أَوْلَى بالصواب من رأي الأقلِّين، ولا سيَّما في هذا الزمان الذي يتحزَّب فيه أهل الباطل وأهل الأغراض الدَّنِيئة للتَّصويب بما يريدون، ومِن ورائهم يهود الذين يَقْبَع تلاميذهم وعملاؤُهم في أواسط الأحزاب وغيرها، وقد قرَّر المحقِّقون أن العمل بقول الأكثرية هو من سُنَن الجاهلية التي من سنَّ شيئًا منها في الإسلام كان مِن أبغَضِ الناس إلى الله، كما جاء في الحديث الصَّحيح الذي رواه البخاري في كتاب التَّوحيد، فالأكثرية لا تستلزم الأحقِّية، والإصابة في الأحكام لا في الآراء، ولا هي بالتالي تطمئنُّ الأمَّة إلى رأيها، وقد حصل من أخطاءِ الأكثرية انتخابُ ما يَخدم دولة اليهود، وتشريعَ ما يهدم الأخلاق والعقيدة، وقد قال الله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116]، ومما ذكرناه، وما شاهدناه من حال أهل الأرض تَستبينُ حكمةُ عرض المسائل المتنازَعِ فيها على كتاب الله وسنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما حصلت الشَّقاوة لأهل الأرض إلاَّ من عدم تطبيق هذه القاعدة الشَّرعية، فلم تحصل الفِتَن وتتفَاقمْ شرورُها إلاَّ بسبب ذلك؛ انتهى بحذف وزيادة.
انتهى.
وجزاكم الله خيرا
[[منقــــــــــــ ول]]