المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو عبد الرحمان أمين
من كتاب مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الجكني الشنقيطي – رحمه الله –
كتبها تلميذه أحمد بن محمد الأمين بن احمد الجكني الشنقيطي
ص : 40
... وكانت حلقة الشيخ محمد الأمين في المسجد النبوي تكاد تكون الوحيدة به ؛ وذلك أن كثرة المدرسين بالمسجد إذا جلس الشيخ في حلقته التحقوا بها للإستفادة , وكان الشيخ قد ذكر في بعض هذه الدروس أن والدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل الفترة , وذكر ما يقوله أهل العلم في أهل الفترة.
وحدثني – عليه رحمة الله – أنه استدعاه سماحة الشيخ عبد الله الزاحم إلى منزله , فلما حضر رحب به وأوسع له في المجلس إلى جنبه ، وكان مجلسه ذلك الوقت ليس به إلا المنتسبون للعلم , وكان بين أيديهم كتاب فيه مرجع.
قال الشيخ محمد الأمين: فلما انتهى التسليم ناولني الشيخ عبد الله الزاحم الكتاب ، فإذا هو شرح النووي على صحيح مسلم والمرجع فيه عند حديث " إن أبي وأباك في النار ".
فقلت: هذا الحديث كنت أعرفه!
قال سماحة الشيخ عبد الله الزاحم: إنك قبل أيام قلت في الدرس كذا ، لما قرر من أنهما أهل فترة.
قال شيخنا: قلت: نعم ، قلت ما قلت اعتماداً على نص من كتاب الله القطعي المتن وقطعي الدلالة ، وما كنت لأرد نصاً قطعي المتن قطعي الدلالة ، بنص ظني المتن وظني الدلالة عند الترجيح بينهما ، فهذا الحديث خبر آحاد ، ومثله حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- عند مسلم: " استأذنت ربي لأزور أمي فأذن لي ، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي " ، ولكن أخبار الآحاد ظنية المتن ، فلا يرد بها نص قرآني قطعي المتن ، وهو قوله تعالى: " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" [ الإسراء:15 ] ؛ أي: ولا مثيبين.
وهذا النص قطعي الدلالة لا يحتمل غير ما يدل عليه لفظه بالمطابقة ، بخلاف حديث: " إن أبي وأباك في النار " ؛ فإنه ظني الدلالة ؛ يحتمل أنه يعني بقوله: " إن أبي " عمه أبا طالب ؛ لأن العرب تسمي العم: أباً ، وجاء بذلك الاستعمال كتاب الله العزيز في موضعين:
أحدهما: قطعي المتن قطعي الدلالة ، وهو قوله تعالى في البقرة: " قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ " [ البقرة:133 ] ، وإسماعيل عمه قطعاً ؛ فهو يعقوب بن سحاق بن إبراهيم.
والموضع الثاني: قطعي المتن لكنه ظني الدلالة ، وهو قوله تعالى: " وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ" إلى أن قال: " وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً " [ الأنعام:84/86] ؛ فهو نص قرآني على أن إبراهيم يطلق عليه أبٌ للوط ، وهو عمه على ما وردت به الأخبار ، إلا أن هذا النص ظني الدلالة لأنه يحتمل أن يكون الضمير من قوله تعالى: " وَمِن ذُرِّيَّتِهِ " يرجع إلى نوح ، لأنه قال في الآية من قبل ذلك: " وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ " ، ولكنه احتمال مرجوح ؛ لأن الكلام عن إبراهيم.
وإذاً فإنه يحتمل أنه -صلى الله عليه وسلم- لما سأله الأعرابي بقوله: أين أبي ؟ وقال له: إن أباك في النار وولّى والحزن باد عليه ، فقال -صلى الله عليه وسلم- : " ردوه علي " فلما رجع قال له: " إن أبي وأباك في النار " .
يحتمل أنه يعني بأبيه: أبا طالب ؛ لأن العرب تسمي العم أبا لا سيما إذا انضمّ إلى العمومية التربية , والعطف والدفاع عنه.
ثم قال: والتحقيق في أبوي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهما من أهل الفترة ؛ لأن تعريف أهل الفترة أنهم القوم الذين لم يدركوا النذارة قبلهم , ولم تدركهم الرسالة التي من بعدهم , فإذا كان ذلك كذلك , فإن والد النبي -صلى الله عليه وسلم- التحقيق أنه مات والنبي – بأبي وأمي هو – حمل في بطن أمه , وأمه -صلى الله عليه وسلم- ماتت وهو ابن ستة أعوام بلا خلاف ؛ وإذاً فإنهما من أهل الفترة.
فقال أحد الحضور: العرب كانوا على دين إسماعيل فعندهم نذارة أدركوها.
فقال له الشيخ الأمين: هل أنت على بصيرة مما تقول ؟ فقال نعم.
فقال له الشيخ محمد الأمين: أين أنت من قوله تعالى في سورة يس: لتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ " الآية [ يس:6 ] وما هنا نافية على التحقيق بدليل الفاء في قوله: " فَهُمْ غَافِلُونَ " ؛ أي: لعلة عدم إنذارهم.
وأين أنت من قوله تعالى في سورة القصص: " وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ " الآية [ القصص: 46 ].
وأين أنت من قوله تعالى في سورة سبأ: " مَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ" الآية [سبأ:44].
وأين أنت من قوله تعالى في سورة السجدة: " بََلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ " الآية [ السجدة:3 ].
قال شيخنا: إن التحقيق في أهل الفترة , والبله , وأولاد المشركين الذين ماتوا صغاراً أنهم تشب لهم نار يوم القيامة في عرصات المحشر فيؤمرون باقتحامها , والله يعلم من خلقه منهم للجنة فيقتحمونها فتكون عليهم برداً ويذهب بهم ذات اليمين , ويعلم من خلقه منهم للنار فيمتنعون من دخولها فيذهب بهم ذات الشمال , ذكر ذلك ابن كثير في تفسير قوله تعالى: " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً " الآية [ الإسراء:15 ].
وقال: إنه جاءت بذلك أحاديث منها الصحيح , ومنها الحسن , ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن ؛ وإذا كانت أحاديث الباب متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها.
فقال أحد الحضور: هذا تكليف والآخرة دار جزاء فهي يوم الدين.
فقال له شيخنا: هل أنت على بصيرة من قولك هذا ؟ قال : نعم.
قال الشيخ محمد الأمين: قال تعالى في سورة القلم: " يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ " الآية [ القلم:42 ] , أي يوم هذا يا معشر الحضور ؟ وهل كان هذا تكليفاً في عرصات القيامة بنص كتاب الله ؟
وأيضاً , قد ثبت في الصحيح أن المؤمن يسجد لله يوم القيامة , وأن المنافق لا يستطيع السجود , وتكون ظهور المنافقين مثل صياصي البقر , أليس هذا بتكليف في عرصات القيامة ؟
قال أحد الحضور: أليس بالإمكان حمل الخاص على العام ؟ لأن الخاص يقضي على العام عند الجمهور ؛ فقوله تعالى: " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً " الآية [ الإسراء:15 ]. دليل عام , والأحاديث الواردة في أشخاص معينين دليل خاص , فما أخرجه دليل خاص خرج من العموم , وما لم يخرجه بقي على عمومه داخلاً فيه .
قال شيخنا: إن هذا التخصيص لو قلنا به لأبطل ذلك حكمة العام ؛ لأن الله تعالى تمدح بكمال الإنصاف , وأنه لا يعذب أحداً حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل له في دار الدنيا , فلو عذب أحداً من غير إنذار لاختلّت تلك الحكمة التي تمدَّح الله بها , ولثبتت لذلك المعذب الحجة على الله التي أرسل الرسل لقطعها كما بينه تعالى في سورة النساء: " رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ " الآية [ النساء:165 ].
وهذه الحجة التي أرسل الرسل لقطعها بيّنها في آخر سورة طه بقوله تعالى: " وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى " [ طه:134 ] , وقال تعالى في سورة القصص: " وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " [ القصص:47 ].
فيتعين بكل هذه الحجج عذر أهل الفترة بفترتهم في الدنيا , وأنهم ممتحنون يوم القيامة , ولا يعلم من يقتحم منهم النار ممن يمتنع إلا الله الذي خلقهم , والعلم عند الله تعالى هو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم أن الشيخ عبدالله الزاحم قد نصح بعض الحضور لهذه الجلسة قائلا : إن من نصيحتي لك أن لا تتكلم في مجلس فيه هذا الرجل الذي تسلح بآيات كتاب الله ، ينظر إليها كأنها بين عينيه ، فلا يؤمن على أحد عارضه أن يرميه بآية تخرجه من الملة ، نسال الله السلامة والعافية
منقول للفائدة