شرح كتاب (منهج الدعاة) لسلمان حازم الحكيم
الكتاب الأول (التربية الإيمانية)
الحلقـة الأولي
مقـدمـة
طالب الحق يكفيه دليل وصاحب الهوى لا يكفيه ألف دليل لأن الجاهل المنصف بالطلب دوما في وصول وصاحب الهوى وان طلب ليس لناعليه سبيل.
إنّ الشرط الأساسي لنهضة الأمّة – أي أمّة كانت – أن يتوفر لديها المبدأ الصالح الذي يحدد لها أهدافها وغاياتها ويضع لها مثلها العليا، ويرسم اتجاهها في الحياة، فتسير في ضوئه واثقة من رسالتها مطمئنة إلى طريقها متطلعة إلى ما تستهدفه من مثل وغايات، مستوحية من المبدأ وجودها الفكري، وكيانها الروحي.
ونحن نعني بتوفر المبدأ الصالح في الأمة : -
وجود المبدأ الصحيح(أولاً)
وفهـم الأمـة لـه (ثانياً)
وإيمـانـها بـه (ثالثاً)
فإذا استجمعت الأمة هذه العناصر الثلاثة فكان لديها مبدأ صحيح تفهمه، وتؤمن به، أصبح بإمكانها أن تحقق لنفسها نهضة حقيقية، وأنتوجد التغيير الشامل الكامل فيحياتها على أساس ذلك المبدأ، فما كان الله ليغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم كما دل على ذلك التنزيل الحكيم .
لماذا أنا في هذا الكون ؟
كل انسان يسعي في هذه الدنيا لغاية من الغايات ايا كانت رسالته التي يحمل وغايته التي يقصد فمسألة تحديد الغاية هي أهم الامور التي ينبغي علي السالك أن يدركها وأخطر القضايا التي يلزمه ان يفهمها وتظهر أهمية قضية الغاية لما يلي
** ان تحديد الغاية يترتب عليه تحديد طبيعة الطريق لان الغايات قد تلتبس بالاهداف والوسائل ومن هذا الخلط ينشأ الحيد عن الغايات أو تغيي أمور قاصرة تنحرف بالانسان عن المنهج السليم.
فالغاية هي المبدأ السامي الذي منه تحدد توجهات الانسان وميوله ومنه تنطلق الاهداف العريضة للافكاروالافعال والتوجهات الانسانية
والاهداف هي مجموعة الافكار والافعال التي يطمح الانسان الي الوصول اليها فالهدف هو الطريق أو الجسر الذي نحقق من خلاله غايتنا
والوسائل هي الادوات والافكار العملية والخطط التنفيذية التي يتوصل بها الي تحقيق الاهداف
والخلط بين هذه الامور الثلاثة أحد أهم الأسباب في اختلاف المناهج واضطراب الافكار ويظهر ذلك من خلال أمور عدة:
1-عند التعارض بين هذه الأمور الثلاثة ينبغي تقديم الغاية علي الهدف والهدف علي الوسيلة فالغاية توقيفية ثابتة وهي ارضاء الله تعالي والاهداف كذلك عبادة وعلم ودعوة وجهاد والوسائل منها ما جعله الشارع الحكيم ثابتا لا يتغير ومنها ما جعله خاضعا لظروف المجتمعات تتغير بالزمان والمكان والاحوال .
فاذا تعارض هدف من الأهداف مع الغاية العظمي فلا يعول عليه والغاية تضبط المسير فاذا اجتهد رجل في طلب علم من العلوم المحرمة كالسحر مثلا وقال طلب العلم عبادة فلا يقبل منه وان كان حسن النية لأن هذا الهدف يخالف الغاية العظمي وهي ارضاء الله تعالي وقد حرم السحر ولعن فاعله .
2-وضوح الرؤية في كل واقعة من الوقائع فكثير من الناس وكثير من التجمعات والحركات من يضخم الوسائل حتي تصبح أهدافا ثابتة أو يحقر الأهداف حتي تغدو وسائل مكملة .
فالأول كالذي يعقد الولاء والبراء علي سنة من السنن وهي وإن كانت سنة ثابتة لكنها لا تصل إلي ان تكون سببا للتزكية المطلقة أو البراءة المطلقة
والثاني كالذي يجعل من طلب العلم نافلة من النوافل غير مرادة لذاتها وإنما هي بقدر ما تخدم عبادة أخري كالدعوة إلي الله مثلا بل يمكن الاستعاضة عنها بوسائل اخر.
3-الموسوعية في التفكير بحيث لا يحصر الانسان نفسه في هدف من الأهداف أو في وسيلة من الوسائل فيصبح مشوه الفكر منحرف المنهج كأن يقصراهتمامه كله علي الأعمال الخيرية أو طلب العلم أو نشر الدعوة وهذه كلها تكاليف شرعية مطلوبة من الجماعة الواحدة بل والشخص الواحد .
4-الشمولية في العمل بحيث يختار من الأعمال أنسبها ومن الوسائل أحكمها فلا يغلب وسيلة علي أخري إلا لمصلحة راجحة لا أن تفرض عليه هذه الوسيلة أو تلك لقصور نظره عن رؤية غيرها وتعديها الي ما فيه النفع والمصلحة وكثيرا ما تنحرف الدعوات إذا كانت وسائلها ردة فعل لإفرازات الواقع الذي تحياه بدلا من أن تكون علاجا لهذا الواقع فيحدد لها أعداؤها متي تثور ومتي تهدأ ومتي تنتشر وكيف تنتشر.
اولا الغاية : - تختلف غايات الناس حسب ميولهم النفسية ودوافعهم الشخصية وثقافاتهم الاجتماعية.
فالانسان الذي يجعل غايته العظمي هي الطعام والشراب تكفيه وظيفته يخرج اليها في الصباح ويعود في المساء
ولايأبه لغير هذا العمل من الواجبات لأن الطعام والشراب هما وظيفته التي يحيا من اجلها.
-والذي يجعل غايته الامن والسعادة في الدنيا يضيف الي عمله عملا آخر ويحرص علي اختيارالزوجة الجميلة والمسكن المترف .
ويجتهد أن يوفر لأولاده العيش الرغيد والمال الوافر وربما علمهم بعض الأخلاق ورباهم علي شئ من القيم حتي ينجو من وعيد الدعاة أو لقناعته أن هذه الحياة الجميلة لا تتم علي أكمل الوجوه الا ببعض القيم والمبادئ التي تحقق له الطمئنينة والسعادة وربما أضاف بعض الأعراف والعادات التي تحفظ عليهم علائقهم الاجتماعية.
-والذي يجعل غايته في الوجود ان يصنع لنفسه مجدا شخصيا لا يشغله إلا ان يكون ناجحا أيا كان شكل هذا النجاح لا يهمه قيمته ولا تعنيه ثمرته غير ما يجنيه من أموال أو يحققه من شهرة أو منصب بين الناس أو تخليد لاسمه في ذاكرة التاريخ ومن اقرب الأمثلة علي ذلك المثل الذي يعلمه بعض الاباء لابنائهم عند دخولهم الجامعات ( لا تدخل كلية البشر وتكون ادني الناس فيها وادخل كلية الحمير وكن افضل حمار فيها ) فالمهم أن تكون ناجحا أيا كان شكل هذا النجاح وإن كان هذا النجاح لا يقدم للشخص شيئا ولا يقدم لأمته نفعا سوي بعض الأموال والمظاهر التي يجنيها من تميزه علي أقرانه ولو كان حمارا بين الحمير!
-ومن الناس من يتعدي هدفه نفسه فيجعل غايته هي النهوض بالمجتمع فلا يرضي أن يكون عضوا زائدا في أمته يساوي وجوده غيابه لابد أن يضيف شيئا إلي هذه الحياة ليشعر أنه حيا وأن يقدم إلي الناس نفعا ليشعر أنه واحد من البشر
إما في الجانب الاقتصادي فيبذل جهده ليعم الرخاء ويقضي علي الفقروالطبقية والرشوة والربا أوالمجال الاجتماعي فيجعل رسالته القضاء علي الفساد الاخلاقي والقيم الخاطئة أوالمجال الصحي فتكون غايته محاربة المرض أو الثقافي فيقضي علي الجهل أو السياسي فيرفع من شان وطنه بين الامم .
-ومن الناس من يكون هدفه من هذه الامور هو سعادة الانسان فتكون قضيته هي الحرية والكرامة وحقوق الانسان ومن هذا المنطلق يسعي للقضاء علي الجهل والفقر والمرض و....
وهذه الامور منها ما يصلح ان يكون هدفا من أهداف الانسان ونشاطا مننشاطاته ومنها ما لا يصلح لشئ علي الاطلاق ولكنها كلها ما يمكن أن يكون هدفا وما لا يمكن لا تصلح أن تكون غاية للانسان .
فغاية الانسان هي وظيفته التي خلق من أجلها ورسالته التي يحيي لتحقيقها وهذه الرسالة هي التي تحدد قيمة الانسان فكلما هبط الانسان بهذه الرسالة أو اجتزأ من هذه الغاية كلما قلت قيمته وإن كان يشار إليه بالبنان وكلما سمي بهاكلما ارتفعت مكانته ليصبح في مصاف الكبار وإن كان مجهولا في دنيا الناس.
حقيقة الانسان
الانسان كائن مركب من مواد ثلاث عقل وجسدوروح تشترك جميعا في الفكر والسلوك وكل نشاط من نشاطات الحياة وقد جعل الله لكل مادة من هذه المواد الثلاثة قدره الذي يناسبه وحده الذي لا يتعداه .
فالجسد محله الجوارح وغذاؤه أنشطة الحس والروح محلها القلب وغذاؤها الايمان والعقل محله الدماغ وغذاؤه العلم .
وأي دعوة تغفل واحدا من هذه العناصر الثلاثة هي دعوة منحرفة باطلة
فأي دعوة تخاطب العقل وحده هي دعوة عرجاء.
وأي دعوة تخاطب الروح وحدها هي دعوة عرجاء.
وأي دعوة تخاطب الجسد وحده هي دعوة عرجاء.
فالحضارات الغربية عندما أرادت أن تلغي هذه الحقيقة وتتجاهل مفهوم الروح في شتي ثقافاتها حتي في الصق العلوم بها وهو علم النفس فجعلته علما ماديا قائما علي تحليل السلوك وما يؤثر فيه من صفات حيوية أو ثقافية اواجتماعية لتتنصل من كل صلة لمفهوم الروح بحقيقة الانسان أقول عندما فعلت الحضارة الغربية ذلك جنت ثمرة هذا الانحراف تفسخا اجتماعيا وانحلالا اخلاقيا القي بظلاله علي كل معالم الحياة .
ففي المجال الاقتصادي اعتماد علي الكفاءات الاجنبية لانه لا دافع الي العمل والنجاح .
وفي المجال الاجتماعي أصبح دور الاسرة هامشيا واذا قامت كانت أمراشكليا لا روح فيه ولا ترابط بين افراده .
وفي المجال الاخلاقي زادت حالات الانتحارالي حد غير مسبوق بسبب الخواء الروحي الذي يخيم علي حياة الفرد.
وفي المجال السياسي لا تقوم سياستها الا علي فوائد القروض أو آثار الاستعمار أو ثمار التكنولوجيا التي يقدمها لهم الاجانب من العلماء أو العمال الذين يسيرون مصانعهم ويديرون معاملهم فيبنون لبلادهم المجد ويصنعون لدولهم الحضارة هذه هي الحقيقة ودعك من الأغبياء الذين يسيرون وراء زيف المادة وبهرج التقدم ووهم الحضارة الغربية المعاصرة .
ومثلها تلك العقائد الشرقية العقيمة التيتجاهلت مطالب الجسد وجعلت الانسان راهبا لا صلة له بمتطلبات عقله أو حاجات جسده حتي رأينا عند بعض النصاري من يتقرب الي ربه بنجاسة الجسد وعدم الاغتسال عقدين أوثلاثة وعدم نكاح طبقة القساوسة والرهبان وتعذيب الجسد عند الهندوس الي حد المشي علي الزجاج والنوم علي النار وغير ذلك من الديانات والعقائد الباطلة .
محل الغايةالانسان طوال سيره في الحياة ليس له سوي وسيلتين روح وجسد فلا يستطيع الانسان أن يحيي جسدا بلا روح الا بتدمير نفسه وإهلاكها بالشهوات والاهواء ولا يستطيع كذلك أن يحيي بروحه وحدها فإن لجسده مطالب ولجوارحه حاجات ولكن حكمة الله تعالي اقتضت أن يجعل من العقل حكما يزن العلاقة بين الجسد والروح قانونين لتحقيق سنة الابتلاء والامتحان في الأرض .
القانون الاول التناقض بين الطبع والتكليف فمتطلبات الجسد مناقضة لمتطلبات الروح الروح تدعو الي الايمان والعملوالجسد يدعو الي الدعة والراحة فالعلاقة عكسية بين حاجات النفس وحاجات الروح .
القانون الثاني أن الانسان محتاج الي تلبية حاجة الجسد وتلبية نداء الروح وهنا يقوم النزاع بين المصلحتين مصلحة الجسد ومصلحة الروح بين المادة والمعني العاجل والاجل الدنيا والاخرة فالروح ذات مطالب علوية فمن غلبها صار علويا سماويا والجسد مطالبه سفلية فمن غلبه صار سفليا ارضيا طينيا لهذا كان واجب الانسان أن يتزود لجسده بقدرما يحفظه ويبقيه ولا يزيد علي ذلك حتي لا ينتقص من حظ الروح فاذا أخذ الجسد هذا القدر كان عونا للروح علي زادها وإن زاد عنه خربها وصرفها الي تحقيق شهواته ونزواته والعقل هو الميزان الذي يزن الامور بينهما حتي لا تنحرف الروح او يطغي الجسد
وغاية الانسان فكرة في عقله يظهر أثرها روحا تسري في فؤاده واستقامة تصبغ جوارحه فالعقل بمثابة لسان هذا الميزان فكلما كانت غايته سليمة كلما كان أثرها في الروح والجسد كبيرا .والعقل حين يقوم بهذه الوظيفة ينطلق من غاية الانسان التي بها يقيس الحقائق ويبني التصورات في النفس والكون والحياة ويظهر دورهذا الميزان العقلي في وظائف ثلاث
الوظيفة الاولي إدراك المصدر ما الانسان ؟ ذالك الكائن المركب البالغ التعقيد الذي يحمل بين جنبيه طاقات هائلة وقدرات متنوعة ولماذا وجد علي هذه الارض ؟ وما هذا الكون الفسيح بحار وانهار وفيافي وأشجار كائنات لاحصر لاعدادها ومخلوقاتلا وصف ابلغ من النظر اليها فاذا اطلق بصره الي عنان السماء وجد بناءا محكما ودونهكونا فسيحا شهب وكواكب ونجوم ومجرات كل يؤدي دوره في تناسق عجيب لايزيغ لحظة ولاينحرف قيد انملة فمن اين أتي هذا الوجود ؟ وماحكمة خلقه علي هذا النسق العجيب الفريد؟
والوظيفة الثانية إدراك المصير ومن الغاية أيضا إدراك مصير هذا الخلق وما لهذا الصنع هل هو البناء والعمار ام الخراب والدمار وما مصير الانسان العاقل الوحيدبين هذه المخلوقات لماذا يموت لماذا لا يخلد في هذه الحياة واين يذهب بعد الموت ؟
والوظيفة الثالثة ادراك الطريق يعيش الانسان في هذه الحياة مدة محدودة لا تتجاوز في عمر الكون شيئا ومعرفة الغايتين السابقتين تحددان له حقيقة الحياة التي يحياها وطبيعة الطريق الذي يسير فيه .
والعقل حينما يدرك هذه الحقائق الثلاث ادراكا تاما يسير في طريقه علي بصيرة فلا يقلقه تعدد الافكار ولا يحيره تنوع المناهج يمضي في ثبات عند كل خطوة يخطوها لانه يعرف الرسالة التي يحمل والغاية التي يريد .
وسائل الادراكذكرنا أن الانسان يتكون من عناصر ثلاثة عقل وجسد وروح
فالعقل محله الدماغ وغذاؤه العلم والمقصود بالعلم هنا هو كل ما يتلقاه الانسان وفق مبادئ العقل الثلاث مبدأ السببية ومبدأ النتيجة ومبدأ عدم التناقض وكل مبدأ من هذه المبادئ الثلاث له مدرك من المدركات التي ينبغي ان يصوب نظره اليها ويعمقه فيها ليحصل حقيقة العلم وكل علم بعيد عن هذاالثلاثة أو بعضها هو علم منحرف بقدر بعده عنها فاهم وظيفة لاعمال مبدأ السببية هي ادراك المصدر وذلك بالنظر في الايات الكونية وأهم وظيفة لادراك النتيجة هي ادراك المصير وذلك بالنظر في الايات التكوينية وأهم وظيفة لادراك عدم التناقض هي ادراك الطريق وذلك بالنظر في الايات التكليفية .
وحتي يدرك الانسان هذه الغاية جعل الله سبحانه وتعالي له وسائل خمس لادراك كل ما يحوطه في هذا الكون وهي السمع والبصر والشم والذوق والوحواس الجلدية وقد حثنا الله تعالي علي استعمال هذه الحواس وتوظيفها في معرفة الغايةالتي خلق الانسان من اجلها
قال تعالي (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وقال تعالي (قلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَو َالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)
يتبع في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالي