فيما يشبه الحلم انتهيت من قراءة كتاب نحو مجتمع الحرية ،
للدكتور محمد محمد بدرى وكأننى كنت اخوض فى اربعين
قرنا من الزمان ، منذ بدأت سياط الاستعباد ترهق ظهر انسان
الحضارة ، منذ عرف الانسان معنى القيد والذل والاحتقار
إن مرارة السياط التى تسوق العبد تحت شمس محرقة وتنبض
بالدماء والعرق والألم ، تشكل ثورة مغلولة بالقيود وإن كانت
محطمة بائسة تفور بين الروح والجسد، حتى ‘ذا استجمع البركان
غليانه وتسلقت الحُمم رؤس بعضها البعض فى عنف صاخب
، فقد القيد معناه والبؤس سحنته ، تحول الانسان الضعيف الى
قوة جبارة هائلة تلد الاعاصير فى آن وآن تُبدى المصير
إننا نعرف قصصا حكاها التاريخ – وتلك من حسناته- عن
أفراد وأمم وطوائف واجيال مضوا قدما فى مواجهة الاستعباد
غير عابئين بمخاطر الطريق ، فليس اخطر من العبودية شئ
إلا عدم الوعى بها ، وماذا يفقد المستعبد أيفقد حياته ، فلا بأس
بذلك ، ‘ذ معناه أنه يفقد شقائه غير آسف عليه ، ولقد رأينا ماذا
فعلت الثورة الفرنسية وكيف أنها قلبت تاريخ اوروبا وسمعنا عن
الثورة البلشفية وكيف أنها غيرت مجرى التاريخ حينا من الدهر
وعلى الثورتين بنى التاريخ الحديث مجده وشقائه
ولكننى ألفت النظر الى ثورات تحدث فى تاريخ الروح وتلك أعظم
الثورات ، ثورات الانبياء على مدى التاريخ المعروف وليس شرطا
أن تحمل الثورة معنى العنف ولكنه شرط ان تحمل معنى التغيير
والخروج من سيطرة عبودية زائفة ، وظلم مُبير ، وهلاك عريض
كانت تفرضه إرادة ما أو ثقافة ما ، لقد وقفت ارادة الانبياء الإصلاحية
دائما فى مواجهة قوة عاتية ، تملك سطوة مادية واجتماعية وثقافية
وقفت إرادة مجردة من الجبروت والسلطان ، فى وجه إرادة تتمتع بكل
الجبروت والسلطان ، ولكنها وقفت..؟ واستمرت ، وحاولت ، وإن هذا
الوقوف والاستمرار فى حد ذاته هو الرسالة بغض النظر عن النهايات
اللا حقة ، هذا الوقوف نفسه كان رسالة بلغت ابواب السماء فخلدها الله
سبحانه فى كتابه ، وتلمس فيها الناس السلوة والامل
.............................. .....
‘ن تاريخ الاصلاح والثورة لا يقتصر على النفوس العظيمة ، نفوس
لانبياء ، ولكنه ايضا ولد بين البشر العاديين أولئك البسطاء الذين
تخيرتهم العدالة لعرسها المشهود ، ووهبتهم الحياة التى تختار الموت
والموت الذى يختار الخلود ،وتماوج أمام عينى مشهد سعيد بن جبير
وهو يُذبح امام الحجاج من الوريد الى الوريد ، فلا يحفل برقبته ولكن
بالناس من بعده ، وهو يقول فى دعائه الاخير : اللهم لا تسلطه على أحد
بعدى ، ولقد استجاب الله دعوته فهلك الحجاج بعده بشهرين تقريبا
ولما بلغ موت الحجاج ابراهيم النخعى فقيه التابعين بكى من الفرح
ولما بلغ الخبر الحسن البصرى سجد لله شكرا وكان مختفيا فظهر
وصورة اخرى لسعيد بن المسيب امام العلماء وهو يُجلد فى المدينة
لأنه رفض مبايعة خلفاء بنى امية ، بينما يجهر ابو حنيفة فى قوة
وثبات بتأييد ثورة محمد النفس الزكية ، حتى قال له تلميذه : والله
ما انت بمنتهى حتى توضع الحبال فى أعناقنا ، اما سعيد بن المسيب
فكان يعلن فى السوق :إن بنى امية يُجيعون الناس ويشبعون الكلاب
وضُرب مالك حتى خُلعت يده لأنه افتى بما يخالف سياسة الحكام
وكان طاووس عالم اليمن يقول إن الحجاج كافر ، وسأل ابوجعفر
المنصوروكا ن الخليفة وقتذاك سفيان الثورى : لما لا تأتينا فقال
الثورى : ان الله نهى عنكم فقال : ولا تركنوا الى الذين ظلموا...
وكانت اسماء بنت ابى بكر تشجع ابنها عبد الله ابن الزبير على قتال
الظلمة ، بل حتى عندما ايقنت انه مهزوم طلبت منه ان يستمر وان
يموت كما مات اصحابه ، وكانت تقول للحجاج فى وجهه : انت
كذاب ومُبير، وسأل المنصور ابن ابى ذئب وكان من اكابر العلما
عن رأيه فى حكم المنصور وكانوا عند الكعبة فأشار ابن ابى ذئب
الى الكعبة وقال: ورب هذه البنية انك لجائر ،
ودخل المهدى مسجد النبى صلى الله عليه وسلم فقام الناس عدا ابن ابى
ذئب فقالوا : قم هذا امير المؤمنين فقال: انما يقوم الناس لرب العالمين
وكان العلماء فى هذا الزمن يقاطعون اى عالم يدخل على الحكام ويجلس
معه او يتولى وظيفة عنده حتى لو كان القضاء
بل كانوا يحاربون بالسيوف اذا قامت ثورة عادلة يقودها من هو موثوق بعدله
إن هناك عشرات بل مئات الصور والمشاهد التى تجعلك تشعر انك
سليل أمة مناضلة لاترضى بالاستبداد ، ولكن هذا التاريخ مختفى لقد
حرصت أيادى عديدة أن تعبث بنا وبثقافتنا وكان أقصى مناها ان نظل
جهلاء تافهين ، لأن هناك من ينتفع بجهالتنا وتفاهتنا ، كما أن فقرنا
بضاعة اخرى ورأها سلسلة طويلة من المنتفعين والمرتزقين ،
انها مؤامرة كبرى ، أكبر حتى مما تتصور ، جزء منها منظم مدروس
وجزء يولد من العشوائية ، فالوحوش تخطط لاقتناص الفريسة ، ولكن
عندما تسقط الفريسة فإن النسور لا تمنع نفسها عن الوليمة الملقاة فى العراء
حتى إذا اسدل الليل ستائره الكثيفة ، تسلل فى الظلام لصوص جُدد
حتى إذا استشرى التعفن فى أوصال الفريسة انتجت سُراقها ، كتائب من
الدود تحتشد فى ساحة الفناء
.............................. ...............
ايها القارئ لم اتحدث معك بعد عن الكتاب ، الذى استغرق سبع سنوات
من الإعداد حتى أن كاتبه يقول عن حصيلة عمله : وكأنى ادفع الاعداء
بيدى المنفردة ....


أن الدراسة التى أعدها الدكتورمحمد بدرى من مطبوعات دار الصفوة
دراسة تتناول سيكولوجية الاستبداد والاستعباد وتتناول
الوسائل التى يستخدمها الاستبداد وهى تعاويذه السحرية ،
وايضا دجل الإعلام السلطوى..وخرافة الحرية فى
الغرب، وبناء الانسان الرسالى ، وثقافة النقد والحوار ، والتلاعب بالعقول
واطواق النجاة الموهومة ، وعشرات من الاسئلة المغلقة والاجابات العلمية
‘ن هذا الكتاب يفضح ..العار.. الذى نسميه مجتمعنا ، ويكشف اللعبة الكبيرة
التى تُلعب على هذا الشرق ، ويتكلم بوضوح عنى وعنك وعنهم ، باسلوب سهل
واضح عذب ولكنه يفيض ألم وأمل ... ثم إنه فى النهاية من انتاج عبقرية عربية
تعشق تراب هذه الامة الاسلامية رغم كل السهام والجراح
..وتغالط كل هذا الواقع الاليم فتبتسم

راهب الليل لا ينام .... والجوى عنه لم ينم
عاشق الروح مُستهام... ضمه الليل والألم
كلما استقبل السهام .....غالط الدمع وابتسم
والحمد لله رب العالمين