إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد :

فإن الأصل في تلقي العبادات ومنها الصلاة ، هو الوحيين ، كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهذان الوحيان يفهمان بفهم الصحابة رضوان الله عليهم .
وها أنا مبتدأ في بحث مسألة الإصبع في التشهد ( تحركها ، وصفة قبضها ، .. ) ، على طريقة أهل الحديث ، رفع الله قدرهم ، وأعلى ذكرهم ، فأقول مستعيناً بالله :

الأصل في باب الصلاة ، قول الله تعالى : ( وأقيموا الصلاة ) ، ومن السنة ما رواه مالك بن الحويرث عن النبي ، أنه قال : ( صلوا كما رأيتمون أصلي ) .

فائدة : الأصل في أعمال الصلاة أنها للوجوب .
قال الإمام ابن حبان معلقاً على حديث مالك بن الحويرث : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) لفظة أمر تشتمل على كل شيء كان يستعمله صلى الله عليه وسلم في صلاته ، فما كان من تلك الأشياء خصه الإجماع ، أو الخبر بالنقل ، فهو لا حرج على تاركه في صلاته ، وما لم يخصه الإجماع ، أو الخبر بالنقل ، فهو أمر حتم على المخاطبين كافة ، لا يجوز تركه بحال .

عن وائل بن حجر في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال _ في حديث طويل _ وفيه : ( ... فوضع _ أي النبي صلى الله عليه وسلم _ كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى ، وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه وركبته اليسرى ، ثم قبض بين أصابعه فحلق حلقة ، ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعوا بها ، ثم جئت بعد ذلك في زمان فيه برد فرأيت

الناس عليهم الثياب تحرك أيديهم من تحت الثياب من البرد ) .

ومما جاء من آثار في الباب :
_ عن إربدة التميمي أنه قال : " سئل ابن عباس عن تحريك الرجل إصبعه في الصلاة ؟ فقال : ذلك الإخلاص " .
_ وعن مجاهد قال : " تحريك الرجل إصبعه في الصلاة مقمعة للشيطان " .
تنبيه : أغلب الأحاديث والروايات والآثار جاء فيها ذكر الإشارة فقط دون تحريك ، وهذه الرواية وغيرها من آثار أفادت معنى زائداً وهو التحريك ، والإعمال أولى من الإهمال ، ولا منافاة بين الإشارة والتحريك لا شرعاً ، ولا لغةً ، ولا حساً وعقلاً . فإنه يصدق على من حرك إصبعه أنه أشار به والله أعلم .

قال الإمام القرطبي في تفسيره : وذهب أكثر العلماء من أصحاب مالك إلى تحريكها .

متى يحركها ؟
الصواب والله أعلم أنه يحركها من بداية تشهده إلى أن ينتهي منه قبل التسليم ، وقد جاء في حديث وائل المشار إليه آنفاً قوله : ( يحركها يدعوا بها ) والتشهد كله من أوله إلى آخره دعاء ، إما دعاء ثناء ، وإما دعاء طلب . ودليل ذلك قول الله تعالى : (( وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم .. )) وهو صلوات الله عليه لم يكن في دعاءه طلباًً واستجاب الله له ، وهذا دليل على أن من الدعاء ما يكون ثناء .
ويشهد لذلك قول الله تعالى : ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) .
_ وقول الرسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم : ( دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له ) أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي و الألباني.
_ وأخرج ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أفضل الدعاء الحمد لله ، وأفضل الذكر لا إله إلا الله ) .
ويرى بعض العلماء تحريكها عند ذكر الله عز وجل فقط ، وهذا مما لا دليل عليه ، بل هو تحكم ، والله أعلم .
ويرى غيرهم تحريكها عند دعاء الطلب ، وهذا تحكم لأن لفظ الدعاء يشمل دعاء الثناء ، ودعاء الطلب فلا يجوز قصره على أحدهما إلا بقرينة ، ولا قرينة والله أعلم .

أين ينظر المصلي وهو في التشهد ؟
ينظر المصلي وهو في تشهده إلى سبابته التي يحركها ، لا إلى موضع سجوده .
فعن الزبير رضي الله عنه أنه قال في صفة تشهد النبي صلى الله عليه وسلم : ( ... وأشار بالسبابة ولم يجاوز بصره إشارته ) .

كيف يحركها ؟
سئل الإمام أحمد في ذلك فقال : يشير بها شديداً . ورأيت الشيخ أبا إسحاق الحويني يحركها بسرعة اتجاه القبلة ، ويقول : جاء في الحديث : ( يحرِّكها ) ، ثم قال : هكذا علمني إياها الألباني رحمة الله عليه .

إلى أي جهة يحركها ؟
عن ابن عمر في صفة تشهد النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( ويشير بإصبعه التي تلي الإبهام في القبلة ) .
يحركها اتجاه القبلة ، فلا يخفظها كثيراً حتى يكون رأس السبابة إلى الأسفل ، لأن هذا سينافي توجيهها إلى القبلة ، والله أعلم .

ماهي صفة قبض الأصابع أثناء التشهد ؟

للقبض في التشهد صفتان :
الأولى : ما جاء في حديث وائل بن حجر ، قال : ( وكان يحلق بهما حلقة ) ، ولفظ البيهقي ( ثم عقد الخنصر والبصر ثم حلق الوسطى بالإبهام وأشار بالسبابة ) .

قال الشيخ ابن عثيمين مبيناً هذه الصفة : يقبض الخنصر والبنصر والوسطى ويحلق الإبهام مع الوسطى وتبقى السبابة مفتوحة لا يضمها .

الثانية : ماجاء عن ابن عمر ، أنه قال : ( ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثة وخمسين وأشار بالسبابة ) .
قال الشيخ الألباني : وقد فسرت هذه اللفظة بأن يعقد المصلي الخنصر والبنصر والوسطى ، ويرسل الإبهام إلى أصل المسبِّحة .
وقال الشيخ ابن عثيمين مبيناً هذه الصفة : يضم الخنصر والبنصر والوسطى ويضم إليها الإبهام وتبقى السبابة مفتوحة .

قال الشيخ الألباني : ولا تفضيل بين الصفتين بل كل منهما سنة ينبغي العمل بكل منهما أحياناً .
وقال الشيخ علي قاري : فينبغي للسالك أن يأتي بأحدهما مرة وبلأخرى مرة فإنه بالتحري أحرى .

فائدة : تحريك الإصبع والإشارة بها يكون في التشهدين جميعاً .
فجاء في حديث ابن الزبير أنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الاثنتين أو في الأربع يضع يديه على ركبتيه ، ثم أشار بإصبعه ) .

مسألة :
إذا انتهى المأموم من تشهده ، ولا زال الإمام في تشهده ، فهل ينزل ويخفض المصلي إصبعه ؟
الجواب : قال الشيخ الألباني : ففيه دليل على أن السنة أن يستمر في الإشارة ، وفي تحركها ، إلى السلام ا.هـ والظاهر أنه ينزل إصبعه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحركها يدعوا بها ، والقاعدة الأصولية تقول الحكم يدور مع علته وجودا وعدماً ، ألا وقد انتهى المأموم من الدعاء فله أن ينزلها _ إن لم يكن حافظاً لأدعية النبي في ذاك الموطن ، وإن كان حافظاً فيدعوا بما ورد إلى أن يسلم الإمام ولا ينزلها _ وكلام الشيخ الألباني يوجه على هذا ، والله أعلم .

من فوائد تحريك الإصبع والإشارة بها في التشهد :
 أن في ذلك توحيد وإخلاص ، وهذا مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن إشار بإصبعيه في التشهد ، قال له : أحِّد أحِّد . وأصلها وحد ، وهو أمر بتوحيد الله وتوحيد الإصبع _ وسيأتي معنا قريباً _ . وكما مر معنا لما سئل ابن عباس عن تحريك الرجل إصبعه في الصلاة ؟ قال : ذلك الإخلاص . وسنده حسن .
 أن في ذلك التزام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، كما جاء في حديث مالك بن الحويرث قوله صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) . وقال جل في علاه : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) . قال الإمام أحمد : الفتنة الشرك .
 أن ذلك أدعى لإجابة الدعاء وغفران الذنوب لما فيه من التزام بالسنة .
 أن ذلك يؤذي الشيطان ويقمعه . " كان ابن عمر إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ، وأشار بإصبعه ، وأتبعها بصره ، ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لهي أشد على الشيطان من الحديد ) " .
 أن تحريك الرجل إصبعه ، والإشارة بها في التشهد مبعد للسهو فيه .
قال ابن عمر : " هي مذبة للشيطان لا يسهو أحد وهو يقول هكذا _ ونصب الحميدي إصبعه _ " .

من المناهي الشرعية في التشهد :
_ عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : رأى النبي رجلاً يدعوا بإصبعيه _ في التشهد _
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أحِّد أحِّد ، وأشار بالسبابة ) ، وفي رواية :
( وحِّد وحِّد ) .

_ وعن عبد الله بن دينار ، قال : " رآني عبد الله بن عمر وأنا أدعوا وأشير بإصبعين ، إصبع من كل يد فنهاني " .


نصيحة عزيزة ودرة نفيسة :

ينبغي للمسلم أن يعتني كل العتناء بحفظ ذكر التشهد لفظاً لفظاً ، وحرفاً حرفاً .
قال ابن مسعود : علمني رسول الله التشهد وكفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن ) .

عن الأسود قال : " كان عبدالله _ بن مسعود _ يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن ، فكان يأخذ علينا الألف والواو " .
وعن أبي العالية ، قال : سمع ابن عباس رجلاً يقول حين جلس في الصلاة ، يقول : الحمد لله قبل التشهد . فانتهره ، وقال : ابدأ بالتشهد .

وللتشهد صيغ كثيرة أصحها باتفاق المحدثين تشهد ابن مسعود رضي الله عنه ، قال ابن أم عبد فيه عن رسول الله : ( التحيات لله ، والصلوات ، والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ) .
وأما الصلاة على النبي بعد التشهد ، ودعاء الطلب بعده ، فليس هذا موضع بحثه .

أسأل الله أن ينفعنا بما علمنا ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .

التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان ( 2128 ) ، وهو قول الشيخ الألباني .
حديث صحيح : أخرجه أحمد ( 4/318 ) ، وأبو داود ( 727 ) ، والنسائي ( 1/ 141 و 187 ) ، والدارمي ( 1/ 314 – 315 ) ، وابن الجارود ( 208 ) ، والبيهقي ( 2/ 27 – 28 و132 ) ، وابن خزيمة ( 714 ) ، وابن حبان ( 485 ) .
وصححه ابن حبان كما في خلاصة البدر المنير ( ق 23/1 ) ، وصححه ابن خزيمة ونقله عنه الحافظ في الفتح ( 2/178 ) ، وصححه ابن الجارود ، وابن الملقن ، والنووي في المجموع ( 3/312 ) ، وابن القيم في زاد المعاد ( 1/85 ) ، والألباني في الصحيحة ( 7/ 551 – 554 ) ، وفي الإرواء ( 2/69 ) وقال فيه : إسناده صحيح على شرط مسلم . وصححه أبو إسحاق الحويني في غوث المكدود ( 208 ) .
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ( 3244 ) وإسناده حسنه شيخنا الوليد بن سيف النصر .
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ( 3245 ) وإسناده صححه شيخنا الوليد بن سيف النصر.
(1/404 ) .
سورة الأنبياء ( 87 و88 ) .
الشرح الممتع ( 4/146 ) .
حديث حسن : أخرجه أبو داود ( 1/156 ) ، والنسائي ( 1/187 ) ، وأحمد ( 4/3 ) ، وابن خزيمة ( 1/355/718 ) . وحسنه الألباني في أصل صفة الصلاة ( 3/840 ) .
أخرجه مسلم ( 2/ 90 – 91 ) ، وأبو عوانة ( 2/223 ) ، وأبو داود ( 1/156 ) ، والنسائي ( 1/186 ) ، وأحمد ( 2/65 ) ، كلهم عن مالك به . وكذا أخرجه البيهقي ( 2/130 ) .
سبق تخريجه ص1 .
( 2/131 ) وسنده صحيح . راجع صفة صلاة النبي للألباني .
الشرح الممتع ( 3/144 ) .
أخرجه مسلم وأبو عوانة ( 2/225 ) ، وأحمد ( 2/131 ) .
أصل صفة الصلاة ( 3/850 ) .
الشرح الممتع ( 3/144 ) .
أصل صفة الصلاة ( 3/850 ) .
أخرجه النسائي ( 1/173 ) ، والبيهقي ( 2/132 ) ، وصححه الألباني كما في الأصل ( 3/857 ) .
نقله صاحب الموسوعة الفقهية الميسرة عن الشيخ ( 2/77 ) .
أخرجه أحمد ( 2/119 ) ، وحسنه الألباني في أصل صفة الصلاة ( 3/839 ) .
أثر صحيح : هذه الزيادة على حديث ابن عمر في صفة تشهد النبي صلى الله عليه وسلم أخرجها الحميدي في مسنده ( 1/131 ) ، وأبو يعلى ( 2/275 ) ، وصحهها الألباني في الأصل ( 3/838 ) .
أخرجه النسائي ( 1/187 ) ، والحاكم ( 1/539 ) ، وصححه الذهبي في تلخيص المستدرك ، والهيثمي في مجمع الزوائد ( 10/168 ) والألباني في الأصل ( 3/858 ) .
أخرجه مالك في الموطأ ( 1/217 ) وهو صحيح ، وانظر ما صح من آثار الصحابة في الفقه ( 1/255 ) .
أخرجه البخاري ( 11/47 ) ، ومسلم ( 2/14 ) ، وغيرهم .
أثر حسن : أخرجه ابن أبي شيبة برقم ( 3007 ) ، وانظر ما صح من آثار الصحابة في الفقه . .
أثر صحيح : أخرجه عبدالرزاق في مصنفه ( 2/198 ) ، وابن المنذر في الأوسط ( 3/211 ) ، وانظر ما صح من آثار الصحابة في الفقه .
متفق عليه ، وقد سبق تخريجه .