المجادلة المنبتة
بسم الله الرحمن الرحيم

كنت مغرب اليوم أقلب صفحات الفيس بوك ، فإذا بالجدل على أشده حول موت الوزير الراحل د.غازي القصيبي .
فالبعض يمجد أيامه والآخر يتهمها بتهم عديدة .. وبينهما من يتحرى التوسط في ذلك .. والكل يأتي بما يعزز مذهبه .
أما أنا فأقرأ هذا الجدل المشتعل ، وتجول في ذهني عدد من الأفكار والتحليلات ، وأقول إلى متى ونحن كلما رحل منا من امتلأت كتاباته شغباً على ثوابتنا وقيمنا وأخلاقنا انتدب أقوامُ أنفسهم وأموالهم للدفاع والمجادلة عنه وتكلف التأويلات والتحليلات والتحسينات ، وينقبون في مفردات تراثه عما يتناغم مع بعض الملمَّعات الإعلامية ، ففي هذه الكلمة تجلت روحه الأبية ، وفي هذه العبارة نرى صراعه المستديم من أجل الحريات والتحرر من ربقة التبعية ، وفي هذه القطعة ما أجمل إيمانياته روحانية وتصوفه الداخلي ، ينساق مع هذا كله إصرار على التعامي عن المشاريع الهدمية - التي يتبنونها ويمولونها - لكل ما هو قيمي وثابت .

كنت وأنا أرى هذا السجالات أنزعج كثيراً من هذا التعامي الواضح من قبل محامي ما بعد الممات عن تلق المحطات البارزة والأكبر في مسيرة الراحل ، فهم يعيشون مأتماً ذهنياً يحاول إنزال الرحمات الشعبية على تراث الراحل وجثمانه ..

في الحقيقة بلغ بي التوتر مبلغاً في هذه (المغربية) الغريبة ، حتى جاء وقت صلاة العشاء ، عندها خرجت مسرعاً نحو أجمل الأوتار البشرية في مدينة الرياض وهو الشيخ القارئ ياسر الدوسري وفقه الله ..

دخلت معه صلاة التراويح بصوته التغريدي الجميل لتحلق بي الروحانيات الساحرة والمقامات الرفيعة ، قراءته الجميلة جعلتني أهدئ كثيراً وأتخفف من هموم تلكم التراهات الكلامية والجلسات القضائية الظالمة ..
وبينما أنا في هذا الانسجام الرائع والروحانية الرمضانية .. إذ طرقت مسامعي آية بليغة ، كانت كالصاعقة في معناها وفي تعبيرها وفي دلالتها ، وكأنها جاءت لتخاطبنا في هذا الحدث الصاخب ، وتنادي كل من في هذا الحدث بسؤال عقلي منطقي دقيييق ، لتصل بنا إلى أن ما نقوم به من جدل مستميت لا أثر له البتة ، لأنه لم يقع في محل مغير ، ولا في ميعاد مؤثر ، بل هو جدال متأخر فات أوانه ، جاءت هذه الآية لتسأل كل من نافح وحامى عن أهل الباطل والظلال فتقول :
{ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا }[النساء: ١٠٩]
نعم .. من يجادل الله عن تلك المشاريع الهدمية .. ومن يجادله عن تلك المقطوعات الشهوانية .. من يجادله عن تلك المؤامرات التغريبية .. من يجادله عن تلك الانتهاكات العقدية .. من يجادله عن تلك الأفكار الإفسادية .. من يجادله عن تلك الحرب الخداعية التخييلية ؟ ..

بدأت أتعجب وأتساءل هل يملك هؤلاء الجرأة ليجادلوا الله عنهم يوم القيامة .. قطعاً لا يمكن ذلك .. فذلك اليوم معلومة أهواله وأحواله .. فلا يمكن ذلك أبداً .. إذا فهل مجادلتهم ستفيد ذلكم الراحل ، وهل ما أضافوه على أفكاره من تحسينات معنوية وظنية ستغير مما أملاه عقل الراحل وسطره قلمه من شيء ؟!!
بالطبع لا يمكن ذلك .. فهو بعد مماته يتعامل مع من يعلم بواطن الأمور وظواهرها .. إذن هذا كله لا يفيد شيئا لذلكم الراحل .. فلم العناء !! فنكون كما وصف الحبيب r منبتين لا أرضاً قطعنا ولا ظهراً أبقينا ..
يقول العلامة ابن سعدي حول ذلك :
" هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة الدنيا، ودفع عنهم جدالكم بعض ما تحذرون من العار والفضيحة عند الخلق، فماذا يغني عنهم وينفعهم؟ ومن يجادل الله عنهم يوم القيامة حين تتوجه عليهم الحجة، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون؟ { يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين } " [205] .
تنبهت من هذا السبات التأملي العميق في هذه الآية ، فإذا بالقارئ يتلوا قوله تعالى :
{ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما } [النساء: ١١٤]
عندها قلت لا إله إلا الله .. كل نجوى بني آدم لا خير فيها إلا في هذه الثلاث !! فأين كلام هؤلاء المأتمي من الصدقة القولية ، وهو يروج لباطل وزور في رشفة من خير ؟
أم أين كلامهم من المعروف القولي ، وهم يتهمون كل من ناقد لتراث الراحل بالضيق والتقوقع واللاعقلانية ؟
أم أين هو من الإصلاح بين الناس ، وهم قد أوقدوا قلوب الناس ومشاعرهم بتعظيم من يسعى في هدم أخراهم ؟
فلا صدقة ولا معروف ولا إصلاح .. فهو مما لا خير فيه والله .. ويجد المتابع لذلك من ضياع الوقت والمشاعر مما لا يستحق أن تضيع فيه ..

بعد ذلك عدت من هذه الروحانية التأملية لأجمع ذهني مرة أخرى لأسلك في سياق هذه التلاوة العذبة ، بعد أن شتتني هذه الصدمات الإيقاضية ..
فوالله ما إن جمعت نفسي حتى تهاااااااوت عند عظمة القرآن البيانية ، فيالله ما هذا التماسك المعنوي ، ويالله ماهذا السياق المنطقي :
{ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا } [النساء: ١٢٣ - ١٢٤]
ماذا عساي أن أقول لكم .. ليست الأمور كما نتنمى ونحب ، فمهما تمنت نفوسنا ومهما تطلعت رغباتنا ، ومهما كتبت أقلامنا ، ومهما ترحمت ألسنتنا ، ومهما تباكت عيوننا .. فالأمر ليس كما نحب ، ولا كما نتمنى ، ولا أيضاً كما يتمنى الغربيون النصارى ولا اليهودية العالمية ، ممن استفادوا من تلكم المشاريع الخيرية .. فليس ثمت إلا أمر واحد ، إنها حقيقة أخروية ومعادلة منطقية .. يستوي فيها البشر .. الشريف والوضيع .. الرئيس والمرؤوس .. حقيقة تقول العمل السيء يجازى به صاحبه .. ولا نصير ولا ولي من دون الله ، ومن كان عمله صالحاً فيجزى به أيضا ، ولا يظلم أحد شيئا .. انتهت ..
بعد هذا التهاوي العقلاني والوجداني أطرق رأسي عاجزاً عن التركيز ، حيث عصفت به تلك المعاني القرآنية ..
ثم بعد هذا التصوير والتكييف الدقيق لهذه القضية ، وبعد أن جاء الحكم فيها واضحاً جلياً ، يقول الباري منهياً هذا المقطع العظيم بخلاصة توجيهية فريدة :
{ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا } [النساء: ١٢٥]
الفوز كل الفوز بأن تسلم روحك للرفيق الأعلى وهي محسنة باتباع ملة إبراهيم الخليل .. فهونوا على أنفسكم واربئوا بها فالأمر أبسط من ذلك .. ولن تغير هذه السجالات الدفاعية من الواقع الأخروي شيئاً .. والسعيد من وعظ بغيره ..
يقول السعدي رحمه الله :
" وهذا من أعظم ما ينفع العبد تدبره، وهو خاصة العقل الحقيقي. بخلاف الذي يدعي العقل، وليس كذلك، فإنه بجهله وظلمه يؤثر اللذة الحاضرة والراحة الراهنة، ولو ترتب عليها ما ترتب . والله المستعان " [205] .
وهنا ختم القارئ المبارك - حفظه الله - قراءته لهذه الليلة الرطبة .. فلما انتهت صلاتنا .. أخذت نفساً عميقاً ثم رفعت رأسي وقلت :
سبحان الملك القدوس .. سبحان الملك القدوس .. سبحاااااان الملك القدوس رب الملائكة والروح ..


محمد العلي
رمضان 1431