تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 23 من 24 الأولىالأولى ... 131415161718192021222324 الأخيرةالأخيرة
النتائج 441 إلى 460 من 461

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #441
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْكَهْفِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4031 الى صـ 4045
    الحلقة (440)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [17] وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله [ ص: 4031 ] من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .

    وترى الشمس إذا طلعت أي: صعدت عند طلوعها: تزاور أي: تميل: عن كهفهم أي: بابه: ذات اليمين أي: يمين الكهف: وإذا غربت أي: هبطت للغروب: تقرضهم ذات الشمال أي: تقطعهم وتعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال: وهم في فجوة منه أي: سعة من الكهف يصل إليهم الهواء من كل جانب دون أذى الشمس. وقد دلت الآية على أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال. فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف. وإذا غربت كانت على شماله. فيقع شعاعها على جانبيه. يحلل عفونته ويعدل هواءه. ولا يقع عليهم فيؤذيهم. قال الشهاب : تقرضهم من القرض بمعنى القطع. أي: قطع الاتصال بهم لئلا تغبر أبدانهم. قول الفارسي إنه من قرض الدراهم، والمعنى أنها تعطيهم من تسخينها شيئا ثم يزول بسرعة كالقرض المسترد- مردود، بأنه لم يسمع له ثلاثي.

    وفي (الروض الآنف) تقرضهم كناية عن تعدل بهم. وقيل: تتجاوزهم شيئا. من (القرض) وهو القطع أي: تقطع ما هنالك من الأرض. وقوله تعالى: ذلك من آيات الله أي: إرشادهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، وشعاع الشمس والريح تدخل عليهم فيه، لتبقى أبدانهم، آية من آياته الدالة على عنايته وتوفيقه للمخلصين: من يهد الله أي: إلى الحق بالتوفيق له: فهو المهتد ومن يضلل أي: يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه: فلن تجد له وليا أي: ناصرا يلي أمره فيحفظه من الضلال: مرشدا أي: يهديه إلى ما ذكر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [18] وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا .

    [ ص: 4032 ] وتحسبهم أيقاظا وهم رقود خطاب لكل أحد. أي: تظنهم، يا مخاطب، أيقاظا لانفتاح أعينهم، وهم رقود مستغرقون في النوم، بحيث لا ينبههم الصوت. قال ابن كثير : ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى. فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها. وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينا ويفتح عينا. ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد. كما قال الشاعر:


    ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم


    و: أيقاظا جمع يقظ ويقظان. و: رقود جمع راقد. وما قيل أنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود، لأن فاعلا لا يجمع على فعول - مردود بما نص عليه النحاة كما صرح به في (المفضل) و (التسهيل).

    ونقلبهم أي: في رقدتهم: ذات اليمين وذات الشمال أي: لئلا تتلف الأرض أجسادهم: وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد أي: بفناء الكهف أو الباب. وقد شملت بركتهم كلبهم. فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، قال ابن كثير : وهذا فائدة صحبة الأخيار . فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن. وقد قيل أنه كان كلب صيد لهم وهو الأشبه. واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ولا حاجة إليها. بل هي مما نهي عنه. فإن مستندها رجم بالغيب. ووجود الكلب على هذه الحالة من العناية بهم. فكما حفظهم بالتقليب عن إهلاك الأرض، حفظهم عن الأعداء بكلب، ليهابوهم مع هيبة ذاتية لهم. كما قال تعالى: لو اطلعت عليهم أي: فنظرت إليهم، مع غاية قوتك في مكافحة الحروب: لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا أي: خوفا يملأ صدرك، لما ألبسوا من الهيبة. فلا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم وخافهم. وذلك -كما قال ابن كثير : لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله وتنقضي رقدتهم التي شاءها تبارك وتعالى فيهم. لما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة الواسعة. وقوله تعالى:
    [ ص: 4033 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [19] وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا .

    وكذلك بعثناهم أي: وكما أنمناهم تلك النومة، بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم، لم يفقدوا من هيئاتهم وأحوالهم شيئا، ادكارا بقدرته على الإنامة والبعث جميعا. قال ابن كثير : وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين. وقوله تعالى: ليتساءلوا بينهم أي: ليسأل بعضهم بعضا ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيعتبروا، ويستدلوا على عظم قدرة الله تعالى، ويزدادوا يقينا، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرموا به. أفاده الزمخشري .

    وبه يتبين أن البعث علة للتساؤل. ومن جعل اللام للعاقبة، لحظ أن الغرض من فعله تعالى إظهار كمال قدرته: قال قائل منهم كم لبثتم أي: رقدتم. اعترافا بجهل نفسه أو طلبا للعلم من غيره، وإن لم يظهر كونه على اليقين: قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قال ابن كثير : كأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار. ولهذا قالوا: أو بعض يوم. وقال المهايمي : فمن نظر إلى أنهم دخلوا غدوة وانتبهوا عشية، ظن أنهم لبثوا يوما، ومن نظر إلى أنه قد بقيت من النهار بقية، ظن أنهم لبثوا بعض يوم. فهم مع ما أعطوا من الكرامات يتكلمون بالظن. فالولي يجوز أن يتكلم بالظن فيما ليس من الأصول، ويجوز أن يخطئ. وقال الزمخشري : جواب مبني على غالب الظن. وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب . وأنه لا يكون كذبا. وإن جاز أن يكون خطأ.

    قالوا ربكم أعلم بما لبثتم إنكار عليهم من بعضهم، وأن الله أعلم بمدة لبثهم. [ ص: 4034 ] كأن هؤلاء قد علموا بالأدلة، أو بإلهام من الله، أن المدة متطاولة، وأن مقدارها مبهم. فأحالوا تعيينها على ربهم: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه أي: المأخوذة للتزود. و(الورق) الفضة: إلى المدينة أي: التي فررتم عنها: فلينظر أيها أزكى طعاما أي: أطيب فليأتكم برزق منه وليتلطف أي: في المبايعة واختيار الطعام. أو في أمره بالتخفي، حتى لا يشعر بحالكم ودينكم: ولا يشعرن بكم أحدا
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [20] إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا .

    إنهم إن يظهروا عليكم يطلعوا على مكانكم: يرجموكم أي: يقتلوكم بالحجارة: أو يعيدوكم في ملتهم أي: يدخلوكم فيها بالإكراه العنيف: ولن تفلحوا إذا أبدا أي: إذا صرتم إلى ملتهم. قال القاشاني : ظهور العوام، واستيلاء المقلدة والحشوية المحجوبين، وأهل الباطل المطبوعين، ورجمهم أهل الحق، ودعوتهم إياهم إلى ملتهم - ظاهر. كما كان في أوائل البعثة النبوية.

    لطائف:

    الأولى: قال الزمخشري : فإن قلت: كيف وصلوا قولهم فابعثوا بتذاكر حديث المدة؟ قلت: كأنهم قالوا ربكم أعلم بذلك. لا طريق لكم في علمه. فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. انتهى.

    ورأى المهايمي أن قولهم: فابعثوا من تتمة حديث المدة. قصد به تفحصها. كأنهم لما أحالوا تعيينها على الله تعالى بقوله: ربكم أعلم بما لبثتم قالوا: هذه الإحالة لا تمنع من طلب العلم بالمدة. ولو في ضمن أمر آخر، فاطلبوه في ضمن حاجة لنا. وهي أن تبعثوا أحدكم [ ص: 4035 ] بورقكم هذه لئلا نحوج إلى السؤال عن المدة. لا سيما في مكان يمنع من الإجابة إلى المسؤول به، فيفضي إلى الهلاك.

    الثانية: قال في (الإكليل): قوله تعالى: فابعثوا الآية، أصل في الوكالة والنيابة. قال ابن العربي : وهي أقوى آية في ذلك.

    قال الكيا : وفيها دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام بينهم بالشركة . وإن تفاوتوا في الأكل.

    الثالثة: دل قوله تعالى عنهم: فلينظر أيها أزكى طعاما على مشروعية استجادة الطعام واستطابته بأقصى ما يمكن ، لصيغة التفضيل. فإن الغذاء الأزكى المتوفر فيه الشروط الصحية يفيد الجسم ولا يتعبه ولا يكدره. ولذلك يجب طبا الاعتناء بجودته وتزكيته، كما فصل في قوانين الصحة.

    الرابعة: قال الرازي: (الرجم) بمعنى القتل، كثير في التنزيل كقوله: ولولا رهطك لرجمناك وقوله: أن ترجمون وأصله الرمي، أي: بالرجام وهي الحجارة. ولا يبعد إرادة الحقيقة في موارده كلها، زيادة في التهويل. فإن الرجم أخبث أنواع القتل. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [21] وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا .

    وكذلك أعثرنا عليهم أي: كما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة، أطلعنا عليهم أهل المدينة حتى دخلها من بعثوه للطعام، وأخرج ورقهم المتقادمة العهد: ليعلموا [ ص: 4036 ] أن وعد الله حق أي: ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم، أن وعد الله بالبعث حق. لأن حالهم في نومتهم وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث: وأن الساعة أي: الموعود فيها بالبعث: لا ريب فيها إذ لا بد من الجزاء بمقتضى الحكمة. ثم أشار تعالى إلى ما كان من أمرهم بعد وفاتهم، وعناية قومهم بحفظ أجداثهم، بقوله سبحانه: إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا أي: على باب كهفهم بنيانا عظيما. كالخانقاهات والمشاهد والمزارات المبنية على الأنبياء وأتباعهم، و (إذ) على ما يظهر لي، ظرف لــ (أذكر) مقدرا. والجملة مستأنفة لبيان ختم نبئهم بما جرى بعد مماتهم، إثر ما أوجز من نبئهم بعد بعثهم والإعثار عليهم، وجعله ظرفا لـ: أعثرنا أو لغيره مما ذكروا ليس فيه قوة ارتباط ولا دقة معنى.

    وقوله تعالى: فقالوا تفسير للمتنازع فيه. وقوله تعالى: ربهم أعلم بهم جملة معترضة. إما من الله ردا على الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين فيهم على عهده صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، أو هي من كلام المتنازعين في عهدهم. كأنهم تذاكروا أمرهم العجيب وتحاوروا في أحوالهم ومدة لبثهم. فلما لم يهتدوا أحالوا حقيقة نبيهم إليه تعالى: قال الذين غلبوا على أمرهم أي: من المتنازعين، وهم أرباب الغلبة ونفوذ الكلمة: لنتخذن عليهم مسجدا أي: نصلي فيه، تبركا بهم وبمكانهم.

    تنبيه:

    قال ابن كثير : حكي في القائلين ذلك قولان

    أحدهما: أنهم المسلمون منهم.

    والثاني: أنهم المشركون. والظاهر أنهم هم أصحاب النفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد » يحذر ما فعلوا. انتهى.

    [ ص: 4037 ] وعجيب من تردده في كونهم غير محمودين، مع إيراده الحديث الصحيح بعده، المسجل بلعن فاعل ذلك. وهو أعظم ما عنون به على الغضب الإلهي والمقت الرباني. والسبب في ذلك أن البناء على قبر النبي والولي مدعاة للإقبال عليه والتضرع إليه. ففيه فتح لباب الشرك وتوسل إليه بأقرب وسيلة. وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك؟ كما قال ابن عباس في قوله تعالى: وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا قال: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قومهم. فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم. فلما طال فيهم الأمد عبدوهم. فهؤلاء لما قصدوا الانتفاع بالموتى، قادهم ذلك إلى عبادة الأصنام. قال الإمام محمد بن عبد الهادي عليه الرحمة، في كتابه (الصارم المنكى) بعد إيراده ما تقدم: يوضحه أن الذين تكلموا في زيارة الموتى من أهل الشرك، صرحوا بأن القصد هو انتفاع الزائر بالمزور. وقالوا: من تمام الزيارة أن يعلق همته وروحه بالميت وقبره. فإذا فاض على روح الميت من العلويات الأنوار، فاض منها على روح الزائر بواسطة ذلك التعلق والتوجه إلى الميت. كما ينعكس النور على الجسم الشفاف، بواسطة مقابلته.

    وهذا المعنى بعينه، ذكره عباد الأصنام في زيارة القبور. وتلقاه عنهم من تلقاه ممن لم يحط علما بالشرك وأسبابه ووسائله. ومن هاهنا يظهر سر مقصود النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والسرج . ولعنه فاعل ذلك وإخباره بشدة غضب الله عليه. ونهيه عن الصلاة إليها، ونهيه عن اتخاذ قبره عيدا. وسؤاله ربه تعالى أن لا يجعل قبره وثنا يعبد. فهذا نهيه عن تعظيم القبور. وذلك تعليمه وإرشاده للزائر أن يقصد نفع الميت والدعاء له والإحسان إليه، لا الدعاء به ولا الدعاء عنده.

    [ ص: 4038 ] ثم قال عليه الرحمة: ومن ظن أن ذلك تعظيم لهم فهو غالط جاهل. فإن تعظيمهم إنما هو بطاعتهم واتباع أمرهم ومحبتهم وإجلالهم. فمن عظمهم بما هو عاص لهم به، لم يكن ذلك تعظيما. بل هو ضد التعظيم. فإنه متضمن مخالفتهم ومعصيتهم. فلو سجد العبد لهم أو دعاهم من دون الله أو سبحهم أو طاف بقبورهم واتخذ عليها المساجد والسرج، وأثبت لهم خصائص الربوبية، ونزههم عن لوازم العبودية، وادعى أن ذلك تعظيم لهم كان من أجهل الناس وأضلهم. وهو من جنس تعظيم النصارى للمسيح حتى أخرجوه من العبودية. وكل من عظم مخلوقا بما يكرهه ذلك المعظم ويبغضه، ويمقت فاعله، فلم يعظمه في الحقيقة، بل عامله بضد تعظيمه. فتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم أن تطاع أوامره وتصدق أخباره ولا يقدم على ما جاء به غيره. فالتعظيم نوعان: أحدهما ما يحبه المعظم ويرضاه ويأمر به ويثني على فاعله، فهذا هو التعظيم في الحقيقة. والثاني ما يكرهه ويبغضه ويذم فاعله، فهذا ليس بتعظيم بل هو غلو مناف للتعظيم. ولهذا لم يكن الرافضة معظمين لعلي، بدعواهم الإلهية والنبوة أو العصمة ونحو ذلك. ولم يكن النصارى معظمين للمسيح . بدعواهم فيه ما ادعوا. والنبي صلى الله عليه وسلم. قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه. فأنكر على معاذ سجوده له وهو محض التعظيم. وفي المسند بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك أن رجلا قال: يا محمد ! يا سيدنا! وابن سيدنا! وخيرنا! وابن خيرنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان. أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، ما أحب أن تعرفوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل » . وقال صلى الله عليه وسلم: « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم . فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله » وكان يكره من أصحابه أن يقوموا له إذا رأوه. ونهاهم أن يصلوا خلفه قياما وهو مريض. وقال: « إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم. [ ص: 4039 ] يقومون على ملوكهم » وكل هذا من التعظيم الذي يبغضه ويكرهه. ولقد غلا بعض الناس في تعظيم القبور حتى قال: إن البلاء يندفع عن أهل البلد أو الإقليم، بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين. وهو غلو مخالف لدين المسلمين، مخالف للكتاب والسنة والإجماع. وللبحث تتمة مهمة فانظره.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [22] سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا .

    سيقولون أي: الخائضون في قصتهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب الذين لا علم لهم بالحقيقة:ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون أي: بعض آخر منهم: خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب أي: رميا وتلفظا بالذي غاب عنهم. يعني ظنا خاليا عن اليقين. قال ابن كثير : كالذي يرمي إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب فبلا قصد: ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم حكاية لقول فريق آخر كان يرى عدتهم هذه: قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل أي: ممن أطلعه الله عليه: فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا أي: لا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف، إلا جدالا ظاهرا لينا غير متعمق فيه. وذلك على قدر ما تعرض له التنزيل الكريم من وصفهم بالرجم بالغيب وعدم العلم على الوجه الإجمالي، وتفويض العلم إلى الله سبحانه، من غير تجهيل لهم، ولا تعنيف بهم، في الرد عليهم كما قال: وجادلهم بالتي هي أحسن فإن الأمر [ ص: 4040 ] في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة. قيل: المماراة المجادلة. وقيل بالفرق. فالمجادلة المحاجة مطلقا. والمماراة المحاجة فيما فيه مرية أي: تردد، لأنها من (مريت الناقة) إذا مسحت ضرعها للحليب: ولا تستفت فيهم منهم أحدا أي: لا تسأل أحدا منهم عن نبئهم. لأن السؤال إما للاسترشاد، أو للتعنت والمحاورة. ولا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه رجما بالغيب. من غير استناد إلى كلام معصوم. والتعنت للرد على الخصم وتزييف ما عنده، ينافي مكارم الأخلاق. والمعنى: جاءك الحق الذي لا مرية فيه، فهو المقدم الحاكم على ما تقدم من الكتب والأقوال.

    تنبيهات:

    الأول: ذهب أكثر المفسرين إلى أن قول الخائضين الأخير، وهو أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، هو الحق. لأنه لم يوصف بكونه رجما بالغيب كما وصف الأولان.

    ولتخصيصه بالواو في قوله: وثامنهم وهي الواو الداخلة على الجملة الواقعة صفة للنكرة، لإفادة تأكيد لصوق الصفة بالموصوف. والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر. وأنه لا عدد وراءه. كما قال ابن عباس : حين وقعت الواو انقطعت العدة. وأقول: لا يخفى ضعف التمسك بهذين الوجهين لتقوية القول الأخير. فإن عدم وصفه بالرجم بالغيب إنما هو لدلالة ما قبله عليه. وفي إعادته إخلال بالبلاغة. ومسألة الواو أوهى من بيت العنكبوت. فإن مثل هذا النزاع لا يكتفى بحسمه بمثل هذا الإيماء الدقيق القريب من الإلغاز. كما لا يخفى على من تتبع مواقع حسم الشبه في الكتاب والسنة وكلام البلغاء. لا سيما والواو من المحكي لا من الحكاية. فيدل على ثبوته عند القائل لا عند الله، فلا يكون من الإيماء في شيء. وجواب بعضهم بأنه تعالى لما حكى قولهم قبل أن يقولوه هكذا، لقنهم أن يقولوه إذا أخبروا عنه بهذه العبارة، وبأنه لا مانع أن تكون من الحكاية -بعيد غاية البعد، وتكلف ظاهر، وإغراب في القول.

    ثم قيل: إن هذه الجملة لا تتعين للوصفية. لجواز كونها حالا من النكرة، لأن اقترانها بالواو مسوغ. ويجوز أن يكون خبرا عن المبتدأ المحذوف. لأنه يجوز في مثله إيراد الواو [ ص: 4041 ] وتركها. على أنه إنما يتم ما ذكروه لو لم يتبع قولهم بقوله تعالى: قل ربي أعلم بعدتهم فإن في تأثره للأقوال المتقدمة كلها، برهانا ظاهرا على أنهم لم يهتدوا لعدتهم، وإرشادا إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام، رد العلم إليه تعالى.

    وإشارة إلى أنه لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم بين وبرهان نير. وإنه إذا أوقفنا على الفيصل قلنا به، وإلا وقفنا. وقد تأكد هذا بقوله سبحانه بعده: ما يعلمهم إلا قليل فإن فيه دلالة على أنه يعلمهم البعض ممن لم يشأ الحق تعيينه. وهو إما نبي، أو من كان في مدتهم، أو من نقب عن نبئهم بإثارة صحيحة أو تلق عن المعصوم. وفيه إعلام بأنه لم يضرب على الناس بسد من جهالة شأنهم.

    وبالجملة، فالنظم الكريم، بأسلوبه هذا، لا يدل على أن الأخير هو الحق كما علمت. وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل. كانوا سبعة -فهو من الموقوف عليه. ولو رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصح سنده لقلنا به على أنه اختلف على ابن عباس في عدتهم. فروي عنه أنهم ثمانية، حكاه ابن إسحاق عن مجاهد عنه. وروي عنه سبعة. وهو حكاية قتادة وعكرمة عنه. ثم رأيت الرازي نقل عن القاضي أنه قال: إن كان - ابن عباس - قد عرفه ببيان الرسول، صح. وإن كان قد تعلق بحرف الواو فضعيف. انتهى. هذا ما ظهر لي الآن.

    وبعد كتابتي لما تقدم بمدة، وقفت على نبئهم في (طبقات الشهداء المسيحيين) وأن عدتهم سبعة عندهم كما ستراه في آخر الآيات فيهم. فسنح لي أن ابن عباس إنما جزم بما جزم به، مما قوي عنده من إشارة الآية، كما ذكره أولئك الأكثرون، ومن تواتر عدتهم من قومهم وممن أثر عنهم. ثم حققه وصدقه عدم النكير فيه. وكذلك جزم بمثله الإمام تقي الدين بن تيمية رحمه الله. حيث قال في (قاعدة له في التفسير): اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام -مقام حكاية الأقوال وتعليم ما ينبغي في مثل هذا. فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة [ ص: 4042 ] أقوال، ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث. فدل على صحته. إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما. ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته. فيقال في مثل هذا: قل ربي أعلم بعدتهم فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه. فبهذا قال: فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام وأن ينبه على الصحيح منها ويبطل الباطل. ويذكر فائدة الخلاف وثمرته ، لئلا يقع النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن الأهم. فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها، فهو ناقص. إذ قد يكون الصواب في الذي تركه. أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضا. انتهى كلامه رحمه الله، وهو الفصل في هذا المقام.

    الثاني: قال الرازي : ذكروا في فائدة الواو في قوله: وثامنهم وجوها:

    الأول: ما ذكروه أنه يدل على أن هذا القول أولى من سائر الأقوال. وقد عرفت ما فيه.

    وثانيها: أن السبعة عند العرب أصل في المبالغة في العدد. وإذا كان كذلك فإذا وصلوا إلى الثمانية ذكروا لفظا يدل على الاستئناف، فقالوا: وثمانية. فجاء هذا الكلام على هذا القانون. قالوا: ويدل عليه نظيره في ثلاث آيات، وهي قوله: والناهون عن المنكر لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة. وقوله: حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة. وقوله: ثيبات وأبكارا لأن قوله: وأبكارا هو العدد الثامن مما تقدم. والناس يسمون هذه الواو واو الثمانية ومعناه ما ذكرناه.

    [ ص: 4043 ] قال القفال: وهذا ليس بشيء والدليل عليه قوله تعالى: هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ولم يذكر الواو في النعت الثامن. انتهى.

    وقال في (الانتصاف): الصواب في الواو ما تقدم من كونها لتأكيد اللصوق. لا كمن يقول إنها واو الثمانية. فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم. ويعدون مع هذه الواو في قوله في الجنة: وفتحت أبوابها قالوا لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة وهب أن في اللغة واوا تصحب الثمانية فتختص بها، فأين ذكر العدد في أبواب الجنة حتى ينتهي إلى الثامن فتصحبه الواو؟ وربما عدوا من ذلك: والناهون عن المنكر وهو الثامن من قوله: التائبون وهذا أيضا مردود بأن الواو إنما اقترنت بهذه الصفة لتربط بينها وبين الأولى التي هي: الآمرون بالمعروف لما بينهما من التناسب والربط. ألا ترى اقترانهما في جميع مصادرهما ومواردهما؟ كقوله: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وكقوله: وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وربما عد بعضهم من ذلك، الواو في قوله: ثيبات وأبكارا لأنه وجدها مع الثامن. وهذا غلط فاحش. فإن هذه واو التقسيم. ولو ذهبت تحذفها فتقول: ثيبات أبكارا لم يستد الكلام. فقد وضح أن الواو في جميع هذه المواضع المعدودة، واردة لغير ما زعمه هؤلاء. والله الموفق... انتهى.

    الثالث: حكي في (الإكليل) عن مجاهد في قوله تعالى: فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا إلا بما أظهرنا لك. ومثله قول السدي: إلا بما أوحي إليك. وإن فيه تحريم الجدل بغير علم وبلا حجة ظاهرة .
    وقوله تعالى:

    [ ص: 4044 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [23] ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا [24] إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا .

    ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت في هذه الآية وجوه من المعاني. منها أن المعنى لا تقولن إلا وقت أن يشاء الله بأن يأذن لك في القول، فتكون قائلا بمشيئته، فالمشيئة على هذا بمعنى الإذن. لأن وقت مشيئة الله لشيء لا تعلم إلا بإذنه فيه أي: إعلامه به. ومنها لا تقولن لما عزمت عليه من فعل، إني فاعل ذلك غدا إلا قائلا معه إن شاء الله تبرؤا من لزوم التحكم على الله، ومن الفعل بإرادتك بل بإرادة الله، فتكون فاعلا بمشيئته. ولئلا يلزم الكذب لو لم يشأه الله تعالى. ومنها أن المعنى لا تقولن ذلك قاطعا بفعله وباتا له. لأنه: وما تدري نفس ماذا تكسب غدا فلا ينبغي الجزم والبت على فعل أمر مستقبل مجهول كونه.

    وقوله تعالى: إلا أن يشاء الله أي: أن تقول ذلك القول البات نسيانا فحينئذ ارجع إلى ربك بذكره. ولذا قال: واذكر ربك إذا نسيت وعلى هذه الوجوه كلها فـ: " لا تقولن " نهي معطوف على النهيين قبله. قال الجاحظ في كتاب (الحيوان): إنما ألزم جل وعلا عبده أن يقول: إن شاء الله، ليبقي عادة للمتألي، ولئلا يكون كلامه ولفظه يشبه لفظ المستبد والمستغني، وعلى أن يكون عبده ذاكرا لله. لأنه عبد مدبر، ومقلب ميسر، ومصرف مسخر.

    وبقي وجه آخر: وهو أن المعنى لا تقولن ذلك إلا أن يشاء الله أن تقول هذا القول. والجملة خبرية قصد بها الإخبار عن سبق مشيئته تعالى لكل ما يعزم عليه ويقوله. كقوله تعالى: [ ص: 4045 ] وما تشاءون إلا أن يشاء الله وهذا المعنى هو الظاهر ببادئ الرأي كما قاله في (الانتصاف) وفي المعنى تلويح بأنه صلوات الله عليه كان هم بأمر ما في نبأ هؤلاء الفتية، وعزم على أمر في غد المحاورة به.

    ولعله الاستفتاء عنهم. فلما نهى عنه أخبر بأن كل شيء كائن بمشيئته تعالى، ليدخل فيه ما كان قاله دخولا أوليا. أي: ما قلته وعزمت على فعله كان بمشيئة الله، إذ شاء الله أن تقوله. فالآية بمثابة العناية به والتلطيف بالخطاب، إثر ما يومئ إليه النهي إليها من رقيق ولذلك اعترضت بين سابق النهي عن استفتائهم، ولاحق الأمر بذكره تعالى إذا نسي، أي: نسي ما وصي به. وبما ذكرنا يعلم أن هذا المعنى له وجه وجيه.

    فدعوى الناصر في (الانتصاف) أنه ليس هو الغرض، وأن الغرض النهي عن هذا القول إلا مقرونا بمشيئته تعالى- قصر للآية على أحد معانيها، وذهاب إلى ما هو المشهور في تأويلها، وعدم تمعن في مثل هذا المعنى الدقيق، بل وفي بقية المعاني الأخر التي اللفظ الكريم يحتملها. وقد ظهر قوة المعنى الأخير لموافقته لآية: وما تشاءون إلا أن يشاء الله والقرآن يفسر بعضه بعضا. والله تعالى أعلم.

    وقوله تعالى: وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا أي: خيرا ومنفعة. والإشارة للنبأ المتحاور فيه.

    تنبيهات:

    الأول: روي أنه صلوات الله عليه سئل عن أصحاب الكهف والروح وذي القرنين، فقال: « أجيبكم عنها غدا » ولم يستثن. فاحتبس الوحي خمسة عشر يوما، ثم نزلت: ولا تقولن الآية . وقد زيف هذه الرواية القاضي -كما حكاه الرازي - من أوجه. والحق له. لأنها من مرويات ابن إسحاق مجهول. كما ساقه عنه ابن كثير وغيره، والله أعلم.

    الثاني: يشير قوله تعالى: وقل عسى أن يهديني ربي الآية، إلى أن هذا النبأ ليس مما تنبغي العناية بتحقيقه وتدقيق أطرافه، وابتغاء الرشاد فيه، حتى يتكلف لفتوى أهل [ ص: 4046 ] الكتاب فيه. العزم على فعل شيء مما يلابسه في المستقبل، لأنه من الأمور الغابرة التي حق الخائض فيها أن ينظر منها إلى وجه العبرة والفوائد التي حوتها، كما أحكمته آيات التنزيل في شأنها.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #442
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْكَهْفِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4046 الى صـ 4060
    الحلقة (441)





    الثالث: اعترضت هذه الآداب أعني من قوله تعالى: فلا تمار إلى هنا قبل تتميم نبئهم، مبادرة إلى الاهتمام بهذه الآداب والاحتفاظ بها، لتتمكن فضل تمكن، وترسخ في النفس أشد رسوخ. والله أعلم.

    الرابع: روي عن ابن عباس في قوله تعالى: واذكر ربك إذا نسيت إذا نسيت الاستثناء بالمشيئة ثم ذكرت فاستثن، وذلك (كما قال القرطبي) لتدارك التبرك والتخلص عن الإثم.

    وقال في (الانتصاف): أما ظاهر الآية فمقتضاه الأمر بتدارك المشيئة، متى ذكرت ولو بعد الطول. وأما حلها لليمين حينئذ فلا دليل عليه منها. انتهى.

    ودعوى أنه الظاهر هو أحد الوجوه فيها، مفرعا على أن المشيئة في الآية قبلها، مشيئة القول، وهو أحد معاني الآية. وقد حكي عن ابن عباس جواز الاستثناء وإن طال الزمان. ثم اختلف عنه فقيل إلى شهر وقيل إلى سنة وقيل أبدا. وفي (حصول المأمول): ومن قال بأن هذه المقالة لم تصح عن ابن عباس ، لعله لم يعلم بأنها ثابتة في (مستدرك الحاكم) وقال: صحيح على شرط الشيخين بلفظ: « إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة » ومثله عند أبي موسى المديني وسعيد بن منصور وغيرهما من طرق. وبالجملة فالرواية عنه رضي الله عنه قد صحت، لكن الصواب خلاف ما قاله.

    قال ابن القيم في (مدارج السالكين): إن مراده أنه إذا قال شيئا ولم يستثن، فله أن يستثني عند الذكر. وقد غلط عليه من لم يفهم كلامه. انتهى.

    وهذا التأويل يدفعه ما تقدم عنه. والاستثناء بعد الفصل اليسير وعند التذكر، قد دلت [ ص: 4047 ] عليه الأدلة الصحيحة. منها حديث أبي داود وغيره: « والله! لأغزون قريشا » ثم سكت ثم قال: « إن شاء الله » . ومنها حديث « ولا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها » فقال العباس: (إلا الإذخر). وهو في الصحيح. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية: « إلا سهل ابن بيضاء » انتهى. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [25] ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا [26] قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا .

    ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا قل الله أعلم بما لبثوا حكاية لقول أهل الكتاب في عهده صلى الله عليه وسلم، في مدة لبثهم نائمين في كهفهم الذي التجأوا إليه، ليتفرغوا لذكر الله وعبادته. وقد رد عليهم بقوله سبحانه: قل الله أعلم بما لبثوا وإليه ذهب قتادة ومطرف بن عبد الله . وأيده قتادة بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه (وقالوا ولبثوا) قيل: وعليه فيكون ضمير: وازدادوا لأهل الكتاب. وإنه يظهر فيه وجه العدول عن المتبادر وهو ثلاثمائة وتسع سنين. مع أنه أخصر وأظهر. وذلك لأن بعضهم [ ص: 4048 ] قال: ثلاثمائة: وبعضهم قال أزيد بتسعة. ولا يخفى ركاكة ما ذكر، فإن الضمير للفتية. ووجه العدول موافقة رؤوس الآي المقطوعة بالحرف المنصوب. ودعوى الأخصرية تدقيق نحوي لا تنهض بمثله البلاغة. وأما الأظهرية فيأباها ذوق الجملتين ذوقا سليما. فإن الوجدان العربي يجد بينهما في الطلاوة بعد المشرقين. ودعوى أن فيها إشارة إلى أنها ثلاثمائة بحساب أهل الكتاب بالأيام، واعتبار السنة الشمسية، وثلاثمائة وتسع بحساب العرب، واعتبار القمرية، بيانا للتفاوت بينهما، إذ التفاوت بينهما في كل مائة سنة ثلاث سنين- دعوى يتوقف تصحيحها على ثبوت أن أهل الكتاب ازدادوا بالسنة الشمسية، وأنه قص علينا ما أرادوه بالسنة الهلالية، فلذلك قال: وازدادوا تسعا لنقف على تحديد ما عنوه، ومن أين يثبت ذلك؟ وما الداعي لهذا التعمق المشوش؟ والآية جلية بنفسها في دعواهم مدة لبثهم. وقد يريدون السنة الشمسية أو الهلالية، وبأي منها قالوا: فقد رد عليهم بقوله: قل الله أعلم بما لبثوا أي: بمقدار لبثهم. فلا تقفوا ما ليس لكم به علم، وما هو غيب يرد إليه سبحانه، كما قال: له غيب السماوات والأرض أي: ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما، أي: أنه هو وحده العالم به: أبصر به وأسمع أي: ما أبصره لكل موجود! وأسمعه لكل مسموع لا يخفى عليه شيء ولا يحجب بصره وسمعه شيء.

    قال الزمخشري : جاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات، للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حد ما عليه إدراك السامعين والمبصرين، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها، كما يدرك أكبرها حجما وأكثفها جرما، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر.

    لطيفة:

    قال في (الإكليل): استدل بقوله تعالى: أبصر به وأسمع المنتخب على جواز إطلاق صيغة التعجب في صفات الله تعالى ، كقولك: ما أعظم الله وما أجله. انتهى.

    يعني [ ص: 4049 ] أن يشتق من الصفات السمعية صيغة التعجب قياسا على ما في الآية، وقد يقال بالوقف. ينبغي التأمل.

    وقوله تعالى: ما لهم أي: أهل السماوات والأرض في خلقه: من دونه من ولي أي: يتولى أمورهم: ولا يشرك في حكمه أي: قضائه: أحدا أي: من مكوناته العلوية والسفلية. بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم، وتدبيرهم وتصريفهم، فيما شاء وأحب.

    قال المهايمي : فيه إشارة إلى أن علمهم بهم إما من قبيل الغيب، فهو مختص بالله. أو من قبيل المسموع، فهو أسمع. أو من قبيل البصر، فهو أبصر. انتهى. وهو لطيف جدا. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [27] واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا .

    واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك أي: بتبليغ ما فيه. ومنه ما أوحي إليك من نبأ الفتية، فإنه الحق الذي لا يحتاج معه إلى استفتاء فيه.

    قال القاشاني : يجوز أن تكون (من) لابتداء الغاية. و(الكتاب) هو اللوح الأول المشتمل على كل العلوم الذي منه أوحي إلى من أوحي إليه، وأن تكون بيانا لما أوحي: لا مبدل لكلماته أي: لا مغير لها ولا محرف ولا مزيل.

    قال القاشاني : (كلماته) التي هي أصول التوحيد والعد وأنواعهما.

    وقصده دفع ما يرد من وقوع نسخ بعض الشرائع السابقة باللاحقة وتبديلها بها. فأشار إلى أن النسخ إنما هو في الفروع لا الأصول.

    والأظهر في معنى الآية; أنه لا أحد سواه يبدل حكمه كقوله: لا معقب لحكمه وأما هو سبحانه فهو فعال لما يريد: ولن تجد من دونه ملتحدا أي: ملجأ.

    [ ص: 4050 ] وذهب ابن جرير في تفسير هذه الآية مذهبا قال: يقول تعالى لنبيه واتبع ما أنزل إليك من كتاب ربك هذا، ولا تتركن تلاوته واتباع ما فيه من أمر الله ونهيه والعمل بحلاله وحرامه. فتكون من الهالكين. وذلك أن مصير من خالفه وترك اتباعه يوم القيامة، إلى جهنم: لا مبدل لكلماته يقول لا مغير لما أوعد بكلماته التي أنزلها عليك، أهل معاصيه والعاملين بخلاف هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك. وقوله: ولن تجد من دونه ملتحدا يقول: وإن أنت لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فتتبعه وتأتم به، فنالك وعيد الله الذي أوعد فيه المخالفين حدوده، لن تجد من دون الله موئلا تئل إليه، ومعدلا تعدل عنه إليه. لأن قدرة الله محيطة بك وبجميع خلقه، لا يقدر أحد منهم على الهرب من أمر أراد به. انتهى.

    تنبيه:

    لهؤلاء الفتية أصحاب الكهف ذكر في تواريخ المسيحيين، وعيد سنوي يقام تذكارا لهم، في اليوم السابع والعشرين من شهر تموز. لكونهم اضطهدوا من قبل الأمراء اليونانيين، لإيمانهم بالله تعالى وحده ودخولهم في الملة المسيحية ورفضهم الوثنية التي كانت عليها اليونان. وقد رأيت في كتاب (الكنز الثمين في أخبار القديسين) ترجمة عن أحوالهم واسعة تحت عنوان (فيما يخص السبعة القديسين الشهداء الذين من أفسس ) نقتطف منها ما يأتي، دحضا لدعوى من يفتري أن نبأهم لا يعرف أصلا، كما قرأته في بعض كتب الملحدين.

    قال صاحب الترجمة: هؤلاء الشهداء السبعة كانوا إخوة بالجسد. وأسماؤهم: مكسيميانوس ومالخوس. ومرتينيانوس. وديونيسيوس . ويوحنا. وسارابيون. ثم قسطنطين. هؤلاء الشباب قربوا حياتهم ضحية من أجل المسيح ، بالقرب من مدينة أفسس نحو سنة (252) مسيحية. في زمن الاضطهاد القاسي الذي صنعه ضد المسيحيين، الملك داكيوس.

    [ ص: 4051 ] وقد أجلهم المسيحيون كشهداء حقيقيين. فيقام لهم في الكنائس مدائح تنشر فيها صفاتهم الفاضلة يوم استشهادهم ثمة، في اليوم الرابع من شهر آب، المختص بتذكار الأعجوبة التي بواسطتها قد ظهرت أجسادهم المقدسة في المغارة الغربية من مدينة أفسس .

    ثم قال: وأما نوع استشهادهم فليس بمعروف. لأن أعمالهم الجهادية في سبيل الإيمان لم توجد مدونة في التواريخ الكنائسية المدققة. بل إن المؤكد عنهم أن استشهادهم كان زمن الملك داكيوس ، حذاء مدينة أفسس . حيث وجدت فيما بعد أجسادهم في مغارة ليست بعيدة من أهل هذه المدينة.

    ثم قال: فالبعض من الكتبة الكنائسيين يرتؤون بأنه لما اختفى هؤلاء الفتية في تلك المغارة هربا من الاضطهاد، عرف أمرهم فأغلق عليهم باب المغارة بصخور عظيمة. وهكذا ماتوا فيها. وغيرهم يروون أنهم قتلوا من أجل الإيمان في مدينة أفسس. وبعد موتهم نقلت أجسادهم ودفنت في المغارة المذكورة. وآخرون يظنون أنهم حبسوا أنفسهم أحياء باختبائهم في المغارة المذكورة، ليموتوا برضاهم، هربا من خطر أنواع العذاب القاسية التي كان يتكبدها المسيحيون في ذاك الاضطهاد الوحشي.

    ثم قال: فكيفما كان نوع استشهاد هؤلاء السبعة، فقد تحقق أن الله أراد أن يكرمهم بإظهار أجسادهم بواسطة رؤيا سماوية. وذلك في 4 آب سنة 447 في زمن ولاية الملك ( ثاوضوسيوش الصغير ).

    ثم قال: ودرج على أفواه الشعوب; أن هؤلاء الفتية، بعد أن أغلق عليهم باب المغارة بأمر داكيوس الملك، لم يموتوا ضمنها، لا موتا طبيعيا ولا قسريا. بل رقدوا رقاد النوم مدة، نحو مائتي سنة. ثم نهضوا من نومهم الطبيعي سنة (447).

    ثم قال: وقد ذهب بعض المؤرخين إلى تأويل ما روي من رقادهم الطويل، بأنه لما ظهرت أجسادهم سالمة من البلى، بعد أن دفنوا في ذلك الغار أحياء أو أمواتا، بواسطة خارقة ما، [ ص: 4052 ] ونقلت من مدفنهم الذي كانوا فيه، اعتبرت تلك الأجساد كأنها صودفت مستيقظة من نوم لذيذ كانت راقدة فيه. إلا أن الذي يبطل هذا التأويل ما نقله بعد عن القنداق، من أنهم نهضوا بعد أن رقدوا عدة من السنين وانتصروا على ضلال أولئك الوثنيين. وبظهورهم كذلك أيدوا حقية إيمانهم ووطدوا المؤمنين في رجاء القيامة في الحياة الأبدية.

    هذا ما اقتطفناه من كتاب (الكنز الثمين) وبه تعلم ما لدى أهل الكتاب المسيحيين من الاختلاف فيهم، الذي أشار له القرآن الكريم. وقد جاء في (تاريخ الكنيسة): إن أقوال وأعمال الشهداء في المسيحية لم ينقل منها إلا القليل. لأن أكثرها أحرق بالنار مدة العشر سنوات. من سنة (293 إلى 303) وإن من القرن الثامن فصاعدا، اعتنى الروم واللاتيون بجمع حياة الشهداء الأولين. غير أن الأكثر حذاقة، حتى الذين في حضن الكنيسة الرومانية، يسلمون الآن بأن أكثر الأخبار أحاديث ملفقة، غراما بالبلاغة. وجداول القديسين المسماة (أقوال الشهداء) ليست بأكثر ثقة. التي ألفها أناس جهلاء غير قادرين، أو دخلها منذئذ أكاذيب. فهذا القسم من تاريخ الكنيسة إذ ذاك مظلم خال من النور. انتهى كلامه بالحرف.

    وفيه ميل إلى النصفة من عدم الثقة بما لديهم من هذا الخلاف الذي حسم مادته، واقتلعه من جذوره، القرآن الكريم.

    قال الحافظ ابن كثير عند قوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة " ، الآية الآتية، معتذرا عما نقله، ما مثاله: روي في هذا آثار كثيرة عن السلف. وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها. والله أعلم بحال كثير منها. ومنها ما قد يقطع بكذبه، لمخالفته للحق الذي بأيدينا. وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة . لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان. وقد وضع فيها أشياء كثيرة. وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها [ ص: 4053 ] تحريف الغالين وانتحال المبطلين. كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء، والسادة والأتقياء، والجهابذة النقاد، والحفاظ الذي دونوا الحديث وحرروه، وبينوا صحيحه من حسنه ومنكره وموضوعه ومتروكه. وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين من أصناف الرجال. كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر، أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه. فرضي الله عنهم وأرضاهم. وجعل جنات الفردوس مأواهم. وقد فعل. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [28] واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا .

    واصبر نفسك أي: احبسها وثبتها: مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي أي: مع أصحابك الذين يذكرونه سبحانه طرفي النهار، بملازمة الصلاة فيهما: يريدون وجهه أي: ذاته طلبا لمرضاته وطاعته، لا عرضا من أعراض الدنيا: ولا تعد عيناك عنهم أي: لا تجاوز نظرك إلى غيرهم بالإعراض عنهم: تريد زينة الحياة الدنيا أي: تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء تألفا لقلوبهم: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا أي: جعلناه غافلا لبطلان استعداده للذكر بالمرة. أو وجدناه غافلا عنه. وذلك لئلا يؤديك إلى الغفلة عنه: واتبع هواه وكان أمره فرطا أي: متروكا متهاونا به مضيعا. أو ندما أو سرفا. وفي التعبير عن المأمور بالصبر معهم والمنهي عن إطاعتهم، بالموصول، للإيذان بعلية ما في حيز الصلة.

    قال ابن جرير : إن قوما من أشراف المشركين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم جالسا مع خباب [ ص: 4054 ] وصهيب وبلال. فسألوه أن يقيمهم عنه إذا حضروا. وفي رواية ابن زيد: أنهم قالوا له صلوات الله عليه: إنا نستحي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا، فجانبهم وجالس أشراف العرب، فنزلت الآية: واصبر نفسك وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر. فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع. فحدث نفسه. فأنزل الله عز وجل: ولا تطرد الذين يدعون ربهم الآية.

    قال ابن كثير : انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري . وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [29] وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا .

    وقل الحق من ربكم أي: جاء بالحق وهو ما أوحي إلي منه تعالى: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إما من تمام المقول المأمور به، والفاء لترتب ما بعدها على ما قبلها، بطريق التهديد. أي: عقيب تحقق أن ما أوحي إلي حق لا ريب فيه، وأن ذلك الحق من جهة ربكم. فمن شاء أن يؤمن به، فليؤمن كسائر المؤمنين. ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعلل. ومن شاء أن يكفر به فليفعل. وفيه من التهديد وإظهار الاستغناء عن متابعتهم، وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم، وجودا وعدما- ما لا يخفى. وإما تهديد من جهة الله تعالى، [ ص: 4055 ] والفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على الأمر. والمعنى: قل لهم ذلك. وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليؤمن. ومن شاء أن يكفر به أو يكذبك فيه فليفعل. أفاده أبو السعود. وفي (العناية): الأمر والتخيير ليس على حقيقته. فهو مجاز عن عدم المبالاة والاعتناء به. والأمر بالكفر غير مراد. فهو استعارة للخذلان والتخلية، بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة. ووجه الشبه عدم المبالاة والاعتناء به فيهما. وهذا كقوله: (أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة) وهذا رد عليهم في دعائهم إلى طرد الفقراء المؤمنين ليجالسوه ويتبعوه. فقيل لهم: إيمانكم إنما يعود نفعه عليكم، فلا نبالي به حتى نطردهم لذلك، بعد ما تبين الحق وظهر. وقوله تعالى: إنا أعتدنا للظالمين نارا وعيد شديد، وتأكيد للتهديد وتعليل لما يفيده من الزجر عن الكفر. أو لما يفهم من ظاهر التخيير، من عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بزجرهم عنه. فإن إعداد جزائه من دواعي الإملاء والإمهال. وعلى الوجه الأول، هو تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديدي. أي: قل لهم ذلك: إنا أعتدنا للظالمين أي: هيأنا للكافرين بالحق، بعد ما جاء من الله سبحانه. والتعبير عنه بــ(الظالمين) للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره، تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: أحاط بهم سرادقها أي: فسطاطها. وهي الخيمة. شبه به ما يحيط بهم من النار. فإن انتشار لهب النار في الجهات شبيه بالسرادق. ويطلق السرادق على الحظيرة حول الفسطاط للمنع من الوصول إليه. شبه ما يحيط بهم من جهنم، بها. يقال بيت مسردق، ذو سرادق: وإن يستغيثوا أي: من الظمأ لاحتراق أفئدتهم: يغاثوا بماء كالمهل أي: كالحديد المذاب وكعكر الزيت، وقال القاشاني : من جنس الغساق والغسلين، أي: المياه المتعفنة التي تسيل من أبدان أهل النار، مسودة يغاثون بها. أو غسالاتهم القذرة ويؤيده قوله تعالى: ويسقى من ماء صديد يتجرعه يشوي الوجوه أي: إذا قدم إليه ليشرب، من فرط حرارته.

    [ ص: 4056 ] وساءت أي النار: مرتفقا أي: متكأ. وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد. وذكره لمشاكلة قوله: وحسنت مرتفقا وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء. وقد يكون تهكما، كقوله:


    إني أرقت فبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مذبوح


    والصاب: شجر مر يحرق ماؤه العين. ومذبوح: مشقوق. وفي كتاب (تنزيل الآيات) في الصحاح: بات فلان مرتفقا، أي: متكئا على مرفق يده. وهو هيئة المتحزنين المتحسرين. فعلى هذا لا يكون من المشاكلة ولا للتهكم، بل هو على حقيقته. كما يكون للتنعم يكون للتحزن. وتعقبه في (العناية) فقال: وأما وضع اليد تحت الخد للتحزن والتحسر، فالظاهر أن العذاب يشغلهم عنه. فلا يتأتى منهم حتى يكون هذا حقيقة لا مشاكلة، فلذا لم يعرجوا عليه. ثم علل الحث على الإيمان المفهوم من التخيير المتقدم، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [30] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا [31] أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا .

    إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون [ ص: 4057 ] ثيابا خضرا من سندس وهو ما رق من الديباج: وإستبرق وهو ما كثف منه: متكئين فيها على الأرائك أي: السرر على هيئة المتنعمين: نعم الثواب أي: الجنات المذكورة: وحسنت مرتفقا أي: متكأ. وقيل المرتفق المنزل والمستقر، لآية: إنها ساءت مستقرا ومقاما وآية حسنت مستقرا ومقاما
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [32] واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا .

    واضرب لهم مثلا أي: للمؤمن والكافر: رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وهي أعز ما يؤثره أولئك في تأزير كرومهم بالأشجار: وجعلنا بينهما أي: بين الجنتين، أو بين النخيل والأعناب: زرعا أي: فحصل منهما الفواكه والأقوات، فكانتا منشأ الثروة والجاه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [33] كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا .

    كلتا الجنتين آتت أكلها أي: ثمرها كاملة: ولم تظلم أي: لم تنقص: منه شيئا وفجرنا خلالهما أي: فيما بينهما: نهرا أي: يسقي الأشجار والزروع، ويزيد في بهجة مرآهما، تتميما لحسنهما.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [34] وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا .

    وكان له أي: لصاحب الجنتين: ثمر أي: أنواع من المال غير الجنتين. من [ ص: 4058 ] (ثمر ماله) إذا كثره: فقال لصاحبه وهو يحاوره أي: يراجعه الكلام، تعييرا له بالفقر، وفخرا عليه بالمال والجاه: أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا أي: أنصارا وحشما.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [35] ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا .

    ودخل جنته أي: بصاحبه يطوف به فيها ويفاخره بها. كما يدل عليه السياق ومحاورته له. وإفراد الجنة هنا مع أن له جنتين كما مر، إما لعدم تعلق الغرض بتعددها، وإما لاتصال إحداهما بالأخرى، وإما لأن الدخول يكون في واحدة فواحدة. قيل: الإضافة تأتي لمعنى اللام. فالمراد بها العموم والاستغراق. أي: كل ما هو جنة له يتمتع بها. فيفيد ما أفادته التثنية مع زيادة. وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير هذه: وهو ظالم لنفسه أي: بما يوجب سلب النعمة، وهو الكفر والعجب. وفي (العناية) ظلمه لها إما بمعنى تنقيصها وضررها، لتعريض نعمته للزوال ونفسه للهلاك، أو بمعنى وضع الشيء في غير موضعه. لأن مقتضى ما شاهده التواضع المبكي، لا العجب بها وظنها أنها لا تبيد أبدا. والكفر بإنكار البعث كما يدل عليه قوله: قال ما أظن أن تبيد أي: تهلك وتفنى: هذه أي: الجنة: أبدا لاعتقاده أبدية الدهر، وأن لا كون سوى ما تقع عليه مشاعره. ولذا قال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [36] وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا .

    وما أظن الساعة قائمة أي: كائنة، وقوله: ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا إقسام منه على أنه، إن رد إلى ربه، على سبيل الفرض والتقدير، كما يزعم صاحبه، ليجدن في الآخرة خيرا من جنته في الدنيا، تطمعا وتمنيا على الله، وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده. وإنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله. [ ص: 4059 ] وأن معه هذا الاستحقاق أينما توجه. كقوله: إن لي عنده للحسنى لأوتين مالا وولدا و: منقلبا أي: مرجعا وعاقبة. أفاده الزمخشري .

    قال المهايمي : فكفر بالقول بقدم العالم ونفي حشر الأجساد واعتقد عكس الجزاء إذ قال: لأجدن خيرا منها منقلبا والقول بقدم العالم ينفي اختيار الصانع وإرادته . وبإنكار حشر الأجساد ينفي قدرته على الإعادة. وبعكس الجزاء ينفي الحكمة الإلهية.
    ثم بين تعالى ما أجابه صاحبه المؤمن واعظا له، وزاجرا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار، بقوله:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [37] قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا .

    قال له صاحبه أي: الذي عيره بالفقر، تعييرا له على كفره: وهو يحاوره أي: يراجعه كلام التعيير على الكفر، محاورته كلام التعيير على الفقر، في ضمن النكر عليه: أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة أي: يجعل التراب نباتا ثم جعله غذاء يتولد منه النطفة: ثم سواك رجلا أي: عدلك وكملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال. قال أبو السعود : والتعبير عنه تعالى بالموصول، للإشعار بعلية ما في حيز الصلة، لإنكار الكفر. والتلويح بدليل البعث الذي نطق به قوله تعالى عز من قائل: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب وكما قال تعالى: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم قال ابن كثير : أي: كيف تجحدون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، كل أحد يعلمها من نفسه. فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوما ثم وجد. وليس وجوده من نفسه ولا مستندا إلى شيء. [ ص: 4060 ] من المخلوقات، لأنه بمثابته. فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء. ولهذا قال صاحبه المؤمن:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [38] لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا .

    لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا أي: لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية. ولا أشرك به أحدا معه من العلويات والسفليات. وقد قرأ ابن عامر : ((لكنا) بإثبات الألف وصلا ووقفا. الباقون بحذفها وصلا، وبإثباتها وقفا، فالوقف وفاق. وأصله لكن أنا. وقرئ كذلك فحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها فصار (لكن) ثم ألحق الألف إجراء للوصل مجرى الوقف. لأن الوقف على (أنا) بالألف، ولأن الألف تدل على أن الأصل (لكن أنا) وبغيرها يلزم الإلباس بينه وبين (لكن) المشددة. قال الزمخشري : ونحوه قول القائل:


    وترمينني بالطرف أي: أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي


    أي لكن أنا لا أقليك. ويقرب منه قول الآخر:


    ولو كنت ضبيا عرفت قرابتي ولكن زنجي عظيم المشافر


    أي ولكنك.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #443
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْكَهْفِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4061 الى صـ 4075
    الحلقة (442)






    وقوله تعالى:

    [ ص: 4061 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [39] ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا [40] فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا [41] أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا .

    ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله أي: هلا قلت عند دخولها ذلك. قال الزمخشري : يجوز أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل، على أنها خبر مبتدأ محذوف. تقديره (الأمر ما شاء الله) أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف بمعنى (أي شيء شاء الله كان) ونظيرها في حذف الجواب (لو) في قوله: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال والمعنى: هلا قلت عند دخولها، والنظر إلى ما رزقك الله منها، الأمر ما شاء الله، اعترافا بأنها وكل خير فيها، إنما حصل بمشيئة الله وفضله. وأن أمرها بيده. إن شاء تركها عامرة، وإن شاء خربها. وقلت: لا قوة إلا بالله إقرارا بأن ما قويت به على عمامتها وتدبير أمرها، إنما هو بمعونته وتأييده. إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده، إلا بالله تعالى. والقصد من الجملتين التبرؤ من الحول والقوة، وإسناد ما أوتيه إلى مشيئة الله وقوته وحده. ثم أشار له صاحبه بأن تعييره إياه بالفقر، لا يبعد أن ينعكس فيه الأمر، بقوله: إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتيني أي: في الدنيا أيضا: خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا أي: مقدارا قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتدميرها من صواعق وآفات علوية: من السماء فتصبح صعيدا زلقا أي: ترابا أملس لا تثبت فيها قدم، لملاستها [ ص: 4062 ] أو يهلكها بآفة سفلية من جهة الأرض بأن: يصبح ماؤها غورا أي: غائرا في الأرض: فلن تستطيع له طلبا أي: حيلة تدركه بها، بالحفر أو بغيره.

    تنبيه:

    كل من قوله تعالى: إن ترن وقوله: أن يؤتيني رسم بدون ياء. لأنها من ياءات الزوائد. وأما في النطق، فبعض السبعة يثبتها وبعضهم يحذفها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [42] وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا

    وأحيط بثمره أي: بإهلاكه فلم يبق له فيها ثمرة. قال الزمخشري : أحيط به عبارة عن إهلاكه. وأصله من (من أحاط به العدو) لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه. ثم استعمل في كل إهلاك ومنه قوله تعالى: إلا أن يحاط بكم

    ومثله قولهم: أتى عليه إذا أهلكه. من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعليا عليهم. يعني أنه استعارة تمثيلية. شبه إهلاك جنتيه بما فيهما، بإهلاك قوم بجيش عدو أحاط بهم وأوقع بهم بحيث لم ينج أحد منهم. كما أن (أتى عليهم) بمعنى أهلكهم، استعارة أيضا، من إتيان عدو غالب مستعل عليهم بالقهر: فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها أي: فعير نفسه أكثر من تعييره صاحبه وتعيير صاحبه إياه. قال الزمخشري : تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر . لأن النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن. كما كني عن ذلك بعض الكف، والسقوط في اليد. ولأنه في معنى الندم، عدي تعديته بــ(على) كأنه قيل فأصبح يندم على ما أنفق فيها، أي: في عمارتها. فيكون ظرفا لغوا. ويجوز كونه ظرفا مستقرا متعلقه خاص، وهو حال. أي: متحسرا. والتحسر الحزن. وهو أخص من الندم. لأنه [ ص: 4063 ] -كما قال الراغب- الغم على ما فات: وهي خاوية على عروشها أي: ساقطة عليها. و(العروش) جمع عرش وهو ما يصنع ليوضع عليه الشيء. فإذا سقط سقط ما عليه. يعني أن كرومها المعروشة، سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم، بحيث قاربت أن تصير صعيدا زلقا: ويقول عطف على (يقلب): يا ليتني لم أشرك بربي أحدا أي: من الأوثان. وذلك أنه تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتي من جهة شركه وطغيانه. فتمنى لو لم يكن مشركا حتى لا يهلك الله بستانه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [43] ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا .

    ولم تكن له فئة أي: منعة وقوم: ينصرونه من دون الله أي: يقدرون على نصرته من دون الله، كما افتخر بهم واستعز على صاحبه: وما كان منتصرا أي: ممتنعا بنفسه وقوته عن انتقام الله.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [44] هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا .

    هنالك الولاية لله الحق أي: قي ذلك المقام وتلك الحالة التي وقع فيها الإهلاك. (الولاية) بفتح الواو أي: النصرة لله وحده، لا يقدر عليها أحد غيره. فالجملة مقررة ومؤكدة لقوله: ولم تكن له فئة ينصرونه لأنها بمعناها. أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على المشركين وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم، كما نصر على الكافر صاحبه المؤمن، وصدق قوله: فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء ويعضده قوله تعالى: هو خير ثوابا وخير عقبا أي: لأوليائه. فلا ينقص لمؤمن درجة، في الدنيا، ولا يترك لكافر عقوبة لشرفه، بل يعاقبه بذنبه ويظهر فضل المؤمن عليه. وقرئ ((الولاية)) بكسر الواو بمعنى السلطان والملك. أي: هنالك [ ص: 4064 ] السلطان له والملك. لا يغلب ولا يمتنع منه. أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر. يعني أن: يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ، كلمة ألجئ إليها فقالها، جزعا مما دهاه من شؤم كفره. ولولا ذلك لم يقلها. كقوله تعالى: فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين

    وكقوله إخبارا عن فرعون: حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين أو (هنالك) إشارة إلى الآخرة. أي: في تلك الدار الولاية لله. كقوله: لمن الملك اليوم ويناسبه قوله: هو خير ثوابا وخير عقبا و(هنالك) على الأوجه المتقدمة، خبر مقدم و(الولاية) مبتدأ مؤخر. والوقف على (منتصرا). وجوز بعضهم كون هنالك معمولا لــ (منتصرا) وإن الوقف عليه. أي: على (هنالك) وإن (الولاية لله) جملة من مبتدأ وخبر مستأنفة. أي: وما كان منتصرا في ذلك الوطن الذي حل به عذاب الله. فلم يكن منقذ له منه.

    وأقول: هذا الثاني ركيك جدا، مفكك لرؤوس الآي في السورة. فإنها قطعت كلها بالاسم المنصوب. وشبهة قائله جوازه عربية. وما كل جائز عربية رقيق الحواشي بلاغة. ولذلك لم يعول عليه الزمخشري ومن تابعه. و(الحق) قرئ بالرفع صفة (للولاية) وبالنصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المنصوب بعامل مقدر. وبالجر صفة للفظ الجلالة. (عقبا) قرئ بسكون القاف وضمها. وهما العاقبة كالعشر والعشر.

    تنبيه:

    يذكر كثير من المفسرين هنا وجها في هذا المثل. وهو أن الرجلين المذكورين فيه [ ص: 4065 ] كانا موجودين ولهما قصة. ولا دليل في ذلك ولا اتجاه. فإن التمثيل بشيء لا يقتضي وجوده. وجوز في هذا المثل أن يكون من باب الاستعارة التمثيلية والتشبيه. وأن يكون المثل مستعارا للحال الغريبة، بتقدير (اضرب) مثلا، مثل رجلين، من غير تشبيه واستعارة. وقد عني بأن الرجلين في التمثيل، مشركو مكة ، وما كانوا عليه من الفخر بأموالهم والبذخ بخولهم، وغمط المستضعفين من المؤمنين. وما آل إليه أمر الفريقين، مما طابق المثل الممثل، مطابقة طبقت الآفاق. مصداقا لوعده تعالى، سيكون الأمر في الآخرة أعلى: وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا

    ثم أشار تعالى إلى سرعة فناء ما يتمتعون به من الدنيا، ويختالون به بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [45] واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا .

    واضرب لهم مثل الحياة الدنيا أي: اذكر لهم ما تشبهه في زهرتها وسرعة زوالها: كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض أي: فالتف بسببه وتكاثف، حتى خالط بعضه بعضا، فشب وحسن وعلاه الزهر والنور والنضرة: فأصبح أي: بعد ذلك الزهو: هشيما أي: جافا يابسا مكسورا: تذروه الرياح أي: تفرقه وتنسفه ذات اليمين وذات الشمال كأن لم يكن، وهكذا حال الدنيا وحال مجرميها، فإن ما نالهم من شرف الحياة كالذي حصل للنبات من شرف النمو. ثم يزولون زوال النبات: وكان الله على كل شيء مقتدرا أي: على كل من الإنشاء والإفناء كامل القدرة. ولما كان هذا المثل للحياة الدنيا من أبهج المثل وأبدعها، ضرب كثيرا في التنزيل، كقوله تعالى في سورة [ ص: 4066 ] يونس: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام وفي الزمر: ألم تر أن الله أنـزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه الآية. وفي الحديد: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته الآية.
    ثم بين تعالى شأن ما كانوا يفتخرون من محسنات الدنيا، بقوله:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [46] المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا

    المال والبنون زينة الحياة الدنيا وذلك لإعانتهما فيها، ووجود الشرف بهما ثم أشار إلى أنهما ليسا من أسباب الشرف الأخروي، إذ لا يحتاج فيها إليهما، بقوله: والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا أي: والأعمال التي تبقى ثمراتها الأخروية، من الاعتقادات والأخلاق والعبادات الكاملات، خير عند ربك من المال والبنين، في الجزاء والفائدة وخير مما يتعلق بهما من الأمل. فإن ما ينال بهما من الآمال الدنيوية، أمرها إلى الزوال. وما ينال بالباقيات الصالحات من منازل القرب الرباني والنعيم الأبدي، لا يزول ولا يحول.

    لطائف:

    1 - تقديم (المال) على (البنين) لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد. ولكون الحاجة إليه أمس. ولأنه زينة بدونهم، من غير عكس.

    [ ص: 4067 ] 2 - إفراد (الزينة) مع أنها مسندة إلى الاثنين، لما أنها مصدر في الأصل. أطلق على المفعول مبالغة. كأنها نفس الزينة. وإضافتها إلى الحياة اختصاصية، لأن زينتها مختصة بها.

    3 - إخراج بقاء الأعمال وصلاحها، مخرج الصفات المفروغ عنها، مع أن حقهما أن يكونا مقصودي الإفادة، لا سيما في مقابلة إثبات الفناء لما يقابلهما من المال والبنين على طريقة: ما عندكم ينفد وما عند الله باق للإيذان بأن بقاءها أمر محقق لا حاجة إلى بيانه. بل لفظ (الباقيات) اسم لها لا وصف. ولذلك لم يذكر الموصوف. وإنما الذي يحتاج إلى التعرض له خيريتها.

    4 - تكرير (خير) للإشعار باختلاف حيثيتي الخيرية والمبالغة.كذا يستفاد من أبي السعود ، مع زيادة.

    5 - وقع في كلام السلف تفسير (الباقيات الصالحات) بالصلوات وأعمال الحج والصدقات والصوم والجهاد والعتق، وقوله (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) والكلام الطيب، وبغيرهما، مما روي مرفوعا وموقوفا. والمرفوع من ذلك كله لم يخرج في الصحيحين. وكله على طريق التمثيل. وإن اللفظ الكريم يتناولها لكونها من أفراده.

    ثم أشار تعالى إلى تحذير المشركين من أهوال القيامة، التي هي الوعد الحق والفيصل الصدق، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [47] ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا .

    ويوم نسير الجبال أي: اذكر يوم نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو. كما [ ص: 4068 ] ينبئ عنه قوله تعالى: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب أو نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منبثا: وترى الأرض بارزة لبروز ما تحت الجبال، أي: ظهوره، بنسفها وبروز ما عداه بزوال الجبال والكثب. حتى تبدو للعيان سطحا مستويا، لا بناء ولا شجر ولا معلم ولا ما سوى ذلك: وحشرناهم أي: جمعناهم إلى موقف الحساب: فلم نغادر أي: نترك: منهم أحدا أي: لا صغيرا ولا كبيرا. كما قال: قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم وقال: ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [48] وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا .

    وعرضوا على ربك صفا أي: مصطفين مترتبين في المواقف، لا يحجب بعضهم بعضا كل في رتبته، قاله القاشاني .

    وقال أبو السعود : (صفا) أي: غير متفرقين ولا مختلطين. فلا تعرض فيه لوحدة الصف وتعدده.

    قال الزمخشري : شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان، مصطفين ظاهرين. يرى جماعتهم كما يرى كل واحد. لا يحجب أحد أحدا: لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة أي: بلا مال ولا بنين. أو لقد بعثناكم كما أنشأناكم. والكلام على إضمار القول. أي: وقلنا. تقريعا للمنكرين للمعاد، وتوبيخا لهم على رؤوس الأشهاد: بل زعمتم أي: بإنكاركم البعث: ألن نجعل لكم موعدا أي: وقتا لإنجاز ما وعدناكم من البعث [ ص: 4069 ] والنشور والحساب والجزاء. فلم يعملوا لذلك أصلا، بل عملوا ما يزدادون به افتضاحا. و(بل) للخروج من قصة إلى أخرى. فالإضراب انتقالي، لا إبطالي.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [49] ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا .

    ووضع الكتاب أي: صحائف الأعمال بين يدي الله بحضرة الخلائق: فترى المجرمين مشفقين أي: خائفين أن يفتضحوا: مما فيه أي: من أعمالهم السيئة المسطرة: ويقولون يا ويلتنا أي: هلكتنا وحسرتنا على ما فرطنا في أعمارنا. قال القاشاني : يدعون الهلكة التي هلكوا بها، من أثر العقيدة الفاسدة والأعمال السيئة: مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها أي: أي شأن حصل له، فلا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا إلا ضبطه وحفظه. والاستفهام مجاز عن التعجب في إحصائه كل المعاصي، وعده مقاديرها وأوصافها، وعدم تسامحه في شيء منها.

    قال البقاعي عليه الرحمة إن لام الجر رسمت مفصولة (يعني: في الرسم العثماني)، إشارة إلى أنهم لشدة الكرب يقفون على بعض الكلمة. وهذا من لطائفه رحمه الله ووجدوا ما عملوا حاضرا أي: مكتوبا في الصحف تفصيلا، من خير وشر. كما قال تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا الآية. وقال: ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر

    ولا يظلم ربك أحدا أي: فيكتب عليه ما لم يعمله، أو يزيد في عقابه. ثم أشار [ ص: 4070 ] تعالى إلى أن الكفر والعصيان مصدره طاعة الشيطان ، وإيثاره على الرحمن. والشيطان أعدى الأعداء وأفسق الفساق. فلا يتولاه إلا من سفه نفسه، وحاد عن جادة الصواب، فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [50] وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا .

    وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن أي: العتاة المردة الشياطين: ففسق عن أمر ربه أي: خرج عن طاعته: أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو أي: فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي، وهم لكم عدو يبغون بكم الغوائل ويوردونكم المهالك؟ وهذا تقريع وتوبيخ لمن آثر اتباعه وإطاعته. ولهذا قال تعالى: بئس للظالمين أي: الواضعين الشيء في غير موضعه: بدلا بئس البدل من الله إبليس، لمن استبدله فأطاعه بدل طاعته. قال ابن كثير : وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين، السعداء والأشقياء، في سورة يس: وامتازوا اليوم أيها المجرمون إلى قوله: أفلم تكونوا تعقلون وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [51] ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا .

    ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض استئناف مسوق لبيان عدم استحقاق [ ص: 4071 ] إبليس وذريته، للاتخاذ المذكور في أنفسهم، بعد بيان الصوارف عن ذلك، من خباثة المحتد والفسق والعداوة. أي: ما أحضرت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض، حين خلقتهما: ولا خلق أنفسهم أي: وما أشهدت بعضهم أيضا خلق بعض منهم. ونفي الإشهاد كناية عن نفي الاعتضاد بهم والاستعانة على خلق ما ذكر- أبلغ. إذ من لم يشهد فأنى يستعان به؟ فأنى يصح جعله شريكا؟ ولذلك قال سبحانه: وما كنت متخذ المضلين عضدا أي: وما كنت متخذهم أعوانا لخلق ما ذكر، بل تفردت بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير أي: وإذا لم يكونوا عضدا في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة؟ واستحقاق العبادة من توابع الخالقية. والاشتراك فيه يستلزم الاشتراك فيها. والخالقية منفية عن غيره تعالى، فينتفي لازمها وهو استحقاق عبادة ذلك الغير، وهم المضلون، فلا يكونون أربابا. إنما وضع (المضلين) موضع الضمير، ذما لهم وتسجيلا عليهم بالإضلال، وتأكيدا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء. ونحو هذه الآية قوله تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [52] ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا .

    ويوم يقول أي: الحق تعالى: نادوا شركائي الذين زعمتم أي: في دار الدنيا، أنهم شركاء لينقذوكم مما أنتم فيه. يقال لهم ذلك على رؤوس الأشهاد تقريعا وتوبيخا لهم: فدعوهم أي: فنادوهم للإعانة، لبقاء اعتقاد شركهم: فلم يستجيبوا لهم أي: فلم [ ص: 4072 ] يعينوهم، لعجزهم عن الجواب، فضلا عن الإعانة. وفي إيراده، مع ظهوره، تهكم بهم وإيذان بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به: وجعلنا بينهم أي: بين الكفار وآلهتهم: موبقا أي: مهلكا يشتركون فيه، وهو النار. أو عداوة هي في الشدة نفس الهلاك. كقول عمر رضي الله عنه: (لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا) ، ويؤيد هذا قوله تعالى: واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا قال ابن كثير : وأما إن جعل الضمير في قوله: " بينهم " عائدا إلى المؤمنين والكافرين كما قال عبد الله بن عمرو: إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به، فهو كقوله تعالى: ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون وقال: يومئذ يصدعون وقال تعالى: وامتازوا اليوم أيها المجرمون وقال تعالى: ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم إلى قوله: وضل عنهم ما كانوا يفترون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [53] ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا .

    ورأى المجرمون النار أي: جهنم المحيطة بأنواع الهلاك ووضع المظهر مقام المضمر تصريحا بإجرامهم، وذما لهم بذلك: فظنوا أنهم مواقعوها أي: أيقنوا بأنهم واقعون فيها: ولم يجدوا عنها مصرفا أي: معدلا ينصرفون إليه. إشارة إلى ما يعاجلهم من الهم والحزن، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه، عذاب ناجز.
    [ ص: 4073 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [54] ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا .

    ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل أي: نوعنا في هذا القرآن الجامع للمهمات وأنواع السعادات، لمصلحة الناس ومنفعتهم، من كل مثل، ينبه على مراقي السعادات ومهاوي الضلالات لينذروا به: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا أي: مجادلة ومخاصمة ومعارضة للحق بالباطل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [55] وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا .

    وما منع الناس أي: أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم وكل من شاكلهم: أن يؤمنوا أي: من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا الشرك: إذ جاءهم الهدى أي: القرآن والحق الواضح النير: ويستغفروا ربهم أي: عن المعاصي السالفة: إلا أن تأتيهم سنة الأولين أي: طلب إتيانها، أو انتظار إتيانها، وهي عذاب الاستئصال: أو يأتيهم العذاب قبلا أي: يرونه عيانا ومواجهة، وهو عذاب الآخرة. أو أعم. والقبل بضمتين بمعنى العيان كما في قراءة (قبلا) بكسر القاف وفتح الباء. أو (قبلا) بمعنى: أنواعا متنوعة جمع (قبيل) وقرئ بفتحتين أي: مستقبلا. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [56] وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا [ ص: 4074 ] بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا .

    وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين أي: وما نرسلهم، قبل إنزال العذاب، إلا لتبشر من آمن بالزلفى والكرامة، وإنذار من كفر بأن تأتيه سنة من مضى: ويجادل الذين كفروا بالباطل كاقتراح الآيات: ليدحضوا به الحق أي: ليزيلوا بالجدال، الحق الثابت عن مقره. وليس ذلك بحاصل لهم. وأصل الإدحاض: إزلاق القدم وإزالتها عن موطئها. فاستعير من زلل القدم المحسوس، لإزالة الحق المعقول.

    قال الشهاب ولك أن تقول: فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره. ثم أنشد لنفسه:


    أتانا بوحل لإنكاره ليزلق أقدام هذي الحجج


    واتخذوا آياتي وما أنذروا أي: وإنذارهم. أو والذي أنذروا به من العقاب: هزوا أي: استهزاء وسخرية وهو أشد التكذيب. وصف بالمصدر مبالغة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [57] ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا .

    ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها كناية عن عدم تدبرها والاتعاظ بها، بأبلغ أسلوب: ونسي ما قدمت يداه أي: ما عمله من الكفر والمعاصي، وصرف ما أنعم به، إلى غير ما خلقت له، فلم يتفكر في عاقبة ذلك: إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه أي: جعلنا عليها حجبا وأغطية كثيرة، كراهة أن يفقهوه، أي: يقفوا على كنه ما خلقت النعم من أجله: وفي آذانهم وقرا أي: وجعلنا فيها ثقلا يمنعهم من [ ص: 4075 ] استماعه. والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم، بأنهم مطبوع على قلوبهم. وذلك لإيثارهم الضلال على الهدى كما قال تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم

    وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا أي: فلا يكون منهم اهتداء البتة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [58] وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا .

    وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا الآيات في هذا المعنى كثيرة. كقوله تعالى: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة وقوله: وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم و: " ربك " مبتدأ و: الغفور خبره وتقديم الوصف بالمغفرة على الرحمة، لأنه أهم بحسب الحال. إذ المقام مقام بيان تأخير العقوبة عنهم، بعد استيجابهم لها. كما يعرب عنه قوله عز وجل: لو يؤاخذهم بما كسبوا والموعد المذكور هو يوم بدر . أو الفتح المشار إليه في كثير من الآيات. أو يوم القيامة. والكل لاحق بهم. و(الموئل) الملجأ والمنجى. أي: ليس لهم عنه محيص ولا مفر. وقوله تعالى:




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #444
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْكَهْفِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4073 الى صـ 4090
    الحلقة (443)




    القول في تأويل قوله تعالى:

    [59] وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا .

    وتلك القرى أي: قرى عاد وثمود وأضرابهم: أهلكناهم لما ظلموا [ ص: 4076 ] بالكفر والطغيان: وجعلنا لمهلكهم موعدا أي: وقتا معينا لا محيد لهم عنه. وهذا استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد، ليتنبهوا لذلك، ولا يغتروا بتأخر العذاب. ثم أشار تعالى إلى نبأ موسى مع الخضر عليهما السلام، ذلك النبأ الذي تضمن من الفوائد والحكم وأعلام النبوة، ما لا يخفى على متبصر. كما ستقف على شذرات من ذلك. فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [60] وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا .

    وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا أي: اذكر وقت قول موسى لفتاه، لا أبرح، أي: لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين. أي: المكان الذي فيه ملتقى البحرين. فأجد فيه الخضر. أو أسير زمانا طويلا إن لم أجده ثمة، فأتيقن فوات المطلب.

    قال المهايمي : أي: اذكر للذين إن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا، لتكبرهم عليك، إنكم لستم بأعلم من موسى ولا أرشد منه. ولست أقل من الخضر في الهداية بل أعظم. لأنها هداية في الظاهر والباطن. وهداية الخضر إنما هي في الباطن. ولا تحتاجون في تحصيله إلى تحمل المشاق، واحتاج إليه موسى . و(الفتى) الشاب. قال الشهاب : العرب تسمي الخادم فتى، لأن الغالب استخدام من هو في سن الفتوة، وكان يوشع خادم موسى عليه السلام ومحبا له، وذا غيرة على كرامته. ولذلك اختصه موسى رفيقا له وخادما. وصار خليفة من بعده على بني إسرائيل. وفتح عليه تعالى بيت المقدس ونصره على الجبارين.
    وقوله تعالى:

    [ ص: 4077 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [61] فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا .

    فلما بلغا مجمع بينهما أي: البحرين: نسيا حوتهما أي: خبر حوتهما، وتفقد أمره، وكانا تزوداه.

    فاتخذ سبيله أي: طريقه: في البحر سربا أي: مثل السرب في الأرض، واضح المسلك، معجزة جعلت علامة للمطلوب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [62] فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا .

    فلما جاوزا أي: مجمع بينهما، وهو المكان الذي نسيا فيه الحوت: قال لفتاه آتنا غداءنا أي: ما نتغدى به: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا أي: تعبا ومشقة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [63] قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا .

    قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت أي: خبر الحوت. وإسناد النسيان إليهما، أولا، إما بمعنى نسيان طلبه، والذهول عن تفقده، لعدم الحاجة إليه. وإما للتغليب، بناء على أن الناسي إنما كان يوشع وحده. فإنه نسي أن يخبر موسى بشأنه العجيب، فيكون كقوله تعالى: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من المالح: وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره أي: لك. و(أن أذكره) بدل من الهاء في (أنسانيه) أي: وما أنساني ذكره إلا الشيطان. وقد قرأ حفص بضم الهاء من غير صلة وصلا، [ ص: 4078 ] والباقون بكسرها: واتخذ سبيله في البحر عجبا أي: أمرا عجيبا، إذ صار الماء عليه سربا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [64] قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا .

    قال أي: موسى: ذلك أي: المكان الذي اتخذ فيه سبيله هربا: ما كنا نبغ أي: نطلب فيه الخضر. لأنه أمارة المطلوب. وقرئ في السبع بإثبات الياء بعد الغين، وصلا لا وقفا. وبإثباتها في الحالين. وبحذفها كذلك: فارتدا على آثارهما أي: رجعا ماشيين على آثار أقدامهما يتبعانها: قصصا أي: اتباعا لئلا يفوتهما الموضع ثانيا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [65] فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما .

    فوجدا أي: فأتيا الموضع المنسي فيه الحوت، فوجدا: عبدا من عبادنا التنكير للتفخيم، والإضافة فيه للتشريف. والجمهور على أنه الخضر . وسنتكلم على جملة من نبئه، بعونه تعالى، بعد تمام القصة: آتيناه رحمة من عندنا أي: آتيناه رحمة لدنية، اختصصناه بها: وعلمناه من لدنا علما أي: علما جليلا آثرناه. وهو علم لدني يكون بتأييد رباني. وسنذكر إن شاء الله تعالى العلم اللدني في آخر هذا النبأ.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [66] قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا .

    قال له موسى هل أتبعك أي: أصحبك: على أن تعلمني مما علمت أي: من لدن ربك: رشدا أي: علما ذا رشد. أي: هدى وإصابة خير.

    قال القاضي: وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب. فاستجهل نفسه، واستأذن [ ص: 4079 ] أن يكون تابعا له، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه، بتعليم بعض ما أنعم الله عليه. أي: وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [67 - 68] قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا .

    قال إنك لن تستطيع معي صبرا أي: بوجه من الوجوه. ثم علل معتذرا بقوله وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا أي: من أمور ستراها. إن صحبتني، ظواهرها مناكير وبواطنها لم يحط بها خبرك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [69] قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا .

    قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا أي: لا أخالفك في شيء.

    قال الزمخشري : رجا موسى عليه السلام، لحرصه على العلم وازدياده، أن يستطيع معه صبرا، بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر. فوعده بالصبر معلقا بمشيئة الله. علما منه بشدة الأمر وصعوبته، وإن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق. هذا مع علمه أن النبي المعصوم، الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم منه، بريء من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين. وأنه لا بد، لما يستسمج ظاهره، من باطن حسن جميل. فكيف إذا لم يعلم؟ انتهى.
    [ ص: 4080 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [70] قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا .

    قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا أي: لا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته مني، ولم تعلم وجه صحته، حتى أبتدئك ببيانه. وهذا من آداب المتعلم مع العالم والمتبوع مع التابع.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [71] فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا .

    فانطلقا أي: على ساحل البحر يطلبان سفينة: حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا أي: عظيما من إتلاف السفينة وقتل الجماعة الكثيرة بغير ذنب، وكفران نعمة الحمل بغير نول.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [72] قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا .

    قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ذكره الخضر بما تقدم من الشرط.

    يعني هذا الصنيع فعلته قصدا. وهو من الأمور التي اشترطت معك أن لا تنكر علي فيها. لأنك لم تحط بها خبرا إذ لها سر لا تعلمه أنت.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [73] قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا .

    قال أي: موسى : لا تؤاخذني بما نسيت من الشرط. فإن المؤاخذة به تفضي [ ص: 4081 ] إلى العسر. والمراد التماس عدم المؤاخذة لقيام المانع وهو النسيان: ولا ترهقني من أمري عسرا أي: لا تحمل علي من أمري، في تحصيل العلم منك، عسرا، لئلا يلجئني إلى تركه. أي: لا تعسر علي متابعتك، بل يسرها علي، بالإغضاء وترك المناقشة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [74] فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا .

    فانطلقا أي: بعد أن خرجا من السفينة إلى الساحل: حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس أي: أنها لم تقتل نفسا فتقتل. بل هي زكية طاهرة من موجبات القتل: لقد جئت شيئا نكرا أي: منكرا. أو أنكر من الأول. لأن ذلك كان خرقا يمكن تداركه بالسد، وهذا لا سبيل إلى تداركه بوجه ما.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [75] قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا .

    قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا تأكيد في التذكار بالشرط الأول. ونكتة زيادة: لك هو -كما قال الزمخشري : زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية. كما لو أتى إنسان بما نهيته عنه، فلمته وعنفته، ثم أتى به مرة أخرى فإنك تزيد في تعنيفه. قال في (المثل السائر): وهذا موضع تدق عن العثور عليه مبادرة النظر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [76] قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا .

    قال أي: موسى : إن سألتك عن شيء بعدها أي: بعد هذه المرة: فلا تصاحبني [ ص: 4082 ] قد بلغت من لدني عذرا أي وجدت من جهتي عذرا. إذ أعذرت إلي مرة بعد مرة، فخالفتك ثلاث مرات، بمقتضى طبع الاستعجال.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [77] فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا .

    فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية اختلف في تسميتها.

    قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): الخلاف فيها كالخلاف في مجمع البحرين. ولا يوثق بشيء منه: استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما أي: امتنعوا من أن يطعموهما الطعام الذي هو حق ضيافتهما عليهم. وقرئ: ((يضيفوهما)) من الإضافة. يقال: ضافه إذا نزل به، وأضافه وضيفه: أنزله ليطعمه في منزله، على وجه الإكرام: فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض أي: ينهدم بقرب. من (انقض الطائر) إذا أسرع سقوطه. والإرادة مستعارة للمداناة والمشارفة. لما فيهما من الميل. استعارة تصريحية أو مكنية وتخييلية، أو هي مجاز لغوي مرسل بعلاقة سبب الإرادة، لقرب الوقوع.

    وقد أوسع الزمخشري ، عليه الرحمة من الشواهد على مثل هذا المجاز. فانظره: فأقامه أي: عمره وأصلحه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا أي: لو طلبت على عملك جعلا حتى تنتعش به. ففيه لوم على ترك الأجرة، مع مسيس الحاجة إليها .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [78] قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا .

    قال هذا فراق بيني وبينك الإشارة إلى الفراق الموعود بقوله: فلا تصاحبني أو إلى الاعتراض الثالث. أو إلى الوقت الحاضر سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه [ ص: 4083 ] صبرا أي: بمآل ما لم تصبر على ظاهره، وبعاقبته. وهو خلاص السفينة من اليد العادية، وخلاص أبوي الغلام من شره، مع الفوز بالبدل الأحسن، واستخراج اليتيمين للكنز. قال أبو السعود : وفي جعل صلة الموصول. عدم استطاعة موسى عليه الصلاة والسلام للصبر، دون أن يقال (بتأويل ما فعلت) أو (بتأويل ما رأيت) ونحوهما، نوع تعريض به عليه السلام وعتاب. ثم أخذ الخضر في تفسير ما أشكل أمره على موسى ، وما كان أنكر ظاهره. وقد أظهر الله الخضر ، عليه السلام، على باطنه. فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [79] أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا .

    أما السفينة أي: التي خرقتها: فكانت لمساكين يعملون في البحر أي: لفقراء يحترفون العمل في البحر، لنقل الناس من ساحل إلى آخر: فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا أي: إنما خرقتها لأعيبها. لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة، يأخذ كل سفينة سليمة جيدة، غصبا. فأردت أن أعيبها لأرده عنها، لعيبها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [80] وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا [81] فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما .

    وأما الغلام أي: الذي قتلته: فكان أبواه مؤمنين فخشينا أي: لو تركناه: أن يرهقهما طغيانا وكفرا أي: ينزل بهما طغيانه وكفره ويلحقه بهما. لكونه طبع على ذلك. فيخشى أن يعديهما بدائه.

    فأردنا أي: بقتله: أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة أي: طهارة عن الكفر والطغيان: وأقرب رحما أي: رحمة بأبويه، وبرا.
    [ ص: 4084 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [82] وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنـز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنـزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا .

    وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنـز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما أي: قوتهما بالعقل وكمال الرأي: ويستخرجا كنـزهما ليتصرفا فيه: رحمة من ربك أي: تفضل بها عليهما.

    و(رحمة) مفعول له. أو مصدر مؤكد لــ(أراد) فإن إرادة الخير رحمة: وما فعلته أي ما رأيت مني: عن أمري أي: عن اجتهادي ورأيي، وإنما فعلته بأمر الله تعالى: ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا أي: من الأمور التي رأيتها. أي: مآله وعاقبته. قال أبو السعود : (ذلك) إشارة إلى العواقب المنظومة في سلك البيان. وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتها في الفخامة. و: تسطع مخفف (تستطع) بحذف التاء.

    تنبيهات:

    في بعض ما اشتمل عليه هذا النبأ من الأحكام واللطائف والفوائد الساميات:

    الأول: قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآيات أنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الرفيق والخادم في السفر . واستحباب الرحلة في طلب العلم. واستزادة العالم من العلم واتخاذ الزاد للسفر، وأنه لا ينافي التوكل . ونسبة النسيان، ونحوه من الأمور المكروهة، إلى الشيطان ، مجازا وتأدبا عن نسبتهما إلى الله تعالى. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة . واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه مما لا يحتمله طبعه . وتقديم المشيئة في الأمر ، واشتراط المتبوع على التابع . وأنه يلزم الوفاء بالشروط. وأن النسيان غير مؤاخذ به . [ ص: 4085 ] وأن (للثلاث) اعتبارا في التكرار ونحوه. وأنه لا بأس بطلب الغريب الطعام والضيافة . وأن صنع الجميل لا يترك ولو مع اللئام. وجواز أخذ الأجر على الأعمال . وأن المسكين لا يخرج عن المسكنة بكونه له سفينة أو آلة يكتسب بها، أو شيء لا يكفيه . وأن الغصب حرام . وأنه يجوز إتلاف بعض مال الغير، أو تعييبه، لوقاية باقيه ، كمال المودع واليتيم. وإذا تعارض مفسدتان ارتكب الأخف . وأن الولد يحفظ بصلاح أبيه . وأنه تجب عمارة ما يخاف منه، ويحرم إهمالها إلى أن تخرب . وأنه يجوز دفن المال في الأرض . انتهى.

    وقال البيضاوي: ومن فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه. ولا يبادر إنكار ما لم يستحسنه ، فلعل فيه سرا لا يعرفه. وأن يداوم على التعلم، ويتذلل للمعلم، ويراعي الأدب في المقال. وأن ينبه المجرم على جرمه، ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره، ثم يهاجر عنه. انتهى.

    ومن فوائد الآية -كما في (فتح الباري)- استحباب الحرص على لقاء العلماء وتجشم المشاق في ذلك . وإطلاق (الفتى) على التابع واستخدام الحر. وطواعية الخادم لمخدومه. وعذر الناسي. وجواز الإخبار بالتعب، ويلحق به الألم من مرض ونحوه. ومحل ذلك إذا كان على غير سخط من المقدور. ومنها أن المتوجه إلى ربه يعان فلا يسرع إليه النصب. وفيها جواز طلب القوت . وطلب الضيافة. وقيام العذر بالمرة الواحدة، وقيام الحجة بالثانية.

    وفيها حسن الأدب مع الله وأن لا يضاف إليه ما يستهجن لفظه ، وإن كان الكل بتقديره وخلقه، لقول الخضر عن السفينة: فأردت أن أعيبها وعن الجدار: فأراد ربك ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: « والخير بيديك والشر ليس إليك » . انتهى.

    ومن فوائدها إطلاق (القرية) على (المدينة) لقوله: أهل قرية ثم قوله: لغلامين يتيمين في المدينة

    [ ص: 4086 ] الثاني: ذكر الناصر في (الانتصاف): شذرات من لطائف بعض الآي المذكورة فنأثرها عنه.

    قال عليه الرحمة: ورد في الحديث أن موسى عليه السلام لم ينصب، ولم يقل: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا إلا منذ جاوز الموضع الذي حده الله تعالى له. فلعل الحكمة في إنساء يوشع أن يتيقظ موسى عليه السلام، لمنة الله تعالى على المسافر في طاعة وطلب علم، بالتيسير عليه وحمل الأعباء عنه. وتلك سنة الله الجارية في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات، أن ييسرها، ويحمل عنه مؤنتها، ويتكفل به ما دام على تلك الحالة. وموضع الإيقاظ أنه وجد بين حالة سفره للموعد وحالة مجاوزته، بونا بينا، والله أعلم وإن كان موسى عليه السلام متيقظا لذلك، فالمطلوب إيقاظ غيره من أمته، بل من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، إذا قص عليهم القصة. فما أورد الله تعالى قصص أنبيائه ليسمر بها الناس، ولكن ليشمر الخلق لتدبرها واقتباس أنوارها ومنافعها، عاجلا وآجلا. والله أعلم.

    ثم قال عليه الرحمة: ومما يدل على أن موسى عليه السلام إنما حمله على المبادرة بالإنكار، الالتهاب والحمية للحق، أنه قال حين خرق السفينة: أخرقتها لتغرق أهلها ولم يقل: (لتغرقنا) فنسي نفسه واشتغل بغيره، في الحالة التي كل أحد فيها يقول: نفسي نفسي، لا يلوي على مال ولا ولد. وتلك حالة الغرق. فسبحان من جبل أنبياءه وأصفياءه على نصح الخلق والشفقة عليهم والرأفة بهم. صلوات الله عليهم أجمعين وسلامه.

    ثم قال عليه الرحمة على قوله الزمخشري : فإن قلت قوله: فأردت أن أعيبها مسبب عن خوف الغصب عليها، فكان حقه أن يتأخر عن السبب، فلم قدم عليه؟ قلت: النية به التأخير. وإنما قدم للعناية. ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين. فكان بمنزلة قولك: (زيد ظني مقيم).

    فقال عليه الرحمة: كأنه جعل السبب في إعابتها كونها لمساكين. ثم بين مناسبة هذا [ ص: 4087 ] السبب للمسبب، بذكر عادة الملك في غصب السفن. وهذا هو حد الترتيب في التعليل أن يرتب الحكم على السبب، ثم يوضح المناسبة فيما بعد. فلا يحتاج إلى جعله مقدما، والنية تأخيره. والله أعلم.

    ثم قال: ولقد تأملت من فصاحة هذه الآي، والمخالفة بينها في الأسلوب عجبا. ألا تراه في الأولى أسند الفعل إلى ضميره خاصة بقوله: فأردت أن أعيبها وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه في قوله: " فأردنا أن يبدلهما ربهما " فخشينا أن يرهقهما " ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى، لأن المراد (ثم عبت) فتأدب بأن نسب الإعابة إلى نفسه. وأما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك: (أمرنا بكذا أو دبرنا كذا) وإنما يعنون: (أمر الملك ودبر) ويدل على ذلك قوله في الثالثة: فأراد ربك أن يبلغا أشدهما فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب، ولم تأت على نمط واحد مكرر، يمجها السمع وينبو عنها، ثم انطوت هذه المخالفة على رعاية الأسرار المذكورة. فسبحان اللطيف الخبير.

    الثالث: قال الخفاجي: في إعادة لفظ (الأهل) هنا، يعني في قوله تعالى: استطعما أهلها إثر قوله: أتيا أهل قرية سؤال مشهور. وقد نظمه الصلاح الصفدي سائلا عنه السبكي في قصيدة منها:


    رأيت كتاب الله أعظم معجز لأفضل من يهدى به الثقلان ومن جملة الإعجاز كون اختصاره
    بإيجاز ألفاظ وبسط معاني ولكنني في (الكهف) أبصرت آية
    بها الفكر، في طول الزمان عناني وما هي إلا (استطعما أهلها) فقد
    نرى (استطعماهم) مثله ببيان فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر
    مكان ضمير؟ إن ذاك لشان


    يعني أنه عدل عن الظاهر بإعادة لفظ (أهل) ولم يقل استطعماها لأنه صفة القرية. [ ص: 4088 ] أو (استطعماهم) لأنه صفة (أهل) فلا بد من وجه. وقد أجابوا عنه بأجوبة مطولة نظما ونثرا. والذي تحرر فيه أنه ذكر (الأهل) أولا ولم يحذف إيجازا، سواء قدر أو تجوز في القرية، كقوله: واسأل القرية لأن الإتيان ينسب للمكان. نحو (أتيت عرفات) ولمن فيه نحو (أتيت بغداد) فلو لم يذكر كان فيه التباس مخل. فليس ما هنا نظير تلك الآية لامتناع سؤال نفس القرية، فلا يستعمل استعمالها. وأما الأهل الثاني فأعيد لأنه غير الأول. وليست كل معرفة أعيدت عينا كما بينوه. لأن المراد به بعضهم. إذ سؤالهم فردا فردا مستبعد. فلو لم يذكر، فهم غير المراد. أما لو قيل: (استطعماهم) فظاهر. وأما لو قيل (استطعماها) فإن النسبة إلى المحل تفيد الاستيعاب، كما أثبتوه في محله. وأما إتيان جميع القرية فهو حقيقة في الوصول إلى بعض منها. كما يقال: (زيد في البلد) أو (في الدار) وقيل: إن الأهل أعيد للتأكيد كقوله:


    ليت الغراب غداة ينعب بيننا كان الغراب مقطع الأوداج


    أو لكراهة اجتماع ضميرين متصلين، لبشاعته واستطالته، وثمة أجوبة أخرى.

    الرابع: أبدى بعضهم سرا للتعبير أولا (بتستطع) ثم أخيرا (بتسطع) بحذف التاء قال: لما أن فسر الخضر لموسى ، وبين له تأويل ما لم يصبر معه، ووضحه وأزال المشكل، قال (تسطع) بحذف التاء. وقيل ذلك كان الإشكال قويا ثقيلا. فقال: سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا فقابل الأثقل بالأثقل والأخف بالأخف. كما قال: فما اسطاعوا أن يظهروه وهو الصعود إلى أعلاه وما استطاعوا له نقبا وهو أشق من ذلك. [ ص: 4089 ] فقابل كلا بما يناسبه لفظا ومعنى. انتهى.

    وقال الشهاب: وإنما خص هذا بالتخفيف لأنه لما تكرر في القصة ناسب تخفيف الأخير منه. وأما كونه للإشارة إلى أنه خف على موسى صلى الله عليه وسلم ما لقيه ببيان سببه- فيبعد أنه في الحكاية، لا المحكي. انتهى.

    وما ألطف قول الشهاب في مثله: هذه زهرة لا تحتمل هذا الفرك.

    الخامس: قال الإمام السبكي رحمه الله: ما فعله الخضر عليه الصلاة والسلام من قتل الغلام لكونه طبع كافرا، مخصوص به. لأنه أوحي إليه أن يعمل بالباطن، وخلاف الظاهر الموافق للحكمة. فلا إشكال فيه. وإن علم من الشريعة أنه لا يجوز قتل صغير لا سيما بين أبوين مؤمنين . ولو فرضنا أن الله أطلع بعض أوليائه، كما أطلع الخضر عليه السلام، لم يجز له ذلك، وما ورد عن ابن عباس (لما كتب إليه نجدة الحروري: كيف قتله وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه: إن كنت علمت من حال الولدان، ما علمه عالم موسى، فلك أن تقتل (فإنما قصد به ابن عباس المحاجة والإحالة على ما لم يمكن قطعا، لطمعه في الاحتجاج بقصة الخضر عليه الصلاة والسلام. وليس مقصوده أنه إن حصل ذلك يجوز. لأنه لا تقتضيه الشريعة. وكيف يقتل بسبب لم يحصل؟ والمولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان حقيقي . وقصة الخضر تحمل على أنه كان شرعا مستقلا به. وهو نبي. وليس في شريعة موسى أيضا، ولذا أنكره. انتهى.

    وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): وأما من استدل به على جواز دفع أغلظ الضررين بأخفهما ، فصحيح. لكن فيما لا يعارض منصوص الشرع. فلا يسوغ الإقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفسا كثيرة ، قبل أن يتعاطى شيئا من ذلك. وإنما فعل الخضر ذلك لإطلاع الله تعالى عليه.

    [ ص: 4090 ] وقال ابن بطال : قول الخضر: (وأما الغلام فكان كافرا) هو باعتبار ما يؤول إليه أمره أن لو عاش حتى يبلغ. واستحباب مثل هذا القتل لا يعلمه إلا الله. ولله أن يحكم في خلقه بما يشاء قبل البلوغ وبعده.

    أقول: مفاد الآية، أن إنكار موسى لقتل الغلام لكونه جناية بغير موجب. ولذا قال: (بغير نفس)، لا لكونه صغيرا لم يبلغ الحنث. لأن الآية لا تفيده. وقد يكون كبيرا. فقد قال اللغويون: الغلام الطار الشاب، أو من حين يولد إلى أن يشب، والكهل أيضا. ومن الأخير قول موسى في قصة الإسراء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أبكي لأن غلاما بعث بعدي. إلخ، نعم ربما يشعر بصغره حديث البخاري : وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما فذبحه قال موسى : أقتلت نفسا لم تعمل بالحنث. ولكن لا نص فيه، فتأمل.

    السادس: أكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية، هو موسى بن عمران صاحب الآيات الشهيرة وصاحب التوراة. وذهب نوف البكالي -تابعي صدوق ابن امرأة كعب الأحبار أو ابن أخيه- إلى أنه ليس بموسى بن عمران كما في البخاري . ووقع في رواية ابن إسحاق عن سعيد بن جبير ، عند (النسائي) قال: كنت عند ابن عباس وعنده قوم من أهل الكتاب، فقال بعضهم: يا أبا عباس! إن نوفا يزعم عن كعب الأحبار أن موسى الذي طلب العلم إنما هو موسى بن منسا. أي: ابن إفراثيم بن يوسف عليه السلام. فقال ابن عباس: أسمعت ذلك منه يا سعيد؟ قلت: نعم. قال: كذب نوف. وفي رواية البخاري: كذب عدو الله. وإنما قال ذلك مبالغة في الإنكار والتنفير من تصديق مقالته.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #445
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْكَهْفِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4091 الى صـ 4105
    الحلقة (444)




    [ ص: 4091 ] قال الرازي: كان ليوسف ولدان إفراثيم. ومنسا. فولد إفراثيم نون وولد نون يوشع صاحب موسى وولي عهده بعد وفاته. وأما ولد منسا، قيل إنه جاءته النبوة قبل موسى بن عمران. ويزعم أهل التوراة أنه هو الذي طلب هذا العلم ليتعلم. والخضر هو الذي خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار، وموسى بن منسا معه. هذا هو قول جمهور اليهود. واحتج القفال على صحة القول بأنه موسى صاحب التوراة أنه لم يذكر في القرآن وهو المراد. فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه. ولو كان المراد غيره لوجب تعريفه بصفة تميزه وتزيل الاشتباه عنه، والله أعلم. انتهى.

    وأما ابن عباس فكان سنده في ذلك، كما في البخاري، ما حدثه به أبي بن كعب ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم; أن موسى سئل هل في الأرض أحد أعلم منك؟ فقال: لا. أو حدثته نفسه بذلك. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه. وأراد تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، لئلا يحتم على ما لا علم له به. وإذا صح أن موسى هو صاحب التوراة، فيكون المراد بفتاه يوشع. وكان موسى اختصه برفقته لكونه صادقا في خدمته، والغيرة على كرامته، والحب له. ولذا صار خليفته بعده، وفتح عليه بيت المقدس ونصر على الجبارين، كما هو معروف.

    السابع: قال الأكثرون: إن صاحب موسى المعبر عنه بقوله تعالى: عبدا من عبادنا هو الخضر. قالوا: سمي بذلك لأنه ما جلس على الأرض إلا اخضرت. وقد صح عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى . فقال ابن عباس : هو خضر ، فمر أبي بن كعب . فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا، في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه. فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل، إذ جاءه رجل فقال: تعلم مكان أحد أعلم منك؟ قال موسى: لا. فأوحى الله إلى موسى: بلى. عبدنا خضر. [ ص: 4092 ] فسأل موسى السبيل إلى لقيه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت فارجع فإنك ستلقاه. فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر. فقال موسى: ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا خضرا.وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه » .

    الثامن: اختلف أهل العلم في نسب الخضر وفي كونه نبيا وفي طول عمره وبقاء حياته على أقوال كثيرة. فمن قائل بأنه ابن آدم لصلبه أو ابن قابيل أو ابن اليسع، أو غير ذلك، وكله مما ليس فيه أثارة من علم، وقد احتج من قال إنه نبي بقوله تعالى: وما فعلته عن أمري لأن الظاهر من هذا أنه فعله بأمر الله. والأصل عدم الواسطة. وقيل: كان وليا. وقيل: مقامه دون النبوة وفوق الصديقية فهو مقام برزخي، له وجه إلى النبوة ووجه إلى الولاية. وقيل: إنه ملك من الملائكة. وأما تعميره فيروى عن ابن عباس أنه أنسئ للخضر في أجله حتى يكذب الدجال .

    قال النووي في (التهذيب) قال الأكثرون: هو حي موجود بين أظهرنا. وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة. وحكاياتهم في رؤيته، والاجتماع به، والأخذ عنه، وسؤاله، ووجوده في المواضع الشريفة، أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تذكر.

    وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث: إنه مات.

    وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية : وأما رواية اجتماعه مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعزيته لأهل البيت، فلا يصح من طرقها شيء. ولا يثبت اجتماعه مع أحد من الأنبياء، إلا مع موسى . وجميع ما ورد في حياته لا يصح منه شيء، باتفاق أهل النقل. وأما ما جاء من المشايخ فهو مما يتعجب منه. كيف يجوز لعاقل أن يلقى شيخا لا يعرفه فيقول له: أنا فلان فيصدقه؟ انتهى كلامه ملخصا.

    وتمسك من قال بتعميره بقصة عين الحياة، واستند إلى ما وقع من ذكرها في صحيح البخاري [ ص: 4093 ] وجامع الترمذي . ولكن لم يثبت ذلك مرفوعا.

    وقال أبو حيان في (تفسيره): الجمهور على أن الخضر مات. وبه قال ابن أبي الفضل المرسي. لأنه لو كان حيا لزمه المجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به واتباعه.

    وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي » . وبذلك جزم ابن المناوي وإبراهيم الحربي وأبو طاهر العبادي. وممن جزم بأنه غير موجود الآن، أبو يعلى الحنبلي وأبو الفضل بن ناصر والقاضي أبو بكر بن العربي ، وأبو بكر بن النقاش وابن الجوزي. واستدل على ذلك بأدلة. منها قوله تعالى: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد قال أبو الحسين بن المناوي : بحثت عن تعمير الخضر، وهل هو باق أم لا! فإذا أكثر المغفلين مفترون بأنه باق من أجل ما روي في ذلك، والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية. والسند إلى أهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم. وخبر مسلمة بن مصقلة كالخرافة. وخبر رياح كالريح. وما عدا ذلك من الأخبار، كلها واهية الصدر والأعجاز. لا يخلو حالها من أمرين: إما أن تكون أدخلت على الثقات استغفالا، أو يكون بعضهم تعمد ذلك. وقد قال تعالى: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد

    قال صاحب (فتح البيان): والحق ما ذكرناه عن البخاري وأضرابه في ذلك. ولا حجة في قول أحد كائنا من كان إلا الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولم يرد في ذلك نص مقطوع به، ولا حديث مرفوع إليه صلى الله عليه وسلم، حتى يعتمد عليه ويصار إليه. وظاهر الكتاب والسنة نفي الخلد، وطول التعمير لأحد من البشر. وهما قاضيان على غيرهما ولا يقضي غيرهما عليهما. ومن قال إنه نبي أو مرسل أو حي باق، لم يأت بحجة نيرة ولا سلطان مبين. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. انتهى.

    [ ص: 4094 ] وقال تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة والرضوان في بعض فتاويه، في ترائي الجن للإنس في بعض البلاد، ما مثاله: وفيه كثير من الجن وهم رجال الغيب الذين يرون أحيانا في هذه البقاع قال تعالى: وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا

    وكذلك الذين يرون الخضر أحيانا هو جني رأوه. وقد رآه غير واحد ممن أعرفه وقال (إنني) وكان ذلك جنيا لبس على المسلمين الذين رأوه. وإلا فالخضر الذي كان مع موسى عليه السلام مات. ولو كان حيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه. فإن الله فرض على كل نبي أدرك محمدا، أن يؤمن به ويجاهد معه . كما قال الله تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين قال ابن عباس رضي الله عنه: لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق على أمته; لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه. ولم يذكر أحد من الصحابة أنه رأى الخضر ، ولا أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فإن الصحابة كانوا أعلم وأجل قدرا، من أن يلبس الشيطان عليهم. ولكن لبس على كثير من بعدهم. فصار يتمثل لأحدهم في صورة النبي ويقول: أنا الخضر. وإنما هو الشيطان. كما أن كثيرا من الناس يرى ميته خرج، وجاء إليه، وكلمه في أمور، وقضاء حوائج، فيظنه الميت نفسه. وإنما هو شيطان. تصور بصور. انتهى.

    التاسع: دل قوله تعالى: وعلمناه من لدنا علما على أن من العلم علما غيبيا وهو المسمى بالعلم اللدني. فالآية أصل فيه. وقد ألف حجة الإسلام الغزالي ، عليه الرحمة، رسالة في إثبات هذا العلم. رد على من أنكر وجوده. وذكر عليه الرحمة أولا طرفا من مراتب العلوم الظاهرية المعروفة. ثم جود الكلام في إثباته. ولا بأس بإيراد شذرة مما قرره فيه. قال [ ص: 4095 ] قدس سره. اعلم أن العلم الإنساني يحصل من طريقين : أحدهما من التعليم الإنساني والثاني من التعليم الرباني. أما الطريق الأول، وهو التعليم الإنساني، فطريق معهود مسلوك محسوس. ويكون على وجهين:

    أحدهما: من خارج وهو التحصيل بالتعلم.

    والآخر: من داخل وهو الاشتغال بالتفكر. والتفكر في الباطن بمنزلة التعليم في الظاهر. فإن التعلم استفادة الشخص من الشخص الجزئي. والتفكر استفادة النفس من النفس الكلي. والنفس الكلي أشد تأثيرا وأقوى تعليما من جميع العقلاء والعلماء. والعلوم مركوزة في أصل النفوس بالقوة. كالبذر في الأرض والجوهر في قعر البحر، أو في قلب المعدن. والتعلم هو طلب خروج ذلك الشيء الذي بالقوة إلى الفعل. والتعليم هو إخراجه من القوة إلى الفعل. فنفس المتعلم تتشبه بنفس العالم وتتقرب إليه بالنسبة. فالعالم بالإفادة كالزارع. والمتعلم بالاستفادة كالأرض. والعلم الذي هو بالقوة كالبذر. والذي هو بالفعل، كالنبات. وإذا كملت نفس المتعلم يكون كالشجر المثمر أو كالجوهر الظاهر من قعر البحر. وإذا غلبت القوى البدنية على النفس يحتاج المتعلم إلى زيادة التعلم في طول المدة. ويحمل التعب في طلب الفائدة، وإذا غلب نور العقل على أوصاف الحس يستغني الطالب بقليل التفكر عن كثير التعلم، فإن نفس العاقل تجد من الفوائد بتفكر ساعة، ما لا تجد نفس الجاهل بتعلم سنة. فإذن بعض الناس يحصلون العلم بالتعلم وبعضهم بالتفكر. ثم قال قدس سره: والطريق الثاني وهو التعليم الرباني. وذلك على وجهين: إلقاء الوحي وهو النفس إذا كملت بذاتها تزول عنها دنس الطبيعة ودرن الحرص والأمل. وينفصل نظرها عن شهوات الدنيا وينقطع نسبها عن الأماني الفانية. وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها. وتتمسك بجود مبدعها. وتعتمد على إفادته وفيض نوره. فالله تعالى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالا كليا، وينظر إليها نظرا إلهيا، ويتخذ منها لوحا، ومن النفس الكلي قلما وينقش فيها علومه. ويصير العقل الكلي كالمعلم والنفس القدسي كالمتعلم. فتحصل جميع العلوم لتلك النفس وتنتقش فيها جميع الصور [ ص: 4096 ] من غير تعلم وتفكر.

    ومصداق هذا قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: وعلمك ما لم تكن تعلم فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق. لأن محصوله عن الله تعالى بلا واسطة ووسيلة. وبيان هذه الكلمة يوجد في قصة آدم والملائكة عليهم الصلاة والسلام. فإنهم طول عمرهم حصلوا بفنون الطرق كثير العلوم. حتى صاروا أعلم المخلوقين وأعرف الموجودات. آدم لما جاء، ما كان عالما. لأنه ما تعلم ولا رأى معلما. فتفاخرت الملائكة عليه وتجبروا وتكبروا وقالوا: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعلم حقائق الأشياء. فرجع آدم إلى باب خالقه وأخرج قلبه عن جملة المكونات، وأقبل بالاستعانة على الرب تعالى، فعلمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء أو صغر حالهم عند آدم وقل علمهم وانكسرت سفينة جبروتهم، فغرقوا في بحر العجز: قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا فقال تعالى: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فأنبأهم آدم عن مكنونات العلم ومستترات الأمر. فتقرر الأمر عند العقلاء; أن العلم الغيبي المتولد عن الوحي، أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة. صار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل، حتى أغلق الله باب الوحي في عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فكان رسول الله خاتم النبيين، وكان أعلم الناس وأفصح العرب والعجم، وكان يقول: « أدبني ربي فأحسن تأديبي » وقال لقومه: « أنا أعلمكم بالله وأخشاكم لله » وإنما كان علمه أكمل وأشرف وأقوى، لأنه حصل عن التعليم الرباني، وما اشتغل قط بالتعلم والتعليم الإنساني فقال تعالى: علمه شديد القوى

    [ ص: 4097 ] والوجه الثاني: هو الإلهام. والإلهام تنبيه النفس الكلي للنفس الجزئي على قدر صفاته وقبوله وقوته واستعداده. والإلهام أثر الوحي فإن الوحي هو تصريح الأمر الغيبي. والإلهام هو تعريضه. والعلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويا. والذي عن الإلهام يسمى علما لدنيا. والعلم اللدني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري. وإنما هو كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صاف فارغ لطيف. وذلك أن العلوم كلها محصولة في جوهر النفس الكلي الأولي الذي هو من الجواهر المفارقة الأولية المحضة، بالنسبة إلى العقل الأول كنسبة حواء إلى آدم عليهما السلام. وقد تبين أن العقل الكلي أشرف وأكمل وأقوى وأقرب إلى البارئ تعالى من النفس الكلي. والنفس الكلي أعز وأشرف من سائر المخلوقات. فمن إفاضة العقل الكلي يتولد الإلهام. فالوحي حلية الأنبياء، والإلهام زينة الأولياء. فكما أن النفس دون العقل، فالوحي دون النبي. وكذلك الإلهام دون الوحي. فهو ضعيف بنسبة الوحي، قوي بإضافة الرؤيا. والإلهام علم الأنبياء والأولياء. فإن علم الوحي خاص بالرسل موقوف عليهم. كما كان لآدم وموسى وإبراهيم ومحمد وغيرهم من الرسل صلوات الله عليهم. وفرق بين الرسالة والنبوة. فالنبوة هي قبول النفس القدسي حقائق المعلومات والمعقولات عن جوهر العقل الأول. والرسالة تبليغ تلك المعلومات والمعقولات إلى المستفيدين والمتابعين. وربما يتفق القبول لنفس من النفوس، ولا يتأتى لها التبليغ لعذر من الأعذار وسبب من الأسباب. والعلم اللدني يكون لأهل النبوة والولاية، كما حصل للخضر عليه السلام حيث أخبر الله تعالى فقال: وعلمناه من لدنا علما

    ثم قال عليه الرحمة: فإذا أراد الله بعبد خيرا رفع الحجاب بين نفسه وبين النفس الكلي الذي هو اللوح. فيظهر فيها أسرار بعض المكونات. وينتقش فيها معاني تلك المكونات. فيعبر النفس عنها كما يشاء إلى من يشاء من عباده.

    [ ص: 4098 ] وحقيقة الحكمة تنال من العلم اللدني. وما لم تبلغ النفس هذه الرتبة لا يكون حكيما. لأن الحكمة من مواهب الله تعالى : و: يؤتي الحكمة من يشاء من عباده: ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب وهم الواصلون مرتبة العلم اللدني، المستغنون عن كثرة التحصيل وتعب التعلم. فيتعلمون قليلا ويعلمون كثيرا، ويتعبون يسيرا ويستريحون طويلا.

    ثم قال عليه الرحمة: اعلم أن العلم اللدني هو سريان نور الإلهام. والإلهام يكون بعد التسوية. كما قال تعالى: ونفس وما سواها والتسوية تصحيح النفس والرجوع إلى فطرتها. وهذا الرجوع يكون على ثلاثة أوجه:

    أحدها: تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر من أكثرها.

    والثاني: الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة. فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذه الحقيقة فقال: « من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم » .

    والثالث: التفكر. فإن النفس، إذا تعلمت وارتاضت بالعلم والعمل، ثم أخذت تتفكر بمعلوماتها، بشرط التفكر، ينفتح عليه باب الغيب. كالتاجر الذي يتصرف في ماله بشرط التجارة، ينفتح عليه أبواب الربح. وإذا سلك طريق الخطأ يقع في مهالك الخسران. فالمتفكر إذا سلك سبيل الصواب يصير من ذوي الألباب، وتنفتح روزنة من عالم الغيب في قلبه فيصير عالما كاملا عاقلا ملهما مؤيدا. كما قال صلى الله عليه وسلم: « تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة » انتهى ملخصا.

    وفي خلال كلامه عليه الرحمة، جمل من إشارات الصوفية وعباراتهم. ولا يأباها العقل [ ص: 4099 ] السليم ولا قواعد العلم الظاهر. لأنها في هذه المثابة بدرجة الاعتدال والتوسط. كذلك كان مشربه قدس الله سره. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [83] ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا .

    ويسألونك عن ذي القرنين وهو الإسكندر الكبير المقدوني وسنذكر وجه تلقيبه بذلك: قل سأتلو عليكم منه ذكرا أي: نبأ مذكورا معجزا، أنزله الله علي.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [84] إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا .

    إنا مكنا له في الأرض أي: بالقوة والرأي والتدبير والسعة في المال والاستظهار بالعدد وعظم الصيت وكبر الشهرة وآتيناه من كل شيء سببا أي: طريقا موصلا إليه. والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [85] فأتبع سببا [86] حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا .

    فأتبع سببا قرئ بقطع الهمزة وسكون التاء. وقرئ بهمزة الوصل وتشديد التاء. فقيل هما بمعنى ويتعديان لمفعول واحد. وقيل: (أتبع) بالقطع يتعدى لاثنين. والتقدير: فأتبع سببا سببا آخر. أو فأتبع أمره سببا كقوله: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة

    [ ص: 4100 ] وقال أبو عبيدة: (اتبع) بالوصل في السير (وأتبع) بالقطع معناه اللحاق كقوله: فأتبعه شهاب ثاقب وقال يونس : (أتبع) بالقطع للجد الحثيث في الطلب وبالوصل مجرد الانتقال. والفاء في قوله: فأتبع فاء الفصيحة. أي: فأراد بلوغ المغرب فأتبع سببا يوصله، لقوله: حتى إذا بلغ مغرب الشمس أي: أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض: وجدها تغرب في عين حمئة أي: ذات حمأة وهو الطين الأسود، وقرئ (حامية) أي: حارة. وقد تكون جامعة للوصفين و(وجد) يكون بمعنى رأى لما ذكره الراغب: ووجد عندها قوما أي: أمة. ثم أشار تعالى إلى أنه مكنه منهم، وأظهره بهم، وحكمه فيهم وجعل له الخيرة في شأنهم، بقوله: قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب أي: بالقتل وغيره: وإما أن تتخذ فيهم حسنا بالعفو.
    ثم بين تعالى عدله وإنصافه، ليحتذى حذوه، بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [87] قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا .

    قال أما من ظلم أي: بالبغي والفساد في الأرض بالشرك والضلال والإضلال: فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه أي: في الآخرة: فيعذبه عذابا نكرا أي: منكرا لم يعهد مثله.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [88] وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا .

    وأما من آمن وعمل صالحا فله أي: في الدارين: جزاء الحسنى يقرأ بالرفع [ ص: 4101 ] والإضافة. وهو مبتدأ، أو مرفوع بالظرف أي: فله جزاء الخصلة الحسنى. يقرأ بالرفع والتنوين و: " الحسنى " بدل أو خبر مبتدأ محذوف. ويقرأ بالنصب والتنوين. أي: فله الحسنى جزاء. فهو مصدر في موضع الحال. أي: مجزيا بها. أو هو مصدر على المعنى. أي: يجزي بها جزاء أو تمييز. ويقرأ بالنصب من غير تنوين. وهو مثل المنون إلا أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين. أفاده أبو البقاء.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [89] ثم أتبع سببا [90] حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا .

    ثم أتبع سببا أي: طريقا راجعا من مغرب الشمس، موصلا إلى مشرقها. حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا أي: من المباني والجبال.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [91] كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا .

    كذلك أي: أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان وبسطة الملك. أو أمره فيهم، كأمره في أهل المغرب من الحكم المتقدم. أو صفة مصدر محذوف لـ (وجد) أي: وجدها تطلع وجدانا كوجدانها تغرب في عين حمئة. أو معمول (بلغ) أي: بلغ مغربها كما بلغ مطلعها، ولا يحيط بما قاساه غير الله. أو صفة (قوم) أي: على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم الشمس، في الكفر والحكم: وقد أحطنا بما لديه خبرا أي: علما. نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه. لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم [ ص: 4102 ] وتقطعت بهم الأرض. وفي التذييل بهذا، إشارة إلى كثرة ما لديه من العدد والعدد، بحيث لا يحيط بها إلا علمه تعالى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [92] ثم أتبع سببا [93] حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا .

    ثم أتبع سببا أي: طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب.

    حتى إذا بلغ بين السدين قرئ بفتح السين وضمها. أي: بين الجبلين اللذين سد ما بينهما: وجد من دونهما قوما أي: من ورائهما أمة من الناس: لا يكادون يفقهون قولا لكون لغتهم غريبة مجهولة، ولقلة فطنتهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [94] قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا [95] قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما .

    قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض أي: في أرضنا بالقتل والإضرار: فهل نجعل لك خرجا أي: جعلا نخرجه من أموالنا. وقرئ ((خراجا)) وهو بمعناه: على أن تجعل بيننا وبينهم سدا أي: حاجزا يمنع خروجهم علينا.

    قال ما مكني فيه ربي خير أي ما جعلني فيه مكينا من المال والملك، أجل مما تريدون بذله. فلا حاجة بي إليه: فأعينوني بقوة أي: بعملة وصناع وآلات: أجعل بينكم وبينهم ردما أي: حاجزا حصينا. وأصل معنى الردم سد الثلمة بالحجارة ونحوها.
    [ ص: 4103 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [96] آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا [97] فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا [98] قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا .

    آتوني زبر الحديد أي: ناولوني قطعه: حتى إذا ساوى بين الصدفين أي: بين جانبي الجبلين: قال انفخوا أي: في الأكوار والحديد: حتى إذا جعله أي: المنفوخ فيه: نارا أي: كالنار بالإحماء: قال آتوني أفرغ عليه قطرا أي: نحاسا مذابا ليلصق بالحديد، ويتدعم البناء به ويشتد.

    فما اسطاعوا أن يظهروه أي: يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته: وما استطاعوا له نقبا لثخنه وصلابته.

    قال هذا أي: السد: رحمة من ربي على القاطنين عنده. لأمنهم من شر من سد عليهم به، ورحمة على غيرهم، لسد الطريق عليهم: فإذا جاء وعد ربي بدحره وخرابه: جعله دكاء بالمد أي: أرضا مستوية، وقرئ ((دكا)) أي: مدكوكا مسوا بالأرض وكان وعد ربي حقا أي: كائنا لا محالة. وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين .

    تنبيهات:

    الأول: قدمنا أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار . وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب تجلت في سياق الوقائع. ولذا يجب صرف العناية إلى وجوه تلك الفوائد والثمرات، وما يستنبط من تلك الآيات. وقد أشار نبأ ذي القرنين الإسكندر إلى فوائد شتى. نذكر ما فتح علينا منها، ونكل ما لم نحط به علما إلى العليم الخبير.

    [ ص: 4104 ] فمن فوائدها: الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض . ورزقه من يشاء بغير حساب ملكا ومالا. لما له من خفي الحكم وباهر القدرة. فلا إله سواه.

    ومنها: الإشارة إلى القيام بالأسباب، والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل. وأن على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر، فإن ما قص عن الإسكندر من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس، ومطلعها وشمالها وعدم فتوره ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار، وركوب الأوعار والبحار، ثم إحرازه ذلك الفخار، الذي لا يشق له غبار، أكبر عبرة لأولي الأبصار.

    ومنها: تنشيط الهمم لرفع العوائق . وأنه ما تيسرت الأسباب، فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر، عذرا في الخمول والرضاء بالدون. بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته، حلاوة عقباه من الراحة والهناء. كما قضى الإسكندر عمره ولم يذق إلا حلاوة الظفر ولذة الانتصار: إذ لم يكن من الذين تقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون.

    ومنها: وجوب المبادرة لمعالي الأمور من الحداثة. إذ من الخطأ التسويف فيه إلى الاكتهال. فإن الإسكندر لما تبوأ ملك أبيه كان في حدود العشرين من عمره.

    وأتى ما أتى وهو في ريعان الشباب وقوة الفناء. فهاجم أعظم ملوك عصره وأكبر جيوشهم. كأنه القضاء المبرم. ولم يقف في وجهه عدد ولا عدد. وخاض غمرات الردى غير هياب ولا وجل. وأضاف كل العالم الشرقي إلى المملكة اليونانية وهو شاب. وقضى وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، كما دونه محققو المؤرخين.

    ومنها: أن من قدر على أعدائه وتمكن منهم، فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال ، وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال. بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته. فإن ما حكي عن الإسكندر من قوله: قال أما من ظلم إلى آخره، نهاية في العدل وغاية الإنصاف.

    [ ص: 4105 ] ومنها: أن على الملك، إذا اشتكي إليه جور مجاورين، أن يبذل وسعه في الراحة والأمن، دفاعا عن الوطن العزيز، وصيانة للحرية والتمدن، من مخالب التوحش والخراب، قياما بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين. كما لبى الإسكندر دعوة الشاكين في بناء السد. وقد أطبق المؤرخون على أنه بنى عدة حصون وأسوار، لرد غارات البرابرة، وصد هجماتهم.

    ومنها: أن على الملك التعفف عن أموال رعيته ، والزهد في أخذ أجرة، في مقابلة عمل يأتيه، ما أغناه الله عنه، ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته. كما تأبى الإسكندر تفضلا وتكرما.

    ومنها: التحدث بنعمة الله تعالى إذا اقتضاه المقام . كقول الإسكندر في مقام تعففه عن أموالهم، والشفقة عليهم: ما مكني فيه ربي خير كقول سليمان : فما آتاني الله خير مما آتاكم وقد قيل: إن دخل الإسكندر من البلاد التي فتحها كان نحو ستين مليون ليرة إنكليزية.

    ومنها: تدعيم الأسوار والحصون في الثغور، وتقويتها بذوب الرصاص وبوضع صفائح النحاس، خلال الصخور الصم، صدقا في العمل ونصحا فيه. لينتفع به على تطاول الأجيال. فإن البناء غير الرصين لا ثمرة فيه.

    ومنها: مشاطرة الملك العمال في الأعمال ومشارفتهم بنفسه إذا اقتضى الحال، تنشيطا لمهمتهم وتجرئة لهم وترويحا لقلوبهم. وقد كان الإسكندر يقاسم العمال الأتعاب. ويدير العمل بنفسه، كما بينه الذكر الحكيم في قوله: آتوني أفرغ عليه قطرا

    ومنها: تعريف الغير ثمرة العمل المهم، ليعرفوا قدره فيظهروا شكره. ولذا قال: هذا رحمة من ربي




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #446
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْكَهْفِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4106 الى صـ 4120
    الحلقة (445)





    [ ص: 4106 ] ومنها الإعلام بالدور الأخروي، وانقضاء هذا الدور الأولي، لتبقى النفوس طامحة إلى ذلك العالم الباقي والنعيم السرمدي. ولذا قال: فإذا جاء وعد ربي

    ومنها: الاعتبار بتخليد جميل الثناء، وجليل الآثار . فإن من أنعم النظر فيما قص عنه في هذه الآيات الكريمة، يتضح له جليا حسن سجاياه وسمو مزاياه. من الشجاعة وعلو الهمة والعفة والعدل. ودأبه على توطيد الأمن وإثابته المحسنين وتأديبه للظالمين. والإحسان إلى النوع البشري، ولا سيما في زمان كان فيه أكثر عوائد وأخلاق الأمم المتمدنة وغير المتمدنة، وحشية فاسدة.

    ومنها: الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أمما متباينة. كما كان يرمي إليه سعي الإسكندر. فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بصلات الحب والعوائد. وقد حكي أنه كان يجيش من كل أمة استولى عليها، جيشا عرمرما، يضيفه إلى جيشه المكدوني اليوناني. ويأمر رجاله أن يتزوجوا من بناتهم، لتوثيق عرى المحبة والارتباط، وإزالة البغض والشحناء.

    ومنها: الاعتبار بما يبلغه الإنسان، وما فيه من بليغ الاستعداد. يقضي على المرء أن يعيش أولا طفلا مرضعا. لا يعلم ما حوله ولا يطلب غير ما تحتاج إليه طبيعته الضعيفة، قياما بما تقتضيه أسباب الحياة، وهو ملقى إذ ذاك لا إرادة له. وعرضة لأسقام تذيقه الآلام، وقد تجرعه كأس الحمام قبل أن يرى ويدرك شيئا من هذا النظام. فإذا استظهرت فيه عوامل الحياة على دواعي الممات، وسرت بجسمه قوى الشبيبة، وصرف ما أنعم الله عليه، إلى ما خلق لأجله، ترعرع إنسانا عظيما ظافرا بمنتهى أمله.

    التنبيه الثاني: في ذي القرنين . اتفق المحققون على أن اسمه الإسكندر بن فيلبس، وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) في الكلام على الفلاسفة: ومن ملوكهم الإسكندر المقدوني وهو ابن فيلبس وليس بالإسكندر ذي القرنين الذي قص الله تعالى نبأه في القرآن بل بينهما [ ص: 4107 ] قرون كثيرة وبينهما في الدين أعظم تباين.

    فذو القرنين كان رجلا صالحا موحدا لله تعالى يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وكان يغزو عباد الأصنام وبلغ مشارق الأرض ومغاربها. وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج. وأما هذا المقدوني، فكان مشركا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته. وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستمائة سنة. والنصارى تؤرخ له.

    وكان أرسطاطاليس وزيره. وكان مشركا يعبد الأصنام. انتهى. كلامه.

    وفيه نظر. فإن المرجع في ذلك هم أئمة التاريخ وقد أطبقوا على أنه الإسكندر الأكبر ابن فيلبس باني الإسكندرية بتسعمائة وأربع وخمسين سنة قبل الهجرة، وثلاثمائة واثنين وثلاثين سنة قبل ميلاد عيسى عليه السلام. وقد أصبح ذلك من الأوليات عند علماء الجغرافيا. وأما دعوى أنه كان مشركا يعبد الأصنام، فغير مسلم، وإن كان قومه وثنيين، لأنه كان تلميذا لأرسطاطاليس. وقد جاء في ترجمته -كما في طبقات الأطباء وغيرها- أنه كان لا يعظم الأصنام التي كانت تعبد في ذلك الوقت وأنه بسبب ذلك نسب إلى الكفر وأريد السعاية به إلى الملك. فلما أحس بذلك شخص عن أثينا. لأنه كره أن يبتلى أهلها بمثل ما ابتلوا به سقراطيس معلم أفلاطون. فإنه كان من عبادهم ومتألهيهم. وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام. وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها. فثوروا عليه العامة واضطروا الملك إلى قتله. فأودعه السجن ليكفهم عنه. ثم لم يرض المشركون إلا بقتله. فسقاه السم خوفا من شرهم، بعد مناظرات طويلة جرت له معهم. كما في (طبقات الأطباء وتراجم الفلاسفة) فالوثنية، وإن كانت دين اليونانيين واعتقاد شعبهم، إلا أنه لا ينافي أن يكون الملك وخاصته على اعتقاد آخر يجاهرون به أو يكتمونه. كالنجاشي ملك الحبشة. فإنه جاهر بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم. وشعبه وأهل مملكته كلهم نصارى. وهكذا كان الإسكندر وأستاذه والحكماء قبله. فإن الممعن في تراجمهم يرى أنهم على توحيد وإيمان بالمعاد. قال القاضي صاعد: كان فيثاغورس -أستاذ [ ص: 4108 ] سقراط - يقول ببقاء النفس وكونها، فيما بعد، في ثواب أو عقاب. على رأي الحكماء الإلهيين. فتأمل قوله (على رأي الحكماء الإلهيين) يتحقق ما ذكرناه.

    وأما قول الفخر الرازي : إن في كون الإسكندر ذا القرنين إشكالا قويا. وهو أنه كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم وكان على مذهبه، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطاطاليس حق وصدق. وذلك مما لا سبيل إليه فلا يخفى دفع هذا اللزوم. فإن من كان تابعا لمذهب فمدح لأمر ما يوجب مدحه لأجله، فلا يلزم أن يكون المدح لأجل مذهبه ومتبوعه. إذ قد يقوم فيه من الخلال والمزايا ما لا يوجد في متبوعه. وقد يبدو له من الأنظار الصحيحة ما لا يكون في مذهبه الذي نشأ عليه مقلدا. أفلا يمكن أن يكون حرا في فكره ينبذ التقليد الأعمى ويعتنق الحق. ومن آتاه الله من الملك ما آتاه، أفيمتنع أن يؤتيه من تنور الفكر وحرية الضمير ونفوذ البصيرة ما يخالف به متبوعه. هذا على فرض أن متبوعه مذموم. وقد عرفت أن متبوعه أعني: أرسطاطاليس ، كان موحدا. وهو معروف في التاريخ لا سترة فيه. على أنه لو استلزمت الآية مدح مذهب أستاذه لكان ذلك في الأصول التي هي المقصودة بالذات، وكفى بهما كمالا. وللرازي فرض يغتنم بها التنويه بالحكماء والتعريف لمذهبهم، وهذه منها. وإن صبغها -سامحه الله- في هذا الأسلوب. عرف ذلك من عرف.

    التنبيه الثالث: اختلف في سبب تلقيبه بذي القرنين . فقيل لأنه طاف قرني الدنيا. يعني جانبيها شرقها وغربها. أو لأنه كان له قرنان أي: ضفيرتان. أو لأنه ملك الروم وفارس.

    قال الزمخشري : ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته، كما يسمى الشجاع كبشا لأنه ينطح أقرانه.

    أقول: هذا اللقب من الكناية عن كل ذي قوة وبأس وسلطان. لأن ذا القرون من المواشي أقواها وأشدها. والكناية بالقرن عن القوة والسلطان معروفة عند اليهود، [ ص: 4109 ] الذين هم السائلون. وقد وقع في توراتهم في نبوة دانيال عليه السلام قوله عن الملك: (فإذا أنا بكبش واقف عند النهر. وله قرنان)، ثم قوله: (وبينما كنت متأملا إذا بتيس معز قد أقبل من المغرب على وجه الأرض كلها. وللتيس قرن عجيب المنظر بين عينيه)، قالوا: القرن هنا رمز إلى القوة والسلطان. والتيس رمز إلى مملكة اليونان. وقرنه رمز إلى أول ملك على هذه المملكة وهو الإسكندر الكبير . وما أشار إليه من سرعة مسير هذا التيس إيماء إلى كثرة ما دهم البلاد من الغارات المتواصلة. قوله: (خرج من المغرب) إشارة إلى خروجه من مكدونية التي هي إلى غرب فارس، وذلك حين تقدم على جيوش داريوس وكسره. وتعقبه إلى داخل مملكته. والقصد أن هذا اللقب (ذو القرنين) شهير وليس من أوضاع العرب خاصة. كما زعمه بعضهم. بل هو معروف عند العبرانيين أيضا. وقد يظهر أنه من رموزهم الخاصة التي سرت إلى العرب. وأقرتهم عليها.

    التنبيه الرابع: قال الرازي : اختلفوا في ذي القرنين. هل كان من الأنبياء أم لا ؟ منهم من قال: إنه كان نبيا. واحتجوا عليه بوجوه:

    الأول: قوله: إنا مكنا له في الأرض والأولى حمله على التمكين في الدين. والتمكين الكامل في الدين هو النبوة.

    الثاني: قوله: وآتيناه من كل شيء سببا ومن جملة الأشياء النبوة.

    فمقتضى العموم في قوله: وآتيناه من كل شيء سببا هو أنه تعالى آتاه من النبوة سببا.

    الثالث: قوله تعالى: قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا والذي يتكلم الله معه لابد أن يكون نبيا.

    ومنهم من قال إنه عبد صالح وما كان نبيا. انتهى.

    ثم قال الرازي بعد: يدل قوله تعالى: قلنا يا ذا القرنين على أنه تعالى تكلم معه [ ص: 4110 ] من غير واسطة. وذلك يدل على أنه كان نبيا. وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء- فهو عدول عن الظاهر. انتهى.

    ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته. لأن مقام إثباتها يحتاج إلى تنصيص وتخصيص. وأما تعمق الجري وراء العمومات، لاستفادة مثل ذلك، فغير مقنع.

    وأما قوله تعالى: قلنا يا ذا القرنين فقدمنا أنه كناية عن تمكينه تعالى له منهم. لا أنه قول مشافهة. وإلا لو كان ذلك لكان مخيرا منه تعالى وملقنا ما يفعل بهم. فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر. ولا يقال إن الأصل في الإطلاق الحقيقة. لأنا نقول به، ما لم يمنع منه مانع، من نحو ما ذكرناه. وللتنزيل الكريم أسلوب خاص، عرفه من أنعم النظر في بديع بيانه. نعم. لو كان مراد القائل بنبوته أنه من الملهمين ذهابا في النبوة إلى المعنى الأعم من الإيحاء بشرع، ومن الإلهام، لكان قريبا. فتكون نبوته من القسم الثاني وهو الإلهام. ويطلق الصوفية على مثله الوارد. وجاء في الحديث تسمية صاحبه محدثا. وإطلاق النبوة عليه، وإن كان محظورا في الإسلام، إلا أنه كان معروفا قبله في العباد الأخيار.

    التنبيه الخامس: حكي في قوله تعالى: ويسألونك عن ذي القرنين قولان في أن السائلين هم اليهود أو غيرهم. ورجح الأول من وجهتين:

    أولهما: أن للإسكندر عند اليهود شأنا وقدرا. وذلك لما حكي أنه لما فتح غزة ودنا من بيت المقدس ، خرج إليه رئيس أحبارها وقدم إليه الطاعة. فدخلها إسكندر وسمع نبوة التوراة فسر وأحسن إلى اليهود. وتعقب بعض المؤرخين هذه الرواية بأنها غير مأثورة في كتب اليونان، ولم يروها أحد من مؤرخيهم.

    [ ص: 4111 ] ثانيهما: أن عنوان ( ذو القرنين ) من رموز الإسرائيليين كما قدمناه عنهم.

    التنبيه السادس: قالوا المراد بـ (العين الحمئة) البحر المحيط. وتسميته عينا لكونه بالنسبة لعظم قدرته تعالى، كقطرة. وإن عظم عندنا. قالوا: رأى الشمس في منظره تغرب في البحر. وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه. وهي لا تفارق فلكها.

    وللإمام ابن حزم عليه الرحمة رأي آخر في الآية. ذكره في كتاب (الملل) في بحث كروية الأرض قال: ذو القرنين هو كان في العين الحمئة الحامية كما تقول: (رأيتك في البحر)، تريد أنك إذا رأيته كنت أنت في البحر. وبرهان هذا أن مغرب الشمس لا يجهل مقدار عظيم مساحته إلا جاهل. ومقدار ما بين أول مغربها الشتوي إذا كانت من آخر رأس الجدي إلى آخر مغربها الصيفي إذا كانت من رأس السرطان- مرئي مشاهد. ومقداره ثمان وأربعون درجة من الفلك. وهو يوازي من الأرض كلها بالبرهان الهندسي أقل من مقدار السدس. يكون من الأميال نحو ثلاثة آلاف ميل ونيف. وهذه المساحة لا يقع عليها في اللغة اسم (عين) البتة. لا سيما أن تكون (عينا حمئة) حامية. وباللغة العربية خوطبنا. فلما تيقنا أنها (عين) بإخبار الله عز وجل، الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، علمنا يقينا أن ذا القرنين انتهى به السير في الجهة التي مشى فيها من المغارب إلى العين المذكورة. وانقطع له إمكان المشي بعدها لاعتراض البحار له هنالك. وقد علمنا بالضرورة أن ذا القرنين وغيره من الناس، ليس يشغل من الأرض إلا مساحة جسمه فقط. قائما، أو قاعدا أو مضطجعا. ومن هذه صفته، فلا يجوز أن يحيط بصره من الأرض، بمقدار مكان المغارب كلها، لو كان مغيبها في عين من الأرض. كما يظن أهل الجهل. ولا بد من أن يلقى خط بصره من حدبة الأرض، ومن نشر من أنشازها، ما يمنع الخط من التمادي، إلا أن يقول قائل: إن تلك العين هي البحر فلا يجوز أن يسمى البحر في اللغة (عينا حمئة) ولا حامية. وقد أخبر [ ص: 4112 ] الله عز وجل أن الشمس تسبح في الفلك. وأنها إنما هي من الفلك سراج. وقول الله تعالى هو الصدق الذي لا يتناقض فلو غابت في عين من الأرض، كما يظن أهل الجهل، أو في البحر، لكانت الشمس قد زالت عن السماء وخرجت عن الفلك، وهذا هو الباطل. فصح يقينا، بلا شك، أن ذا القرنين كان هو في العين الحمئة والحامية، حين انتهى إلى آخر البر في المغارب. لا سيما مع ما قام البرهان عليه، من أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض . وبرهان آخر قاطع وهو قوله تعالى: وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما فصح ضرورة أنه وجد القوم عند العين لا عند الشمس. انتهى كلام ابن حزم .

    التنبيه السابع: قال الرازي : الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال. وقيل: جبلان بين أرمينية وأذربيجان . وقيل: هذا المكان في منقطع أرض الترك.

    وحكى محمد بن جرير الطبري في (تاريخه) أن صاحب أذربيجان ، أيام فتحها، وجه إنسانا إليه من ناحية الخزر. فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع.

    وذكر ابن خرداد في كتاب (المسالك والممالك) أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه. فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه. فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد، مشدود بالنحاس المذاب، وعليه باب مقفل. ثم إن ذلك الإنسان، لما حاول الرجوع، أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند.

    قال أبو الريحان : مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة. والله أعلم بحقيقة الحال. انتهى كلام الرازي.

    وقال الإمام ابن حزم في (الملل والنحل) جزء أول صحيفة (120) في تفنيد دعوى اليهود أن الجنة التي أهبط منها آدم في الأرض ، ما مثاله. فإن قيل: ذكر في القرآن سد يأجوج ومأجوج . ولا يدرى مكانه ولا مكانهم. قلنا: مكانه معروف في أقصى الشمال [ ص: 4113 ] في آخر المعمورة منه. وقد ذكر أمر يأجوج ومأجوج في كتب اليهود التي يؤمنون بها ويؤمن بها النصارى. وقد ذكر يأجوج ومأجوج والسد أرسطاطاليس في كتابه في (الحيوان) عند كلامه على الغرانيق. وقد ذكر سد يأجوج ومأجوج بطليموس في كتابه المسمى (جغرافيا) وذكر طول بلادهم وعرضها. وقد بعث إليه الواثق أمير المؤمنين سلام الترجمان في جماعة معه حتى وقفوا عليه. ذكر ذلك أحمد بن الطيب السرخسي وغيره. وقد ذكره قدامة بن جعفر والناس. فهيهات خبر من خبر. وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد. فلم يعرف في شيء من المعمور مكانه، لما ضر ذلك خبرنا شيئا. لأنه كان يكون مكانه حينئذ خلف خط الاستواء حيث يكون ميل الشمس ورجوعها، وبعدها كما هو في الجهة الشمالية. بحيث تكون الآفاق كبعض آفاقنا المسكونة، والهواء كهواء بعض البلاد التي يوجد فيها النبات والتناسل. واعلموا أن كل ما كان في عنصر الإمكان، فأدخله مدخل في عنصر الامتناع بلا برهان فهو كاذب مبطل جاهل، أو مجاهل. لا سيما إذا أخبر به من قد قام البرهان على صدق خبره. وإنما الشأن في المحال الممتنع الذي تكذبه الحواس والعيان أو بديهة العقل. فمن جاء بهذا فإنما جاء ببرهان قاطع على أنه كذاب مفتر. ونعوذ بالله من البلاء. انتهى كلام ابن حزم .

    قال بعض المحققين: اعلم أنه كثيرا ما يحدث في الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير كالجبال. وهذا أمر مشاهد حتى في زمننا هذا. فإذا سلم أن سد ذي القرنين المذكور في هذه الآية غير موجود الآن، فربما كان ذلك ناشئا من ثورة بركانية خسفت به وأزالت آثاره. ولا يوجد في القرآن ما يدل على بقائه إلى يوم القيامة. أما قوله تعالى: قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء فمعناه أن هذا السد رحمة من الله بالأمم القريبة منه. لمنع غارات يأجوج ومأجوج عنهم، ولكن يجب عليهم أن يفهموا أن مع متانته وصلابته لا يمكن أن يقاوم مشيئة الله القوي القدير، فإن بقاءه إنما هو بفضل الله. ولكن إذا قامت القيامة وأراد الله فناء هذا العالم، فلا هذا [ ص: 4114 ] السد ولا غيره من الجبال الراسيات يمكنها أن تقف عثرة، لحظة واحدة أمام قدرة الله. بل يدكها جمعاء دكا في لمح البصر. فمراد ذي القرنين بهذا القول تنبيه تلك الأمم على عدم الاغترار بمناعة هذا السد، أو الإعجاب والغرور بقوتهم. فإنها لا شيء يذكر بجانب قوة الله. فلا يصح أن يستنتج من ذلك أن هذا السد يبقى إلى يوم القيامة، بل صريحه أنه إذا قامت القيامة في أي وقت كان، وكان هذا السد موجودا، دكه الله دكا، وأما إذا تأخرت فيجوز أن يدك قبلها بأسباب أخرى. كالزلازل إذا قدم عهده. وكالثورات البركانية كما قلنا. وليس في الآية ما ينافي ذلك. وأما قوله تعالى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج فالمراد منه خروجهم بكثرة وانتشارهم في الأرض، كما يخرج الشيء المحبوس أو المضغوط إذا انفجر. واستعمال لفظ (الفتح) مجازا شائع في اللغة. ومنه قولك (فتحوا البلاد) وقوله تعالى: فتحنا عليهم أبواب كل شيء فليس للأشياء أبواب. وكذلك يأجوج ومأجوج لا باب لهم. بل هم من كل حدب ينسلون، والغالب أن المراد بخروجهم هذا، خروج المغول التتار، وهم من نسل يأجوج ومأجوج وهو الغزو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجري. وناهيك بما فعلوه إذ ذاك في الأرض، بعد أن انتشروا فيها، من الإفساد والنهب والقتل والسبي. والراجح أن السد كان موجودا بإقليم داغستان التابع الآن لروسيا ، بين مدينتي دربند وخوزار . فإنه يوجد بينهما مضيق شهير منذ القدم، يسمى عند كثير من الأمم القديمة والحديثة بــ(السد) وبه موضع يسمى (باب الحديد) وهو أثر سد حديدي قديم بين جبلين من جبال القوقاز الشهيرة عند العرب (بجبل قاف) وقد كانوا يقولون إن فيه السد كغيرهم من الأمم. ويظنون أنه في نهاية الأرض. وذلك بحسب ما عرفوه منها. ومن ورائه قبيلتا يأجوج ومأجوج. انتهى.

    وجاء في (صفوة الاعتبار) أن السور الذي وصلوا إليه أيام الواثق من بني العباس ، هو [ ص: 4115 ] سور الصين الذي هو إحدى عجائب مملكة الصين . فإن طوله نحو ألف ومائتين وخمسين ميلا، وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدما، ومن أعلاه نحو خمسة عشر قدما. وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدما. وفي أماكن منه حصون يبلغ ارتفاع بعضها إليه أربعين قدما. بني لرد الهجمات على المملكة الصينية الأصلية، من المغول والقبائل الشمالية. والسور الآن خراب في جهات كثيرة. فإن كان هو المراد بالسد في الآية. لزم حمل الصفات المذكورة فيه، من كونه من زبر الحديد، ومفرغا عليه النحاس، على بقاع من ذلك السور. والصدفان حينئذ طرفان من ذلك السور. كما تؤول صفات يأجوج ومأجوج، إلى ما يصح إطلاقها به على التتر والمنشورية. ويكون وعد الله الذي يدك فيه السد هو قرب الساعة. ولا شك أنها قربت بإعلام الشارع. وحينئذ يكون الفساد الموعود به في النصوص من أولئك القوم، هو ما وقع من التتر من الفساد في الممالك. كما في عهد جنكزخان ، وما عثاه هو وأصحابه في الدنيا، والله أعلم. انتهى.

    وجاء في الجغرافية العمومية، في المقالة السابعة والأربعين في تخطيط آسيا ، بلاد القوقاسيين أي: أهالي كوه قاف، أي: جبل قاف: إن في تلك الأقطار يمتد هذا الجبل كالسور العظيم، وفيه مجازان يسميان عند القدماء الأبواب القوقازية والأبواب الألبانية. فالمجاز الأول وهو الأبواب القوقازية هو الذي كان يخشى منه هجوم المتبربرين على كل من دولة الرومانيين والعجم. ثم إن الحصن الذي كان يسد هذا المجاز يسمى بأسماء مختلفة عند القدماء. وأما الأبواب الألبانية فأشهر الآراء فيها أنهم مجاز دربند . على امتداد بحر الخزر .

    ثم قال: وهناك حكاية مشهورة بين أهالي (كوه قاف) تقتضي أن هذا الجبل كان مسدودا بسد عظيم يمنع غارة المتبربرين وهذا السد العظيم تارة يعزى لإسكندر ، وتارة لأنو شروان ويستدلون على ذلك بآثار موجودة إلى الآن، ترى لمن يروم ذلك.

    التنبيه الثامن: قال أبو البقاء : يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان، لم ينصرفا للعجمة [ ص: 4116 ] والتعريف. ويجوز همزهما وترك همزهما. وقيل: هما عربيان فـ(يأجوج ) يفعول مثل يربوع. و(مأجوج ) مفعول مثل معقول. وكلاهما من (أج الظليم) إذا أسرع. أو من (أجت النار) إذا التهبت. ولم ينصرفا للتعريف والتأنيث أي: للقبيلة كمجوس. فالكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق. وعلى العجمة، لا يتأتى تصريفه. ولا يعتبر وزنه إلا بتقدير كونه عربيا، كما في (تذكرة أبي علي).

    قال الرازي: واختلفوا في أنهما من أي: الأقوام؟ فقيل: إنهما من الترك. وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم. ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة، انتهى.

    وقال بعض المحققين: كان يوجد من وراء جبل من جبال القوقاز ، المعروف عند العرب بجبل قاف، في إقليم داغستان، قبيلتان. تسمى إحداهما (آقوق)، والثانية (ماقوق) فعربهما العرب بـ(يأجوج ومأجوج ) وهما معروفان عند كثير من الأمم وورد ذكرهما في كتب أهل الكتاب. ومنهما تناسل كثير من أمم الشمال والشرق في روسيا وآسيا.

    التنبيه التاسع: توسع من لم يشترط الصحة ولا الحسن في مصنفاته من الرواة، في تخريج ما روي عن يأجوج ومأجوج . وكله إما من الإسرائيليات أو المنكرات أو الموضوعات. ومن ذلك حديث « إن يأجوج أمة ومأجوج أمة. كل أمة أربعمائة ألف أمة. لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر بين يديه من صلبه. كل قد حمل السلاح إلخ » رواه ابن عدي في (الضعفاء) عن حذيفة مرفوعا. وقال: موضوع منكر، ومحمد بن إسحاق العكاشي كذاب يضع، وقد أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه.

    وقال الحافظ ابن جرير ههنا، عن وهب بن منبه، أثرا طويلا عجيبا، في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له. وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم. وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم.

    [ ص: 4117 ] وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك، أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها. انتهى.

    فجزى الله البخاري أحسن الجزاء، على نبذه تلك الروايات، واشتراطه الصحة في المرويات، فقد جنت الآثار المنكرة على الأمة أنكر الآثار. ومن طالع مقدمة صحيح مسلم صدق قوله: (أن راوي الضعاف غاش آثم مضل ) وبالله المستعان.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [99] وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا .

    وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا أي: نفخ فيه للبعث في النشأة الثانية. فجمعناهم للجزاء والحساب جمعا عجيبا لا يكتنه كنهه.

    قال إمام: النفخ في الصور تمثيل لبعث الله الناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق، فإذا هم قيام ينظرون. وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور، وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا عبث لا يسوغ للمسلم. أي: لأنه من عالم الغيب، أي: الأمور المغيبة عنا، التي لم نكلف بالبحث عن حقائقها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [100] وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا .

    وعرضنا جهنم أي: أظهرناها وأبرزناها: يومئذ أي: يوم إذ جمعنا الخلائق كافة: للكافرين أي: منهم. حيث جعلناهم بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا: عرضا أي: فظيعا هائلا لا يقادر قدره. قال أبو السعود : وتخصيص العرض بهم، مع أنها بمرأى من أهل الجمع قاطبة، لأن ذلك لأجلهم خاصة. وفي عرضها وإراءتهم ما فيها [ ص: 4118 ] من العذاب والنكال، قبل دخولها، مزيد غضب عليهم ونكاية. لكونه أبلغ في تعجيل الهم والحزن. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [101] الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا .

    الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا تمثيل لتعاميهم عن الآيات الدالة على توحيده، أو عن القرآن وتأمل معانيه وتبصرها. ولتصامهم عن الحق واتباع الهدى. وقوله تعالى: وكانوا لا يستطيعون سمعا أبلغ من وكانوا صما لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به. وهؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع. أفاده الزمخشري . وفي توصيفهم بالجملتين نكتة أخرى، بها تعلم أنه لا يستغنى بالثانية عن الأولى، كما زعم، وذلك -كما حققه الشهاب- إن قوله تعالى: لا يستطيعون سمعا لما أفاد أنهم كفاقدي حاسة السمع، ومن هو كذلك إنما يعرف الذكر بإشارة أو كتابة أو نحوهما، مما يدرك بالنظر، وذكر أن أعينهم محجوبة عن النظر فيما يدل عليه أيضا. فهم لا سبيل لهم إلى معرفة ذكره أصلا. وهذا من البلاغة بمكان.

    قال أبو السعود : والموصول يعني: (الذين) نعت للكافرين، أو بدل أو بيان جيء به لذمهم بما في حيز الصلة، وللإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم. فإن ذلك إنما هو لعدم استعمال مشاعرهم فيما عرض لهم في الدنيا من الآيات، وإعراضهم عنها، مع كونها أسبابا منجية عما ابتلوا به في الآخرة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [102] أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نـزلا .

    أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء هذا رجوع إلى [ ص: 4119 ] طليعة السورة في قوله تعالى: وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا فهو من باب رد العجز على الصدر المقرر في البديع، جيء بالاستفهام الإنكاري، إنكارا لما وقع منهم وتوبيخا لهم. ومفعول (حسب) الثاني محذوف. أي: أفحسبوا اتخاذهم نافعا لهم؟: كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا كما قالوا: سبحانك أنت ولينا من دونهم إنا أعتدنا أي: هيأنا: جهنم للكافرين نـزلا أي: شيئا يتمتعون به عند ورودهم. و (النزل) ما يقام للنزيل أي: الضعيف. وفيه استعارة تهكمية. إذ جعل ما يعذبون به في جهنم كالزقوم والغسلين، ضيافة لهم.

    وقال أبو السعود : وفيه تخطئة لهم في حسبانهم، وتهكم بهم. حيث كان اتخاذهم إياهم أولياء، من قبيل إعتاد العتاد، وإعداد الزاد، ليوم المعاد. فكأنه قيل: إنا أعتدنا لهم، مكان ما أعدوا لأنفسهم، من العدة والذخر، جهنم عدة. وفي إيراد النزل إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هو أنموذج له. أي: لأن الضيف لا يستقر في منزل الضيافة. وينتقل إلى ما هو إهناء له في دار إقامته. فكان تنبيها على أنهم سيذوقون ما هو أشد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [103] قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا [104] الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [105] أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا [106] ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا .

    قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا [ ص: 4120 ] أي: ضاع وبطل: وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم أي: التي جاءت بالعمل بها رسلهم: ولقائه أي: بالبعث والحساب والجزاء: فحبطت أعمالهم لكفرهم المذكور: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا أي: فنزدريهم ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا، لأن مداره الأعمال الصالحة، وقد حبطت بالمرة.

    ذلك أي: الأمر ذلك. وقوله: جزاؤهم جهنم جملة مبينة له، أو ذلك مبتدأ، والجملة خبره، والعائد محذوف. أي: جزاؤهم به. أو جزاؤهم خبر وجهنم عطف بيان له: بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا أي: مهزوءا بهما. وذلك موجب لشدة المقت والغضب والنكال.
    ثم بين ما لمقابلهم من الحسنى بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [107] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نـزلا [108] خالدين فيها لا يبغون عنها حولا .

    إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نـزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا أي: تحولا، لبلوغهم الكمال في نعيمها. فلا شوق لهم فيما وراءها. وفيه تنبيه على شدة رغبتهم فيها، وحبهم لها. مع أنه قد يتوهم، فيمن هو مقيم في مكان دائما، أنه يسأمه أو يمله. فأخبر أنهم، مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم متحولا.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #447
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْكَهْفِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4121 الى صـ 4135
    الحلقة (446)






    القول في تأويل قوله تعالى:

    [109] قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا .

    قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي أي: لكتابتها: لنفد البحر أي: مع [ ص: 4121 ] كثرته ولم يبق منه شيء: قبل أن تنفد كلمات ربي أي: لكونها غير متناهية، فلا تنفد نفاد المتناهي.

    قال أبو السعود : وفي إضافة (الكلمات) إلى اسم الرب، المضاف إلى ضميره صلى الله عليه وسلم في الموضعين، من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه ما لا يخفى. وإظهار (البحر) و(الكلمات) في موضع الإضمار، لزيادة التقرير. وقوله تعالى: ولو جئنا بمثله مددا أي: بمثل البحر عونا وزيادة، لنفد أيضا.

    قال أبو السعود : كلام من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن، جيء به لتحقيق مضمونه، وتصديق مدلوله، مع زيادة مبالغة وتأكيد، وهذا كقوله تعالى: ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم

    تنبيه:

    دلت الآية على أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وكما شاء. وأن كلماته لا نهاية لها. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره من الأئمة: لم يزل الله متكلما إذا شاء وهو يتكلم بمشيئته وقدرته يتكلم بشيء بعد شيء. وهو مذهب سلف الأمة، وأئمة السنة، وكثير من أهل الكلام، كالهاشمية والكرامية وأصحاب أبي معاذ. وطوائف غير هؤلاء يقولون: إن الكلام صفة ذات وفعل، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته. وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم. فكل حي وصف بالكلام كالملائكة والبشر والجن وغيرهم، فكلامهم لا بد أن يقوم بأنفسهم، وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم، والكلام صفة كمال لا صفة نقص. ومن تكلم بمشيئة أكمل ممن لا يتكلم بمشيئة. فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق؟ وأما الجهمية والمعتزلة فيقولون: ليس له كلام قائم بذاته. بل كلامه مخلوق [ ص: 4122 ] منفصل عنه. والكلابية يقولون: هو متكلم بكلام ليس له عليه قدرة، ولا يكون بمشيئته. والأشعرية يقولون: إن الكلام معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد. وكل هذه أقوال باطلة مخالفة للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة. مبتدعة مبنية على أصل واحد. وهو قولهم إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية. فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته. وهو أصل باطل مخالف للنقل والعقل. والقرآن الكريم يدل على بطلانه في أكثر من مائة موضع. وأما الأحاديث الصحيحة فلا يمكن ضبطها في هذا الباب. والصواب في هذا الباب وغيره، هو مذهب سلف الأمة وأئمتها؟ أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته. وأن كلماته لا نهاية لها. وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى. وإنما ناداه حين أتى، لم يناده قبل ذلك. وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد ، كما أن علمه لا يماثل علمهم وقدرته لا تماثل قدرتهم. وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته . ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته. ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد، الذين عطلوا الذات والصفات أو الكلام أو الأفعال، باطلة. وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات، باطلة. هذا ما أفاده تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان.

    وقال أيضا في قوله تعالى: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي الآية: كلمات الله لا نهاية لها. وهذا تسلسل جائز كالتسلسل في المستقبل. فإن نعيم الجنة دائم لا نفاد له. فما من شيء إلا وبعده شيء بلا نهاية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [110] قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا .

    قل أي: لهؤلاء المشركين والكافرين من أهل الكتاب: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد أي: خصصت بالوحي وتميزت عنكم به فمن كان يرجو [ ص: 4123 ] لقاء ربه أي: يخاف المصير إليه، أو يأمل لقاءه ورؤيته، أو جزاءه الصالح وثوابه: فليعمل عملا صالحا أي: في نفسه، لائقا بذلك المرجو، وهو ما كان موافقا لشرع الله: ولا يشرك بعبادة ربه أحدا أي: من خلقه إشراكا جليا. كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه. ولا إشراكا خفيا. كما يفعله أهل الرياء، ومن يطلب به أجرا من المدح وتحصيل المال والجاه.

    قال أبو السعود : وإيثار وضع المظهر موضع المضمر في الموضعين، مع التعرض لعنوان الربوبية، لزيادة التقرير، وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهي، ووجوب الامتثال فعلا وتركا.

    ودلت الآية -كما قال ابن كثير - على أن للعمل المتقبل ركنين : كونه موافقا شرع الله المنزل، ومخلصا أريد به وجهه تعالى، لا يخلط به غيره. وتسمية الرياء شركا أصغر ، ثبت في السنة، وصح فيها حبوط العمل بالرياء. ودخول الرياء في الآية، باعتبار عموم معناها، وإن كان السياق في الشرك الجلي، للخطاب مع الجاحدين. والله تعالى هو الموفق والمعين.
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    19- سُورَةُ مَرْيَمَ


    سميت بها لاشتمالها على نبئها الخارق. وقال المهايمي : لأن قصتها تشير إلى أن من اعتزل من أهله لعبادة الله ، وطلب بها إشراق نوره، يرجى أن يكشف له عن صفات الحق وعن عالم الملكوت، وتظهر له الكرامات العجيبة. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية النزول. واستثنى بعضهم منها آية السجدة، وآية وإن منكم إلا واردها

    وقد روى محمد بن إسحاق ، في السيرة، من حديث أم سلمة ، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة ، أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه. وآياتها ثمان وتسعون.

    [ ص: 4125 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [1] كهيعص [2] ذكر رحمت ربك عبده زكريا [3] إذ نادى ربه نداء خفيا .

    كهيعص سلف في أول سورة البقرة الكلام على هذه الأحرف، المبتدأ بها. وأولى الأقوال بالصواب أنها أسماء للسورة المبتدأ بها. وكونها خبر مبتدأ محذوف. أي: هذا: كهيعص أي: مسمى به، وقوله تعالى: ذكر رحمت ربك عبده زكريا مبتدأ خبره محذوف. أي: فيما يتلى عليك. أو خبر محذوف. أي: هذا المتلو ذكرها و(زكريا) والد يحيى عليهما السلام. بدل من (عبده) أو عطف بيان له. قال المهايمي : أي: ذكر الله لنا ما رحم به زكريا عليه السلام بمقتضى كمال ربوبيته. فأعطاه ولدا كاملا في باب النبوة. فبشره بنفسه تارة وبملائكته أخرى. وتولى تسميته ولم يشرك فيها من تقدمه. وذكرها لنا كبير هبة لنا، في تعريف مقام النبوة، وقدرة الله وعنايته بصفوته.

    إذ نادى ربه نداء خفيا ظرف لـ (رحمة) أو بدل اشتمال من ( زكريا ) والنداء في الأصل رفع الصوت وظهوره. والمراد به الدعاء. وقد راعى أدب الدعاء، وهو إخفاؤه، لكونه أبعد عن الرياء، وأدخل في الإخلاص. ثم فسر الدعاء بقوله:
    [ ص: 4126 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [4] قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا .

    قال رب إني وهن العظم مني أي: ضعف. قال الزمخشري : وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن. وبه قوامه، وهو أصل بنائه. فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته. ولأنه أشد ما فيه وأصلبه. فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحده، لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، المنبئة عن شمول الوهن بكل فرد من أفراده. وقرئ: وهن بكسر الهاء وضمها: واشتعل الرأس شيبا قال الزمخشري : شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته، وانتشاره في الشعر وفشوه فيه، وأخذه منه كل مأخذ -باشتعال النار. ثم أخرجه مخرج الاستعارة. ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا . فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. وظاهره أن فيه استعارتين مبنيتين على تشبيهين: أولاهما تصريحية تبعية في (اشتعل) بتشبيه انتشار المبيض في المسود باشتعال النار، كما قال ابن دريد في (مقصورته):


    إما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجا واشتعل المبيض في مسوده
    مثل اشتعال النار في جزل الغضا


    والثانية مكنية. بتشبيه الشيب، في بياضه وإنارته، باللهب. وهذا بناء على أن المكنية قد تنفك عن التخييلية، وعليه المحققون من أهل المعاني. وقيل: إن الاستعارة هنا تمثيلية. فشبه حال الشيب بحال النار، في بياضه وانتشاره: ولم أكن بدعائك رب شقيا أي: ولم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت لم أعود منك إلا الإجابة في الدعاء، ولم تردني قط. وهذا توسل منه إلى الله تعالى بما سلف له معه من الاستجابة، إثر تمهيد ما يستدعي [ ص: 4127 ] الرحمة ويستجلب الرأفة، من كبر السن وضعف الحال. فإنه تعالى بعدما عود عبده بالإجابة دهرا طويلا. لا يكاد يخيبه أبدا. لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره.

    تنبيه:

    استفيد من هذه الآيات آداب الدعاء وما يستحب فيه . فمنها الإسرار بالدعاء، لقوله خفيا ومنها استحباب الخضوع في الدعاء وإظهار الذل والمسكنة والضعف لقوله: واشتعل الرأس شيبا ومنها التوسل إلى الله تعالى بنعمه وعوائده الجميلة لقوله: ولم أكن إلخ كما قدمنا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [5] وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا [6] يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا .

    وإني خفت الموالي من ورائي أي: الذين يلون أمر رهطي من بعد موتي، لعدم صلاحية أحد منهم لأن يخلفني في القيام بما كنت أقوم به، من الإرشاد ووعظ العباد، وحفظ آداب الدين. والتمسك بهديه المتين: وكانت امرأتي عاقرا أي: لا تلد من حين شبابها: فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب أي: هب لي ولدا، يلي من الأمر ما كنت إليه وارثا، لي ولآل يعقوب، في العلم والنبوة. وفي قوله: من لدنك إعلام بأنه من محض الفضل وخرق العادة. لعدم صلاحية زوجه للحمل. وتنويه به لكونه مضافا إلى الله تعالى، وصادرا من عنده. و(آل يعقوب) أولاده الأنبياء، عليهم السلام واجعله رب رضيا أي: مرضيا عندك قولا وفعلا.
    ثم بين تعالى استجابة دعاء زكريا بقوله سبحانه:

    [ ص: 4128 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [7] يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا .

    يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا أي: مثلا وشبيها. وعن ابن عباس: لم تلد العواقر قبله مثله. وروي أنه لم يعص، ولم يهم بمعصية قط.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [8] قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا .

    قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا أي: حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداواتها. وقيل: إلى رياضته. وهي الحال المشار إليها بقول الشاعر:


    ومن العناء رياضة الهرم


    قال الراغب .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [9] قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا .

    قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا أي: من إنسان ونطفة وعلقة وعناصر، ثم وجدت.

    قال الزمخشري : فإن قلت: لم طلب أولا، وهو وامرأته على صفة العتي والعقر، فلما أسعف بطلبته استبعد واستعجب؟ قلت: ليجاب بما أجيب به، فيزداد المؤمنون إيقانا، ويرتدع المبطلون. وإلا فمعتقد زكريا أولا وآخرا، كان في منهاج واحد، هو أن الله غني عن الأسباب . انتهى.

    [ ص: 4129 ] وقال أبو السعود : إنما قال عليه السلام، مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في سورة آل عمران، استعظاما لقدرة الله تعالى، وتعجيبا منها، واعتدادا بنعمته تعالى عليه في ذلك، بإظهار أنه من محض لطف الله عز وعلا وفضله. مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة، لا استبعادا له. وقيل: كان ذلك منه استفهاما عن كيفية حدوثه. أي: أيكون الولد ونحن كذلك؟ فقيل: كذلك. أي: يكون الولد وأنتما كذلك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [10] قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا .

    قال رب اجعل لي آية أي: علامة تدلني على تحقق المسؤول ووقوع الحمل، ليطمئن قلبي: قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا أي: لا تقدر على تكليمهم، حال كونك سويا، بلا مرض في بدنك، ولا في لسانك.

    لطيفة:

    إنما ذكر الليالي هنا، و(الأيام) في آل عمران، للدلالة على أنه استمر عليه المنع من كلام الناس، والتجرد للذكر والشكر ثلاثة أيام بلياليها.

    والعرب تتجوز أو تكتفي بأحدهما عن الآخر. والنكتة في الاكتفاء بـ(الليالي) هنا وبـ(الأيام) ثم، أن هذه السورة مكية سابقة النزول. وتلك مدنية. والليالي عندهم سابقة على الأيام. لأن شهورهم وسنيهم قمرية، إنما تعرف بالأهلة. ولذلك اعتبروها، في التاريخ، كما ذكره النحاة، فأعطي السابق للسابق.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [11] فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا .

    فخرج على قومه من المحراب أي: مصلاه أو غرفته: فأوحى إليهم أي: أشار إليهم رمزا: أن سبحوا بكرة وعشيا أي: صلوا لله طرفي النهار،
    وقوله تعالى:

    [ ص: 4130 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [12] يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا .

    يا يحيى استئناف، طوى قلبه جمل كثيرة، مسارعة إلى الإنباء بإنجاز الوعد الكريم. وهو وجود هذا الغلام المبشر به، وتعليمه التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، وقد كان سنه إذ ذاك صغيرا. فلهذا نوه بذكره، وبما أنعم عليه وعلى والديه. أي: قلنا يا يحيى : خذ الكتاب بقوة أي: تعلم التوراة والعلم بجد وحرص واجتهاد وآتيناه الحكم صبيا أي: الحكمة وفهم التوراة والعلم والاجتهاد في الخير، وهو صبي،
    وقوله تعالى:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [13] وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا [14] وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا .

    وحنانا من لدنا أي: وآتيناه حنانا: وهو التحنن والتعطف والشفقة. وتنوينه للتفخيم. أي: رحمة عظيمة يشفق بها على الخلق. أو حنانا من الله عليه: وزكاة أي: طهارة من الذنوب، وعصمة بليغة منها: وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا أي: متكبرا عاقا لهما، أو عاصيا لربه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [15] وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا .

    وسلام عليه أي: من الله: يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا أي: ليستقبل النعيم الأبدي. و(السلام) بمعنى السلامة والأمان من الآفات. وفيه معنى التحية والتشريف. [ ص: 4131 ] وفي ذكر الأحوال الثلاث، زيادة في العناية به، صلوات الله وسلامه عليه. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [16] واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا .

    واذكر في الكتاب أي: القرآن: مريم أي: نبأها: إذ انتبذت أي: اعتزلت وانفردت: من أهلها مكانا شرقيا أي: شرقي بيت المقدس. لئلا يشغلوها عن العبادة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [17] فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا .

    فاتخذت من دونهم حجابا أي: لئلا تحجبها رؤية الخلق عن أنوار الحق: فأرسلنا إليها روحنا أي: جبريل المنسوب إلى مقام عظمتنا، لغاية كماله، لينفخ فيها: فتمثل لها أي: فتصور لرؤيتها: بشرا سويا أي: سوي الخلق، كامل الصورة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [18] قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا .

    قالت إني أعوذ بالرحمن منك أي: أعتصم به منك. إنما خافته لانفرادها في خلوتها، وظنها أنه يريدها على نفسها. وفي ذلك من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه: إن كنت تقيا أي: تتقي الله تعالى، وتبالي بالاستعاذة به. وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة السياق عليه. أي: فإني عائذة به. أو فلا تتعرض لي. وإنما ذكرته بالله تعالى، لأن المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل . فخوفته أولا بالله عز وجل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [19] قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا .

    قال إنما أنا رسول أي: لا تخافي ولا تتوقعي ما توهمت. فإني رسول ربك [ ص: 4132 ] الذي استعذت به، بعثني إليك: لأهب لك غلاما زكيا أي: لأكون سببا في هبته. و(الزكي): الطاهر من الذنوب أو النامي على الخير.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [20] قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا .

    قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا أي: تعجبت من هذا وقالت: كيف يكون لي غلام ، أي: على أي صفة يوجد مني، ولست بذات زوج ولا يتصور مني الفجور؟.

    قال الزمخشري : جعل المس عبارة عن النكاح الحلال، لأنه كناية عنه. كقوله تعالى: من قبل أن تمسوهن أو لامستم النساء والزنى ليس كذلك. إنما يقال فيه فجر بها، وخبث بها وما أشبه ذلك. وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب. وإنما اقتصر في سورة آل عمران على قوله: ولم يمسسني بشر، لكون هذه السورة متقدمة النزول عليها. فهي محل التفصيل. بخلاف تلك. فلذا حسن الاكتفاء فيها. وقيل: جعل المس ثم، كناية عنهما، على سبيل التغليب. و(البغي) الفاجرة التي تبغي الرجال. ووزنه (فعول) ولذا لم تلحقه التاء، لأنه يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإن كان بمعنى فاعل كصبور. أو فعيل بمعنى فاعل، ولم تلحقه التاء لأنه للمبالغة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [21] قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا .

    قال أي: الملك: كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس أي: [ ص: 4133 ] برهانا يستدلون به على كمال قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع خلقهم. فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى. وخلق حواء من ذكر بلا أنثى. وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى، إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر. فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه: ورحمة منا أي: عليك بهذه الكرامة، وعلى قومك بالهداية والدعاء إلى عبادة الله وتوحيده، فيهتدون بهديه ويسترشدون بإرشاده. وقوله: وكان أمرا مقضيا من تتمة كلام جبريل لمريم . يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته. أو من خبره تعالى لنبيه صلوات الله عليه. وأنه كنى به عن النفخ في فرجها. كما قال تعالى: ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وقال: والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [22] فحملته فانتبذت به مكانا قصيا .

    فحملته فانتبذت به مكانا قصيا أي: لما صارت حاملا به، اعتزلت بسببه مكانا بعيدا من قومها، فرارا من القالة. وقد روي عن السلف أن جبريل لما قال لها، عن الله تعالى، ما قال، مما تقدم استسلمت لقضاء الله تعالى فاطمأنت إلى قوله.

    فدنا منها فنفخ في جيب درعها. فسرت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بإذن الله تعالى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [23] فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا .

    فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة أي: فألجأها ألم الولادة إلى الاستناد بالجذع [ ص: 4134 ] لتعتمد عليه وتستتر به. و(أجاء) -قال الزمخشري - منقول من (جاء) إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. وقرئ (المخاض) بكسر الميم وكلاهما مصدر (مخضت المرأة) إذا تحرك الولد في بطنها للخروج: قالت يا ليتني مت قبل هذا أي: الحمل: وكنت نسيا منسيا أي: شيئا تافها، شأنه أن ينسى ولا يعتد به. منسيا لا يخطر على بال أحد. وهو نعت للمبالغة. وإنما قالت ذلك، لما عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود، الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد. فلحقها فرط الحياء وخوف اللائمة إذا بهتوها وهي عارفة ببراءة الساحة، وبضد ما قرفت به، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام -قال الزمخشري - لأنه مقام دحض، قلما تثبت عليه الأقدام، أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر، تستحق به المدح وتستوجب التعظيم، ثم تراه عند الناس لجهلهم به- عيبا يعاب به ويعنف بسببه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [24] فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا .

    فناداها من تحتها أي: من مكان أسفل منها، تحت أكمة، وهو جبريل. وقيل: هو عيسى ، وقرئ (من) بفتح الميم موصولة: ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا أي: سيدا نبيلا رفيعا، وقيل: نهرا يسري.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [25] وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا .

    وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا أي: حضر أوان اجتنائه. قال الزمخشري : فإن قلت: ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلى بالسري والرطب! قلت: لم تقع التسلية بهما من حيث إنهما طعام وشراب، ولكن من حيث إنهما معجزتان تريان [ ص: 4135 ] الناس أنها من أهل العصمة، والبعد من الريبة، وأمن مثلها، مما قرفوها به، بمعزل. وأن لها أمورا إلهية خارجة عن العادات، خارقة لما ألفوا واعتادوا حتى يتبين لهم أن ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [26] فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا .

    فكلي واشربي وقري عينا أي: بالكمال والولد المبارك، الموجود بالقدرة، الموهوب بالعناية. قال الزمخشري : أي: جمعنا لك في السري والرطب فائدتين: إحداهما: الأكل والشرب والثانية سلوة الصدر، لكونهما معجزتين. وهو معنى قوله: فكلي واشربي وقري عينا أي: وطيبي نفسا ولا تغتمي. وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك: فإما ترين من البشر أحدا أي: من المحجوبين عن الحقائق بظواهر الأسباب، الذين لا يفهمون قولك ولا يصدقون بحالك. لوقوفهم مع العادة واحتجابهم عن نور الحق. فإذا سألوك: فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا أي: لا تكلميهم في أمرك شيئا. ولا تماديهم فيما لا يمكنهم قبوله. وإنما أمرت بذلك لكراهة مجادلة السفهاء، والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام. فإنه نص قاطع في براءة ساحتها، فقوله: صوما وقوله: فلن أكلم إلخ تفسير للنذر بذكر صيغته.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [27] فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا .

    فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا أي: عظيما منكرا.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #448
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ مَرْيَمَ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4136 الى صـ 4150
    الحلقة (447)




    [ ص: 4136 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [28] يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا .

    يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا استئناف لتجديد التعبير، وتأكيد التوبيخ، وتقرير لكون ما جاءت به فريا. وهارون هو النبي الشهير، صلوات الله عليه يعنون أنها مثله في الصلاح. لأن الأخ والأخت يستعمل بمعنى المشابه كثيرا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [29] فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا .

    فأشارت إليه قالوا منكرين لجوابها: كيف نكلم من كان في المهد صبيا ولم يعهد تكليم عاقل لصبي في المهد.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [30] قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا [31] وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا .

    قال إني عبد الله أنطقه الله بذلك. أولا تحقيقا للحق في شأنه وتنزيها لله تعالى عن الولد، ردا على من يزعم ربوبيته ونبوته: آتاني الكتاب أي: الإنجيل: وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت أي: كثير الخير حيثما وجدت. أبلغ وحي ربي لتقويم النفوس وكبح الشهوات والأخذ بما هو مناط السعادات. والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة، إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم، أو جعل الآتي، لا محالة، كأنه وجد: وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا أي: أمرني بالعبادة وإنفاق المال مدة حياتي.
    [ ص: 4137 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [32] وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا [33] والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا [34] ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون [35] ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [36] وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم .

    وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا أي: مستكبرا عن طاعته وأمره.

    والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ذلك أي: الذي فصلت نعوته الجليلة وخصائصه الباهرة: عيسى ابن مريم أي: لا ما يصفه به النصارى. وهو تكذيب لهم، فيما يزعمونه، على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني. حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه: قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون أي: ومن هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟

    وهذا كقوله تعالى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين ثم أشار إلى تتمة كلام عيسى من الأمر بعبادته تعالى وحده، بقوله سبحانه: وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم أي: قويم. من اتبعه رشد وهدي. ومن خالفه ضل وغوى.

    [ ص: 4138 ] تنبيهات في فوائد هذه القصة:

    الأول: لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته، ولدا زكيا طاهرا مباركا، عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب. فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة. ولهذا ذكرهما في آل عمران، وههنا، وفي سورة الأنبياء. يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه. وأنه على ما يشاء قدير. ومريم هي بنت عمران . من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل. وقد ذكر تعالى ولادة أمها لها في سورة آل عمران. وأنها نذرتها محررة للعبادة. وأنه تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا فنشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة. فكانت إحدى الناسكات المتبتلات. وكانت في كفالة زكريا ورأى لها من الكرامات ما بهره فقد كان يجد عندها كلما دخل عليها المحراب رزقا. كما تقدم في سورة آل عمران.

    الثاني: استدل بقوله تعالى: فأرسلنا إليها روحنا من قال بنبوة مريم. واستدل بقوله تعالى عنها: يا ليتني مت قبل هذا على جواز تمني المنون لمثل تلك الحال. وبقوله تعالى: وهزي إليك بجذع النخلة على التسبب في الرزق، وتكلف الكسب وإليه أشار القائل:


    ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب ولو شاء أحنى الجذع من غير هزه
    إليها، ولكن كل شيء له سبب


    في الآية أصل لما يقوله الأطباء، إن الرطب ينفع النساء. واستدل بقوله تعالى: فأشارت إليه بعد: فلن أكلم اليوم إنسيا على أن الحالف (لا يتكلم أو لا يكلم فلانا) لا يحنث بالإشارة. وعلى أن السكوت عن السفيه واجب، كما استنبطه الزمخشري ، قال: [ ص: 4139 ] ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها. وفي قوله تعالى: ما كان أبوك امرأ سوء معنى قولهم في المثل: من أشبه أباه فما ظلم. وفيه أيضا تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش .

    الثالث: نقل الرازي عن القاضي في قوله تعالى: والسلام علي إلخ أن السلام عبارة عما يحصل به الأمان. ومنه السلامة في النعم وزوال الآفات. فكأنه سأل ربه وطلب منه ما أخبر الله تعالى فعله بيحيى. ولا بد في الأنبياء من أن يكونوا مستجابي الدعوة. وأعظم أحوال الإنسان احتياجا إلى السلامة هي هذه الأحوال الثلاثة: وهي يوم الولادة ويوم البعث. فجميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى السلامة واجتماع السعادة من قبله تعالى، طلبها ليكون مصونا عن الآفات والمخالفات في كل الأحوال.

    الرابع: قال القاشاني : وإنما تمثل لها بشرا سوي الخلق حسن الصورة، لتتأثر نفسها به وتستأنس. فتتحرك على مقتضى الجبلة. ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة. فتتحرك شهوتها فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد. وقد مر أن الوحي قريب من المنامات الصادقة ، لهذء القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم. فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا قلبا والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية، يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن. وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة. لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن مني الذكر في تكون الولد، بمنزلة الأنفحة في الجبن. ومني الأنثى بمنزلة اللبن ، أي: العقد من مني الذكر والانعقاد من مني الأنثى. لا على معنى أن مني الذكر ينفرد بالقوة العاقدة ومني الأنثى بالقوة المنعقدة، بل على معنى أن القوة العاقدة في مني الذكر أقوى. والمنعقدة في مني الأنثى أقوى. وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئا واحدا. ولم ينعقد مني الذكر حتى يصير جزءا من الولد. فعلى هذا إذا [ ص: 4140 ] كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا، كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس القوية القوى، وكان مزاج كبدها حارا، كان المني المنفصل عن كليتها اليمنى أحر كثيرا من الذي ينفصل من كليتها اليسرى. فإذا اجتمعا في الرحم، كان مزاج الرحم قويا في الإمساك والجذب، قام المنفصل في الكلية اليمنى، مقام الذكر في شدة قوة العقد. والمنفصل من الكلية اليسرى مقام مني الأنثى في قوة الانعقاد، فيتخلق الوالد هذا. وخصوصا إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس، متقوية، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن، ويغير المزاج ويمد جميع القوى في أفعالها بالمد الروحاني، فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس. والله أعلم.

    ثم قال في قوله تعالى: وكان أمرا مقضيا في اللوح مقدرا في الأزل. وعن ابن عباس : فاطمأنت إليه بقوله: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا فدنا منها فنفخ في جيب الدرع، أي: البدن، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا. كالغلمة مثلا والمعانقة التي كثيرا ما تصير سببا للإنزال. وقيل: إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه السلام عند نزوله واتصالها بها وتعلقه بنطفتها. والحق أنه روح القدس. لأنه كان السبب الفاعلي لوجوده كما قال: لأهب لك غلاما زكيا واتصال روح عيسى بالنطفة إنما يكون بعد حصول النطفة في الرحم، واستقرارها فيه، ريثما تمتزج وتتحد وتقبل مزاجا صالحا لقبول الروح. انتهى.

    الخامس: التمثل مشتق من المثل. ومعناه التصور. وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر.

    قال إمام الحرمين : تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه. لم يعده إليه بعد.

    وجزم ابن عبد السلام : بالإزالة دون الفناء وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها [ ص: 4141 ] موجبا لموته، بل يجوز أن يبقى في الجسد حيا. لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة.

    وقال البلقيني : ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه. بل يجوز أن يكون الآتي جبريل بشكله الأصلي. إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل. وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته. ومثال ذلك القطن، إذا جمع بعد أن كان منتفشا. فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة، وذاته لم تتغير. وهذا على سبيل التقريب. والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. الظاهر أيضا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط. والله أعلم. كذا قال ابن حجر في فتح الباري.

    ولا يخفى أن هذا البحث من الرجم بالغيب، واقتفاء ما لم يحط بكنهه. فالخوض فيه عبث ينتهي خائضه إلى حيث ابتدأ. لأنه من عالم الغيب الذي لا يصل علمنا إليه ولن يصل إليه بمجرد العقل. ولم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم فيه نص قاطع. وكل ما كان كذلك فليس من شأننا أن نبحث فيه. فاعرف ذلك فإنه ينفعك في مواضع عديدة.

    السادس: قال بعضهم: أصل كلمة ( عيسى ): يسوع. فحرفه اليهود إلى (عيسو) تهكما فحوله العرب إلى ( عيسى ) تشبها باسم موسى . ولبدل الواو بالألف سبب مبني على قواعد اللغة العبرانية، بل والعربية. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [37] فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم .

    فاختلف الأحزاب من بينهم أي: اختلف قول أهل الكتاب في عيسى ، بعد بيان أمره [ ص: 4142 ] ووضوح حاله. وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فأصرت اليهود منهم على بهت أمه وقرفه بالسحر. وانقسمت النصارى في أمره انقساما يفوت الحصر. وكله ضلال وشرك وكفر. وقد هدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه. وهذا من فضله تعالى ومنه: فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم يعني بالذين كفروا، المختلفين. عبر عنهم بالموصول إيذانا بكفرهم جميعا وإشعارا بعلة الحكم. وفي (مشهد) ستة أوجه. لأنه مصدر ميمي أو اسم زمان أو مكان. وعلى كل فهو إما من (الشهود) أي: الحضور أو (الشهادة). وهذا معنى قول الزمخشري: أي: في شهودهم هول الحساب والجزاء إلى يوم القيامة. أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف. أو من وقت الشهود. أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال. أو من مكان الشهادة أو وقتها.

    وقيل: معناه ما شهدوا به في عيسى وأمه فعظمه لعظم ما فيه أيضا. كقوله: كبرت كلمة تخرج من أفواههم وفيه وعيد لهم وتهديد شديد. وذلك لأنه لا أظلم ممن كذب بالحق لما جاءه. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [38] أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين .

    أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا تعجب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ. ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صما عميا. والآية كقوله تعالى: ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا الآية، أي: يقولون ذلك حين لا يجدي عنهم شيئا. ولو كان هذا قبل معاينة العذاب لأجدى: لكن الظالمون اليوم أي: في الدنيا: في ضلال مبين [ ص: 4143 ] لإغفالهم الاستماع والنظر. فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون. قال الزمخشري : أوقع الظاهر أعني (الظالمين) موقع الضمير، إشعارا بأن لا ظلم أشد من ظلمهم، حيث أغفلوا الاستماع والنظر، حين يجدي عليهم ويسعدهم.

    تنبيه:

    إنما أول التعجب في الآية بما ذكر، وأنه مصروف للعباد الذين يصدر منهم التعجب، لأن صدوره من الله تعالى محال. إذ هو كيفية نفسانية تنشأ عن استعظام ما لا يدرى سببه. ولذا قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب. والمعنى تعجبوا من سمعهم وأبصارهم حيث لا ينفعهم ذلك. فهي كقوله تعالى: فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد أفاده الشهاب .

    وهذه طريقة المتكلمين في تأويل ما يشترك في الإضافة إليه تعالى وإلى خلقه من الصفات المروية. وطريقة السلف المحققين إثبات ما ورد به السمع مع نفي التشبيه. إذ لا اتحاد بين صفات الخالق وصفات المخلوق . فما يضاف إليه تعالى هو على النحو الذي يجب أن يكون عليه جل جلاله. فما يقدر في حق المخلوقين من الصفات مستلزما للمحال، لا يجب أن يكون في حقه تعالى مستلزما لذلك. كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا، يستلزم النقص والحاجة، ما يجب تنزيه الله عنه. وكذلك الوجود والقيام بالنفس فينا، يستلزم احتياجا إلى خالق يجعلنا موجودين. والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا. فنحن وصفاتنا وأفعالنا. مقرونون بالحاجة إلى الغير. والحاجة لنا أمر ذاتي لا يمكن أن يخلو عنه. وهو سبحانه، الغني له أمر ذاتي لا يمكن أن يخلو عنه. فهو بنفسه حي قيوم واجب الوجود، ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء. فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا وما اتصفنا به من الكمال، من العلم والقدرة وغير ذلك، هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان، لم يجب أن لا يكون لله ذات [ ص: 4144 ] ولا صفات ولا أفعال، وأن لا يقدر ولا يعلم. لكون ذلك ملازما للحاجة فينا. فكذلك كل ما جاء به السمع من الصفات، إذا قدر أنه في حقنا ملازم لحاجة وضعف، لم يجب أن يكون في حق الله تعالى ملازما لذلك. هذا ما قرره الإمام تقي الدين بن تيمية في خلال بعض فتاويه. وكلامه هذا بمثابة القاعدة الكلية لأمثال هذا الموضوع. فاحفظه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [39] وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون [40] إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون .

    وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر أي: فرغ من الحساب وفصل بين أهل الجنة والنار، وصار كل إلى ما صار إليه مخلدا فيه: وهم في غفلة أي: وهم اليوم مستغرقون في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة: وهم لا يؤمنون أي: لا يصدقون به اليوم وسيعاينونه. ثم أمر تعالى رسوله أن يتلو عليهم نبأ إبراهيم لكونهم ينتمون إليه فيعتبروا في توحيده الخالص، فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [41] واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا [42] إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا .

    واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا بليغ التصديق بما يجب لله من الوحدانية والتنزيه: نبيا إذ قال لأبيه أي: متلطفا في دعوته إلى التوحيد ونهيه عن عبادة الأصنام: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا أي: فلا يدفع ضرا ولا يجلب نفعا.

    قال أبو السعود : ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج، وأقوم سبيل. واحتج عليه [ ص: 4145 ] أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل. لئلا يركب متن المكابرة والعناد. ولا ينكب، بالكلية، عن محجة الرشاد. حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل، من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه، فضلا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم. مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام، والإنعام العام. الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب. ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل، لداعية صحيحة وغرض صحيح. والشيء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا، قادرا على النفع والضر، مطيقا بإيصال الخير والشر، لكن كان ممكنا، لاستنكف العقل السليم عن عبادته. وإن كان أشرف الخلائق. لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبة. فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر؟
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [43] يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا .

    يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك أي: وحق القاصر اتباع الإنسان الكامل: فاتبعني أهدك صراطا سويا أي: معتدلا لا إفراط فيه بعبادة من لا يستحق، ولا تفريط بترك عبادة من يستحق، وكذا في باب الأخلاق والأعمال. قال المهايمي : أي: وإن كان حق الابن اتباع الأب في العرف ، لكنه باطل. لأن الحق اتباع الصواب.

    قال الزمخشري : ثنى عليه السلام بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا. فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق. ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي. فلا تستنكف. وهب أني وإياك في مسير، وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه.
    [ ص: 4146 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [44] يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا .

    يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا ثلث عليه السلام بتثبيطه ونهيه عما كان عليه، بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل، ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة، مستجلب لضرر عظيم، فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان. لما أنه الآمر به والمسول له، وقوله: إن الشيطان إلخ تعليل لموجب النهي وتأكيد له، ببيان أنه مستعص على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم. ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص. والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير. والاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته، لأنه ملاكها. والتعرض لعنوان الرحمانية، لإظهار كمال شناعة عصيانه. أفاده أبو السعود .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [45] يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا .

    يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن لكونك عصيته وواليت عدوه، فيقطع رحمته عنك، كما قطعها عن الشيطان: فتكون للشيطان وليا أي: مقارنا له ومشاركا معه في عذابه.

    قال الزمخشري : ربع عليه السلام بتخويفه سوء العاقبة، وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال. ولم يخل ذلك من حسن الأدب، حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له، وأن العذاب لاصق به، ولكنه قال: أخاف أن يمسك عذاب فذكر الخوف والمس ونكر العذاب. وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه، أكبر من العذاب. وصدر كل نصيحة من النصائح الأربعة بقوله: يا أبت توسلا إليه واستعطافا.
    وقوله تعالى:

    [ ص: 4147 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [46] قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا .

    قال أي: أبوه مصرا على عناده لفرط غلوه في الضلال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم أي: أمعرض ومنصرف أنت عنها. وإنما قدم الخبر على المبتدأ، لأنه كان أهم عنده. وصدره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة، على ضرب من التعجب. كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل، فضلا عن ترغيب الغير عنها. وفيه تسلية للرسول صلوات الله عليه، عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه.

    وقوله: لئن لم تنته لأرجمنك تهديد متناه. أي: لئن لم تنته عن القول فيها، وعن نصحك، لأرجمنك بالحجارة: واهجرني مليا أي: تباعد عني زمانا طويلا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [47] قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا .

    قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا أي: مبالغا في اللطف بي. وفي جوابه بقوله عليه السلام: سلام عليك مقابلة السيئة بالحسنة. كما قال تعالى: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما أي: لا أصيبك بمكروه بعد. ولكن سأدعو ربي أن يغفر لك. كما قال: واغفر لأبي قال الزمخشري : وفي الآية دليل على جواز متاركة المنصوح، والحال هذه. ويجوز أن يكون دعا له بالسلامة، استمالة له. ألا ترى أنه وعده بالاستغفار؟

    وفي (الإكليل): استدل بعضهم بالآية على جواز ابتداء الكافر بالسلام .

    [ ص: 4148 ] وقال ابن كثير : قد استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام. وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق في قوله: ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام. وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك. حتى أنزل الله تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله إلى قوله: إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك يعني إلا في هذا القول، فلا تتأسوا به.
    ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه، فقال تعالى: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين إلى قوله: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم وقوله:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [48] وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا .

    وأعتزلكم أي: أتباعد عنك وعن قومك بالهجرة: وما تدعون من دون الله أي: من أصنامكم.

    قال الزمخشري : المراد بالدعاء العبادة، لأنه منها ومن وسائطها. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: « الدعاء هو العبادة » . ويدل عليه قوله تعالى: فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله [ ص: 4149 ] وأدعو ربي أي: أعبده وحده: عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا أي: خائبا ضائع السعي. وفيه تعريض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم، مع التواضع لله بكلمة: عسى ، وما فيه من هضم النفس ومراعاة حسن الأدب، والتنبيه على أن الإجابة والإثابة بطريق التفضل منه تعالى .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [49] فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا .

    فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وذلك بالمهاجرة إلى الشام : وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا أي: جعلنا له بنين وحفدة، أنبياء قرت عينه بهم في حياته بدل من فارقهم من أقربائه الكفرة الفجرة.
    وقوله تعالى:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [50] ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا .

    ووهبنا لهم من رحمتنا أي: ما عرف فيهم من النبوة والذرية وسعة الرزق وحوزة الأرض المقدسة: وجعلنا لهم لسان صدق عليا أي: ثناء حسنا. عبر باللسان عما يوجد باللسان. كما عبر بـ(اليد) عما يطلق باليد وهي العطية. وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلو، للدلالة على أنهم أحقاء بما يثني عليهم، وأن مجاهدتهم لا تخفى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [51] واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا [52] وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا .

    واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا بكسر اللام أي: أخلص العبادة [ ص: 4150 ] عن الشرك وأسلم وجهه لله. وقرئ بفتحه. أي: أخلصه الله، أي: اصطفاه، كما قال: إني اصطفيتك على الناس وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن أي: من جانبه الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة، فرآها تلوح فقصدها فوجدها ثمة. فنودي عندها: وقربناه نجيا أي: مناجيا، أي: كليما. إذ كلمناه بلا واسطة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [53] ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا .

    ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ليشد أزره في أداء الرسالة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #449
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ مَرْيَمَ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4151 الى صـ 4165
    الحلقة (448)






    القول في تأويل قوله تعالى:

    [54] واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا [55] وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا .

    واذكر في الكتاب إسماعيل وهو ابن إبراهيم عليهما السلام. وإنما فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه، لإبراز كمال الاعتناء بأمره، بإيراده مستقلا. وقوله: إنه كان صادق الوعد تعليل للأمر. وإيراده عليه السلام بهذا الوصف، وإن شاركه فيه بقية الأنبياء، تشريفا له وإكراما. ولأنه المشهور من خصاله. وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح، فوفى به حيث قال: ستجدني إن شاء الله من الصابرين، وهذا أعظم ما يتصور فيه. وفيه تنبيه بعظم هذه الخلة. ولذا كان ضدها نفاقا، كما صرحت به الأخبار وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة أي: كان يبدأ أهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم. ولأنهم أولى من سائر الناس: وأنذر عشيرتك [ ص: 4151 ] الأقربين وأمر أهلك بالصلاة قوا أنفسكم وأهليكم نارا ألا ترى أنهم أحق بالتصدق عليهم؟ فالإحسان الديني أولى. أفاده الزمخشري . وكان عند ربه مرضيا أي: لاتصافه بالنعوت الجليلة التي منها ما ذكر. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [56] واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا [57] ورفعناه مكانا عليا .

    واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا هو شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى. فالعلو معنوي. أو رفعه بجسده حيا إلى السماء. قال الشهاب: قيل: والثاني أقرب لأن الرفعة المقترنة بالمكان لا تكون معنوية، وفيه نظر لأنه ورد مثله بل ما هو أظهر منه، كقوله:


    وكن في مكان إذا ما سقطت تقوم ورجلاك في عافية


    انتهى. ومما يؤيد الثاني ما روي في الصحيحين عن أنس في حديث المعراج; أنه صلوات الله عليه رأى إدريس في السماء الرابعة. وإدريس هو إلياس الآتي ذكره في سورة الصافات. ويسمى في التوراة إيليا . ولرفعه إلى السماء فيها نبأ عجيب، قد يكون التنزيل الكريم في هذه الآية أشار إليه والله أعلم.
    وقوله تعالى:

    [ ص: 4152 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [58] أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا .

    أولئك إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس عليه السلام. وما فيه من معنى البعد، للإشعار بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل. وقوله تعالى: الذين أنعم الله عليهم أي: بفنون النعم الدينية والدنيوية: من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا أي: هديناهم للحق واجتبيناهم للنبوة والكرامة: إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا أي: إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه، سجدوا لربهم خضوعا واستكانة. مع ما لهم من علو الرتبة. وسمو الزلفى عنده تعالى. وفي الآية استحباب السجود والبكاء عند سماع التلاوة .

    قال ابن كثير : أجمع العلماء على مشروعية السجود ههنا، اقتداء بهم، واتباعا لمنوالهم. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ سورة مريم فسجد. وقال: هذا السجود فأين البكي .
    ولما ذكر تعالى حزب السعداء، وهم الأنبياء ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره ذكر من نبذ دعوتهم ممن خلفهم، وما سينالهم، بقوله سبحانه:

    [ ص: 4153 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [59] فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا .

    فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة وقرئ (الصلوات) بالجمع أي: المتضمنة للسجود والأذكار، المستدعية للبكاء. وإذا أضاعوها، فهم لما سواها من الواجبات أضيع. لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد: واتبعوا الشهوات أي: فأتوا بما ينافي البكاء والأمور المرضية من الأخلاق والأعمال، من الانهماك في المعاصي التي هي بريد الكفر: فسوف يلقون غيا أي: شرا. قال الزمخشري : كل شر عند العرب غي، وكل خير رشاد . قال المرقش :


    فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما


    أي من يفعل خيرا، يحمد الناس أمره. ومن يفعل الشر لا يعدم اللوائم على فعله. وقيل: أراد الشاعر بالخير المال. وبالغي الفقر أي: ومن يفتقر. ومنه القائل:


    والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهي. ولأم المخطئ الهبل


    أي الثكل. ويجوز أن يكون المعنى جزاء غي. كقوله تعالى: يلق أثاما أي: شرا وعقابا. فأطلق عليه كما أطلق الغي على مجازاته المسببة عنه، مجازا أو: غيا ضلالا عن طريق الجنة. فهو بمعناه المشهور.
    [ ص: 4154 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [60] إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا [61] جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا .

    إلا من تاب أي: عن ترك الصلوات واتباع الشهوات: وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب متعلق بمضمر العائد إلى الجنات. أو من عباده أي: وعدها إياهم ملتبسة أو ملتبسين بالغيب. أي: غائبة عنهم غير حاضرة. أو غائبين عنها لا يرونها، وإنما آمنوا بها بمجرد الأخبار. أو بمضمر هو سبب للوعد أي: وعدها إياهم بسبب إيمانهم، أفاده أبو السعود : إنه كان وعده مأتيا أي: لا يخلفه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [62] لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا [63] تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا .

    لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما أي: لا يسمعون فيها فضول كلام لا طائل تحته. وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها. قال الزمخشري رحمه الله: فيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو واتقائه . حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها. وما أحسن قوله سبحانه: وإذا مروا باللغو مروا كراما وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا.

    [ ص: 4155 ] ومعنى: إلا سلاما أي: تسليما. تسليم الملائكة عليهم، أو بعضهم على بعض، على الاستثناء المنقطع كما قال: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا وهم المتصفون بشعب الإيمان، المسرودة في مواضع شتى من آي القرآن. ولما قص سبحانه من أنباء الأنبياء عليهم السلام ما قص، مثبتا له، وعقبه بما أحدثه الخلف، وذكر جزاءهم -عقبه بحكاية نزول جبريل عليه السلام، ردا لما زعمه المشركون من أنه كان يقلوه فلا يزوره، تسلية له صلى الله عليه وسلم، وإعلاما بأن الحال ليس على ما زعمه هؤلاء الخلف. فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [64] وما نتنـزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا .

    وما نتنـزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا أي: ينسى شيئا ما، بل لا يفيض علما ولا ينزل ملكا إلا لحكمة يستعد لها الحال، أي: فليس عدم النزول إلا لعدم الأمر به، ولم يكن لتركه تعالى لك وتوديعه إياك. وفي إعادة اسم الرب المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق، مضافا إلى ضميره عليه السلام، من تشريفه والإشعار بعلة الحكم، ما لا يخفى. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [65] رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا .

    رب السماوات والأرض وما بينهما أي: من التوابع والنجميات والسحب وغير ذلك. [ ص: 4156 ] قال بعض علماء الفلك: الآية تدل على أن السماوات أكثر من سبع. وأن ذكر السبع ليس للحصر كما قدمناه في البقرة، من أن السماوات عني بها الكواكب، والأرض كوكب منها. قال أبو السعود : الآية بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى. فإن من بيده ملكوت السماوات والأرض وما بينهما، كيف يتصور أن يحوم حول ساحة سبحاته الغفلة والنسيان. وهو خبر محذوف. أو بدل من (ربك) فاعبده واصطبر لعبادته أي: اثبت لها على الدوام. وقوله: هل تعلم له سميا أي: مثلا وكفؤا، فتلتفت إليه وتقبل بوجهك نحوه، فيفيض عليك مطلوبك. والجملة تقرير لوجوب عبادته وحده. أي: إذا صح أن لا مثل له، ولا يستحق العبادة غيره، لم يكن بد من التسليم لأمره والقيام بعبادته، والاصطبار على مشاقها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [66] ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا .

    ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا أي: يقول بطريق الإنكار والاستبعاد: أأخرج بعد ما لبثت في القبر مدة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [67] أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا .

    أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا أي: قبل جعله ترابا ونطفة. وكان عدما صرفا لا وجود له في الأعيان. فلا تبعد إعادته.

    قال أبو السعود : وفي الإظهار موضع الإضمار، زيادة التقرير بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليه من شؤون التكوين المنخية بالقلع عن القول المذكور. وهو السر في إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان. أي: ما أعجب الإنسان في إنكاره وعدم تذكره لما ذكر، وهو الذي أعطى العقل لينظر في العواقب، وأنعم عليه بخلق السماوات والأرض وما بينهما، ليعرف المنعم فيشكره، ويعبده فيجازى على فعله.
    [ ص: 4157 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [68] فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا .

    فوربك لنحشرنهم والشياطين أي: لنحشرن المنكرين للبعث مع الشياطين الذين أغووهم وأضلوهم عن الحق: ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا جمع جاث. من جثا إذا قعد على ركبتيه. وذلك لهول المطلع. فلا يستطيعون قياما. كقوله تعالى: وترى كل أمة جاثية
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [69] ثم لننـزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا .

    ثم لننـزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا أي: لنخرجن إلى النار، من كل فرقة، الذي هو أشد على الرحمن، الذي رحمه بإنزال الكتاب وإرسال الرسول وتعريف مضار الشهوات بالعقل والنقل عتيا أي: جراءة، بإيثار الشهوات على أمره وعدم مبالاته به.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [70] ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا .

    ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وهم المنتزعون. فإنهم أولى الشيع. إذ ضلوا، لأجل لذات الدنيا وشهواتها. فصاروا أولى بالصلي بها. فيخصون بعذاب مضاعف.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [71] وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا .

    وإن منكم إلا واردها أي: ليس أحد منكم، من بر وفاجر، إلا وهو يردها كان على ربك حتما مقضيا أي: حكما جزما مقطوعا به.
    [ ص: 4158 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [72] ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا .

    ثم أي: بعد الورود والإحضار للتعريف: ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا أي: لا يمكنهم التجاوز عنها.

    قال الزمخشري : فيه دليل على أن المراد بالورود، الجثو حواليها. وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة، بعد تجاثيهم. وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [73] وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا .

    وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما أي: موضعا ومكانا: وأحسن نديا أي: مجتمعا للقوم، والمعنى أن هؤلاء الكفرة إذا تليت عليهم آياته تعالى بينة الحجة واضحة البرهان على مقاصدها، أعرضوا وأخذوا يحتجون على فضل ما هم عليه بكونهم أوفر حظا من الدنيا، لكونهم أحسن منازل وأرفع دورا وأعمر ناديا وأكثر طارقا وواردا، أي: فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل، وأولئك الذين هم مختفون في دار الأرقم بن أبي الأرقم على الحق؟ كما قال تعالى مخبرا عنهم: وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وقال قوم نوح: قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون وقال تعالى: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين

    وكذلك رد عليهم شبهتهم بقوله سبحانه:
    [ ص: 4159 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [74] وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا .

    وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا أي: متاعا: ورئيا أي: منظرا وهيئة من عظم الجاه، فما أغنى عنهم من عذاب الله شيئا. كما قال تعالى عن قوم فرعون المغرقين:كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم و: ورئيا فعل بمعنى مفعول كالطحن.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [75] قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا .

    قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا أي: من كان مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور. وهم المذكورون قبل، ومن شاكلهم فليمدد له الرحمن أي: يمد له ويمهله بطول العمر وإعطاء المال. وإخراجه على صيغة الأمر للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة، لقطع المعاذير. كما ينبئ عنه قوله تعالى: أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر أو للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وقيل المراد به الدعاء بالمد والتنفيس والإمهال. أي: فأمهله الله فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله، إما بعذاب يصيبه، وإما الساعة بغتة. وقد بين سبحانه غاية المد بقوله: حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا أي: فئة وأنصارا.
    [ ص: 4160 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [76] ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا .

    ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات أي: الأعمال التي تبقى فوائدها: خير عند ربك ثوابا وخير مردا أي: مرجعا. وتكرير الخير لمزيد الاعتناء ببيانه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [77] أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا .

    أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين أي: في الآخرة: مالا وولدا أي: انظر إلى هذا القائل المجترئ على الغيب ما أكفره.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [78] أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا .

    أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا أي: بذلك، لأنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [79] كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا [80] ونرثه ما يقول ويأتينا فردا .

    كلا سنكتب ما يقول أي: نحفظه عليه للمؤاخذة به: ونمد له من العذاب مدا بمضاعفته له، جزاء لاستهزائه.

    ونرثه ما يقول أي: ننزع عنه ما آتيناه من مال وولد، [ ص: 4161 ] فلا يبقيان له حتى يمكنها قطع العذاب عنه: ويأتينا فردا أي: في الحشر، لا يصحبه مال ولا ولد. فما يجدي عليه تمنيه وتأليه.

    وقد روى البخاري : عن خباب رضي الله عنه، قال: كنت قينا -حدادا- في الجاهلية بمكة. فعملت للعاص بن وائل سيفا، فجئت أتقاضاه فقال: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد . قلت: لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث. قال. فذرني حتى أموت، ثم أبعث فسوف أوتى مالا وولدا فأقضيك. فنزلت الآية. قال ابن عباس : فضرب الله مثله في القرآن.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [81] واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا .

    واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا أي: ليتعززوا بهم، بأن يكونوا لهم وصلة إليه عز وجل، وشفعاء عنده.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [82] كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا .

    كلا أي: ليس الأمر كما زعموا، ولا يكون ما طمعوا: سيكفرون بعبادتهم أي: ستجحد الآلهة استحقاقهم للعبادة: ويكونون عليهم ضدا أي: يريدون إهلاكهم، إذا أوقعوهم في هلاك دعوى الشرك، كما قال تعالى: ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وقال تعالى: وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك [ ص: 4162 ] فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون قيل: المراد بالآلهة من عبد من ذوي العلم. لإطلاق ضمير العقلاء عليهم ونطقهم. وقيل: الأصنام. بأن يخلق الله فيهم قوة النطق، فيطلق عليهم ما يطلق على العقلاء. وقيل: الأعم منهما، وهو الأظهر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [83] ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا .

    ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين أي: بأن سلطناهم عليهم ومكناهم من إضلالهم. أو قيضناهم لهم يغلبون عليهم: تؤزهم أزا أي: تغريهم وتهيجهم على المعاصي، بالتسويلات وتحبيب الشهوات، تهيجا شديدا.

    قال الزمخشري : الأز والهز والاستفزاز أخوات. ومعناها التهييج وشدة الإزعاج والمراد تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد الآيات التي ذكر فيها العتاة والمردة من الكفار، وأقاويلهم وملاحاتهم ومعاندتهم للرسل، واستهزاؤهم واجتماعهم على دفع الحق بعد وضوحه وانتفاء الشك عنه، وانهماكهم لذلك في اتباع الشياطين وما تسول لهم. فهذه الآية كالتذييل لما قبلها وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [84] فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا .

    فلا تعجل عليهم أي: بوقوع العذاب بهم لتطهر الأرض منهم. و(الفاء) للإشعار بكون ما قبلها مظنة لوقوع المنهي عنه، محوجة إلى النهي. يقال: عجلت عليه بكذا إذا استعجلته منه. وقوله تعالى: إنما نعد لهم عدا تعليل لموجب النهي، ببيان اقتراب هلاكهم. أي: إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط، ونحوه قوله تعالى: ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار

    [ ص: 4163 ] قال الشهاب: العد كناية عن القلة. وقلته لتقضيه وفنائه، كما قال المأمون (ما كان ذا عدد، ليس له مدد، فما أسرع ما نفد) ولا ينافي هذا ما مر أنه يمد لمن كان في الضلالة. أي: يطول. لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم. وهو قليل باعتبار عاقبته وعند الله. ولله در القائل:


    إن الحبيب من الأحباب مختلس لا يمنع الموت بواب ولا حرس وكيف يفرح بالدنيا ولذتها فتى
    يعد عليه اللفظ والنفس
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [85] يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا .

    يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا أي: وافدين عليه. وأصل الوفود القدوم على العظماء للعطايا والاسترفاد. ففيه إشارة إلى تبجيلهم وتعظيمهم، المزور والزائر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [86] ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا .

    ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا أي: عطاشا. وفي ذكرهم بالسوق إشعار بإهانتهم واستخفافهم. كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء. والورد: الذهاب إلى الماء، ويطلق على الذاهبين إليه. وقوله تعالى:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [87] لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا .

    لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا الضمير لأصنامهم المتقدم ذكرها في قوله: واتخذوا من دون الله آلهة رد على عابديهم في دعواهم [ ص: 4164 ] أنهم شفعاؤهم عند الله. واتخاذ العهد هو الإيمان والعمل الصالح. أي: لكن من آمن وعمل صالحا فإنه يشفع للعصاة على ما وعد الله تعالى. وجوز أن يكون العهد بمعنى الإذن والأمر. يقال: أخذت الإذن في كذا واتخذته بمعنى. من باب عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به. أي: لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة، المأذون له فيها. وتعضده مواضع في التنزيل: وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ونحو هذه الآية قوله تعالى: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ولما قرر تعالى في هذه السورة عبودية عيسى عليه السلام، وذكر خلقه من مريم بلا أب، عطف عليه حكاية جنايتهم من دعوى النبوة له، مهولا لأمرها. وكذا جناية أمثالهم من اليهود والعرب ممن يسمي بعض المخلوقات ابنا أو بنتا له، تعالى وتقدس- عطف قصته على قصته بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [88] وقالوا اتخذ الرحمن ولدا [89] لقد جئتم شيئا إدا .

    وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا أي: عظيما منكرا. وفي رد مقالتهم وتهويل أمرها بطريق الالتفات، إشعار بشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع، والتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجراءة والجهل.
    ثم وصف شدة شأن مقولهم بقوله سبحانه:

    [ ص: 4165 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [90] تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا [91] أن دعوا للرحمن ولدا [92] وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [93] إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا .

    تكاد السماوات يتفطرن منه أي: يتشققن: وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن أي: لأن: دعوا للرحمن ولدا وذلك لغيرتها على المقام الرباني الأحدي أن ينسب له ما ينزه عنه ويعر بحاجته ووجود كفء له وفنائه. وذلك لأن الولادة إنما تكون من الحي الذي له مزاج فهو مركب ونهايته إلى انحلال وفناء، وهو سبحانه تنزه عن ذلك، كما قال: وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا أي: مملوكا له يأوي إليه بالعبودية والذل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [94] لقد أحصاهم وعدهم عدا [95] وكلهم آتيه يوم القيامة فردا .

    لقد أحصاهم وعدهم أي: حصرهم وأحاط بهم إحاطة لا يخرج بها أحد عن حيطة علمه وقبضة قدرته: وكلهم آتيه يوم القيامة فردا أي: منفردا مجردا من الأتباع والأنصار، وعمن زعم أنه له من الشفعاء. فإنهم منهم برآء.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #450
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ طَهَ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4166 الى صـ 4180
    الحلقة (449)






    ولما فصل مساوئ الكفرة، تأثره بمحاسن البررة، فقال سبحانه:

    [ ص: 4166 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [96] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا .

    إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا أي: يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة، من غير تعرض للأسباب التي تكسب الود. كذا قالوا في تأويله. وقال أبو مسلم : معناه أنه يهب لهم ما يحبون. قال: والود والمحبة سواء. آتيت فلانا محبته. وجعل لهم ما يحبون وجعلت له وده. ومن كلامهم: وددت لو كان كذا. أي: أحببت. فمعناه سيعطيهم الرحمن ودهم أي: محبوبهم في الجنة. ثم قال أبو مسلم : وهذا القول الثاني أولى لوجوه:

    أحدها: كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم المتقي يبغضه الكفار وقد يبغضه كثير من المسلمين؟

    وثانيها: أن مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر، فكيف يمكن جعله إنعاما في حق المؤمنين؟

    وثالثها: أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم. فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى. انتهى. وقد حاول الرازي التمويه في اختيار الأول والجواب عن الثاني. والحق أحق. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [97] فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا .

    فإنما يسرناه بلسانك أي: سهلنا هذا القرآن بلغتك: لتبشر به المتقين أي: الذين اتقوا عقاب الله، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، بالجنة: وتنذر به قوما لدا أي تخوف بهذا القرآن عذاب الله قومك من بني قريش . فإنهم أهل لدد وجدل بالباطل، لا يقبلون الحق واللدد شدة الخصومة. والباء في قوله: بلسانك بمعنى على. أي: على لغتك. أو ضمن (التيسير) معنى (الإنزال) أي: يسرنا القرآن، منزلين له بلغتك، ليسهل تبليغه وفهمه وحفظه.

    قال الزمخشري : هذه خاتمة السورة ومقطعها. فكأنه قال: بلغ هذا المنزل، أو بشر به وأنذر، فإنما أنزلناه إلخ، أي: فالفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم.

    [ ص: 4167 ] وقال الرازي : بين به بهذا، عظيم موقع هذه السورة، لما فيها من التوحيد والنبوة والحشر والنشر، والرد على فرق المضلين المبطلين. وأنه يسر ذلك لتبشير المتقين وإنذار من خالفهم، وقد ذكرهم بأبلغ وصف شيء وهو اللدد. لأن الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه.

    ثم إنه تعالى ختم هذه السورة بموعظة بليغة، فقال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [98] وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا .

    وكم أهلكنا قبلهم من قرن أي: قوم لد، مثل هؤلاء، إهلاكا عظيما: هل تحس منهم من أحد أي: تشعر به وتراه: أو تسمع لهم ركزا أي: صوتا خفيا.

    والمعنى أنهم بادوا وهلكوا وخلت منهم دورهم وأوحشت منهم منازلهم. وكذلك هؤلاء صائرون إلى ما صار إليه أولئك، إن لم يتداركوا بالتوبة.
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    20- سُورَةُ طَهَ


    وهي مكية. وقيل: إلا قوله تعالى: فاصبر على ما يقولون الآية. وقوله: ولا تمدن عينيك الآية، وآياتها مائة وخمس وثلاثون.

    [ ص: 4169 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [1] طه [2] ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى [3] إلا تذكرة لمن يخشى .

    طه قدمنا أن الحق في هذه الحروف التي افتتحت بها سورها، أنها أسماء لها. وفيه إشارة إلى أنها مؤلفة منها. ومع ذلك ففي عجزهم عن محاكاتها أبلغ آية على صدقها. ونبه الإمام ابن القيم رحمه الله على نكتة أخرى في (الكافية الشافية) بقوله:


    وانظر إلى السور التي افتتحت بأحـ ــرفها ترى سرا عظيم الشان لم يأت قط بسورة إلا أتى
    في إثرها خبر عن القرآن إذ كان إخبارا به عنها. وفي
    هذا الشفاء لطالب الإيمان ويدل أن كلامه هو نفسها
    لا غيرها، والحق ذو تبيان فانظر إلى مبدا الكتاب وبعدها الـ
    أعراف ثم كذا إلى لقمان مع تلوها أيضا ومع حم مع
    يس وافهم مقتضى الفرقان


    ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى أي: لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا و(الشقاء) في معنى التعب. ومنه المثل: أشقى من رائض مهر.

    وقوله تعالى: إلا تذكرة لمن يخشى أي: تذكيرا له. أي: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بتبليغه، ولكن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار. والقصد أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة. وقد جرت السنة الإلهية [ ص: 4170 ] في خطاب الرسول في مواضع من التنزيل، أن ينهاه عن الحزن عليهم وضيق الصدر بهم، كقوله تعالى: فلا يكن في صدرك حرج ، فلعلك باخع نفسك على آثارهم ، ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، وهذه الآية من هذا الباب أيضا.

    وفي ذلك كله من تكريم الرسول صلوات الله عليه، وحسن العناية به والرأفة ، ما لا يخفى. ثم أشار إلى تضخيم شأن هذا المنزل الكريم، لنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله، بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [4] تنـزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا [5] الرحمن على العرش استوى .

    تنـزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا الرحمن قرئ بالرفع على المدح. أي: هو الرحمن. وبالجر على أنه صفة للموصول. وقوله: على العرش استوى أي: علا وارتفع. قاله ابن جرير . وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازا عن الملك والسلطان. كقولهم: استوى فلان على سرير الملك، وإن لم يقعد على السرير أصلا.

    وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضا.

    قال ابن كثير : والمسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف، من إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة، من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.

    وقد أسلفنا ما حققته أئمة الفلك الحديث; من أن العرش جرم حقيقي موجود وأنه مركز العوالم كلها. أي: مركز الجذب والتدبير والتأثير والنظام.
    [ ص: 4171 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [6] له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى .

    له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى بيان لشمول قهره وملكته للكل. أي: كلها تحت ملكته وقهره وسلطنته وتأثيره. لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [7] وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى .

    وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى بيان لكمال لطفه. أي: علمه نافذ في الكل. يعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر. فكذلك إن تجهر وإن تخفت، فيعلمه بجهر وخفت.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [8] الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى .

    الله أي: ذلك المنزل الموصوف بهذه الصفات هو الله: لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى أي: الفضلى، لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [9 - 10] وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى .

    وهل أتاك حديث موسى من عطف القصة أو استئناف. والقصد تقرير أمر [ ص: 4172 ] التوحيد الذي انتهى إليه الآية قبله، ببيان أنه دعوى كل نبي لا سيما أشهرهم نبأ، وهو موسى عليه السلام. فقد خوطب بقوله تعالى: إنني أنا الله لا إله إلا أنا وبه ختم تعالى نبأه في هذه السورة بقوله: إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو أو تقرير لسعة علمه المبين في قوله تعالى: وإن تجهر بالقول إلخ لقوله بعد: وسع كل شيء علما أولهما معا. أو لحمله، صلوات الله عليه، على التأسي بموسى في الصبر والثبات. لكونه ابتلي بأعظم من هذا فصبر، وكانت العاقبة له. وقد أشير في طليعة نبأ موسى عليه السلام، إلى كيفية ابتداء الوحي إليه، وتكليمه تعالى إياه. وذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم. وصار بأهله قاصدا بلاد مصر، بعد ما طالت غيبته عنها ومعه زوجته. فأضل الطريق. وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلا بين شعاب وجبال في برد وشتاء. وبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا، كما قصه تعالى بقوله: إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا أي: أبصرتها إبصارا بينا لا شبهة فيه: لعلي آتيكم منها بقبس أي: بشعلة مقتبسة تصطلون بها: أو أجد على النار هدى أي: هاديا يدلني على الطريق.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [11] فلما أتاها نودي يا موسى [12] إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى .

    فلما أتاها أي: النار: نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى أي فيجب فيه رعاية الأدب، بتعظيمه واحترامه لتجلي الحق فيه، كما يراعى أدب القيام عند الملوك (وطوى): اسم للوادي.
    [ ص: 4173 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [13] وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى [14] إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري [15] إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى .

    وأنا اخترتك أي: اصطفيتك للنبوة: فاستمع لما يوحى أي: للذي يوحى. أو للوحي. ثم بينه بقوله: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني أي: خصني بالعبادة: وأقم الصلاة لذكري أي: لتذكرني فيها بقلبك ولسانك وسائر جوارحك، بأن تجعل حركاتها دالة على ما في القلب واللسان. قال أبو السعود : خصت الصلاة بالذكر وأفردت بالأمر بالعبادة، لفضلها وإنافتها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره. وذلك قوله تعالى: لذكري أي: لتذكرني. فإن ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة. أو لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار. أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. أو لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي. لا ترائي بها، ولا تقصد بها غرضا آخر. أو لتكون ذاكرا لي غير ناس. انتهى.

    ثم أشار إلى وجوب إفراده بالعبادة وإقامة الصلاة لذكره . بقوله: إن الساعة آتية أي: واقعة لا محالة: أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى أي: بسعيها عن اختيار منها. واللام متعلقة بـ(آتية). ولما كان خفاء الساعة من اليقينيات وفي (كاد) معنى القرب من ذلك، لعدم وضعها للجزم بالفعل، تأولوا الآية على وجوه:

    أحدها: أن (كاد) منه تعالى واجب. والمعنى أنا أخفيها عن الخلق. كقوله: عسى أن يكون قريبا أي: هو قريب.

    ثانيها: قال أبو مسلم : (أكاد) بمعنى أريد كقوله: كذلك كدنا ليوسف

    [ ص: 4174 ] ومن أمثالهم المتداولة: (لا أفعل ذلك ولا أكاد)، أي: ولا أريد أن أفعله. قال الشهاب : تفسير (أكاد) بـ(أريد) هو أحد معانيها. كما نقله ابن جني في (المحتسب) عن الأخفش . واستدلوا عليه بقوله:


    كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى


    بمعنى أرادت. لقوله: تلك خير إرادة.

    ثالثها: أن (أكاد) صلة في الكلام. قال زيد الخيل :


    سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما إن يكاد قرنه يتنفس


    رابعها: أن المعنى أكاد أخفيها فلا أذكرها إجمالا ولا أقول هي آتية. وذلك لفرط إرادته تعالى إخفاءها. إلا أن في إجمال ذكرها حكمة، وهي اللطف بالمؤمنين، لحثهم على الأعمال الصالحة، وقطع أعذار غيرهم حتى لا يعتذروا بعدم العلم. وثمة وجوه أخر لا تخلو من تكلف، وإن اتسع اللفظ لها. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [16] فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى .

    فلا يصدنك عنها أي: عن تصديق الساعة: من لا يؤمن بها واتبع هواه أي: ما تهواه نفسه من الشهوات وترك النظر والاستدلال: فتردى أي: فتهلك.

    قال الزمخشري : يعني أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير. إذ لا شيء أطم على الكفرة، ولا هم أشد له نكيرا من البعث. فلا يهولنك وفور دهمائهم، ولا عظم سوادهم. ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك. واعلم أنهم، وإن كثروا تلك الكثرة، فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى [ ص: 4175 ] واتباعه. لا البرهان وتدابره. وفي هذا حث عظيم على العلم بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد ، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله . وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [17] وما تلك بيمينك يا موسى [18] قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى .

    وما تلك بيمينك يا موسى شروع فيما سيؤتيه تعالى من البرهان الباهر. وفي الاستفهام إيقاظ له وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب الصنع: قال هي عصاي أتوكأ عليها أي: أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة: وأهش بها على غنمي أي: أخبط بها الورق وأسقطه عليها لتأكله: ولي فيها مآرب أخرى أي: حاجات أخر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [19] قال ألقها يا موسى [20] فألقاها فإذا هي حية تسعى [21] قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى .

    قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى أي: هيئتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تنتفع من قبل. أي: ليس القصد تخويفك، بل إظهار ما فيها من استعداد قبول الحياة، ومشاهدة معجزة وبرهان لك.
    [ ص: 4176 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [22] واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى [23] لنريك من آياتنا الكبرى .

    واضمم يدك إلى جناحك أي: إبطك: تخرج بيضاء أي: نيرة: من غير سوء أي: قبيح وعيب كبياض البرص مما ينفر عنه. واعتمد الزمخشري ; أن قوله تعالى: من غير سوء كناية عن البرص. كما كني عن العورة بالسوأة، قال: والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة. وأسماعهم لاسمه مجاجة. فكان جديرا بأن يكنى عنه. ولا ترى أحسن ولا ألطف ولا أحر للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه. انتهى، آية أخرى أي: معجزة أخرى غير العصا: لنريك من آياتنا الكبرى متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم. أي: أريناك ما أريناك الآن، مع أن حقهما أن يظهرا بعد التحدي والمناظرة، لنريك أولا بعض آياتنا الكبرى، فيقوى قلبك على مناظرة الطغاة. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [24] اذهب إلى فرعون إنه طغى .

    اذهب إلى فرعون تخلص إلى ما هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة. فصل عما قبله من الأوامر إيذانا بأصالته. أي: اذهب إليه بما رأيته من الآيات الكبرى، وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي. أفاده أبو السعود .

    وقوله تعالى: إنه طغى أي: جاوز الحد في التكبر والعتو، حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية. فلا بد من تنبيهه على طغيانه بالدلائل العقلية، التي صدقتها المعجزات.
    [ ص: 4177 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [25] قال رب اشرح لي صدري [26] ويسر لي أمري [27] واحلل عقدة من لساني [28] يفقهوا قولي .

    قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي إنما سأل ذلك، لما كان يتخوفه من آل فرعون في القتيل. ولما بعث به من صدع جبار عنيد، أطغى الملوك وأبلغهم تمردا وكفرا، مما يحوج إلى عناية ربانية. وسأل أن يمد بمنطق فصيح، لما في لسانه من عقدة كانت بمنعه من كثير من الكلام كما قال: وأخي هارون هو أفصح مني لسانا وقول فرعون : ولا يكاد يبين ثم سأل عليه السلام ربه أن يعينه بأخيه هارون ، ليكون له ردءا، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [29] واجعل لي وزيرا من أهلي [30] هارون أخي [31] اشدد به أزري .

    واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري أي: قو به ظهري.
    [ ص: 4178 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [32] وأشركه في أمري [33] كي نسبحك كثيرا [34] ونذكرك كثيرا [35] إنك كنت بنا بصيرا .

    وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا أي: كي نتعاون على تسبيحك وذكرك. لأن التعاون -لأنه مهيج الرغبات- يتزايد به الخير ويتكاثر: إنك كنت بنا بصيرا أي: عالما بأحوالنا، وبأن المدعو به مما يفيدنا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [36] قال قد أوتيت سؤلك يا موسى [37] ولقد مننا عليك مرة أخرى .

    قال قد أوتيت سؤلك يا موسى أي: أجيب دعاؤك. وقوله تعالى: ولقد مننا عليك مرة أخرى كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله، وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول، ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب، فلأن ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع، أولى وأحرى. وتصديره بالقسم، لكمال الاعتناء بذلك. أفاده أبو السعود .

    وقوله تعالى: مرة أخرى أي: في وقت آخر.
    [ ص: 4179 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [38] إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى [39] أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني .

    إذ أوحينا أي: ألقينا بطريق الإلهام: إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت أي: الصندوق: فاقذفيه في اليم أي: البحر، متوكلة على خالقه: فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي لدعواه الألوهية: وعدو له لدعوته إلى نبذ ما يدعيه.

    قال الزمخشري : لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته -أن لا تخطئ جرية اليم، الوصول به إلى الساحل، وإلقاءه إليه- سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك، ليطيع الأمر ويمتثل رسمه. فقيل: فليلقه اليم بالساحل أي: على سبيل الاستعارة بالكناية. بتشبيه اليم بمأمور منقاد. وإثبات الأمر تخييل، وقوله تعالى: وألقيت عليك محبة مني أي: واقعة مني، زرعتها في قلب من يراك. ولذلك أحبك فرعون : ولتصنع على عيني أي: ولتربى بيد العدو على نظري بالحفظ والعناية. فعلى عيني استعارة تمثيلية للحفظ والصون، لأن المصون يجعل بمرأى. قيل: و(على) بمعنى الباء لأنه بمعنى بمرأى مني، في الأصل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [40] إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى .

    إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله أي: يضمن حضانته ورضاعته.

    [ ص: 4180 ] فقبلوا قولها. وذلك لأنه لما استقر عند آل فرعون، عرضوا عليه المراضع فأباها كما قال تعالى: وحرمنا عليه المراضع فجاءت أخته فقالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فجاءت بأمه كما قال: فرجعناك إلى أمك أي: مع كونك بيد العدو: كي تقر عينها أي: برؤيتك: ولا تحزن أي: بفراقك. فهذه منن زائدة على النجاة من القتل.

    ثم أشار إلى ما من عليه بالنجاة من القتل الذي لا يدفع بتلبيس، بقوله: وقتلت نفسا أي: من آل فرعون، وهو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي، إذ وكزه موسى فقضى عليه. أي: فاغتممت للقصاص: فنجيناك من الغم أي: غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه. وذلك أنه عليه السلام فر من آل فرعون حتى ورد ماء مدين . وقال له ذلك الرجل الصالح: لا تخف نجوت من القوم الظالمين وفتناك فتونا أي: ابتليناك ابتلاء. على أن (الفتون) مصدر كالشكور، أو ضروبا من الفتن على أنه جمع (فتنة) أي: فجعلنا لك فرجا ومخرجا منها. وهو إجمال لما سبق ذكره.

    فلبثت سنين في أهل مدين أي: معزز الجانب مكفي المؤونة في عشرة أتقى رجل منهم وأصلحهم، وهو نبيهم عليه السلام: ثم جئت على قدر يا موسى أي: بعد أن قضيت الأجل المضروب بينك وبين شعيب من الإجارة،جئت بأهلك على وفق ما سبق في قضائي وقدري; أن أكلمك وأستنبئك في وقت يعينه قد وقته لذلك. فما جئت إلا على ذلك القدر، غير مستقدم ولا مستأخر. فالأمر له تعالى. وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء.

    قال أبو السعود : وقوله تعالى: يا موسى تشريف له عليه الصلاة والسلام، وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولا.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #451
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ طَهَ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4181 الى صـ 4195
    الحلقة (450)






    وقوله تعالى:

    [ ص: 4181 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [41] واصطنعتك لنفسي [42] اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري .

    واصطنعتك لنفسي تذكير لقوله تعالى: وأنا اخترتك وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيدا بأخيه، و(الاصطناع) افتعال من (الصنع) بمعنى الصنيعة. يقال: اصطنع الأمير فلانا لنفسه، أي: جعله محلا لإكرامه باختياره وتقريبه منه، بجعله من خواص نفسه وندمائه، فاستعير استعارة تمثيلية من ذلك المعنى المشبه به إلى المشبه. وهو جعله نبيا مكرما كليما منعما عليه بجلائل النعم. قال أبو السعود : والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى: وفتناك ونظيريه السابقين، تمهيد لإفراد لفظ (النفس) اللائق بالمقام، فإنه أدخل في تحقيق معنى (الاصطناع) و(الاستخلاص). ثم بين ما هو المقصود بـ(الاصطناع) بقوله سبحانه: اذهب أنت وأخوك بآياتي أي: بمعجزاتي. كالعصا وبياض اليد وحل العقدة، مع ما استظهره على يده: ولا تنيا في ذكري أي: لا تفترا ولا تقصرا في ذكري بما يليق بي من النعوت الجليلة، عند تبليغ رسالتي والدعاء إلي.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [43] اذهبا إلى فرعون إنه طغى [44] فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى .

    اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى أي: عقابي. فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة، ويلين عريكة الطغاة. وقد بين ذلك في قوله تعالى: فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى وبمثل ذلك [ ص: 4182 ] أمر نبينا صلوات الله عليه في قوله: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وظاهر أن الرجاء في (لعله) إنما هو منهما، لا من الله. فإنه لا يصح منه. ولذا قال القاضي: أي: باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ولا نخيب سعيكما. فإن الراجي، مجتهد والآيس متكلف. والفائدة في إرسالها والمبالغة عليهما في الاجتهاد -مع علمه بأنه لا يؤمن- إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [45] قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى [46] قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى .

    قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أي: يبادرنا بالعقوبة: أو أن يطغى أي: يزداد طغيانا بالعناد، في دفع حججنا، ثم يأمر بقتلنا، أو بالتخطي إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي، لجرأته وقسوة قلبه. واقتصر على الثاني الزمخشري . وأفاد أن في المجيء به هكذا على الإطلاق، وعلى سبيل الرمز، بابا من حسن الأدب، وتحاشيا عن التفوه بالعظيمة: قال لا تخافا أي: من فرطه وطغيانه: إنني معكما أي: بالحفظ والنصرة: أسمع وأرى أي: ما يجري بينكما وبينه. فأرعاكما بالحفظ. فالمفعول محذوف للقرينة، أو نزل منزلة اللازم تتميما لما يستقل به الحفظ. كأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر، سامع وبصير. وإذا كان الحافظ كذلك، تم الحفظ والتأييد، وذهبت المبالاة بالعدو.
    [ ص: 4183 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [47] فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى .

    فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل أي: بإطلاقهم من الأسر والعبودية. وتسريحهم معنا إلى وطننا فلسطين: ولا تعذبهم أي: بإبقائهم على ما هم عليه من التسخير والتذليل في الأمور الشاقة: قد جئناك بآية من ربك أي: تحقق رسالتي إليك منه تعالى بذلك: والسلام على من اتبع الهدى أي: فصدق بآيات الله المبينة للحق. وفيه من ترغيبه في اتباعهما، على ألطف وجه، ما لا يخفى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [48] إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى .

    إنا قد أوحي إلينا أي: من ربنا: أن العذاب على من كذب أي: بآياته تعالى: وتولى أي: أعرض عنها. وفيه من التلطيف في الوعيد، حيث لم يصرح بحلول العذاب به، ما لا مزيد عليه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [49] قال فمن ربكما يا موسى [50] قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .

    قال أي: فرعون: فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أي: منح كل شيء من الأنفس البشرية، صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، فسواه بها وعدله، ثم هداه بأن وهبه العقل الذي يميز بين الخير والشر. [ ص: 4184 ] وهذه الآية في معناها كآية: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وآية: وهديناه النجدين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [51] قال فما بال القرون الأولى [52] قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى .

    قال أي: فرعون: فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى أي: ما حال القرون السالفة وما جرى عليهم؟ وهذا السؤال إما لصرف موسى عليه السلام عما يدعوه إليه أمام ملئه، وإشغاله بما لا يعني ما أرسل به، وإما لتوهم أن الرسول يعلم الغيب، فأراد أن يقف على نبأ ما مضى، ويفتح بابا للتخطئة والتكذيب، بالعناد واللجاج. فأجابه موسى عليه السلام بأن هذا سؤال عن الغيب، وقد استأثر الله به. فلا يعلمه إلا هو. وليس من وظيفة الرسالة. وإنما علمها مكتوب في اللوح المحفوظ، محصى غير منسي. ويجوز أن يكون: في كتاب تمثيلا لتمكنه وتقريره في علم الله عز وجل، بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة. قال في العناية: فيشبه علمه تعالى بها علما ثابتا لا يتغير، بمن علم شيئا وكتبه في جريدته، حتى لا يذهب أصلا، فيكون قوله: لا يضل ربي ولا ينسى ترشيحا للتمثيل، واحتراسا أيضا. لأن من يفعل ذلك إنما يفعله لخوف النسيان. والله تعالى منزه عنه.

    فـ(الكتاب) على هذا بمعناه اللغوي. وهو الدفتر، لا اللوح المحفوظ.
    وقوله تعالى:

    [ ص: 4185 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [53] الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنـزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى .

    الذي جعل لكم الأرض مهدا أي: فراشا: وسلك لكم فيها سبلا وأنـزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى أي: أصنافا من نبات مختلفة الأجناس، في الطعم والرائحة والشكل والنفع.

    لطيفة:

    جعل الزمخشري قوله تعالى: فأخرجنا من باب الالتفات. وناقشه الناصر; بأن الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد. يصرف كلامه على وجوه شتى. وما نحن فيه ليس كذلك. فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون : علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ثم قوله: الذي جعل لكم الأرض مهدا إلى قوله: فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى فإما أن يجعل من قول موسى، فيكون من باب قول خواص الملك: (أمرنا وعمرنا) وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات. وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: ولا ينسى ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات إنعامه على خلقه، فليس التفاتا أيضا. وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب. وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف وقيفة عند قوله: ولا ينسى ليستقر بانتهاء الحكاية. ويحتمل وجها آخر وهو; أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة. فقال: الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنـزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى فلما حكاه الله تعالى عنه، أسند الضمير إلى ذاته. لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى . فمرجع الضميرين واحد. وهذا الوجه وجه حسن رقيق الحاشية. وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات. لكن الزمخشري لم يعنه. والله أعلم. انتهى كلام الناصر.
    وقوله تعالى:

    [ ص: 4186 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [54] كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى [55] منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى .

    كلوا وارعوا أنعامكم حال من ضمير فأخرجنا على إرادة القول: إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها أي: من الأرض: خلقناكم أي: خلقنا أصلكم وهو آدم . أو خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة عن الأغذية، والمتولدة من الأرض بوسائط: وفيها نعيدكم أي: بالإماتة إعادة البذر إلى الأرض: ومنها نخرجكم تارة أخرى أي: بردهم كما كانوا، أحياء. ثم أشار تعالى إلى عتو فرعون وعناده، بقوله سبحانه:
    لقول في تأويل قوله تعالى:

    [56] ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى [57] قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى .

    ولقد أريناه آياتنا كلها أي: من العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين: فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى أي: مستويا واضحا يجمعنا.
    [ ص: 4187 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [59] قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى [60] فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى .

    قال موعدكم يوم الزينة وهو يوم مشتهر عندهم باجتماع الناس فيه: وأن يحشر الناس ضحى أي: ضحوة النهار ليكون الأمر مكشوفا لا سترة فيه: فتولى فرعون أي انصرف عن المجلس: فجمع كيده أي: ما يكيد به موسى ، من السحرة وأدواتهم: ثم أتى أي: الموعد ومعه ما جمعه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [61] قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى [62] فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى [63] قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى .

    قال لهم موسى أي: مقدما لهم النصح والإنذار، لينقطع عذرهم: ويلكم لا تفتروا على الله كذبا أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم، إيجاد أشياء لا حقائق لها، وأنها مخلوقة وليست مخلوقة. فتكونوا قد كذبتم على الله تعالى: فيسحتكم أي: يستأصلكم: بعذاب أي: هائل لغضبه عليكم: وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا أي: بطريق التناجي والإسرار: إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى أي: بمذهبكم [ ص: 4188 ] الأفضل. وهو ما كانوا عليه. يعنون أن قصد موسى وهارون هو عزل فرعون عن ملكه، بجعله عبدا لغيره، واستقرارهما في مكانه، وجعل قومهما مكانكم. وإلجائكم إلى مبارحة أرضكم، وإبطال طريقتكم بسحرهما الذي يريدان إعجازكم به. و: المثلى تأنيث الأمثل، بمعنى الأفضل. ودعواهم ذلك، لأن كل حزب بما لديهم فرحون.

    لطيفة:

    في قوله تعالى: إن هذان لساحران قراءات:

    الأولى: " إن هذين لساحران " بتشديد النون من (إن) و(هذين) بالياء وهي قراءة أبي عمرو ، وهي جارية على السنن المشهور في عمل (إن).

    الثانية: إن هذان لساحران بتحفيف إن وإهمالها عن العمل، كما هو الأكثر فيها إذا خففت. وما بعدها مرفوع بالابتداء والخبر. واللام لام الابتداء فرقا بينها وبين النافية. ويرى الكوفيون أن اللام هذه بمعنى (إلا) و(إن) قبلها نافية، واستدلوا على مجيء اللام للاستثناء بقوله:


    أمس أبان ذليلا بعد عزته وما أبان لمن أعلاج سودان


    والثالثة: إن هذان لساحران بتشديد (إن) و(هذان) بالألف. وخرجت على أوجه:

    أحدها: موافقة لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث. وهم بنو الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وكنانة وآخرون. قال قائلهم:


    تزود منا بين أذناه طعنة


    [ ص: 4189 ] وقال آخر:


    إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها


    وثانيها: إن (إن) بمعنى (نعم) حكاه المبرد . واستدل بقول الراجز:


    يا عمر الخير جزيت الجنه اكس بنياني وأمهنه
    وقل لهن: إن أن إنه أقسم بالله لتفعلنه


    وقول عبد الله بن قيس الرقيات :


    ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه


    ورد على المبرد أبو علي الفارسي ، بأنه لم يتقدم ما يجاب بـ(نعم) وأجاب الشمني، بأن التنازع فيما بينهم، وإسرار النجوى، يتضمن استخبار بعضهم من بعض. فهو جواب للاستخبار الضمني. ولا يخفى بعده. فإن إسرار النجوى فيما بينهم ليس في الاستخبار عن كونهما ساحرين، بل هم جزموا بالسحر فقالوا: أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ثم أسروا النجوى فيما يغلبان به موسى. إلا أن يقال: محط الجواب قوله: فأجمعوا كيدكم إلخ، وما قبله توطئة. وقد رد في (المغني) هذا التخريج; بأن مجيء (نعم) شاذ حتى نفاه بعضهم. ومنعه الدماميني ; بأن سيبويه والحذاق حكوه عن الفصحاء. وعليه، فاللام في: لساحران لام الابتداء، زحلقت للخبر. وأبى البصريون دخولها على الخبر. وزعموا أنها في مثله داخلة على مبتدأ محذوف، أو زائدة، أو دخلت مع (إن) التي بمعنى (نعم) لشبهها بالمؤكدة لفظا.

    وأقول: فيه تكلف. والشواهد على اقتران الخبر باللام كثيرة.

    [ ص: 4190 ] وثالثها: أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد، وهو (هذا) جعل كذلك في التثنية، ليكون المثنى كالمفرد. لأنه فرع عليه. واختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، وزعم أن بناء المثنى، إذا كان مفرده مبنيا، أفصح من إعرابه. قال: وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة. ثم اعترض بأمرين:

    أحدهما: أن السبعة أجمعوا على الياء في قوله تعالى: إحدى ابنتي هاتين مع أن هاتين تثنية (هاتا) وهو مبني.

    والثاني: أن (الذي) مبني وقد قالوا في تثنيته اللذين في الجر والنصب. وهي لغة القرآن، كقوله تعالى: ربنا أرنا اللذين أضلانا وأجاب الأول; بأنه إنما جاء هاتين بالياء على لغة الإعراب لمناسبة (ابنتي) قال: فالإعراب هنا أفصح من البناء، لأجل المناسبة. كما أن البناء في: إن هذان لساحران أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في " هذان " للألف في " ساحران " . وأجاب عن الثاني بالفرق بين (اللذان) وهذان بأن اللذان تثنية اسم ثلاثي، فهو شبيه (بالزيدان) وهذان تثنية اسم على حرفين. فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف. قال رحمه الله: وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ إن هذان لحن وإن عثمان رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه.

    أحدها: إن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات، فكيف يقرون اللحن في القرآن، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟.

    والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام، فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف؟.

    [ ص: 4191 ] والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم. لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي.

    والرابع: أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب التابوت بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنهم. فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش . ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ: " عتى حين " ، على لغة هذيل ، أنكر ذلك عليه وقال: أقرئ الناس بلغة قريش . فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم، ولم ينزله بلغة هذيل. انتهى كلام تقي الدين ملخصا.

    هذا حاصل ما في (المغني) و (الشذور) و (حواشيهما) وفي الآية وجوه أخرى استقصتها المطولات. وما ذكرناه أرقها. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [64] فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى .

    فأجمعوا كيدكم تصريح بالمطلوب، إثر تمهيد المقدمات. والفاء فصيحة. أي إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين، يريدان بكم ما ذكر من الإخراج، والإذهاب، فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم. أفاده أبو السعود . وقوله تعالى: ثم ائتوا صفا أي: مصطفين، ليكون أهيب في صدور الرائين: وقد أفلح أي: فاز بالإنعامات العظيمة من فرعون وملئه: اليوم من استعلى أي: علا وغلب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [65] قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى [66] قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى .

    قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا [ ص: 4192 ] فإذا حبالهم وعصيهم أي: التي ألقوها: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى أي: حيات تسعى على بطونها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [67] فأوجس في نفسه خيفة موسى [68] قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى [69] وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى .

    فأوجس أي: أحس: في نفسه خيفة موسى وذلك لما جبل عليه الإنسان من النفرة من الحيات. أو خاف من توهم الخلق المعارضة، بأن لهم من حبالهم وعصيهم حيات. كما أن له من عصاه حية: قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا أي: تلتقطه بفمها: إنما صنعوا كيد ساحر في مقابلة آية ربانية: ولا يفلح الساحر حيث أتى أي: لا يفوز بمطلوبه، أي مكان جاء لدفع الحق.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [70] فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى [71] قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى .

    فألقي السحرة سجدا أي: فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا فألقي السحرة سجدا، تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية ربانية: قالوا آمنا برب هارون [ ص: 4193 ] وموسى قال أي فرعون: آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر أي: فاتفقتم معه ليكون لكم الملك: فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف أي: من جانبين متخالفين: ولأصلبنكم في جذوع النخل أي: التي هي أقوى الأخشاب وأخشنها: ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى يعني أنكم إنما آمنتم برب موسى خوفا من شدة عذابه. أو من تخليده في العذاب: ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى فإن رب موسى لم يقطع من أحد يده ورجله من خلاف، ولم يصلبه في جذوع النخل، ولم يبقه مصلوبا، قاله المهايمي . وضعفه الزمخشري بأن فرعون يريد نفسه وموسى عليه السلام، بدليل قوله: آمنتم له أي: لموسى. واللام مع الإيمان، في كتاب الله لغير الله تعالى كقوله تعالى: يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين وقصده إظهار اقتداره وبطشه، وما جرى به من تعذيب الناس بأنواع العذاب. وتوضيع موسى عليه السلام واستضعافه مع الهزء به، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [72] قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا .

    قالوا لن نؤثرك أي: نختارك بالإيمان والاتباع: على ما جاءنا أي: من الله على يد موسى : من البينات والذي فطرنا أي: وعلى الذي خلقنا. واختيار هذا الوصف للإشعار بعلة الحكم. فإن خالقيته تعالى لهم، وكون فرعون من جملة مخلوقاته، مما يوجب عدم إيثارهم له عليه، سبحانه وتعالى. وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله: آمنتم له وقيل هو قسم محذوف الجواب: فاقض ما أنت قاض أي: اصنع ما أنت صانعه. وهذا جواب عن تهديده بقوله: " لأقطعن " إلخ: إنما تقضي هذه الحياة الدنيا أي: فيها وهي لا بقاء لها، ولا سلطان لك بعدها. وإنما البغية الآخرة.
    [ ص: 4194 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [73] إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى .

    إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى أي: ثوابا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [74] إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا .

    إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها أي: فينقضي عذابه: ولا يحيا أي: حياة طيبة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [75] ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا .

    ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا أي: المنازل الرفيعة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [76] جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى .

    جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى أي: تطهر من دنس الكفر والمعاصي، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة.

    لطائف:

    من (الكشاف) و (حواشيه للناصر).

    الأولى: في تخيير السحرة بين إلقاء موسى وإلقائهم، استعمال أدب حسن معه، وتواضع له [ ص: 4195 ] وخفض جناح. وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم. وكأن الله عز وعلا ألهمهم ذلك، وعلم موسى -صلوات الله عليه- اختيار إلقائهم، أولا، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب، حتى يبرزوا ما معهم من مكايد السحر، ويستنفدوا أقصى طرقهم ومجهودهم. فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين. وعبرة بينة للمعتبرين. وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم: فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه ففوضوا ضرب الموعد إليه، وكما ألهم الله عز وجل موسى ها هنا، أن يجعلهم مبتدئين بما معهم، ليكون إلقاؤه العصا، بعد، قذفا بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه من الأول، أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم، ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد، فيكون أفضح لكيدهم وأهتك لستر حرمهم.

    الثانية: جوز في إيثار قوله تعالى: ما في يمينك على: " عصاك " وجهان:

    أحدها: أن يكون تعظيما لها. أي: لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة. فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها. وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده. فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها.

    وثانيهما: أن يكون تصغيرا لها أي: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم. وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك. فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وإنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة، تحقير كيد السحرة بطريق الأولى. لأنها إذا كانت أعظم منة وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى، فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟

    ولأصحاب البلاغة طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح، ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه. فصغر الله أمر العصا، ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #452
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ طَهَ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4196 الى صـ 4210
    الحلقة (451)





    واعلم أنه لا بد من نكتة تناسب الأمرين -التعظيم والتحقير- وتلك، والله أعلم، [ ص: 4196 ] هي إرادة المذكور مبهما، لأن: ما في يمينك أبهم من: " عصاك " وللعرب مذهب في التنكير والإبهام، والإجمال، تسلكه مرة لتحقير شأن ما أبهمته، وأنه عند الناطق به أهون من أن يخصه ويوضحه. ومرة لتعظيم شأنه، وليؤذن أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان، يغني في الرمز والإشارة. فهذا هو الوجه في إسعاده بهما جميعا.

    ثم قال الناصر: وعندي في الآية وجه سوى قصد التعظيم والتحقير. والله أعلم. وهو أن موسى عليه السلام، أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى، عندما سأله عنها بقوله تعالى: وما تلك بيمينك يا موسى ثم أظهر له تعالى آيتها، فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها، قال تعالى: وألق ما في يمينك ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له: وما تلك بيمينك وقد أظهر له آيتها، فيكون ذلك تنبيها له وتأنيسا، حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها. وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت. ألا ترى إلى قوله تعالى: فأوجس في نفسه خيفة موسى ؟ انتهى.

    ولأبي حيان نكتة أخرى. وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة. ولا يقال جاء في سورة الأعراف: ألق عصاك والقصة واحدة. لأنه يجاب بأنه مانع من رعاية هذه النكتة فيما وقع هنا، وحكاية ما جاء بالمعنى.

    هذا وقال الشهاب الخفاجي : فيما ذكروه نظر لأنه إنما يتم إذا كان الخطاب بلفظ عربي أو مرادف له، يجري فيه ما يجري فيه. والأول خلاف الواقع. والثاني دونه خرط القتاد، فتأمل.

    أقول: إنما استبعد الثاني، لتوهم أن لا بلاغة ولا نكات إلا في اللغة العربية. مع أن الأمر ليس كذلك. وحينئذ فيتعين الثاني. وهو ظاهر. وبه تستعاد تلك اللطائف.
    ثم أشار تعالى إلى عنايته بموسى وقومه، من إنجائهم وإهلاك عدوهم، وقد طوى هنا ما فصل في آيات أخر: بقوله سبحانه:

    [ ص: 4197 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [77] ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى .

    ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي أي: سر بهم من مصر ليلا: فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا أي: يابسا. فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق وجاوزه إلى ساحله: لا تخاف دركا أي: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك ولا تخشى أي: غرقا من بين يديك، ووحلا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [78] فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم [79] وأضل فرعون قومه وما هدى .

    فأتبعهم فرعون بجنوده لأنه ندم على الإذن بتسريحهم من مصر، وأنهم قهروه على قلتهم كما قال: إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون فتبعهم ومعه جنوده حتى لحقوهم، ونزلوا في الطريق الذي سلكوه. ففاجأهم الموج كما قال تعالى: فغشيهم من اليم ما غشيهم أي: علاهم منه وغمرهم، ما لا يحاط بهوله: وأضل فرعون قومه وما هدى أي: أوردهم الهلاك، بعتوه وعناده في الدنيا والآخرة. وما هداهم سبيل الرشاد.
    ثم ذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل ومننه الكبرى ، وما وصاهم من المحافظة على شكرها، وحذرهم من التعرض لغضبه بكفرها، بقوله سبحانه:

    [ ص: 4198 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [80] يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونـزلنا عليكم المن والسلوى [81] كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى .

    يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وهو فرعون وقومه. فقد كانوا يسومونكم سوء العذاب. يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم. وذلك بأن أقر أعينكم منهم، بإغراقهم، وأنتم تنظرون: وواعدناكم جانب الطور الأيمن أي: بمناجاة موسى وإنزال التوراة عليه. واليهود السامرية تزعم أن هذا الجبل في نابلس ويسمونه جبل الطور ويذكر في الجغرافيا بلفظ عيبال ولهم عيد سنوي فيه يصعدون إليه، ويقربون فيه القرابين. والله أعلم.

    قال الزمخشري : وإنما عدى المواعدة إليهم، لأنها لابستهم واتصلت بهم، حيث كانت لنبيهم ونقبائهم. وإليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه.

    و(جانب) مفعول فيه، أو مفعول به على الاتساع. أو بتقدير مضاف. أي: إتيان جانب ونـزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم أي: من لذائذه. فإن المن كالعسل. والسلوى من الطيور الجيد لحمها: ولا تطغوا فيه أي: فيما رزقناكم، بأن يتعدى فيه حدود الله، ويخالف ما أمر به: فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى أي: هلك.
    [ ص: 4199 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [82] وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى .

    وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى أي: تاب عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، وعمل صالحا بجوارحه، ثم اهتدى أي: استقام وثبت على الهدى المذكور. وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح. ونحوه قوله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة الطغيان، ببيان المخرج له منه، كي لا ييأس .
    وقوله تعالى:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [83] وما أعجلك عن قومك يا موسى .

    وما أعجلك عن قومك يا موسى أي: أي شيء عجل بك عنهم، على سبيل الإنكار، وكان قد مضى معه النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور، على الموعد المضروب، ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه ورضاه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [84] قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى .

    قال هم أولاء على أثري أي: قادمون ينزلون بالطور، وإنما سبقتهم بما ظننت أنه خير. ولذا قال: وعجلت إليك رب لترضى أي: عني، بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك. واعتنائي بالوفاء بعهدك. وزيادة (رب) لمزيد الضراعة والابتهال، رغبة في قبول العذر. أفاده أبو السعود .

    [ ص: 4200 ] فإن قيل: كان مقتضى جواب السؤال من موسى أن يقول: طلب زيادة رضاك أو الشوق إلى كلامك، فالجواب. أن هذا من الغفلة عن سر الإنكار. وذلك لأن الإنكار بالذات إنما هو للبعد والانفصال عنهم. فهو منصب على القيد. كما عرف في أمثاله. فالسؤال في المعنى عن الانفصال الذي يتضمنه (أعجلك) المتعدي بـ(من). وإنكار العجلة لأنها وسيلة له. فالجواب: هم أولاء على أثري. وقوله: وعجلت إلخ تتميم. وقيل الجواب إنما هو قوله: وعجلت إلخ، وما قبله تمهيد له.

    وقال الناصر: إنما أراد الله بسؤاله عن سبب العجلة، وهو أعلم، أن يعلم موسى أدب السفر. وهو أنه ينبغي تأخر رئيس القوم عنهم في المسير، ليكون نظره محيطا بطائفته، ونافذا فيهم، ومهيمنا عليهم. وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عز وجل كيف علم هذا الأدب، لوطا، فقال: واتبع أدبارهم فأمره أن يكون أخيرهم. على أن موسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضاء الله عز وجل، ومسارعة إلى الميعاد. وذلك شأن الموعود بما يسره، يود لو ركب إليه أجنحة الطير. ولا أسر من مواعدة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [85] قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري .

    قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك أي: ابتليناهم بعد ذهابك للمناجاة: وأضلهم السامري يعني اليهودي الذي وسوس لهم أن يعبدوا عجلا يتخذوه إلها، لما طالت عليهم غيبة موسى ويئسوا من رجوعه. و( السامري ) في لغة العرب، بمعنى اليهودي. وقد قال بالظن، من ادعى تسميته أو حاول تعيينه. وأما الطائفة السامرية الآن فهم فئة من اليهود في ( نابلس ) قليلة العدد تخالف بقية اليهود في جل عاداتها.

    [ ص: 4201 ] وقد تضمنت هذه الجملة -أعني إخباره تعالى لموسى بالفتنة -الأمر- برجوعه لقومه، وإصلاحه ما فسد من حالهم، كما قال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [86] فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي .

    فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا أي: حزينا: قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أي: بإنزال التوراة علي، ورجوعي بها إليكم: أفطال عليكم العهد أي: زمان الإنجاز، أو مجيئي: أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي أي: وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [87] قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري [88] فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي .

    قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا قرئ بالحركات الثلاث على الميم.

    قال الزمخشري : أي: ما أخلفنا موعدك، بأن ملكنا أمرنا. أي: لو ملكنا أمرنا، وخلينا وراءنا، لما أخلفناه. ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده: ولكنا حملنا بفتح الحاء مخففا، وبضمها وكسر الميم مشددا: أوزارا أي: أثقالا وأحمالا: من زينة القوم [ ص: 4202 ] أي: من حلي القبط، قوم فرعون، وهو حلي نسائهم: فقذفناها أي: في النار لسبكها: فكذلك ألقى السامري أي: كان إلقاؤه: فأخرج لهم أي: من تلك الحلي المذابة: عجلا جسدا له خوار أي: صوت عجل. وقد قيل: إنه صار حيا، وخار كما يخور العجل. وقيل: لم تحله الحياة وإنما جعل فيه منافذ ومخارق، بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل. أفاده الرازي .

    وقوله: فقالوا أي: السامري ومن افتتنوا به: هذا إلهكم وإله موسى فنسي أي: غفل عنه وذهب يطلبه في الطور. ثم أنكر تعالى على من ضل بهذا العجل وأضل. مسفها لهم فيما أقدموا عليه، مما لا يشتبه بطلانه على أحد، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [89] أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا .

    أفلا يرون ألا يرجع أي: العجل: إليهم قولا أي: لا يردد لهم جوابا: ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا أي: دفع ضر ولا جلب نفع، أي: فكيف يتخذ إلها؟
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [90] ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري .

    ولقد قال لهم هارون من قبل أي: قبل رجوع موسى إليهم: يا قوم إنما فتنتم به أي: ضللتم بعبادته: وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري في عبادته سبحانه، ونبذ العجل.
    [ ص: 4203 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [91] قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى [92] قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا [93] ألا تتبعني أفعصيت أمري .

    قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى قال أي: موسى : يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أي: في الغضب لله، وشدة الزجر عن الكفر. ولا مزيدة. أو المعنى ما حملك على أن لا تتبعني، بحمل النقيض على النقيض. فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله. أو ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم، فتكون مفارقتك مزجرة لهم: أفعصيت أمري وهو ما أمره به من أن يخلفه في قومه، ويصلح ما يراه فاسدا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [94] قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي .

    قال أي: هارون: يا ابن أم بكسر الميم وفتحها. أراد أمي وذكرها أعطف لقلبه: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي أي: بشعره. وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضبه: إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل أي: بتركهم لا راعي لهم: ولم ترقب قولي أي: لم تراعه في الاستخلاف والوجود بين ظهرانيهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [95] قال فما خطبك يا سامري .

    قال فما خطبك يا سامري أي: ثم أقبل على السامري وقال له منكرا: ما شأنك فيما صنعت؟ وما دعاك إليه؟
    [ ص: 4204 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [96] قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي [97] قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا .

    قال بصرت بما لم يبصروا به أي: فطنت لما لم يفطنوا له: فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها أي: في الحلي المذاب حتى حي: وكذلك سولت لي نفسي أي: حسنته وزينته: قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك أي: لعذابك: موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا أي: لنطيرنه رمادا في البحر، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر.

    تنبيهات:

    الأول: اعلم أن هارون عليه السلام، سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه. لأنه زجرهم عن الباطل، أولا بقوله: إنما فتنتم به ثم دعاهم لمعرفة الله تعالى ثانيا بقوله: وإن ربكم الرحمن ثم دعاهم ثالثا إلى معرفة النبوة بقوله تعالى: فاتبعوني ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله: وأطيعوا أمري وهذا هو الترتيب الجيد. لأنه لا بد قبل كل شيء في إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات. ثم معرفة الله تعالى، فإنها هي الأصل. ثم النبوة ثم الشريعة. فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه. أفاده الرازي .

    وقد برأ الله تعالى بهذه الآيات البينات، هارون عليه السلام مما افتراه عليه كتبة التوراة [ ص: 4205 ] من أنه هو السامري الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته، كما هو موجود عندهم. وهو من أعظم الفرى، بلا امترا.

    الثاني: عامة المفسرين قالوا: المراد بالرسول في قوله تعالى: فقبضت قبضة من أثر الرسول هو جبريل عليه السلام. وأراد بأثره، التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته. ثم اختلفوا: أن السامري متى رآه؟ فقيل: إنما رآه يوم فلق البحر. وقيل: وقت ذهابه بموسى إلى الطور.

    واختلفوا أيضا في: أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه السلام، ومعرفته من بين سائر الناس؟ فقيل إنما عرفه لأنه رآه في صغره، وحفظه من قتل آل فرعون له، وكان ممن رباه. وكل هذا ليس عليه أثارة من علم ولا يدل عليه التنزيل الكريم. ولذا قال أبو مسلم الأصفهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون. فههنا وجه آخر وهو: أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام. وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره، إذا كان يمتثل رسمه. والتقدير، أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال: بصرت بما لم يبصروا به أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، أي: شيئا من سنتك ودينك." فقذفته " ، أي: طرحته. فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة. وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب، كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا؟ وبماذا يأمر الأمير؟.

    وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولا، مع جحده وكفره، فعلى مثل مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله: وقالوا يا أيها الذي نـزل عليه الذكر إنك لمجنون وإن لم يؤمنوا بالإنزال. انتهى.

    [ ص: 4206 ] قال الرازي: ما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون، لوجوه:

    أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول. ولم يجر له فيما تقدم ذكر، حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه. فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام، كأنه تكليف بعلم الغيب.

    وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار. وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول، والإضمار خلاف الأصل.

    وثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته؟ ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر؟ والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه، فبعيد. لأن السامري، إن عرف جبريل حال كمال عقله، عرف قطعا أن موسى عليه السلام نبي صادق. فكيف يحاول الإضلال؟ وإن كان ما عرفه حال بلوغ، فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربيا له حال الطفولية، في حصول تلك المعرفة؟ انتهى.

    التنبيه الثالث: في قوله: لا مساس وجوه:

    أحدها: إني لا أمس ولا أمس.

    وثانيها: المراد المنع من أن يخالط أحدا أو يخالطه أحد، عقوبة له.

    ثالثها: ما ذكره أبو مسلم من أنه يجوز في حمله: ما (أريد مسي النساء)، فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله. فلا يكون له ولد يؤنسه، فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله: المال والبنون زينة الحياة الدنيا أي: لأن المس يكنى به عن النكاح كما في آية: من قبل أن تمسوهن والله أعلم.

    [ ص: 4207 ] ولما فرغ موسى عليه السلام من إبطال ما دعا إليه السامري، عاد إلى بيان الدين الحق، فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [98] إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما .

    إنما إلهكم أي: المستحق للعبادة والتعظيم: الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما أي: أحاط علمه كل شيء. ثم أشار تعالى إلى فضله، فيما قصه على خاتم رسله صلوات الله عليه، من أنباء الأنبياء، تنويها بشأنه، وزيادة في معجزاته، وتكثيرا للاعتبار والاستبصار في آياته، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [99] كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا .

    كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا أي: كتابا عظيما جامعا لكل كمال، وسمي القرآن: ذكرا لما فيه من ذكر ما يحتاج إلى الناس من أمر دينهم ودنياهم، ومن ذكر آلاء الله ونعمائه. ففيه التذكير والمواعظ، ولما فيه من الذكر والشرف له صلوات الله عليه ولقومه.

    قال الرازي: وقد سمى تعالى كل كتبه (ذكرا) فقال: فاسألوا أهل الذكر
    ثم، كما بين تعالى نعمته بذلك، بين شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به، بقوله:

    [ ص: 4208 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [100] من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا [101] خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا .

    من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا أي: إثما. يعني عقوبة ثقيلة. شبهت بالحمل الثقيل لثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها: خالدين فيه أي: في احتماله المستمر: وساء لهم يوم القيامة حملا
    وقوله تعالى:

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [102] يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا [103] يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا .

    يوم ينفخ في الصور بدل من يوم القيامة أو منصوب بمحذوف. والنفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق: فإذا هم قيام ينظرون وعلينا أن يؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا، عبث لا يسوغ للمسلم. أفاده بعض المحققين.

    ونحشر المجرمين أي: نسوقهم إلى جهنم: يومئذ زرقا أي: زرق الوجوه. الزرقة تقرب من السواد. فهو بمعنى آية: وتسود وجوه

    وقال أبو مسلم: المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم. والأزرق شاخص، لأنه لضعف بصره، يكون محدقا نحو الشيء يريد أن يتبينه. وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره. وهو كقوله تعالى: إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار نقله الرازي. والأول أظهر [ ص: 4209 ] يتخافتون بينهم أي: يتسارون من الرعب والهول، أو من الضعف، قائلين: إن لبثتم أي: في الدنيا: إلا عشرا أي: عشر ليال.

    قال الزمخشري : يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا، إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور، فيتأسفون عليها ويصفونها بالقصر. لأن أيام السرور قصار. وإما لأنها ذهبت عنهم وتقضت. والذاهب، وإن طالت مدته، قصير بالانتهاء. ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت: أطال الله بقاءك كفى بالانتهاء قصرا. وإما لاستطالتهم الآخرة، وأنها أبد سرمد، يستقصر إليها عمر الدنيا، ويتقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة.
    وقد استرجح الله قول من يكون أشد تقالا منهم، في قوله تعالى:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [104] نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما .

    نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة أي: أعدلهم رأيا: إن لبثتم إلا يوما ونحوه قوله تعالى: قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين انتهى.

    قال أبو السعود : ونسبة هذا القول إلى أمثلهم، استرجاع منه تعالى له، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق، بل لكونه أدل على شدة الهول. أي: ولكونه منتهى الأعداد القليلة. وكذلك لبثهم بالنسبة إلى الخلود السرمدي، وإلى تقضي الغائب الذي كأن لم يكن. ولا ينافي هذا ما جاء في آية: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة لأن المراد بالساعة الحصة من الزمان القليل، فتصدق باليوم. كما أن المراد باليوم مطلق الوقت. ولذلك نكر، تقليلا له وتحقيرا.

    [ ص: 4210 ] قال الشهاب : ليس المراد بحكاية قول من قال (عشرا) أو (يوما) أو (ساعة) حقيقة اختلافهم في مدة اللبث، ولا الشك في تعيينه. بل المراد أنه لسرعة زواله، عبر عن قلته بما ذكر. فتفنن في الحكاية، وأتى في كل مقام بما يليق به.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [105] ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا [106] فيذرها قاعا صفصفا [107] لا ترى فيها عوجا ولا أمتا .

    ويسألونك عن الجبال أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول: فقل ينسفها ربي نسفا أي: يزيلها عن مقارها. فيسيرها مقذوفة في الفضاء. وقد تمر على الرؤوس مر السحاب. حتى تتساوى مع سطح الأرض. كما قال: فيذرها أي: فيذر مقارها ومراكزها. أو الأرض المدلول عليها بقرينة الحال: قاعا أي: سهلا مستويا: صفصفا أي: أملس: لا ترى فيها عوجا ولا أمتا أي: نتوءا يسيرا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [108] يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا .

    يومئذ يتبعون الداعي أي: يجيبون الداعي إلى المحشر، فينقلبون من كل صوب إليه: لا عوج له أي: لا يعوج له مدعو، ولا ينحرف عنه. بل يستوون إليه. متبعين لصوته، سائرين بسيره.

    في شروح (الكشاف): هذا كما يقال: (لا عصيان له)، أي: لا يعصى. و(لا ظلم له) أي: لا يظلم. وضمير (له): للداعي. وقيل: للمصدر. أي: لا عوج لذلك الاتباع: وخشعت [ ص: 4211 ] الأصوات للرحمن أي: انخفضت لهيبته ولهول الفزع: فلا تسمع إلا همسا أي: صوتا خفيا.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #453
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ طَهَ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4211 الى صـ 4225
    الحلقة (452)






    القول في تأويل قوله تعالى:

    [109] يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا .

    يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا أي: قبل قوله.

    والمعنى: يومئذ لا يستطيع أحد أن يشفع لأحد، إلا إذا أذن الله له. ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب.

    قال بعض المحققين: وإنما يكون الكلام ضربا من التكريم، لمن يأذن الله له به، يختص به من يشاء. ولا أثر فيما أراد الله البتة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [110] يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما .

    يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما أي: بمعلوماته، أو بذاته العلية.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [111] وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما .

    وعنت الوجوه للحي القيوم أي: ذلت وخضعت خضوع العناة، أي: الأسارى. لأنها في أسر مملكته وذل قهره وقدرته. لا تحيا ولا تقوم إلا به.

    ولما كانت الوجوه يومئذ، منها الظالمة لنفسها ومنها الصالحة، أشار إلى ما يجزي به الكل، بقوله سبحانه: وقد خاب من حمل ظلما أي: خسر.
    [ ص: 4212 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [112] ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما

    ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما أي: نقص ثواب: ولا هضما أي: ولا كسرا منه، بعدم توفيته.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [113] وكذلك أنـزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا .

    وكذلك أنـزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد أي: بعبارات شتى، تصريحا وتلويحا، وضروب أمثال، وإقامة براهين: لعلهم يتقون أي: الكفر والمعاصي بالفعل: أو يحدث لهم ذكرا أي: اتعاظا واعتبارا، يؤول بهم إلى التقوى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [114] فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما .

    فتعالى الله الملك الحق أي: تناهى في العلو والعظمة، بحيث لا يقدر قدره، ولا يغدر أمره في ملكه الذي يعلو كل شيء، ويصرفه بمقتضى إرادته وقدرته. وفي عدله الذي يوفي كل أحد حقه بموجب حكمته: ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه أي: بل أنصت. فإذا فرغ الملك من قراءته فاقرأه بعده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقنه جبريل الوحي، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ. فأرشد إلى أن لا يساوقه في قراءته، وأن يتأنى عليه ريثما يسمعه ويفهمه. ثم ليقبل [ ص: 4213 ] عليه بالحفظ بعد ذلك. ونحوه قوله تعالى: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ثم أمره تعالى باستفاضة العلم واستزادته منه بقوله: وقل رب زدني علما أي: سله زيادة العلم. فإن مدده غير متناه.

    وهذا -كما قال الزمخشري - متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له، عندما علم من ترتيب التعلم. أي: علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم، وأدبا جميلا ما كان عندي، فزدني علما إلى علم. فإن لك في كل شيء حكمة وعلما. قيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.

    ثم أشار تعالى إلى أخذه العهد على بني آدم، من اتباعهم كل هدى يأتيهم منه سبحانه، وترتب الفوز عليه. وإلى أن الإعراض عنه من وسوسة الشيطان، العدو لهم ولأبيهم قبلهم. وترتب الشقاء عليه، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [115] ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما .

    ولقد عهدنا إلى آدم من قبل أي: من قبل هذا الزمان، أن لا يقرب من الشجرة: فنسي أي: العهد: ولم نجد له عزما أي: تصميما في حفظه. إذ لو كان كذلك، لما أزله الشيطان ولما استطاع أن يغره. كما بينه الله تعالى بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [116] وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى [117] فقلنا يا آدم [ ص: 4214 ] إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى .

    وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى أي: بالابتلاء. وإسناد الشقاء إليه خاصة، لأصالته في الأمور، واستلزام شقائه بشقائها. فاختصر الكلام لذلك، مع المحافظة على الفاصلة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [118] إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى [119] وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى .

    إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى أي: لا تتصون من حر الشمس.

    قال أبو السعود : هذا تعليل لما يوجبه النهي. فإن اجتماع أسباب الراحة فيها. مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها. والجد في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها. والعدول عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعما بفنون النعم. من المآكل والمشارب، وتمتعا بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية، مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها، ما لا يخفى. إلا ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعري والضحو، لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره عنها، ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها. انتهى.

    لطيفة:

    قال الناصر : في الآية سر بديع من البلاغة، يسمى قطع النظير عن النظير. وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع، والضحو عن الكسوة، مع ما بينهما من التناسب. والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها، ولو قرن كلا بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. [ ص: 4215 ] وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا، فقال الكندي الأول:


    كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل
    لخيلي: كري كرة بعد إجفال


    فقطع ركوب الجواد عن قوله: لخيلي كري كرة، وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكأس، مع التناسب. وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها.

    على أن هذه الآية سرا لذلك، زائدا على ما ذكر، وهو قصد تناسب الفواصل. ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ، لانتثر سلك رؤوس الآي. وأحسن به منتظما. انتهى. وهذا السر الذي سماه: قطع النظير عن النظير يسمى بالوصل الخفي. ومما قيل في وجه القطع: أن فيه التنبيه على أن الأولين، أعني الشبع والكسوة أصلان. وأن الأخيرين متممان. فالامتنان على هذا أظهر. ولذا فرق بين القرينتين. فقيل إن لك وأنك وأيضا روعي مناسبة الشبع والكسوة. لأن الأول يكسو العظام لحما. وأما الظمأ والضحى فمن واد واحد. وقيل: إن الغرض تعديد هذه النعم. ولو قرن كل بما يشاكله، لتوهم المقرونان نعمة واحدة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [120] فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى [121] فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى .

    فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد أي: من أكل [ ص: 4216 ] منها خلد ولم يمت: وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما أي: يلزقان: من ورق الجنة أي: لهما هذا الخزي، بدل عز الملك المخلد. وهذه الأوراق الفانية، بدل نفائس الملابس الخالدة: وعصى آدم ربه أي: بارتكاب النهي، وترك العزم في حفظ العهد: فغوى أي: عن المأمور به. حيث اعتز بقول العدو.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [122] ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [123] قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى .

    ثم اجتباه ربه أي: اصطفاه ووفقه للإنابة: فتاب عليه وهدى قال أي: بعد قبول توبته: اهبطا منها جميعا أي: انزلا من الجنة إلى الأرض: بعضكم لبعض عدو أي: متعادين.

    قال المهايمي : فالمرأة عدوة الزوج، في إلجائه إلى تحصيل الحرام. والزوج عدوها في إنفاقه عليها. وإبليس يوقع الفتنة بينهما، ويدعوهما إلى أنواع المفاسد التي لا ترتفع إلا باتباع الأمر السماوي فإما يأتينكم مني هدى أي: من كتاب ورسول فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى أي: لا في الدنيا ولا الآخرة. قال أبو السعود : ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: (هداي) مع الإضافة إلى ضميره تعالى، لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه.
    وقوله تعالى:

    [ ص: 4217 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [124] ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى [125] قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا [126] قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .

    ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى اعلم أنه لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده، أخبر عن حال من أعرض عنه ولم يتبعه، من شقائه في الدنيا والآخرة. وهذا الشقاء بقسميه، هو نوع من أفانين العذاب اللاحقة لمن تولى عن هدى الله الذي بعث به خاتم أنبيائه، ولم يقبله ولم يستجب له، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه.

    وفي الآية مسائل:

    الأولى: قال الرازي في قوله تعالى: عن ذكري الذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى. ويحتمل أن يراد به الأدلة. وقال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة): أي: عن الذكر الذي أنزلته. و(الذكر) هنا مصدر مضاف إلى الفاعل. كـ(قيامي وقراءتي) لا إلى المفعول. وليس المعنى: ومن أعرض عن أن يذكرني. بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر. وأحسن من هذا الوجه أن يقال: الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء، لا إضافة [ ص: 4218 ] المصادر إلى معمولاتها. والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكرا . قال تعالى: وهذا ذكر مبارك أنـزلناه وقال تعالى: ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم وقال تعالى: وما هو إلا ذكر للعالمين وقال تعالى: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وقال تعالى: إنما تنذر من اتبع الذكر وعلى هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله. ونظيره في إضافة اسم الفاعل: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد، وإنما قصد الوصف الثابت اللازم. ولذلك جرت أوصافا على أعرف المعارف، وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى: تنـزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب

    الثانية: قرئ (ضنكا) بالتنوين على أنه مصدر وصف به، ولذا لم يؤنث لاستوائه في القبيلين. كما قال ابن مالك :


    ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا


    وفي القاموس: الضنك الضيق في كل شيء، للذكر والأنثى. يقال: ضنك ككرم، ضنكا وضناكة وضنوكة، ضاق. وقال السمين: (ضنكا) صفة معيشة. وأصله المصدر فلذلك لم يؤنث. ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وقرأ الجمهور (ضنكا) بالتنوين وصلا وإبداله ألفا وقفا كسائر المعربات. وقرأت فرقة (ضنكى) بألف كسكرى. وفي هذه الألف احتمالان: فإما أن تكون بدلا من التنوين، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف، وإما أن تكون ألف التأنيث بني المصدر على (فعلى) نحو دعوى.

    [ ص: 4219 ] الثالثة: ذكروا في هذه المعيشة الضنك التي للكافر أقوالا: إنها في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين. والأظهر الأول لمقابلته بالوعيد الأخروي. قال ابن كثير : أي: ضنكا في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره. بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء. وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك. فلا يزال في ريبه يتردد: فهذا من ضنك المعيشة. انتهى.

    وذلك لأن الاعتقاد بالدين الحق واليقين الصحيح لراحة الضمائر والأنفس، فوق كل الأهواء والذات والمآرب. فالضنك المعني بها، إذن هو الضنك الحيوي والقلق الدنيوي، من اضطراب القلب وعدم سكون النفس إلى الاعتقاد الحق والإيمان بالدين القيم الذي هو دين الإسلام. فكل من لم يؤمن به فهو في ضيق صدر وهموم ومحابس، لا يجد منها مخارج إلا به ولا يرتاب في ذلك من كابر حسه وناقض وجدانه. فإن دين الإسلام هو دين الفطرة . دين اليسر. دين العقل. دين النور الذي تنشرح به الصدور وتطمئن به القلوب وتشفى به الأنفس من أدوائها، وتهتدي به من ضلالها وحيرتها، وتستنير به من ظلماتها. ولذلك سمي هدى ونورا وشفاء ورحمة. ألق نظرك على الأديان كلها، وقابل بينها وبينه، لتدرك ذلك.

    هذه اليهودية، يرى في اشتراعها في الآصار والأغلال والتكاليف الشاقة في المعيشة الحيوية ما لا يطاق. قيود في المأكل والمشرب. وحجر في المنكح والمبيت والمعاشرة. وضغط على الأنفس بتقسيمها إلى طاهرين يحضرون الاحتفالات، ونجسين مبعدين لا يلمسون ولا يلمسون. دع عنك خرافات الاعتقادات والافتراء بالأهواء في التشريعات وتشعبها في الأهواء إلى شعب تتباين في العبادات.

    وهذه النصرانية، الذي أساسها تعديل الشرعة الموسوية قام رهبانها بعد رفع المسيح، [ ص: 4220 ] ومضي عصر الحواريين. فأطلقوا لأتباعهم كل قيد في اليهودية. وأمروهم بنبذ أحكام التوراة نكاية لليهود. وأخذوا يشرعون للناس ما لا ينطبق على أصل التوراة ولا بعثة عيسى . فإنه عليه السلام قال: (ما جئت لأهدم الناموس -التوراة- بل لأتممه).

    فترى ما أحدث من طقوس الكنيسة وتعاليمها، اعتقادا وعبادة وسلطة وسيطرة جائرة على العقل والفكر، وربط الأمور بأيدي الكهنة حلا وإبراما، تبعا لرغائب الأنفس والشهوات، مما يتضجر منه كل مسيحي ذاق جوهر الدين المسيحي حقا. إذ جوهره مع ابتداعهم على طرفي نقيض، فأنى لا يضيق ذرعه ولا تضنك معيشته! لذلك لما استقر سلطان الإسلام بالأندلس، واحتك النصارى بالمسلمين في الحروب الصليبية، واستمدوا من معارف الإسلام وعلومه ما قلد جيدهم مننا لا تنكر; أخذوا يقاومون الكنيسة في حظرها على المعارف والفنون، ومعاداتها للعلوم. وجرى بإغراء الكهنة، من الدماء المسفوكة ما اسودت به صحف التاريخ. ثم كان الفوز لدعاة الإصلاح. وتفرقوا أحزابا. ولا يزالون يتقربون إلى الإسلام، بنبذهم سخائف ما ورثوه. ولذا تراهم في عيشة ضنك يسعون لأرقى مما هم عليه، علما بأن الدخائل والبدع في دينهم، أفسدت عليهم ما أفسدت. ولن يتسنى لهم الرقي إلا بالرجوع إلى دين الفطرة. وهم يسعون إليه، وإن كانوا لا يشعرون، أو يشعرون ويتجاهلون. هذه رشحات من المعيشة الضنك لأمتين عظيمتين، وهما تنتميان إلى كتابين منزلين.. فما ظنك بالمجوس والوثنيين وفرقهم التي لا تحصى. ولا يزال عقلاؤهم يطلبون التملص منها، لكثرة خرافاتها وضررها، نفسا ومالا وعرضا. فأهلها في شقاء وعذاب لا يشاكله عذاب. ومن نجا من ويلاتها بالإسلام، لا يعد ولا يحصى. وقس على هؤلاء، الطائفة المسماة بالماديين. وهم الدهريون والطبيعيون. فإنهم بلا ريب أضيق صدرا وأضنك معيشة وأشد اضطرابا وأعظم فرقة. فلا يمكن أن يوجد اثنان على رأي واحد. بل يتصور كل منهم إلهه كما يهوى وكما تخيله له رغائبه وشهواته. قال بعضهم: هؤلاء الذين يحصرون دينهم في أن يعرف الإنسان الله، ويكون مستقيما في أعماله، إذا سئلوا: [ ص: 4221 ] ما هو الدين الطبيعي الذي تعترفون به؟ فيجيبون إنما هو الذي يرشد إليه العقل عريا عن الوحي. فيقال لهم: العقل، من حيث هو، ضعيف متغير قاصر. يرى اليوم صوابا ما يراه في الغد خطأ. ويحكم اليوم على أمر أنه حلال مباح، ويرى غدا أنه حرام لا يجوز إتيانه. تحمله أغراضه على استحلال ما يلذ له وتجعله مستنفرا مما يضاد أهواءه، فكيف يكون صاحبه مستقيما في أعماله؟ وما هي القاعدة المطردة الثابتة للاستقامة عند هؤلاء؟ وكل يرى نفسه ويخيل له أنه مستقيم!! فالصيني مثلا يرى نفسه مستقيما ولو باع أو قتل أولاده. والهندي يرى هذه الاستقامة في نفسه، ولو أحرق المرأة على جثة رجلها. والوثني يرى نفسه مستقيما، ولو ارتكب الفحشاء تكرمة للزهرة.

    هذا، وإن أكبر الفلاسفة ضلوا في مواد ما يشرعون. ولم يهتدوا لجادة الاستقامة الحقة. فأنى يمكن لعامة الناس أن يكون لكل منهم دين طبيعي يقبله كيف شاء، ويجعله كشيء مرن، يمده إلى ما طاب له، ويقصره عن كل ما عافه. فيختلف هذا الدين باختلاف العقول والأهواء فيهم. وكيف نسمي شريعة ثابتة عامة، ما كان وقفا على إرادة كل فرد وأهوائه؟ وإذا سلمنا، مجاراة، أنه يوجد من كان ميالا طبعا إلى الاستقامة والعدل والعفة، فيحمله طبعه على ذلك، فماذا نقول فيمن كان بالطبع محبا للانتقام والاعتداء والشهوات. لا سيما والعقل ضعيف والنفس أمارة بالسوء، فأنى يكون العقل وحده وازعا عن ارتكاب المعاصي والجرائم. فما قضى سبحانه بشريعته لمخلوقاته رحمة منه بهم، إلا لضعفهم وميلهم إلى الشر. وضعف الإنسان وانحرافه يقضي بإلزامه شريعة يخضع لها. فهي ضرورية له ضرورة نظام الأجرام الفلكية لها. وملازمة له ملازمة النطق والإدراك والحرية، ولزوم الامتداد والثقل والجذب والدفع للأجرام الجامدة. وأول بينة على ملازمة الشريعة طبع الإنسان، ما يجده في نفسه ووجدانه من انغراسها فيه انغراسا نظريا. حتى لا يمكنه أن يجرد نفسه. مثلا، كيف يمكن للإنسان، ولو مهما تعامى في الشر، أن يجرد نفسه عن تصور [ ص: 4222 ] أنه خاضع لشريعة تنهاه عن القتل واختلاس مال غيره والاعتداء عليه بأي نوع كان؟ فالشريعة مكتوبة على قلوبنا في ألواح لحمية. ومن بحث عن عموم سكان البسيطة، وجد إجماع القبائل والشعوب قاطبة على شرائع، وإن اختلفت في بعض موادها. والحرية التي منحت للإنسان إنما قيدت محاسنها بالشرائع والخضوع لها. وإلا فهي دمار لنظام العالم، وجائحة للأدب، وآفة لما غرس البارئ في عقول الناس أجمعين، من عهد آدم إلى يومنا هذا. وذلك لاستلزامها إفساد الطبع الإنساني، والإجحاف بالشرائع الأدبية. لأن الإنسان متى علم أن ليس له إله يثيب على الخير ويعاقب على الشر، أطلق لنفسه عنان الفاسد، واطرح العذار في مضمار الشهوات وإحراز الرغائب، قضاء لما يحسبه من سعادته، واعتقاد أن نفسه ليست خالدة. وليس لسعادته موضوع خارج عن هذه العاجلة. ولاستلزامها أيضا هدم الاجتماع الإنساني والذهاب بشأفته. إذ لا ترعى بعد الله ذمة بين الملأ، ولا حرمة للسنن والشرائع، ولا بر بالملوك، ولا عدل بالرعية، ولا محبة ولا صدق ولا وفاء ولا نحو ذلك مما هو ضروري بالذات لقيام الألفة البشرية ونظام العمران.

    وبالجملة، فلا يظنن أحد أن العالم يدوم أو يبقى فيه شيء من النظام أو الهيئة الاجتماعية، إذا لم يكن الناس مقيدين بشريعة إلهية، تصد الفاجر عن الفجور. فكما أن الهواء ضروري للحياة الطبيعية، فكذا الشريعة ضرورية للحياة الأدبية . فلا حياة للموجودات الحية دون هواء، فكذا لا انتظام ولا هيئة في العالم دون الشريعة . انتهى.

    وقال إمام مدقق، في بحث تصحيح الاعتقاد وضرورته لطمأنينة النفس وسعادتها، ما مثاله: إنا نرى أمام أعيننا بعضا من الناس قد رزقوا صحة عظيمة وثروة جسيمة وتهذبوا بأنواع العلوم والمعارف، ولكنهم كثيرو الضجر شديدو الحيرة. لا يكادون يشعرون بالراحة ولا يتلذذون بملذة. كأن لهم في لذة ألما، وبإزاء كل فرح ترحا، يحسون بكآبة قد رانت على صدورهم: فلا يعلمون سببها ولا يعرفون موجبها. كآبة لا تزايلهم إلا بزوال عقولهم [ ص: 4223 ] عنهم، بكأس من الرحيق. فلذلك تراهم شديدي الكلف به كثيري التحرق لفقدانه، لأنه دواؤهم الوحيد. ما سر هذا الأرق والضجر، مع هذه الصحة الجسمية وتلك الثروة المالية، وهما الأمران اللذان عليهما، كما يزعمون، مدار السعادة الإنسانية؟ ما هذه الحيرة الوجدانية والوحشة الضميرية، مع تهذبهم بأنواع العلم، وهو كما يزعمون، الشافي للناس من نزعات الوسواس؟.

    أما يدلنا هذا الضجر السري على أن النفس تائقة لأمر ما، إن غاب على الإنسان علمه، فقد دله عليه أثره. وإن ذلك الأمر ليس هو صحة البدن ولا وفرة المال ولا كثرة البنين، ولا سكنى القصور، ولا أكل الصنوف، ولا سماع العيدان، ولا مغازلة الغيد. بل هو أمر آخر لا تعد هذه الملاذ بالنسبة له إلا هباء، ولا الأكوان بجانبه إلا فناء.. ما هو هذا الأمر السامي الذي لو حصلت عليه النفس اطمأنت وسكنت، وهامت به وسكرت، ورضيت به وقنعت. هو لا شك صحة المعتقد، وإليك الدليل:

    ليست النفس من طبيعة هذه الأجسام الصماء. ولا من طينة هذه المادة العمياء، حتى تأنس إلى شيء من أشياء هذه الأرض الحقيرة، أو تهتم بملاذها مهما كانت كبيرة. بل هي من طبيعة نورانية محضة. فلا تأنس إلا لنور يجلي عنها ظلمات الأشياء الأرضية الكثيفة، لتشرف على حضرة القدس المنيفة، وتطل على حظائرها الشريفة. النفس أجل من أن تقنع بالمشتهيات الجسمانية، وأكبر من أن ترضى بملاذها المموهة الفانية. فمهما غالط الإنسان نفسه، بجمع المال ورفاهة الحال، ليرتاح سره ويسكن اضطرابه، فإن النفس لا تفتأ تقيم عليه الحجة بعد الحجة، ليهتدي إلى وضح المحجة. فإن تبصر في أمره، واكتنه حقيقة سره، وأنال نفسه بغيتها من إبلاغها نورها المرجو لها، سكن فؤاده وآب إليه رشاده. ولو كان جسمه بين القنا والقنابل. وحاله من الفقر في أخس المنازل. فما هو السبيل إلى إبلاغ هذه النفس الهائمة أمنيتها، وإمتاعها بطلبتها، من صحة العقيدة؟ السبيل لذلك هو العقل [ ص: 4224 ] السليم. العقل في النوع الإنساني خصيصة من أجل خصائصه، ومنحة من أفضل منح الله عليه، لو استعمل فيما وضع له، واعتنى بصحته واعتداله. بالعقل يسبر الإنسان غور هذا الوجود العظيم، على ضخامة أجزائه وعظم أبعاده، ويستكنه سير النواميس السائدة عليه، فيستدل بها على وجود الخالق عز وجل، وعلى تنزه أفعاله عن العبث، وصنائعه عن اللهو. كما يستدل به على علمه وتدبيره ورحمته وحكمته، استدلالا محسوسا لا يقبل شبهة ولا يداخله ريبة. بالعقل يدرس الإنسان أحوال الجمعيات البشرية. في نواميس رقيها وهبوطها، وأسباب رفعتها وضعتها. ويتصبر في أحوال الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى خلقه هادين مرشدين. فيستدل بالتدقيق فيما جاؤوا به، وفي الآثار التي تركوها، على معنى النبوة وضرورتها للبشر. وحكمة الله تعالى في اختلاف المدارك والإحساسات، وفي تباين الملل والديانات. بالعقل يميز الإنسان بين أحوال الماضي والحال. فيفرق تبعا لذلك بين الديانات الخاصة وبين الديانات العامة. ويعثر بتعضيد العلم والبداءة، على الديانة التي يجب أن تكون خاتمة الأديان كلها، وباقية بقاء النوع الإنساني، وهي شريعة خاتم النبيين صلوات الله عليه وسلامه.

    الرابعة: رأيت للإمام ابن القيم ، رحمه الله، كلاما على هذه الآية في كتابيه: (الجواب الكافي) و (مفتاح دار السعادة) فأحببت نقله هنا لفوائده وللعناية بهذه الآية، فإنها جديرة بذلك. قال في (الجواب الكافي) في فصل أبان فيه العقوبات المترتبة على المعاصي: ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة. قال: وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر. ولا ريب أنه من المعيشة الضنك. والآية تتناول ما هو أعم منه، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات، فإن عمومها من حيث المعنى. فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره. فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأوصاف النعم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة [ ص: 4225 ] والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما تواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر. فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر. فإنه يفيق صاحبه، ويصحو. وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في عسكر الأموات. فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والبرزخ ويوم المعاد. ولا تقر العين ولا يهدأ القلب ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق، وكل معبود سواه باطل، فمن قرت عينه بالله، قرت به كل عين. ومن لم تقر عينه بالله، تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحا، كما قال تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح، الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة، والحسنى يوم القيامة. فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين. ونظير هذا قوله تعالى: للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين ونظيرها قوله تعالى: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة، وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين، فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته، من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة، هو النعيم على الحقيقة. ولا نسبة لنعيم البدن إليه، فقد كان بعض من ذاق هذه اللذة يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش [ ص: 4226 ] طيب. وقال آخر: إن في الدنيا جنة، هي في الدنيا كالجنة في الآخرة. من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #454
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ طَهَ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4226 الى صـ 4240
    الحلقة (453)





    وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله: « إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر » . وقال: « ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة » ولا تظن أن قوله تعالى: إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة. وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة. وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته؟ وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟ وقد أثنى الله تعالى على خليله عليه السلام بسلامة قلبه فقال: وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم وقال حاكيا عنه أنه قال: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة. فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره. وسلم من كل إرادة تزاحم مراده. وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله. فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد انتهى ملخصا.

    [ ص: 4227 ] وقال رحمه الله في (مفتاح دار السعادة): فسر غير واحد من السلف قوله تعالى: فإن له معيشة ضنكا بعذاب القبر. وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر. ولهذا قال: ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى أي: تترك في العذاب كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار، ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون: النار يعرضون عليها غدوا وعشيا فهذا في البرزخ: ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب فهذا في القيامة الكبرى. ونظيره قوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون فقول الملائكة: اليوم تجزون عذاب الهون المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت. ونظيره قوله تعالى: ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق فهذه الإذاقة في البرزخ. وأولها حين الوفاة، فإنه معطوف على قوله: يضربون وجوههم وأدبارهم وهو من القول المحذوف لدلالة الكلام عليه كنظائره. وكلاهما واقع وقت الوفاة.

    وفي الصحيح، عن البراء بن عازب في قوله: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال: نزلت في عذاب القبر. والأحاديث في عذاب [ ص: 4228 ] القبر تكاد تبلغ حد التواتر. والمقصود أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره هو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى، بأن له معيشة ضنكا، وتكفل لمن حفظ عهده أن يحييه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة فقال تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعده علما وعملا في العاجلة بالحياة الطيبة، وفي الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ، ونسيانه في العذاب في الآخرة. وقال سبحانه: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون فأخبر سبحانه أن ابتلاءه بقرينه من الشياطين وضلاله به، إنما كان لسبب إعراضه وعشوه عن ذكره الذي أنزله على رسوله. فكان عقوبة هذا الإعراض، أن قيض له شيطانا يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه. وهو يحسب أنه مهتد. حتى إذا وافى ربه يوم القيامة من قرينه، وعاين هلاكه وإفلاسه قال: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله، فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة.

    فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله، إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى: ويحسبون أنهم مهتدون ؟ قيل: لا عذر لهذا وأمثاله في الضلال، الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول. ولو ظن أنه مهتد، فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أتي من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر.

    والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول. وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة [ ص: 4229 ] الحجة عليه كما قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى في أهل النار: وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين وقال تعالى: أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين، وهذا كثير في القرآن.

    الخامسة: قال ابن القيم : اختلف في قوله تعالى: ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر ؟ والذين قالوا هو من عمى البصيرة، إنما حملهم على ذلك قوله تعالى: أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا وقوله: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد وقوله: يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين وقوله: لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة لقوله: وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقوله: يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون وقوله: ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها

    [ ص: 4230 ] والذين رجحوا أنه من عمى البصر، قالوا: السياق يدل عليه لقوله: قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا وهو لم يكن بصيرا في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق. فكيف يقول: وقد كنت بصيرا وكيف يجاب بقوله: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها ؟ بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمى البصر وأنه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته، أعمى الله به بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب، كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره، تركه في العذاب. وقال تعالى: ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما وقد قيل في هذه الآي أيضا: إنهم عمي وبكم وصم عن الهدى. كما قيل في هذه الآية قوله: ونحشره يوم القيامة أعمى قالوا لأنهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون.

    ومن نصر أنه العمى والبكم والصمم، المضاد للبصر والسمع والنطق، قال: هو عمى وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهو عمى عن رؤية ما يسرهم وسماعه. وهذا قد روي عن ابن عباس قال: لا يرون شيئا يسرهم. وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة، يخرجون من الدنيا كذلك. فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن الحسن .

    وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها، سلبوا الأسماع والأبصار والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: اخسئوا فيها ولا تكلمون فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فيبصرون بأجمعهم، عميا بكما صما، لا يبصرون [ ص: 4231 ] ولا يسمعون ولا ينطقون. ولا يسمع فيها بعدها إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل .

    والذين قالوا: المراد به العمي عن الحجة، إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم حجة، هم عمي عنها، بل هم عمي عن الهدى كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه. ويبعث على ما مات عليه. وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمى البصر. وأن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا، ويقر بما كان يجحد في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ.

    وفصل الخطاب; أن الحشر هو الضم والجمع. ويراد به تارة الحشر إلى موقف القيامة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم « إنكم محشورون إلي حفاة عراة » وكقوله تعالى: وإذا الوحوش حشرت وكقوله تعالى: وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر. فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ثم قال تعالى: احشروا الذين ظلموا وأزواجهم الآية وهذا الحشر الثاني، وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف والحشر الثاني. يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما. ولكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضا: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا انتهى.

    [ ص: 4232 ] السادسة: قوله تعالى: وكذلك اليوم تنسى أي: لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها. كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك: فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا فإن الجزاء من جنس العمل. فالنسيان مجاز عن الترك.

    قال ابن كثير : فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه، والقيام بمقتضاه، فليس داخلا في هذا الوعيد الخاص. وإن كان متوعدا عليه من جهة أخرى. فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك.

    روى الإمام أحمد عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما من رجل قرأ القرآن فنسيه، إلا لقي الله يوم يلقاه، وهو أجذم » ;.

    السابعة: قوله تعالى: وكذلك نجزي من أسرف الآية، أي: وهكذا نجزي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة. وعذاب الآخرة أشد وأبقى، من ضنك العيش في الدنيا. لكونه دائما. ثم أشار تعالى إلى تقرير ما تقدم من لحوق العذاب، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [128] أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى .

    أفلم يهد لهم أي: لهؤلاء المكذبين: كم أهلكنا قبلهم من القرون أي: الأمم المكذبة للرسل: يمشون في مساكنهم يريد قريشا ، أي: يتقلبون في بلاد عاد وثمود ولوط ويعاينون آثار هلاكهم، وأن ليس لهم باقية ولا عين ولا أثر: إن في ذلك لآيات لأولي النهى أي: العقول السليمة. كما قال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض [ ص: 4233 ] فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [129] ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى .

    ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى بيان لحكمة تأخير عذابهم مع إشعار قوله: أفلم يهد لهم الآية، بإهلاكهم مثل هلاك أولئك والكلمة السابقة، قال القاشاني : هو القضاء السابق أن لا يستأصل هذه الأمة بالدمار والعذاب في الدنيا، لكون نبيهم نبي الرحمة. وقوله سبحانه: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم

    وقال الزمخشري : الكلمة السابقة هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة. يقول: لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عادا وثمود لازما لهؤلاء الكفرة. واللزام إما مصدر لازم كالخصام، وصف به مبالغة. أو اسم آلة لأنها تبنى عليه كحزام وركاب، واسم الآلة يوصف به مبالغة أيضا، كقولهم: مسعر حرب، ولزاز خصم بمعنى ملح على خصمه. من لز بمعنى ضيق عليه.

    وجوز أبو البقاء فيه كونه جمع لازم. كقيام جمع قائم.

    وقوله تعالى: وأجل مسمى عطف على كلمة، أي: ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، وهو يوم القيامة أو يوم بدر، لما تأخر عذابهم أصلا.

    قال أبو السعود : وفصله عما عطف عليه، للإشعار باستقلال كل منهما، بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآية الكريمة.

    [ ص: 4234 ] وقد جوز عطفه على المستكن في (كان) العائد إلى الأخذ العاجل، المفهوم من السياق، تنزيلا للفصل بالخبر منزلة التأكيد. لكان الأخذ العاجل، وأجل مسمى لازمين لهم، كدأب عاد وثمود وأضرابهم. ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [130] فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى .

    فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى أي: إذا كان تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهال، فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر، فالفاء سببية. والمراد بالصبر عدم الاضطراب لما صدر منهم، لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة. وفي التسبيح المأمور به وجهان:

    الأول: أنه التنزيه. والمعنى: ونزه ربك عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائض، حامدا على ما ميزك بالهدى، معترفا بأنه المولى للنعم كلها. ومن صيغه المأثورة: سبحان الله وبحمده. وعليه فسر تخصيص هذه الأوقات الإشارة إلى الدوام، مع أن لبعض الأوقات مزية يفضل بها غيرها.

    الثاني: أنه الصلاة وهو الأقرب لآية: واستعينوا بالصبر والصلاة والآيات يفسر بعضها بعضا. والمعنى: صل وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه، قبل طلوع الشمس، يعني صلاة الفجر. وقبل غروبها، يعني صلاة الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار، بين زوال الشمس وغروبها: ومن آناء الليل فسبح أي: من ساعاته، يعني المغرب والعشاء. وإنما قدم الوقت فيهما، لاختصاصهما بمزيد الفضل. وذلك [ ص: 4235 ] لأن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب وهدوء الرجل والخلو بالرب تعالى. ولأن الليل وقت السكون والراحة، فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أفضل عند الله وأقرب.

    قوله تعالى: وأطراف النهار تكرير لصلاة الفجر والمغرب، إيذانا باختصاصهما بمزيد مزية. ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس، والمرجح مشاكلته لـ: آناء الليل أو أمر بصلاة الظهر. فإنه نهاية النصف الأول من النهار، وبداية النصف الأخير. وجمعه باعتبار النصفين. أو لأن النهار جنس فيشمل كل نهار، أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار.

    وقال الرازي : إنما أمر، عقيب الصبر، بالتسبيح، لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة. إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى . قلت: وقد أشير إلى حكمة الأمر بالصبر والتسبيح بقوله تعالى: لعلك ترضى أي: رجاء أن تنال ما به ترضى نفسك، من رفع ذكرك. ونقهرك على عدوك وبلوغ أمنيتك من ظهور توحيد ربك وهذا كقوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وقوله تعالى: ولسوف يعطيك ربك فترضى

    ثم أشار تعالى إلى أن ما متع به الكفار من الزخارف، إنما هو فتنة لهم فلا ينبغي الرغبة فيه، وإن ما أويته أجل وأسمى، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [131] ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى .

    ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم أي: أصنافا من الكفرة: [ ص: 4236 ] زهرة الحياة الدنيا أي زينتها. منصوب على البدلية من: أزواجا أو بـ: متعنا على تضمينه معنى: أعطينا وخولنا: لنفتنهم فيه أي: لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ونبتليهم. فإن ذلك فان وزائل وغرور وخدع تضمحل.

    قال أبو السعود : " لنفتنهم " متعلق بـ: " متعنا " جيء به للتنفير عنه ببيان سوء عاقبته مآلا، إثر إظهار بهجته حالا. أي: لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه. أو لنعذبهم في الآخرة بسببه: ورزق ربك خير وأبقى أي: ثوابه الأخروي خير في نفسه مما متعوا به وأدوم، كقوله تعالى: ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا أو المعنى ما أوتيت من النبوة والهدى، خير مما فتنوا به وأبقى، لأنه لا مناسبة بين الهدى الذي تتبعه السعادة في الدارين، وبين زهرة يتمتع بها مدة ثم تذبل وتفنى. وفي التعبير بالزهرة إشارة لسرعة الاضمحلال، فإن أجلها قريب. ومن لطائف الآية ما قاله الزمخشري رحمه الله، ونصه: مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحسانا للمنظور إليه، وإعجابا به وتمنيا أن يكون له. كما فعل نظارة قارون حين قالوا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم حتى واجههم أولوا العلم والإيمان بـ: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا

    وفيه: أن النظر غير الممدود معفو عنه . وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف. ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وإن من أبصر منها شيئا أحب أن يمد إليه نظره ويملأ منه عينيه، قيل: ولا تمدن عينيك أي: لا تفعل ما أنت معتاد له وضار به. ولقد شدد العلماء من أهل التقوى في وجب غض النظر عن أبنية الظلمة، وعدد الفسقة في اللباس والمراكب وغير ذلك، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، [ ص: 4237 ] فالناظر إليها محصل لغرضهم، وكالمغري لهم على اتخاذها. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [132] وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى .

    وأمر أهلك بالصلاة يعني بأهله: أهل بيته أو التابعين له. أي: مرهم بإقامتها لتجذب قلوبهم إلى خشية الله: واصطبر عليها أي: على أدائها، لترسخ بالصبر عليها ملكة الثبات على العبادة، والخشوع والمراقبة، التي ينتج عنها كل خير. ثم أشار تعالى إلى أن الأمر بها، إنما هو لفلاح المأمور ومنفعته، ولا يعود على الآمر بها نفع ما، لتعاليه وتنزهه بقوله: لا نسألك رزقا نحن نرزقك أي: لا نسألك مالا. بل نكلفك عملا ببدنك نؤتيك عليه أجرا عظيما وثوابا جزيلا. ومعنى نحن نرزقك: أي: نحن نعطيك المال ونكسبك ولا نسألكه. قاله ابن جرير.

    وقال أبو مسلم : المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة. ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج. وهو كقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون وقال بعض المفسرين: معنى الآية. أقبل مع أهلك على الصلاة واستعينوا بها على خصاصتكم. ولا تهتموا بأمر الرزق والمعيشة، فإن رزقك مكفي من عندنا، ونحن رازقوك. وهذا المعنى لا تدل عليه الآية منطوقا ولا مفهوما. وفيه حض على القعود عن الكسب، ومستند للكسالى القانعين بسكنى المساجد عن السعي المأمور به. وقد قال تعالى في وصف المتقين: رجال لا تلهيهم تجارة [ ص: 4238 ] ولا بيع عن ذكر الله إشارة إلى جمعهم بين الفضيلتين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة

    وقوله تعالى: والعاقبة للتقوى أي: والعاقبة الحسنة من عمل كل عامل، لأهل التقوى والخشية من الله، دون من لا يخاف له عقابا ولا يرجو له ثوابا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [133] وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى

    وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه يعنون ما تعنتوا في اقتراحه مما تقدم، في سورة بني إسرائيل، من قوله تعالى: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب

    وقوله تعالى: أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى أي: أو لم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب، من أنباء الأمم من قبلهم، التي أهلكناهم لما سألوا الآيات، فكفروا بها لما أتتهم، كيف عجلنا لهم العذاب، وأنزلنا بهم بأسنا بكفرهم بها. يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية، أن يكون حالهم حال أولئك. هذا ما قاله ابن جرير .

    وذهب غيره إلى أن المعنى: أو لم يأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها، وهي معجزة القرآن المبينة لما في الكتب الأولى من التوراة والإنجيل والزبور. مع أن الآتي بها أمي لم يرها ولم يعلم ممن علمها. فنقب منها على الصحيح من أنبائها فصدقه، وعلى الباطل المحرف ففنده. [ ص: 4239 ] وفيه إشعار بكفاية التنزيل في الإعجاز والبرهان كما قال تعالى في سورة العنكبوت: وقالوا لولا أنـزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنـزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ولذلك قال أحد حكماء الإسلام: إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبي صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره. وهو الدليل وحده. وما عداه مما ورد في الأخبار، سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهي، فليس مما يوجب القطع عند المسلمين. فإذا أورد في مقام الاستدلال، فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله، وفضل من التأكيد لمن سلمه من أهله. ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين، هو القرآن وحده. والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة، تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر، هو أنه جاء على لسان أمي لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة هاديا للضال مقوما للمعوج كافلا بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم، منقذا لهم من خسران كانوا فيه. وهلاك كانوا أشرفوا عليه. وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه، حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء، أن يعارضوه بشيء من مثله، فعجزوا ولجأوا إلى المجالدة بالسيوف، وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به، إلى أن ألجؤهم إلى الدفاع عن حقهم، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في جوائها. وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم. وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم، فإما وجدوا طريقا لإبطال إعجازه أو كونه لا يصلح دليلا على المدعي، فعليهم أن يأتوا به، قال تعالى: وإن كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وقال: [ ص: 4240 ] أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وقال غير ذلك، مما هو مطالبة بمقاومة الحجة بالحجة. ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رغم من العقل.

    معجزة القرآن جامع من القول والعلم. وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم. فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أنحائها. ونشر ما انطوى في أثنائها. وله منها حظه الذي لا ينتقص. فهي معجزة أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها. ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها. أما معجزة موت حي بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت أو إخراج شيطان من جسم، أو شفاء علة من بدن، فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم. وإنما يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم ولم تضئ عقولهم بنور العلم. وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات.

    وقال فاضل آخر: قضت مراحم الله جل شأنه أن يكون الأكوان في الطبيعة على ترتيب محكم. ينطلق بلسان الصمت للمتبصر، ويظهر بلباس الوضوح للمتفكر، ويحبب إليه الانتقال منه إلى غيره بدون أن يشعر بملل ولا سآمة، ولا يؤوب من استبصاره بندامة، بدون هذا الاعتبار بالعقل، لا يأتي للنفس أن تصح عقيدتها، ولا يتأتى لها تبعا لذلك أن تسكن من اضطرابها. هذا، ولا ننكر أنه قد مضى على النوع الإنساني زمن كان فيه العقل في دور الطفولية. وكان يكفيه في الإيمان أن يندهش لأمر خارق للطبيعة، يعطل من سير نواميسها وقتا ما. وكان الله سبحانه وتعالى يرأف بعباده فيرسل إليهم رسلا يمتعهم بخصائص تعجز عن اكتناه سرها عقولهم. وتندهش لها ألبابهم، فيستدلون بهذه المعجزات على صدق الرسول وضرورة اتباعه، وأما الآن، حيث بلغ العقل أشده، والنوع الإنساني رشده، فلا تجدي فيه معجزة، ولا تنفع فيه غريبة. لأن الشكوك قد كثرت مع كثرة المواد العلمية. فإن حدث حادث من هذا القبيل رموا فاعله بالتدليس أولا، ثم إذا ظهر لهم براءته منه أخذوا يعللون معجزته بكل أنواع التعليلات. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن طائفة الإسبيريت [ ص: 4241 ] الروحيين في أوربا تعمل الآن من الأعمال المدهشة الخارقة لنواميس الطبيعة، ما لو رآه الجهلاء لظنوا به أنه من أكبر المعجزات، من أن القوم لا يدعون النبوة، ولا يزعمون الرسالة. نعم، لا ننكر أن أعمال هذه الطائفة ليست من نوع معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولكنه بدون شك، يقلل من أهميتها في نظر الذين يقفون مع ظواهر الأشياء.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #455
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4241 الى صـ 4255
    الحلقة (454)





    ومما يدل على أن هذه القرون الأخيرة لا تروج فيها مسائل المعجزات، تكذيب علماء أوربا بكل المعجزات السابقة. وهو، وإن كان تهورا منهم، إلا أنهم مصيبون في قولهم إننا في زمان لا يجدي فيه الاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي. لهذه الأسباب جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى السبيل الحق، ببدائه العقل، وقواعد العلم. صارفة النظر عن المعجزات وإظهار المدهشات. لعلم الله سبحانه وتعالى بأنه سيأتي زمان تؤثر فيه المقررات العلمية على القوة العقلية، ما لا تؤثر عليها الخوارق للنواميس الطبيعية. انتهى.

    ثم أشار تعالى إلى منته في إرسال الرسول صلوات الله عليه، والإعذار ببعثته، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [134] ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى [135] قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى .

    ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله أي: من قبل إتيان البينة، أو محمد عليه السلام: لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل أي: بالعذاب الدنيوي: ونخزى أي: بالعذاب الأخروي. أي: ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها. [ ص: 4242 ] فانقطعت معذرتهم. فعند ذلك، قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نـزل الله من شيء قل أي: لأولئك الكفرة المتمردين: كل أي: منا ومنكم: متربص أي: منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم: فتربصوا فستعلمون أي: عن قرب: من أصحاب الصراط السوي أي: المستقيم: ومن اهتدى أي: من الزيغ والضلالة. أي: هل هو النبي وأتباعه، أم هم وأتباعهم.

    وقد حقق الله وعده. ونصر عبده. وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فله الحمد في الأولى والآخرة.
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ

    سميت بذلك لاشتمالها على فضائل جليلة، لجماعة منهم عليهم السلام.

    وهي مكية واستثنى منها بعضهم آية أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها وهي مائة واثنتا عشرة آية. وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء، هن من العتاق الأول، وهن من تلادي.

    قال ابن الأثير : أي من أول ما أخذته وتعلمته بمكة. والتالد: المال القديم الذي ولد عندك، وهو نقيض الطارف.

    [ ص: 4244 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [1] اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون .

    اقترب للناس حسابهم أي: دنا لأهل مكة ما وعدوا به في الكتاب من الحساب الأخروي وهو عذابهم: وهم في غفلة أي: عما يراد بهم: معرضون أي: مكذبون به. وإنما كان مقتربا لأن كل آت وإن طالت أوقات استقباله وترقبه، قريب. وقد قال تعالى: إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا وقال تعالى: ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ولا يخفى ما في عموم (الناس) من الترهيب البليغ. وإن حق الناس أن ينتبهوا لدنو الساعة، ليتلافوا تفريطهم بالتوبة والندم . كما أن في تسمية يوم القيامة، بيوم الحساب زيادة إيقاظ، لأن الحساب هو الكاشف عن حال المرء، ففي العنوان ما يرهب منه، ولو قيل بأن الحساب أعم من الدنيوي والأخروي لم يبعد، ويكون فيه إشارة إلى قرب محاسبة مشركي مكة بالانتصاف منهم والانتصار عليهم، كما أشير إليه في آية: فعسى الله أن يأتي بالفتح ووعد به النبي وصحبه في آيات كثيرة. إلا أن شهرة الحساب فيما بعد البعث الأخروي، حمل المفسرين على قصر الآية عليه. والله أعلم. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [2] ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون .

    [ ص: 4245 ] ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون تقريع لهم على مكافحة الحكمة بنقيضها. وتسجيل عليهم بالجهل الفاضح. فإن من حق ما يذكر أكمل تذكير، وينبه على الغفلة أتم تنبيه، أن تخشع له القلوب وتستحذي له الأنفس.

    قال الزمخشري : بعد أن وصفهم بالغفلة مع الإعراض، قرر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ، فإن الله يجدد لهم الذكر وقتا فوقتا. ويحدث لهم الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة، ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة، لعلهم يتعظون. فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر، التي هي أحق الحق وأجد الجد، إلا لعبا وتلهيا واستسخارا. و(الذكر) هو الطائفة النازلة من القرآن. انتهى.

    تنبيه:

    استدل بهذه الآية من ذهب إلى حدوث كلامه تعالى المسموع. وهم المعتزلة والكرامية والأشعرية . فأما المعتزلة فقالوا إنما كان القرآن حادثا لكونه مؤلفا من أصوات وحروف. فهو قائم بغيره وقالوا: معنى كونه متكلما، أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في الجسم. كاللوح المحفوظ أو كجبريل أو النبي عليه الصلاة والسلام، أو غيرهم كشجرة موسى.

    وأما الكرامية ، فلما رأوا ما التزمه المعتزلة مخالفا للعرف واللغة، ذهبوا إلى أن كلامه صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى. فذهبوا إلى حدوث الدال والمدلول. وجوزوا كونه تعالى محلا للحوادث.

    والأشعرية قالوا: إن الكلام المتلو دال على الصفة القديمة النفسية، التي هي الكلام عندهم حقيقة.

    قالوا: فما نزل على الأنبياء من الحروف والأصوات، وسمعوها وبلغوها إلى أممهم، هو محدث موصوف بالتغير والتكثر والنزول. لا مدلولها التي هي تلك الصفة القديمة. والمسألة شهير ما للعلماء فيها. والقصد أن الآية المذكورة رآها من ذكر، حجة فيما ذهب إليها.

    [ ص: 4246 ] وقد عد الإمام ابن تيمية ، عليه الرحمة والرضوان، هذا الاحتجاج من الأغلاط، وعبارته في كتابه (مطابقة المنقول للمعقول): احتج من يقول بأن القرآن أو عبارة القرآن مخلوقة، بهذه الآية، مع أن دلالة الآية على نقيض قولهم، أقوى منها على قولهم. فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث، وبعضه ليس بمحدث، وهو ضد قولهم. والحدوث في لغة العرب العام ليس هو الحدوث في اصطلاح أهل الكلام. فإن العرب يسمون ما تجدد حادثا، وما تقدم على غيره قديما. وإن كان بعد أن لم يكن كقوله تعالى: كالعرجون القديم وقوله تعالى عن إخوة يوسف: إنك لفي ضلالك القديم وقوله تعالى: وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم وقوله تعالى عن إبراهيم: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون انتهى.

    وقال العارف ابن عربي في الباب التاسع والستين والثلاثمائة من فتوحاته في هذه الآية: المراد أنه محدث الإتيان، لا محدث العين. فحدث علمه عندهم حين سمعوه. وهذا كما تقول: حدث اليوم عندنا ضيف، ومعلوم أنه كان موجودا قبل أن يأتي. وكذلك القرآن جاء في مواد حادثة تعلق السمع بها. فلم يتعلق الفهم بما دلت عليه الكلمات. فله الحدوث من وجه والقدم من وجه.

    فإن قلت: فإن الكلام لله والترجمة للمتكلم. فالجواب نعم. وهو كذلك بدليل قوله تعالى مقسما " إنه " يعني: القرآن: لقول رسول كريم . فأضاف الكلام إلى الواسطة [ ص: 4247 ] والمترجم، كما أضافه تعالى إلى نفسه بقوله: فأجره حتى يسمع كلام الله فإذا تلي علينا القرآن فقد سمعنا كلام الله تعالى. وموسى لما كلمه ربه سمع كلام الله. ولكن بين السماعين بعد المشرقين. فإن الذي يدركه من يسمع كلام الله بلا واسطة، لا يساويه من يسمعه بالوسائط. انتهى.

    وبالحكمة فالمذهب المأثور عن أهل السنة والجماعة أئمة الحديث والسلف، كما قاله ابن تيمية في (منهاج السنة): أن الله تعالى لم ينزل متكلما إذا شاء بكلام يقوم به . وهو متكلم بصوت يسمع. وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديما.

    وبعبارة أخرى: أنه تعالى لم يزل متصفا بالكلام. يقول بمشيئته وقدرته شيئا فشيئا. فكلامه حادث الآحاد، قديم النوع.

    ثم قال رحمه الله: فإن قيل لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب. قلنا: نعم. وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ومن لم يقل إن البارئ يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجيء -فقد ناقض كتاب الله. ومن قال: إنه لم يزل ينادي موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل. لأن الله تعالى يقول: فلما جاءها نودي وقال: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال.

    ثم قال رحمه الله: قالوا -يعني أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما- وبالجملة فكل ما يحتاج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته ، وأنه يتكلم إذا شاء ويتكلم شيئا بعد شيء، فنحن نقول به. وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وأنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف، فنحن نقول به. وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما. فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به، قلنا: ومن [ ص: 4248 ] أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. وهو قول لازم لجميع الطوائف: ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته. ولفظ (الحوادث) مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائض، والله منزه عن ذلك. ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك، مما دل عليه الكتاب والسنة.

    ثم قال: والقول بدوام كونه متكلما ودوام كونه فاعلا بمشيئته، منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم. كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم.

    ثم قال: فنحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته: وإنه قادر على الفعل بنفسه كيف شاء. وقلنا إنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال متكلما ذاتا. فلا نقول إن كلامه مخلوق منفصل عنه، فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم. ولا نقول إنه شيء واحد، أمر ونهي وخبر. فإن هذا مكابرة للعقل. ولا نقول إنه أصوات منقطعة متضادة أزلية، فإن الأصوات لا تبقى زمانين. وأيضا فلو قلنا بهذا القول والذي قبله، لزم أن يكون تكليم الله للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة، ليس إلا مجرد خلق الإدراك لهم، لما كان أزليا لم يزل ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك. ولا نقول إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما. فإنه وصف له بالكمال بعد النقص وإن صار محلا للحوادث التي كمل بها بعد نقصه. ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب. والقول في الثاني كالقول في الأول. ففيه تجدد جلاله ودوام أفعاله. انتهى ملخصا.
    ثم بين تعالى ما كانوا يتناجون به من ضلالهم، بقوله سبحانه:

    [ ص: 4249 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [3] لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون .

    لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أي: أسروا هذا الحديث ليصدوا عن سبيل الله. و(الذين) بدل من واو (أسروا) أو مبتدأ خبره (أسروا) أو منصوب على الذم: أفتأتون السحر أي: تنقادون له وتتبعونه. وقوله: وأنتم تبصرون حال مؤكدة للإنكار والاستبعاد. قال الزمخشري رحمه الله: اعتقدوا أن رسول الله لا يكون إلا ملكا، وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر، ومعجزته سحره. فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر.

    قال أبو السعود : وزل عنهم أن إرسال البشر إلى عامة البشر، هو الذي تقتضيه الحكمة التشريعية. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [4] قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم .

    قال ربي حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم. وقرئ: (قل) على الأمر له صلوات الله عليه: يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع أي: لما أسروه: العليم أي: به فيجازيهم.
    ثم بين خوضهم في فنون الاضطراب وعدم اقتصارهم على ما تقدم من دعوى السحر، بقوله:

    [ ص: 4250 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [5] بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون .

    بل قالوا أضغاث أحلام أي: أخلاط يراها في النوم: بل افتراه أي: اختلقه: بل هو شاعر أي: ما أتى به شعر يخيل للناس معاني لا حقيقة لها. وهكذا شأن المبطل المحجوج، لا يزال يتردد بين باطل وأبطل، ويتذبذب بين فاسد وأفسد: فليأتنا بآية كما أرسل الأولون أي: مثل الآية التي أرسل بها الأولون. أي: حتى نؤمن له. ثم أشار تعالى إلى كذبهم في دعوى الإيمان بمجيء الآية، كما يشير إلى طلبهم لها، بقوله سبحانه وتعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [6] ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون .

    ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون أي: لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات. أفهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سألوا، وأعطوا ما اقترحوا، مع كونهم أعتى منهم وأطغى. وفيه تنبيه على أن عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم. إذ لو أتى به ولم يؤمنوا، استوجبوا عذاب الاستئصال، كمن قبلهم. وقدمنا أن رقي النوع البشري في العهد النبوي، اقتضى أن تكون الآية عقلية، لا كونية. فتذكر.

    ثم أوضح جواب شبهتهم في منافاة البشرية للرسالة، بقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [7] وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون .

    [ ص: 4251 ] وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم أي: لا ملائكة. وقرئ بالياء وفتح الحاء: فاسألوا أهل الذكر أي: العلماء بالتوراة والإنجيل: إن كنتم لا تعلمون أي: أن الرسل بشر، فيعلموكم أن المرسلين لم يكونوا ملائكة. وفي الآية دليل على جواز الاستظهار بأقوال أهل الكتاب ومروياتهم، لحج الخصم وإقناعه.

    تنبيه:

    قال الرازي : فأما ما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية، في أن للعامي أن يرجع إلى فتيا العلماء، وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر- فبعيد. لأن هذه الآية خطاب مشافهة. وهي واردة في هذه الواقعة المخصوصة. ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين. انتهى.
    ثم بين تعالى كون الرسل كسائر الناس، في أحكام الطبيعة البشرية، بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [8] وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين .

    وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام أي: جسدا مستغنيا عن الطعام، بل محتاجا إلى ذلك لجبر ما فات بالتحليل كما قال تعالى: وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وفي هذا التعريف الرباني عن حال المرسل، أكبر رادع لأولئك المنزوين عن الناس المتصيدين به قلوب الرعاع والعامة والحمقى ومن لا يزن عند ربه جناح بعوضة. إذ يرون تناول الطعام في المحافل وتكثير سواد الناس في المجامع والخروج للأسواق لقضاء الحاجات، من أعظم الهوادم لصروح الاعتقاد فيهم. فتراهم يأنفون من شراء حوائجهم بأيديهم، وهو السنة. ومن المشي بالأسواق، وهو المأذون فيه. ومن إجابة الدعوة، وهي واجبة، لأوهام في أنفسهم شيدوها. ومحافظة على السمعة حموا جانبها. [ ص: 4252 ] فتبا لهم من قوم مبتدعين، يعبدون قلوب الخلق ولا يعبدون الله. ويريدون حالة فوق ما عليه رسل الله. وما ذلك إلا لله. فما أجرأهم على منازعة الجبار! وما أصبرهم على النار! وقوله تعالى:

    وما كانوا خالدين أي: في الدنيا، بل كانوا يعيشون ثم يموتون كما قال تعالى: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل. تنزل عليهم الملائكة بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه. وكونهم بشرا في تمام النعمة الإلهية. وذلك ليتمكن المرسل إليهم من الأخذ عنهم والانتفاع بهم. إذ الجنس أميل إلى الجنس.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [9] ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين .

    ثم صدقناهم الوعد أي: في غلبتهم على أعدائهم: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي فأنجيناهم ومن نشاء أي: من أتباعهم ومن قضت الحكمة بإبقائه: وأهلكنا المسرفين أي: المجاوزين الحدود في الكفر. ثم نبه تعالى على شرف القرآن محرضا لهم على معرفة قدره، بقوله:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [10] لقد أنـزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون .

    لقد أنـزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أي: شرفكم وحديثكم الذي تذكرون به فوق شرف الأشراف: أفلا تعقلون أي: هذه النعمة وتتلقونها بالقبول كما قال تعالى: وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون وقيل: معنى: ذكركم موعظتكم [ ص: 4253 ] فالذكر بمعنى التذكير مضاف للمفعول. قال أبو السعود : وهو الأنسب بسباق النظم الكريم وسياقه. فإن قوله تعالى: أفلا تعقلون إنكار توبيخي، فيه بعث لهم على التدبر في أمر الكتاب، والتأمل فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر، التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة. ثم أشار تعالى إلى نوع تفصيل لإجمال هلاك المسرفين المتقدم له، بقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [11] وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين [12] فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون [13] لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون .

    وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا أي: عذابنا النازل بهم: إذا هم منها يركضون أي: يهربون مسرعين. ثم قيل لهم استهزاء بلسان الحال أو المقال: لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه أي: من التنعم والتلذذ، و(في) ظرفية أو سببية: ومساكنكم أي: التي كثر فيها إسرافهم: لعلكم تسألون أي: تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات والنوازل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [14] قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين [15] فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين [16] وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين .

    [ ص: 4254 ] قالوا أي: لما أيقنوا بنزول العذاب: يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم أي: تلك الكلمة وهي: (يا ويلنا) دعوتهم فلا تختص بوقت الدهشة، بل تدوم عليهم ما أمكنهم النطق: حتى جعلناهم حصيدا أي: كنبات محصود: خامدين أي: هالكين بإخماد نار أرواحهم: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين أي: بل للإنعام عليهم. وما أنعمنا عليهم بذلك إلا ليقوموا بشكرها وينصرفوا إلى ما خلقوا له. قال الزمخشري عليه الرحمة: أي: وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق، مشحونة بضروب البدائع والعجائب، كما تسوي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم، للهو واللعب. وإنما سويناها للفوائد الدينية، والحكم الربانية، لتكون مطارح افتكار واعتبار واستدلال ونظر لعبادنا، مع ما يتعلق لهم بها من المنافع التي لا تعد والمرافق التي لا تحصى. وقال أبو السعود : في هذه الآية إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم وإبداع بني آدم، مؤسس على قواعد الحكم البالغة، المستتبعة للغايات الجليلة. وتنبيه على أن ما حكي من العذاب الهائل والعقاب النازل بأهل القرى، من مقتضيات تلك الحكم، ومتفرعاتها. عن حسب اقتضاء أعمالهم إياه. وإن للمخاطبين المقتدين بآثارهم ذنوبا مثل ذنوبهم. أي: ما خلقناهما وما بينهما على هذا النمط البديع والأسلوب المنيع، خالية عن الحكم والمصالح. وإما عبر عن ذلك باللعب واللهو، حيث قيل: لاعبين لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخالي عن الحكمة. بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره عنه تعالى. بل إنما خلقناهما وما بينهما لتكون مبدأ لوجود الإنسان وسببا لمعاشه. ودليلا يقوده إلى تحصيل معرفتنا التي هي الغاية القصوى، بواسطة طاعتنا وعبادتنا. كما ينطق به قوله تعالى: وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
    وقوله تعالى:

    [ ص: 4255 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [17] لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين .

    لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين استئناف مقرر لما قبله من انتفاء اللعب واللهو. أي: لو أردنا أن نتخذ ما يتلهى به ويلعب لاتخذناه من عندنا. كديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها، وتسوية الفروش وتزيينها. لكن يستحيل إرادتنا له لمنافاته الحكمة. فيستحيل اتخاذنا له قطعا. وقوله تعالى: إن كنا فاعلين جوابه محذوف دل عليه ما قبله. أي: لاتخذناه. وقيل: إن (إن) نافية. أي: ما كنا فاعلين. أي: لاتخاذ اللهو، لعدم إرادتنا إياه. فيكون بيانا لانتفاء التالي، لانتفاء المقدم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [18] بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون .

    بل نقذف بالحق على الباطل إضراب عن اتخاذ اللهو بل عن إرادته. وتنزيه منه لذاته العلية كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب أو نريده، بل من شأننا أن ندحض الباطل بالحق: فيدمغه أي: يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المحكية: فإذا هو زاهق أي: هالك بالكلية. وقد استعير لإرسال الحق على الباطل (القذف) الذي هو الرمي الشديد بالجرم الصلب كالصخرة. ولمحقه للباطل. (الدمغ) الذي هو كسر الشيء الرخو الأجوف. وهو الدماغ بحيث يشق غشاءه المؤدي إلى زهوق الروح، استعارة تصريحية تبعية. ويصح أن يكون تمثيلا لغلبة الحق على الباطل حتى يذهبه، برمي جرم صلب على رأس دماغها رخو ليشقه، وذكر: فإذا هو زاهق لترشيح المجاز. لأن من رمى فدمغ تزهق روحه. فهو من لوازمه. قال أبو السعود : وفي (إذا) الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان، ما لا يخفى. فكأنه زاهق من الأصل [ ص: 4256 ] وفي الآية إيماء إلى علو الحق وتسفل الباطل. وأن جانب الأول باق والثاني فان: ولكم الويل مما تصفون أي: مما تصفونه به من اتخاذ الولد ونحوه، مما تتنزه عظمته عنه. ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له، ودأبهم في طاعته ليلا ونهارا، وبراءتهم من البنوة المفتراة عليهم، إثر إخباره عن ملكه للخلق كافة، بقوله:




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #456
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4256 الى صـ 4270
    الحلقة (455)






    القول في تأويل قوله تعالى:

    [19] وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون .

    وله من في السماوات والأرض أي: ملكا وتدبيرا: ومن عنده وهم الملائكة: لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون أي: لا يعيون ولا يتعبون منها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [20] يسبحون الليل والنهار لا يفترون .

    يسبحون الليل والنهار لا يفترون أي: من تنزيهه وعبادته،
    ثم أشار تعالى إلى تقرير وحدانيته في ألوهيته ونفي الأنداد ، إثر تقريره أمر الرسالة- فإن ما سلف من أول السورة كان في تحقيق شأن النبوة بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [21] أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون .

    أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون أي: يبعثون الموتى ويخرجونهم من العدم إلى الوجود.

    أي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى. كلا فإن [ ص: 4257 ] ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك. فكيف جعلوها لله ندا، وعبدوها معه؟

    قال الزمخشري رحمه الله: فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر، وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم؟ كيف، وهم أبعد شيء عن هذه الدعوى؟ وذلك أنهم كانوا مع إقرارهم لله عز وجل بأنه خالق السماوات والأرض: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله وبأنه القادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى، منكرين للبعث. ويقولون: من يحيي العظام وهي رميم وكان عندهم من قبيل المحال الخارج عن قدرة القادر كثاني القديم. فكيف يدعونه للجماد الذي لا يوصف بالقدرة رأسا؟.

    قلت: الأمر كما ذكرت. ولكنهم بادعائهم لها الإلهية، يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار. لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور. والإنشار من جملة المقدورات. انتهى.

    قال في (الانتصاف): فيكون المنكر عليهم صريح الدعوى ولازمها. وهو أبلغ في الإنكار.

    ثم قال الزمخشري : وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده، لأن الإلهية لما صحت صح معها الاقتدار على الإبداء والإعادة. انتهى.

    لطيفة:

    سر قوله تعالى: من الأرض هو التحقير، أي: تحقير الأصنام بأنها أرضية سفلية. وجوز إرادة التخصيص. أي: الآلهة التي من جنس الأرض. لأنها إما أن تنحت من بعض الحجارة أو تعمل من بعض جواهر الأرض. وإنما خصص الإنكار بها، لأن ما هو أرضي مصنوع بأيديهم كيف يدعي ألوهيته؟
    ثم بين تعالى بطلان تعدد الآلهة بإقامة البرهان على انتفائه، بل على استحالته ، بقوله سبحانه:

    [ ص: 4258 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [22] لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون .

    لو كان فيهما أي: يتصرف في السماوات والأرض: آلهة إلا الله أي: غيره: لفسدتا أي: لبطلتا بما فيهما جميعا، واختل نظامهما المشاهد، كما قال تعالى في سورة المؤمنون: وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض قال أبو السعود : وحيث انتفى التالي، علم انتفاء المقدم قطعا. بيان الملازمة; أن الإلهية مستلزمة للقدرة على الاستبداد بالتصرف فيهما على الإطلاق تغييرا وتبديلا، وإيجادا وإعداما وإحياء وإماتة. فبقاؤهما على ما هما عليه إما بتأثير كل منها، وهو محال لاستحالة وقوع المعلول المعين بعلل متعددة. وإما بتأثير واحد منها، فالبواقي بمعزل من الإلهية قطعا، واعلم أن جعل التالي فسادهما بعد وجودهما، لما أنه اعتبر في المقدم تعداد الآلهة فيهما. وإلا فالبرهان يقضي باستحالة التعدد على الإطلاق فإنه لو تعدد الإله، فإن توافق الكل في المراد، تطاردت عليه القدر، وإن تخالفت تعاوقت. فلا يوجد موجودا أصلا. وحيث انتفاء التالي تعين انتفاء المقدم. انتهى.

    وتفصيله كما في (المقاصد) أنه لو وجد إلهان بصفات الألوهية، فإذا أراد أحدهما أمرا كحركة جسم مثلا، فإما أن يتمكن الآخر من إرادة ضده أو لا. وكلاهما محال. أما الأول فلأنه لو فرض تعلق إرادته بذلك الضد، فإما أن يقع مرادهما وهو محال، لاستلزامه اجتماع الضدين. أو لا يقع مراد واحد منهما، وهو محال لاستلزامه عجز الإلهين الموصوفين بكمال القدرة على ما هو المفروض، ولاستلزامه ارتفاع الضدين المفروض امتناع خلو المحل عنهما، كحركة جسم وسكونه في زمان معين، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر وهو محال. لاستلزامه الترجيح بلا مرجح، وعجز من فرض قادرا حيث لم يقع مراده. وهذا البرهان يسمى برهان التمانع. وإليه الإشارة بقوله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فإن أريد بالفساد عدم [ ص: 4259 ] التكون، فتقريره أنه لو تعدد الإله لم تتكون السماء والأرض. لأن تكونهما إما بمجموع القدرتين أو بكل منهما أو بأحدهما. والكل باطل. أما الأول فلأن من شأن الإله كمال القدرة. وأما الآخران فلما مر. وإن أريد بالفساد الخروج عما هما عليه من النظام، فتقريره أنه لو تعدد الإله لكان بينهما التنازع والتغالب. وتميز صنع كل عن صنع الآخر، بحكم اللزوم العادي. فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الالتئام، الذي باعتباره صار الكل بمنزلة شخص واحد. ويختل الانتظام الذي به بقاء الأنواع. وترتب الآثار. انتهى.

    هذا وقد قيل: إن المطلب هنا برهاني، والمشار إليه في الآية إقناعي. ولا يفيد العلم اليقيني فلا يصح الاستدلال بها على هذا المطلب، وممن فصل ذلك التفتازاني في (شرح العقائد النسفية) قادحا لما أشار إليه نفسه في (شرح المقاصد) من كون الآية برهانا، كما ذكرناه عنه. وملخص كلامه أن مجرد التعدد لا يستلزم الفساد بالفعل، لجواز الاتفاق على هذا النظام، أي: بالاشتراك أو بتفويض أحدهما إلى الآخر فلا يستلزم التعدد التمانع بالفعل بل بالإمكان. والإمكان لا يستلزم الوقوع، فيجوز أن لا يقع بينهما ذلك التمانع بل يتفقان على إيجادهما. ورد عليه بأن إمكان التمانع يستلزم التمانع بالفعل في كل مصنوع بطريق إرادة الإيجاد بالاستقلال. وكلما لزم التمانع لم يوجد مصنوع أصلا. فإنه لو وجد على تقدير التمانع المذكور اللازم للتعدد فإما بمجموع القدرتين، فيلزم عجزهما. أو بكل منهما فيلزم التوارد. أو بأحدهما فيلزم الرجحان من غير مرجح، لاستواء نسبة كل ممكن إلى قدرة كل من الإلهين والكل محال ضرورة، وحاصل الاستدلال أنه لو تعدد الآلهة لم يتكون مصنوع لأن التعدد مستلزم لإمكان التخالف المستلزم للتوارد أو العجز. فظهر أن الآية حجة قطعية لكون الملازمة فيها قطعية. وحقق بعضهم قطعية الملازمة بالعادة القاضية التي لم يوجد أخرمها قط في ملكين مقتدرين في مدينة واحدة، أن يطلب كل الانفراد بالملك والعلو على الآخر وقهره، فكيف بالإلهين والإله يوصف بأقصى غايات التكبر، فكيف لا يطلب الانفراد بالملك كما أخبر سبحانه بقوله: ولعلا بعضهم على بعض ؟ وهذا إذا تؤمل لا تكاد النفس تخطر نقيضه بالبال، فضلا عن إخطار فرضه، مع الجزم بأن الواقع هو الآخر. [ ص: 4260 ] فعلى هذا التقدير، فالملازمة علم قطعي. هذا ملخص ما جاء في رد مقالة السعد في الحواشي. وقد شنع عليه في مقالته المتقدمة غير واحد. وبالغ معاصره عبد اللطيف الكرماني في الانتقاد.

    قال العلامة المرجاني : وقد سبقه في هذا أبو المعين النسفي في كتابه (التبصرة) وتابعه صاحب (الكشف) حيث شنع على أبي هاشم الجبائي تشنيعا بليغا. حتى نسبه إلى الكفر بقدحه في دلالة الآية قطعا على هذا المدعي، ولا يخفى أن الأفهام لا تقف عند حد. ولا تزال تتباين وتتخالف ما اختلفت الصور والألوان، ولا تكفير ولا تضليل، ما دام المرء على سواء السبيل.

    وقد أوضح بيان هذه الملازمة مفتي مصر في رسالة (التوحيد) إيضاحا ما عليه من مزيد، وعبارته: ومما يجب له تعالى صفة الوحدة ذاتا ووصفا ووجودا وفعلا. أما الوحدة الذاتية فقد أثبتناها فيما تقدم بنفي التركيب في ذاته خارجا وعقلا. وأما الوحدة في الصفة، أي: أنه لا يساويه في صفاته الثابتة له موجود، فلما بينا من أن الصفة تابعة لمرتبة الوجود، وليس في الموجودات ما يساوي واجب الوجود في مرتبة الوجود. فلا يساويه فيما يتبع الوجود من الصفات. وأما الوحدة في الوجود وفي الفعل، ونعني بها التفرد بوجوب الوجود وما يتبعه من إيجاد الممكنات، فهي ثابتة، لأنه لو تعدد واجب الوجود لكان لكل من الواجبين تعين يخالف تعين الآخر بالضرورة. وإلا لم يتحصل معنى التعدد. وكلما اختلفت التعينات اختلفت الصفات الثابتة للذوات المتعينة، لأن الصفة إنما تتعين وتنال تحققها الخاص بها، بتعين ما يثبت له بالبداهة. فيختلف العلم والإرادة باختلاف الذوات الواجبة. إذ يكون لكل واحدة منها علم وإرادة يباينان علم الأخرى وإرادتها ويكون لكل واحدة علم وإرادة يلائمان ذاتها وتعينها الخاص بها. هذا التخالف ذاتي، لأن علم الواجب وإرادته لا زمان لذاته من ذاته لا لأمر خارج. فلا سبيل إلى التغير والتبدل فيهما كما سبق. وقد قدمنا أن فعل الواجب إنما يصدر عنه على حسب علمه وحكم إرادته، فيكون فعل كل صادرا على حكم يخالف [ ص: 4261 ] الآخر مخالفة ذاتية. فلو تعدد الواجبون لتخالفت أفعالهم بتخالف علومهم وإرادتهم. وهو خلاف يستحيل معه الوفاق. وكل واحد بمقتضى وجوب وجوده وما يتبعه من الصفات، له السلطة على الإيجاد في عامة الممكنات. فكل له التصرف في كل منها على حسب علمه وإرادته. ولا مرجح لنفاذ إحدى القدرتين دون الأخرى. فتتضارب أفعالهم حسب التضارب في علومهم وإرادتهم، فيفسد نظام الكون، بل يستحيل أن يكون له نظام، بل يستحيل وجود ممكن من الممكنات. لأن كل ممكن لا بد أي: يتعلق به الإيجاد على حسب العلوم والإرادات المختلفة. فيلزم أن يكون للشيء الواحد وجودات متعددة وهو محال فـ: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا لكن الفساد ممتنع بالبداهة. فهو جل شأنه واحد في ذاته وصفاته لا شريك له في وجوده ولا في أفعاله. انتهى.

    وأشار حجة الإسلام الغزالي في كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) في بحث الوحدة، إلى أن هذه الآية لا أبين منها في برهان التوحيد، وأنه لا مزيد على بيان القرآن. قال الكلنبوي : الفساد المذكور في هذه الآية إما بمعنى خروج السماء والأرض عن هذا النظام المشاهد من بقاء الأنواع وترتيب الآثار كما هو الظاهر. وإما بمعنى عدم تكونهما في الأصل كما قالوا. ثم إن كل من يخاطب بها يعرف أن منشأ الفساد هو تعدد الإله . فهي بعبارتها تنفي آلهة متعددة غير الواجب تعالى، وبدلالتها تنفي تعدد الآلهة. انتهى.

    وقوله تعالى: فسبحان الله رب العرش عما يصفون أي: من وجود شرك له فيهما والفاء لترتب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالدليل المتقدم. أي: فسبحوه سبحانه اللائق به، ونزهوه عما يفترون. وفيه تعجب ممن يشرك مع المعبود الأعظم البارئ لأعظم المكونات وهو العرش، غيره ممن لا يقدر على شيء البتة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [23] لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

    لا يسأل عما يفعل أي: هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد لعظمته [ ص: 4262 ] وجلاله وكبريائه وعلوه وحكمته وعدله ولطفه: وهم يسألون الضمير للعباد. أي: يسألون عما يفعلون كقوله: فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون

    قال الزمخشري : إذا كانت عادة الملوك والجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم، تهيبا وإجلالا، مع جواز الخطأ والزلل وأنواع الفساد عليهم، كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم، أولى بأن لا يسأل عن أفعاله، مع ما علم واستقر في العقول من أن ما يفعله كله مفعول بحكمة، ولا يجوز عليه خطأ، ثم قال: وهم يسألون أي: هم مملوكون مستعبدون خطاءون. فما أخلقهم بأن يقال لهم: لم فعلتم؟ في كل شيء فعلوه. انتهى.

    قال ابن كثير : وهذه الآية كقوله تعالى: وهو يجير ولا يجار عليه

    تنبيه:

    قال الإمام الغزالي في (المضنون به على غير أهله): وأما معنى قول الله تعالى: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وقوله تعالى: قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا فالسؤال قد يطلق ويراد به الإلزام. يقال: ناظر فلان فلانا وتوجه عليه سؤاله. وقد يطلق ويراد به الاستخبار، كما يسأل التلميذ أستاذه. والله تعالى لا يتوجه عليه السؤال بمعنى الإلزام. وهو المعني بقوله: لا يسأل عما يفعل إذ لا يقال لم قول إلزام. فأما أن لا يستخبر ولا يستفهم، فليس كذلك. وهو المراد بقوله: لم حشرتني أعمى وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [24] أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون .

    [ ص: 4263 ] أم اتخذوا من دونه آلهة كرره استعظاما لكفرهم، وإظهارا لجهلهم، وانتقالا إلى إظهار بطلان اتخاذها آلهة، ومع خلوها عن خصائص الإلهية. وتبكيتهم بإقامة البرهان على دعواهم. ولذا قال تعالى: قل هاتوا برهانكم أي: دليلكم على ما تفترون. أما من جهة العقل والنقل، فإنه لا صحة لقول لا برهان له ولا دليل عليه.

    قال أبو السعود : وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بأن لهم برهانا، ضرب من التهكم بهم. وقوله تعالى: هذا ذكر من معي وذكر من قبلي إنارة لبرهانه، وإشارة إلى أنه مما نطقت له الكتب الإلهية قاطبة، وشهدت به ألسنة الرسل المتقدمة كافة. وزيادة تهييج لهم على إقامة البرهان لإظهار كمال عجزهم. أي: هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد، المتضمن للبرهان القاطع العقلي، ذكر أمتي أي: عظتهم، وذكر الأمم السابقة قد أقمته فأقيموا أنتم أيضا برهانكم. انتهى.

    ثم أشار تعالى أنه لا ينجع فيهم المحاجة بتحقيق الحق وإبطال الباطل بقوله سبحانه: بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون أي: عن النظر الموصل إلى الهدى.
    ثم بين تعالى أن التوحيد دعوى كل نبي ، بقوله:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [25] وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون .

    وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه وقرئ يوحى بالياء وفتح الحاء: أنه لا إله إلا أنا فاعبدون كما قال: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال: ولقد بعثنا [ ص: 4264 ] في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له. والفطرة شاهدة بذلك أيضا، والمشركون لا برهان لهم وحجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.
    ثم بين تعالى بطلان ما يفتريه بعض المشركين من أن الملائكة بناته، تعالى علوا كبيرا، بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [26] وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [27] لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون .

    وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون أي: مقربون: لا يسبقونه بالقول أي: يتبعون قوله، فلا يقولون شيئا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به كما هو شأن العبيد المؤدبين: وهم بأمره يعملون فلا يعصونه في أمر. إشارة إلى مراعاتهم في أدب العبودية في الأفعال أيضا، كالأقوال.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [28] يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون .

    يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم أي: مما قدموا وأخروا. فهو المحيط بهم علما: ولا يحيطون بشيء من علمه فكيف يخرجون عن عبوديته؟ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى أي: أن يشفع له، مهابة منه تعالى.

    قال المهايمي : كيف يخرجون عن عبوديته ولا يقدرون على أدنى وجوه معارضته. لأنهم لا يشفعون [ ص: 4265 ] إلا لمن ارتضى. إذ الشفاعة لغير المرتضى نوع معارضة معه. وكيف يعارضونه: وهم من خشيته أي: قهره: مشفقون أي: خائفون.

    قال ابن كثير : وقوله: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى كقوله: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقوله: ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له في آيات كثيرة بمعنى ذلك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [29] ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين .

    ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين الضمير في (منهم) للملائكة. لتقدم ذكرهم واقتضاء السياق، وكونه أبلغ في الرد والتهديد.

    قال الزمخشري رحمه الله: وبعد أن وصف كرامتهم عليه وقرب منزلتهم عنده، وأثنى عليهم، وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية والأعمال المرضية، فاجأ بالوعيد الشديد. وأنذر بعذاب جهنم من أشرك منهم. إن كان ذلك على سبيل الفرض والتمثيل، مع إحاطة علمه بأنه لا يكون كما قال: ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون قصد بذلك تفظيع أمر الشرك، وتعظيم شأن التوحيد. انتهى.

    وفي قوله: كذلك نجزي الظالمين إشعار بظلم من يقول تلك العظيمة. كيف لا؟ وقد استهان برتبة الإلهية وجاوز بها مقامها الأسمى.
    [ ص: 4266 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [30] أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون .

    أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون

    هذا شروع في آياته الكونية، الدالة على وحدته في ألوهيته، التي عمي عنها المشركون، فلم يروها رؤية اعتبار وتدبر. ومعنى قوله: كانتا رتقا أي: لا تمطر ولا تنبت: ففتقناهما أي: بالمطر والنباتات. فالفتق والرتق استعارة. ونظير قوله تعالى: والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع و(الرجع) لغة هو الماء و(الصدع) هو النبات لأنه يصدع الأرض أي: يشقها. وقوله تعالى: فلينظر الإنسان إلى طعامه أي كيف انفردنا في إحداثه وتهيئته ليقيم بنيته: أنا صببنا الماء صبا أي: من المزن بعد أن لم يكن: ثم شققنا الأرض شقا أي: ثم بعد أن كانت الأرض رتقا متماسكة الأجزاء، شققناها شقا مرئيا مشهودا، كما تراه في الأرض بعد الري. أو شقا بالنبات.

    وقال أبو مسلم الأصفهاني : يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله تعالى: فاطر السماوات والأرض وكقوله: قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن فأخبر عن الإيجاد بلفظ (الفتق) وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ (الرتق).

    قال الرازي : وتحقيقه أن العدم نفي محض. فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة. بل [ ص: 4267 ] كأنه أمر واحد متصل متشابه. فإذا وجدت الحقائق، فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها عن بعض، وينفصل بعضها عن بعض. فهذا الطريق حسن جعل (الرتق) مجازا عن العدم والفتق عن الوجود. انتهى.

    وقال بعض علماء الفلك: معنى قوله تعالى: كانتا رتقا أي: شيئا واحدا.

    ومعنى: ففتقناهما فصلنا بعضهما عن بعض.

    قال: فتدل الآية على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه. أي أنها إحدى هذه السيارات. وهي مثلها في المادة وكيفية الخلق وكونها تسير حول الشمس وتستمد النور والحرارة منها. وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى. وكونها كروية الشكل. فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه، كلها مخلوقة من مادة واحدة، وهي مادة الشمس. وعلى طريقة واحدة. اهـ كلامه.

    وقد يرجح الوجه الأول في تفسير الآية لقوله تعالى بعده: وجعلنا من الماء كل شيء حي فإن ذلك مما يبين أن لسابقه تعلقا بالماء. وعلى هذا فالرؤية في قوله تعالى: أولم ير بصرية. وعلى قول أبي مسلم وما بعده، علمية. على حد قوله تعالى لنبيه صلوات الله عليه: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل مع أنه لم يشاهد الحادثة، بل ولد بعدها. وإنما تيقنها بالأخبار الصادقة. وكذلك ما هنا من الفتق والرتق، بمعنييه الأخيرين، مما أخبر به الحق تعالى على لسان من قامت الحجة على صدقه وعصمته. فكان مما يسهل عليهم تصديقه فعلمه.

    ومعنى قوله تعالى: وجعلنا من الماء كل شيء حي صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء، لا يحيا دونه. فيدخل فيه النبات والشجر. لأنه من الماء صار ناميا. وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر. وإسناده الحياة إلى ظهور النبات معروف في آيات شتى. كقوله تعالى: ويحيي الأرض بعد موتها وخص بعضهم الشيء بالحيوان، لآية: [ ص: 4268 ] والله خلق كل دابة من ماء ولا ضرورة إليه. بل العموم أدل على القدرة، وأعظم في العبرة، وأبلغ في الخطاب، وألطف في المعنى.

    وقوله تعالى: أفلا يؤمنون إنكار لعدم إيمانهم بالله تعالى وحده، مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات الظاهرة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [31] وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون .

    وجعلنا في الأرض رواسي أي: جبالا ثوابت: أن تميد بهم أي: لئلا تتحرك وتضطرب بهم. فلولا الجبال لكانت الأرض دائمة الاضطراب مما في جوفها من المواد الدائمة الجيشان.

    وقوله تعالى: وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون الضمير في (فيها) للأرض. وتكرير الفعل لاختلاف المجعولين، ولتوفية مقام الامتنان حقه. أو للرواسي لأنها المحتاجة إلى الطرق. وعلى الثاني اقتصر ابن كثير . قال: فقد يشاهد جبل هائل بين بلدين، وإذا فيه فجوة يسلك الناس فيها، رحمة منه تعالى: " و سبلا " بدل من: " فجاجا " أشير به إلى أنه مع السعة نافذ مسلوك، وأنه خلق ووسع لأجل السابلة، ومعنى: يهتدون أي: إلى مصالحهم. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [32] وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون .

    وجعلنا السماء سقفا أي: على الأرض كالقبة عليها: محفوظا أي: عاليا محروسا أن [ ص: 4269 ] ينال أو محفوظا من التغير بالمؤثرات، مهما تطاول الزمان. كقوله تعالى: وبنينا فوقكم سبعا شدادا وهم عن آياتها معرضون أي: عما وضع الله فيها من الأدلة والعبر، بالشمس والقمر وسائر النيرات، ومسايرها وطلوعها وغروبها، على الحساب القويم. والترتيب العجيب، الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة. وأي جهل أعظم من جهل من أعرض عنها ولم يذهب به وهمه إلى تدبرها والاعتبار بها والاستدلال على عظمة شأن من أوجدها عن عدم، ودبرها ونصبها هذه النصبة، وأودعها ما أودعها مما لا يعرف كنهه إلا هو، عزت قدرته ولطف علمه؟.

    وقرئ: " عن آيتها " ، على التوحيد، اكتفاء بالواحدة في الدلالة على الجنس، أي: هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع الدنيوية كالاستضاءة بقمريها والاهتداء بكواكبها، وحياة الأرض والحيوان بأمطارها. وهم عن كونها آية بينة على الخالق، معرضون. أفاده الزمخشري .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [33] وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون .

    وهو الذي خلق الليل أي: ليسكنوا فيه: والنهار ليتحركوا لمعاشهم وينشطوا لأعمالهم: والشمس والقمر أي: ضياء وحسبانا: كل في فلك يسبحون أي: كل واحد منهما يجري في الفلك، كالسابح في الماء. و(الفلك) في اللغة كل شيء دائر.

    قال بعض علماء الفلك: تشير الآية إلى حركة هذه الكواكب كآية: فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس وهما تدلان على أن حركة الكواكب ذاتية . لا كما يقول القدماء من أن الكواكب مركوزة في أفلاكها التي تدور بها، وبدورانها تتحرك الكواكب.
    وقوله تعالى:

    [ ص: 4270 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [34] وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون .

    وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون نزلت حين قالوا: نتربص به ريب المنون فكانوا يقدرون أنه سيموت، فيشمتون بموته، لما يأملون ذهاب الدعوة النبوية، وتبدد نظامها، بفقد واسطة عقدها. فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذه الآية، بما قضى أنه لا يخلد في الدنيا بشرا، لكونه مخالفا للحكمة التكوينية . وأعلم بحفظ تنزيله وحراسته من المؤثرات ما بقيت الدنيا بقوله: إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون

    قال ابن كثير : فقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات، وليس بحي إلى الآن. لأنه بشر سواء كان وليا، أو نبيا أو رسولا. انتهى.

    وتقدم بسط ذلك في سورة الكهف فتذكر. وفي معنى الآية قول عروة الصحابي رضي الله عنه:


    إذا ما الدهر جر على أناس كلاكله أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا: أفيقوا
    سيلقى الشامتون كما لقينا


    وقول الشافعي :


    تمنى أناس أن أموت، وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
    فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى: تهيأ لأخرى مثلها، وكأن قد




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #457
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4271 الى صـ 4285
    الحلقة (456)




    القول في تأويل قوله تعالى:

    [35] كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون .

    كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير أي: نختبركم بما يجب فيه الصبر من المصائب، وما يجب فيه الشكر من النعم: فتنة أي: اختبارا. وهو مصدر مؤكد لـ " لنبلوكم " من غير لفظه: وإلينا ترجعون أي: فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر.

    قال الزمخشري : وإنما سمى ذلك ابتلاء، وهو عالم بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم، لأنه في صورة الاختبار، أي: فهو استعارة تمثيلية. قال القاضي : وفي الآية إيماء بأن المقصود من هذه الحياة الابتلاء والتعريض للثواب والعقاب تقريرا لما سبق. وقدم الشر لأنه اللائق بالمنكر عليهم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [36] وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون .

    وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون عني بهذه الآية مستهزئو قريش ، كأبي جهل وأضرابه ممن كان يسخر من رسالته صلوات الله عليه، ويتغيظ لسب آلهتهم وتسفيه أحلامهم. كما قال تعالى: وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا وإضافة ذكر (للرحمن) من إضافة المصدر لمفعوله أي: بتوحيده. أو للفاعل، أي: بإرشاده الخلق ببعث الرسل وإنزال الكتب رحمة عليهم. أو بالقرآن. هم كافرون، أي: فهم أحق أن يهزأ بهم. وتكرير الضمير للتأكيد والتخصيص.
    وقوله تعالى:

    [ ص: 4272 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [37] خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون .

    خلق الإنسان من عجل كقوله تعالى: وكان الإنسان عجولا جعل لفرط استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق منه. كقولك: خلق زيد من الكرم، تنزيلا لما طبع عليه من الأخلاق، منزلة ما طبع هو منه من الأركان، إيذانا بغاية لزومه له، وعدم انفكاكه عنه، فالآية استعارة مكنية، بتشبيه العجل لكونه مطبوعا عليه، بمادته. ويجوز أن تكون تصريحية. والمراد بالإنسان الجنس. ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجال الوعيد: سأريكم آياتي أي: نقماتي في الدنيا كوقعة بدر. وفي الآخرة عذاب النار: فلا تستعجلون أي: بالإتيان بها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [38] ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين .

    ويقولون متى هذا الوعد أي: الموعود من العذاب الأخروي، بطريق الاستهزاء والإنكار، لا لتعيين وقته: إن كنتم صادقين في إتيانه. قال الزمخشري : كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار. فأراد نهيهم عن الاستعجال وزجرهم. فقدم أولا ذم الإنسان على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها. ثم نهاهم وزجرهم. كأنه قال: ليس ببدع منكم أن تستعجلوا. فإنكم مجبولون على ذلك وهو طبعكم وسجيتكم.
    ثم بين هول ما يستعجلونه وفظاعة ما فيه، وأن عجلتهم لجهلهم بمغبته، بقوله تعالى:

    [ ص: 4273 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [39] لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون [40] بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون .

    لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم أي: لا يدفعونها عن أشرف أعضائهم وأقواها. فتقديم الوجه لشرفه، ولكون الدفع عنه أهم من غيره أيضا: ولا هم ينصرون أي: بدفع أحد عنهم. وجواب لو محذوف أي: لما استعجلوا. وقيل لو للتمني. لا جواب لها: بل تأتيهم بغتة فتبهتهم أي: فجأة فتحيرهم. لأنهم إن أرادوا الصبر عليها لم يقدروا عليه. وإن أرادوا ردها: فلا يستطيعون ردها أي: بسبب من الأسباب: ولا هم ينظرون أي: يمهلون ليستريحوا طرفة عين لتمام مدة الإنظار قبله. ثم أشار إلى تسليته عليه الصلاة والسلام عن استهزائهم، في ضمن وعيد لهم، بقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [41] ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون .

    ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق أي: نزل: بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون أي عذابه أو جزاؤه، على وضع السبب موضع المسبب، إيذانا بكمال الملابسة بينهما، أو عين استهزائهم، إن أريد بذلك العذاب الأخروي، بناء على تجسم الأعمال. [ ص: 4274 ] فإن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصورة عرضية، تبرز في النشأة الأخرى بصور جوهرية، مناسبة لها في الحسن والقبح. أفاده أبو السعود .
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [42] قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون [43] أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون .

    قل من يكلؤكم أي: يحفظكم: بالليل والنهار من الرحمن أي: من بأسه أي: يفجأكم. وتقديم (الليل) لما أن الدواهي فيه أكثر وقوعا وأشد وقعا. وفي لفظ (الرحمن) تنبيه على أنه لا حفظ لهم إلا برحمته، وتلقين للجواب. وقيل إنه إيماء إلى شدته. كغضب الحليم. وتنديم لهم حيث عذبهم من غلبت رحمته. ودلالة على شدة خبثهم. قال المهايمي : ولا يمنع من ذلك عموم رحمته. إذ بتعذيبكم يعتبر أهل عصركم ومن بعدهم. فيكون لإصلاح أمورهم الموجب لرحمته عليهم، ولا يغترون في ذلك بعموم رحمته حتى يرجى منعها عن ذلك: بل هم عن ذكر ربهم معرضون أي: لا يخطرونه ببالهم، فضلا أن يخافوا بأسه، ويعدوا ما هم عليه من الأمن والدعة حفظا وكلاءة، حتى يسألوا عن الكالئ: أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون أي: لهؤلاء المستعجلي ربهم بالعذاب آلهة تمنعهم، إن نحن أحللنا بهم عذابنا وأنزلنا بهم بأسنا، من دوننا. ومعناه: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم منا. ثم وصف جل ثناؤه تلك الآلهة بالضعف والمهانة وما هي به من صفتها. ومعناه: كيف تستطيع آلهتهم التي يدعونها من دوننا أن تمنعهم منا، وهي لا تستطيع نصر أنفسها ولا هي بمصحوبة منا بالنصر والتأييد. أفاده [ ص: 4275 ] ابن جرير . فـ (فيصحبون) بمعنى يجارون يقال: (صحبك الله)، أي: أجارك وسلمك، كما في (الأساس) . قال ابن جرير: أي: لا يصحبون بالجوار لأن العرب محكي عنها: أنا لك جار من فلان وصاحب، بمعنى: أجيرك وأمنعك. وهم إذا لم يصحبوا بالجوار لم يكن لهم مانع من عذاب الله، مع سخطه عليهم، فلم يصحبوا بخير ولم ينصروا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [44] بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون .

    بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر إضراب عما توهموا، ببيان أن الداعي إلى غيهم وعنادهم هو ما متعوا به في الحياة الدنيا ونعموا به هم ومن قبلهم حتى طال عليهم الأمد. لا تأتيهم واعظة من عذاب ولا زاجرة من عقاب حتى حسبوا أنهم على شيء وأنهم لا يغلبون: أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أي: ننقص أرض الكفر فنخربها من نواحيها بقهرنا أهلها وغلبتنا لهم وإجلائهم عنها وقتلهم بالسيوف، فيعتبروا بذلك ويتعظوا به ويحذروا منا أن ننزل من بأسنا بهم نحو الذي قد أنزلنا بمن فعلنا ذلك به من أهل الأطراف. أفاده ابن جرير . وهذا كقوله تعالى: ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون وقوله تعالى: أفهم الغالبون [ ص: 4276 ] أي: أفهؤلاء المشركون المستعجلون بالعذاب، الغالبون لنا، وقد رأوا قهرنا من أحللنا بساحته بأسنا في أطراف الأرض؟

    وفي التعريف تعريض بأنه تعالى هو الغالب المعروف بالقهر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [45] قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون .

    قل إنما أنذركم بالوحي أي: تنزيل الله الذي يوحيه إلي من عنده وأخوفكم به بأسه، لا بالإتيان بما تستعجلون، لأن ذلك ليس إلي، على ما فيه من الحكمة في هذه البعثة التي بنيت على البراهين العقلية، لا الخارقات الحسية كما قدمنا. ثم أشار إلى كمال جهلهم وعنادهم، بأن هذا الإنذار لا يجديهم، بقوله تعالى: ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون أي: فهم لا يصغون بسمع قلوبهم إلى تذكر ما في وحي الله من المواعظ والذكرى، فيتذكرون بها ويعتبرون فينزجرون إذا تلي عليهم، بل يعرضون عن الاعتبار به والتفكير فيه، فعل الأصم الذي لا يسمع ما يقال له فيعمل به. وتقييد تصامهم بقوله: إذا ما ينذرون مع أنهم لا يسمعون نذارة ولا بشارة، إما لأن المقام مقام إنذار، أو لأن من لا يسمع إذا خوف، كيف يسمع في غيره، فهو أبلغ.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [46] ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين .

    ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين أي: ولئن أصابهم شيء أدنى من عقوبته تعالى، لأذعنوا وذلوا وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم في التصام والإعراض وعبادة تلك الآلهة وتركهم عبادة من خلقهم.

    [ ص: 4277 ] لطيفة:

    في صدر الآية مبالغات. ذكر المس. وما في النفحة من معنى القلة. فإن أصل النفخ هبوب رائحة الشيء. والبناء الدال على المرة. والتنكير. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [47] ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين .

    ونضع الموازين القسط ليوم القيامة بيان لما سيقع عند إتيان ما أنذروه. أي: نقيم الموازين العادلة الحقيقية التي توزن بها صحائف الأعمال. وقيل: وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والنصفة، من غير أن يظلم مثقال ذرة. وإنما وصفت الموازين بالقسط وهو مفرد، لأنه مصدر وصف به للمبالغة، كأنها في نفسها قسط. أو على حذف المضاف أي: ذوات القسط. وقيل إنه مفعول له. واللام في ليوم القيامة للتعليل أو بمعنى في أي: لجزاء يوم القيامة أو لأهله أو فيه: فلا تظلم نفس شيئا أي: من حقوقها. أي: شيئا ما من الظلم. بل يوفى كل ذي حق حقه: وإن كان العمل أو الظلم: مثقال حبة من خردل أتينا بها أي: أحضرنا ذلك العمل المعبر عنه بمثقال حبة الخردل. للوزن. وأنث لإضافته إلى الحبة: وكفى بنا حاسبين أي: وحسب من شهد ذلك الموقف بنا حاسبين. لأنه لا أحد أعلم بأعمالهم، وما سلف في الدنيا من صالح أو سيئ منا.
    وقوله تعالى:

    [ ص: 4278 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [48] ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين [49] الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون .

    ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين شروع في قصص الأنبياء، تسلية له صلوات الله عليه وعليهم، فيما يناله من أذى قومه، وتقوية لفؤاده على أداء الرسالة، والصبر على كل عارض دونها. قال أبو السعود : نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم إلى قوله: المسرفين وإشارة إلى كيفية إنجائهم وإهلاك أعدائهم. وتصديره بالتوكيد القسمي لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه. والمراد بـ(الفرقان) التوراة وكذا بـ(الضياء) و(الذكر). أي: وبالله لقد آتيناهما وحيا ساطعا وكتابا جامعا بين كونه فارقا بين الحق والباطل. وضياء يستضاء به في ظلمات الجهل وذكرا يتعظ به الناس. وتخصيص (المتقين) بالذكر لأنهم المستضيئون بأنواره. انتهى. الذين يخشون ربهم بالغيب أي: يخافون عذابه وهو غير مشاهد لهم. وفيه تعريض بالكفرة حيث لا يتأثرون في الإنذار، ما لم يشاهدوا ما أنذروه: وهم من الساعة مشفقون أي: وجلون أن تأتي الساعة التي تقوم فيها القيامة فيردوا على ربهم، قد فرطوا في الواجب عليهم لله، فيعاقبهم بما لا قبل لهم به.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [50] وهذا ذكر مبارك أنـزلناه أفأنتم له منكرون .

    وهذا أي: القرآن الكريم: ذكر أي: يتذكر به من يتذكر: مبارك أي: كثير الخير والنفع: أنـزلناه أفأنتم له منكرون أي: مع ظهور كون إنزاله كإيتاء [ ص: 4279 ] التوراة. وفي الاستفهام الإنكاري توبيخ لهم بأنه لا ينبغي لهم إنكاره وهم عارفون بمزايا إعجازه. وتقديم (له) للفاصلة أو للحصر. لأنهم معترفون بغيره مما في أيدي أهل الكتاب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [51] ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين .

    ولقد آتينا إبراهيم رشده أي: هدايته للحق وهو التوحيد الخالص: من قبل أي: من قبل موسى وهارون : وكنا به عالمين أي: علمنا أنه أهل لما آتيناه. أو علمنا أنه جامع لمكارم الأخلاق التي آتيناه إياها، فأهلناه لخلتنا وأخلصناه لاصطفائنا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [52] إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون .

    إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون أي: ما هذه الصور الحقيرة التي عكفتم على عبادتها. استفهام تحقير لها وتوبيخ على العكوف على عبادتها، بأنها تماثيل صور بلا روح، مصنوعة لا تضر ولا تنفع، فكيف تعبد؟.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [53] قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين [54] قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين .

    قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين أي: فقلدناهم وتأسينا بهم. قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين أي: لا يخفى على عاقل لعدم استناد الفريقين إلى دليل، بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع. وفي الإتيان بـ(في) الظرفية دلالة على تمكنهم في ضلالهم، وأنه ضلال قديم موروث. فهو أبلغ من (ضالين).
    [ ص: 4280 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [55] قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين [56] قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين .

    قالوا أجئتنا بالحق أي: بالجد في دعوى الرسالة ونسبتنا إلى الضلال: أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين قال الزمخشري رحمه الله: الضمير في (فطرهن) للسماوات والأرض أو للتماثيل. وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم. أي: لدلالته صراحة على كونها مخلوقة غير صالحة للألوهية، بخلاف الأول، وجوابه عليه السلام إما إضراب عما بنوا عليه مقالتهم في اعتقاد كونها أربابا لهم، كما يفصح عنه قولهم: نعبد أصناما فنظل لها عاكفين كأنه قيل ليس الأمر كذلك بل: ربكم الآية. أو إضراب عن كونه لاعبا بإقامة البرهان على ما ادعاه. وقوله: من الشاهدين أي: المبرهنين عليه بالحجة، لا لقولكم العاطل منها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [57] وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين .

    وتالله لأكيدن أصنامكم لأحتالن لفضيحتها بإظهار عجزها: بعد أن تولوا مدبرين أي: عنها بفراغكم من عبادتها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [58] فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون .

    [ ص: 4281 ] فجعلهم جذاذا أي: قطعا مكسرة، بعد أن ولوا عنها، ليعلموا أنها لا تتحلم إلى هذا الحد. فهو عجزهم في الدفع عن أنفسهم. فتوقع عابدهم الدفع عن نفسه غاية السفه: إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون أي: فيسألونه: لم فعل بآلهتهم؟ فإذا ظهر عجزه عن النطق، فمن دونه أعجز منه في ذلك. فضلا عن الدفع للذي أظهر عجزهم فيه. فرجعوا فأتوا بيت الأصنام فوجدوها جذاذا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [59] قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين .

    قالوا من فعل هذا أي: هذا الفعل الفظيع: بآلهتنا إنه لمن الظالمين أي: لجرأته على إهانتها وهي الجديرة عندهم بالتعظيم. أو لإفراطه في التجذيذ والحطم، وتماديه في الاستهانة بها. أو بتعريض نفسه للهلكة. والاستفهام للإنكار والتوبيخ والتشنيع.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [60] قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم [61] قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون .

    قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون أي: يحضرون عقوبته.

    قال ابن كثير : وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام، أن يبين في هذا المحفل العظيم كثيرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام التي لا تدفع عن نفسها ضرا ولا تملك لها نصرا. فكيف يطلب منها شيء من ذلك؟.
    [ ص: 4282 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [62] قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم [63] قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون .

    قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا يعني الذي تركه لم يكسره. فإن ترددتم أنه فعلي أو فعله: فاسألوهم أي: يجيبوكم: إن كانوا ينطقون أي: والأظهر عجزهم الكلي المانع من القول بإلهيتها. والقول فيه، أن قصد إبراهيم صلوات الله عليه، لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم. وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه عن إلزامهم الحجة، وتبكيتهم. ولقائل أن يقول: غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مرتبة. وكان غيظ كبيرها أكبر وأشد، لما رأى من زيادة تعظيمهم له. فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي متسبب لاستهانته بها وحطمه لها، والفعل كما يسند إلى مباشره، يسند إلى الحامل عليه. فيكون تمثيلا أراد به عليه السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم، لإشراكهم بعبادته الأصنام. ويحكى أنه قال: فعله كبيرهم هذا، غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها. فكأنه قيل: فعله ذلك الكبير على مقتضى مذهبكم، والقضية ممكنة. وأظهر هذه الأوجه هو الأول. وعليه اقتصر الإمام ابن حزم في كتابه (الفصل) في الرد على من جوز على الأنبياء المعاصي، وعبارته: وأما قوله عليه السلام: بل فعله كبيرهم هذا فإنما هو تقريع لهم وتوبيخ كما قال تعالى: ذق إنك أنت العزيز الكريم وهو في الحقيقة مهان ذليل مهين معذب في النار. فكلا القولين توبيخ لمن قيلا له، على ظنهم أن الأصنام تفعل الخير والشر. وعلى ظن المعذب في نفسه في الدنيا أنه عزيز كريم. ولم يقل إبراهيم هذا على [ ص: 4283 ] أنه محقق لأن كبيرهم فعله. إذ الكذب، إنما هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، وقصدا إلى تحقيق ذلك. وجلي أن مراده عليه السلام، على كل، إنما هو توجيههم نحو التأمل في أحوال أصنامهم كما ينبئ عنه قوله: فاسألوهم إن كانوا ينطقون أي: إن كانوا ممن يمكن أن ينطقوا. قال أبو السعود : وإنما لم يقل عليه السلام: إن كانوا يسمعون أو يعقلون، مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضا، لما أن نتيجة السؤال هو الجواب، وأن عدم نطقهم أظهر، وتبكيتهم بذلك أدخل. وقد حصل ذلك أولا حسبما نطق به قوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [64] فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون .

    فرجعوا إلى أنفسهم أي: فراجعوا عقولهم، ومراجعة العقل مجاز عن التفكير والتدبر، والمراد بالنفس النفس الناطقة، والرجوع إليها عبارة عما ذكر: فقالوا إنكم أنتم الظالمون أي: بهذا السؤال أو بعبادة من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع، لا من كسرها، فلم تنسبونه إلى الظلم بقولكم: إنه لمن الظالمين
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [65] ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون .

    ثم نكسوا على رءوسهم أي: حياء من نقصهم، وخضوعا وانفعالا من إبراهيم ، قائلين: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون أي: ليس من شأنهم النطق، فكيف تأمرنا بسؤالهم؟.
    [ ص: 4284 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [66] قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم [67] أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون .

    قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون أي: قبح صنيعكم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع.

    تنبيه:

    ذكر في الكشاف في قوله تعالى: ثم نكسوا على رءوسهم أربعة أوجه. وحاصله كما في العناية -أن التنكيس قلب الشيء بجعل أعلاه أسفله. فإما أن يستعار للرجوع عن الفكرة المستقيمة في تظليم أنفسهم، إلى الفكرة الفاسدة في تجويز عبادتها، مع عجزها فضلا عن كونها في معرض الألوهية. فقوله: لقد علمت معناه لم يخف علينا وعليك أنها كذلك وأنا اتخذناها آلهة مع العلم به. والدليل عليه قوله: أفتعبدون إلخ، أو أن التنكيس الرجوع عن الجدال الباطل إلى الحق في قولهم: لقد علمت لأنه نفي لقدرتها واعتراف بأنها لا تصلح للألوهية، وسمي (نكسا) وإن كان حقا، لأنه ما أفادهم مع الإصرار. ولكنه نكس بالنسبة لما كانوا عليه من الباطل. أو النكس مبالغة في إطراقهم خجلا وقولهم: لقد علمت لحيرتهم أتوا بما هو حجة عليهم. أو النكس مبالغة في الحيرة وانقطاع الحجة أف صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر. وفيه لغات كثيرة كما في كتب اللغة. قال الزمخشري : أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق وزهوق الباطل، فتأفف بهم. ولما عجزوا عن المحاجة أخذوا في المضارة، شأن المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة لم يكن أحد أبغض إليه من المحق، ولم يبق له مفزع إلا مناصبته.
    [ ص: 4285 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [68] قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين .

    قالوا حرقوه أي: لأنه استحق أشد العقاب عندهم، والنار أهول ما يعاقب به: وانصروا آلهتكم أي: بالانتقام لها: إن كنتم فاعلين أي: به شيئا من السياسة، فلا يليق به غيرها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [69] قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم .

    قلنا أي: تعجيزا لهم ولأصنامهم، وعناية بمن أرسلناه، وتصديقا له في إنجاء من آمن به: يا نار كوني بردا أي: باردة على إبراهيم، مع كونك محرقة للحطب: وسلاما على إبراهيم أي: ولا تنتهي في البرد إلى حيث يهلكه، بل كوني غير ضارة. وجوز كون سلاما منصوبا بفعله. والأمر مجاز عن التسخير، كما في قوله: كونوا قردة ففيه استعارة بالكناية بتشبيهها بمأمور مطيع، وتخييلها الأمر والنداء، ولذا قال أبو مسلم : المعنى أنه سبحانه وتعالى جعل النار بردا وسلاما، لا أن هناك كلاما، كقوله: أن يقول له كن فيكون أي: فيكونه. فإن النار جماد ولا يجوز خطابه. وهو ظاهر.

    تنبيه:

    قال الرازي : لهم في كيفية برودة النار ثلاثة أقوال:

    أحدها: أن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والاحتراق، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق. والله على كل شيء قدير.

    وثانيها: أن الله تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه. كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة. وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة. وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #458
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4286 الى صـ 4300
    الحلقة (457)






    ثالثها: أنه سبحانه خلق بينه وبين النار حائلا يمنع من وصول أثر النار إليه.

    قال المحققون: والأول أولى لأن ظاهر قوله: يا نار كوني بردا أن نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم من تأثيرها، لا أن النار بقيت كما كانت.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [70] وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين [71] ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين .

    وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين أي: أرادوا أن يكيدوه بالإضرار، فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين. قال الزمخشري : غالبوه بالجدال فغلبه الله ولقنه بالمبكت. وفزعوا إلى القوة والجبروت فنصره وقواه: ونجيناه ولوطا أي: لأنه هاجر معه: إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين وهي أرض الشام . بورك فيها بكثرة الأنبياء وإنزال الشرائع التي هي طريق السعادتين. وبكثرة النعم والخصب والثمار وطيب عيش الغني والفقير. وقد نزل إبراهيم عليه السلام بفلسطين ، ولوط عليه السلام بسدوم .
    ثم بين بركته تعالى على إبراهيم بقوله:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [72] ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين .

    ووهبنا له إسحاق أي: بدعوته: رب هب لي من الصالحين ويعقوب نافلة أي: زيادة وفضلا من غير سؤال. ثم أشار إلى أن منشأ البركة فيهما الصلاح بقوله: وكلا جعلنا صالحين بالاستقامة والتمكين في الهداية.
    [ ص: 4287 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [73] وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين .

    وجعلناهم أئمة أي: قدوة يقتدى بهم في أمور الدين، إجابة لدعائه عليه السلام بقوله: ومن ذريتي يهدون بأمرنا أي: يهدون الناس إلى الحق بأمرنا لهم بذلك وإذننا. قال الزمخشري : فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله، فالهداية محتومة عليه، مأمور هو بها، من جهة الله. ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها. وأول ذلك أن يهتدي بنفسه، لأن الانتفاع بهداه أعم، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدي أميل: وأوحينا إليهم فعل الخيرات أي: أن تفعل الخيرات، مما يختص بالقلوب أو الجوارح: وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين أي: بالتوحيد الخالص والعمل الصالح.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [74] ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين .

    ولوطا آتيناه حكما أي: حكمة. وهو ما يجب فعله: وعلما أي: بما ينبغي علمه للأنبياء. وقد بعثه الله تعالى إلى سدوم فكذبه أهلها وخالفوه فأهلكهم الله ودمر عليهم ما قص خبرهم في غير ما موضع في كتابه العزيز، وقد أشار إلى ذلك في ضمن بيان عنايته به وكرامته له بقوله: ونجيناه من القرية أي: من عذابها: التي كانت تعمل الخبائث [ ص: 4288 ] يعني اللواطة، وكانت أشنع أفعالهم. وبها استحقوا الإهلاك. ولذا ذهب بعض الفقهاء إلى رمي اللوطي منكسا من مكان عال، وطرح الحجارة عليه ، كما فعل بهم: إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا أي: في أهلها: إنه من الصالحين أي: العاملين بالعلم، الثابتين على الاستقامة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [76] ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم .

    ونوحا إذ نادى من قبل أي: دعا ربه في إهلاك قومه لما كذبوه بقوله: أني مغلوب فانتصر رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم وهو الطوفان، أو من الشدة والتكذيب والأذى. فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عز وجل فلم يؤمن به إلا القليل.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [77] ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين .

    ونصرناه من القوم أي: نصرناه نصرا مستتبعا للانتصار والانتقام من قومه: الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين أي: فلم يبق منهم أحد كما دعا نبيهم.
    [ ص: 4289 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [78] وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين .

    وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث أي: الزرع: إذ نفشت فيه غنم القوم أي: رعته ليلا: وكنا لحكمهم شاهدين أي: لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما، عالمين.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [79] ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين .

    ففهمناها أي: الفتوى أو الحكومة المفهومين من السياق: سليمان أي: فكان القضاء فيها قضاءه، لا قضاء أبيه. روي عن ابن عباس أن غنما أفسدت زرعا بالليل، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث، فقال سليمان : بل تؤخذ الغنم فتدفع إلى أصحاب الزرع فيكون لهم أولادها وألبانها ومنافعها. ويبذر أصحاب الغنم لأهل الزرع مثل زرعهم فيعمروه ويصلحوه، فإذا بلغ الزرع الذي كان عليه، ليلة نفشت فيه الغنم، أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها. وكذا روي عن ابن مسعود موقوفا لا مرفوعا. والله أعلم بالحقيقة. وقوله تعالى: وكلا آتينا حكما وعلما أي: وكل واحد منهما آتيناه حكمة وعلما كثيرا، لا سليمان وحده. ففيه دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان عليه السلام بالتفهم، من عدم كون حكم داود عليه السلام حكما شرعيا.

    [ ص: 4290 ] تنبيهات:

    الأول: استدل بالآية على أن خطأ المجتهد مغفور له ، وعكس بعضهم، فاستدل بالآية على أن كل مجتهد مصيب .

    قال: لأنها تدل بظاهرها على أنه لا حكم لله في هذه المسألة قبل الاجتهاد. وأن الحق ليس بواحد. فكذا غيرها إذ لا قائل بالفصل. إذ لو كان له فيها حكم تعين. وهذا مذهب المعتزلة، كما بين في الأصول. ورد بأن مفهوم قوله: ففهمناها سليمان لتخصيصه بالفهم دون داود عليه السلام، يدل على أنه المصيب للحق عند الله. ولولاه لما كان لتخصيصه بالفهم معنى. والمستدلون يقولون: إن الله لما لم يخطئه، دل على أن كلا منهما مصيب. وتخصيصه بالفهم لا يدل على خطأ داود عليه السلام، لجواز كون كل مصيبا. ولكن هذا أرفق وذاك أوفق، بالتحريض على التحفظ من ضرر الغير. فلذلك استدل بهذه الآية كل. فكما لم يعلم حكم الله فيها، لم يعلم تعين دلالتها. كذا في (العناية).

    وجاء في (فتح البيان) ما مثاله: لا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطئ، وأما كون كل واحد منهما مصيبا فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها، بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين وغيرهما: أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر. فسماه النبي صلى الله عليه وسلم مخطئا. فكيف يقال إنه مصيب لحكم الله موافق له؟ فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين. وإلا لزم توقف حكمه عز وجل على اجتهادات المجتهدين، واللازم باطل فالملزوم مثله. وأيضا يستلزم أن يكون العين التي اختلف فيها اجتهاد المجتهدين، بالحل والحرمة، حلالا وحراما في حكم الله سبحانه. وهذا اللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله. وأيضا يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد ، له اجتهاد في تلك [ ص: 4291 ] الحادثة، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه وتعالى فيها إلا بانقطاع المجتهدين. واللازم باطل فالملزوم مثله. والحاصل أن المجتهدين لا يقدرون على إصابة الحق في كل حادثة. لكن لا يصرون على الخطأ. كما رجع داود هنا إلى حكم سليمان، لما ظهر له أنه الصواب.

    قال الحسن: لولا هذه الآية، لرأيت الحكام قد هلكوا، ولكن الله حمد هذا بصوابه، وأثنى على هذا باجتهاده.

    الثاني: دلت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام. وهو مذهب الجمهور. ومنعه بعضهم. ولا مسند له. لأن قضاء داود لو كان بوحي لما أوثر قضاء ابنه سليمان عليه. ومما يدل على وقوعه دلالة ظاهرة قوله تعالى: عفا الله عنك لم أذنت لهم فعاتبه على ما وقع منه. ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه. ومنه ما صح عنه صلوات الله عليه من قوله: « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي » ومثل ذلك لا يكون فيما عمله بالوحي، ونظائر ذلك كثيرة في الكتاب والسنة. وأيضا، فالاستنباط أرفع درجات العلماء. فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل. وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب.

    قال الرازي : إذا غلب على ظن نبي أن الحكم في الأصل معلل بمعنى، ثم علم أو ظن قيام ذلك معنى في صورة أخرى، فلا بد وأن يغلب على ظنه أن حكم الله تعالى في هذه الصورة مثل ما في الأصل. وعنده مقدمة يقينية، وهي أن مخالفة حكم الله تعالى سبب لاستحقاق العقاب ، فيتولد من هاتين المقدمتين ظن استحقاق العقاب لمخالفة هذا الحكم المظنون. وعند هذا، إما أن يقدم على الفعل والترك معا، وهو محال، لاستحالة الجمع بين النقيضين. أو يتركهما وهو محال، لاستحالة الخلو عن النقيضين. أو يرجح المرجوح على الراجح وهو [ ص: 4292 ] باطل ببديهة العقل، أو يرجح الراجح على المرجوح، وذلك هو العمل بالقياس- وهذه النكتة هي التي عليها التعويل في العمل بالقياس. وهي قائمة أيضا في حق الأنبياء عليهم السلام. انتهى.

    الثالث: قال السيوطي في (الإكليل): استدل بها على جواز الاجتهاد في الأحكام ووقوعه للأنبياء . وقد ذكرناه قبل. وأن المجتهد قد يخطئ، وأنه مأجور مع الخطأ غير آثم، لأنه تعالى أخبر بأن إدراك الحق مع سليمان، ثم أثنى عليهما. وقد تقدم أولا. واستدل بها من قال برجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاد إلى أرجح منه. وفيها تضمين أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار . لأن النفش لا يكون إلا بالليل، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن شريح والزهري وقتادة . ومن عمم الضمان فسره بالرعي مطلقا. وذهب قوم منهم الحسن إلى أن صاحب الزرع تدفع إليه الماشية، ينتفع بدرها وصوفها حتى يعود الزرع كما كان. كما حكم به سليمان في هذه الواقعة. إذ لم يرد في شرعنا ناسخ مقطوع به عندهم. انتهى.

    الرابع: روى ابن جرير عن عامر قال: جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما: إن شياه هذا قطعت غزلا لي. فقال شريح: نهارا أم ليلا؟ فإن كان نهارا فقد برئ صاحب الشياه. وإن كان ليلا فقد ضمن، ثم قرأ هذه الآية.

    قال ابن كثير : وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث الليث بن سعد عن الزهري عن حرام بن محيصة . أن ناقة البراء بن عازب [ ص: 4293 ] دخلت حائطا. فأفسدت فيه. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط، حفظها بالنهار. وما أفسد المواشي بالليل ضامن على أهلها. وقد علل هذا الحديث. وروى ابن أبي حاتم أن إياس بن معاوية ، لما استقضى أتاه الحسن، فبكى. فقال: ما يبكيك؟ قال: يا أبا سعيد بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار. ورجل مال به الهوى فهو في النار. ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري : إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء، حكما يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم. قال الله تعالى: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية. فأثنى الله على سليمان، ولم يذم داود.

    ثم قال يعني الحسن: إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثا: لا يشتروا به ثمنا قليلا. ولا يتبعوا فيه الهوى. ولا يخشوا فيه أحدا. ثم تلا: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله وقال: فلا تخشوا الناس واخشون وقال: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا

    ثم قال ابن كثير : وقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر » فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار.

    وفي السنن: « القضاة ثلاثة: قاض في الجنة وقاضيان في النار. رجل علم الحق [ ص: 4294 ] وقضى به فهو في الجنة. ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار » .

    ثم بين سبحانه ما خص كلا من داود وسليمان من كراماته، إثر بيان كرامته العامة لهما، بقوله: وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين أي: سخرنا الجبال والطير يقدسن الله معه، بصوت يتمثل له أو يخلق فيها. قال ابن كثير : وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه (الزبور) وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه. وترد عليه الجبال تأويبا، ولهذا لما مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل، وكان له صوت طيب جدا، فوقف واستمع لقراءته وقال: « لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود ». قال: يا رسول الله! لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا.

    قال أبو عثمان الهندي : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه. انتهى.

    وتقديم الجبال على الطير، لأن تسبيحها أعجب وأدل على القدرة، وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد. والتذييل بقوله: وكنا فاعلين إشارة إلى أنه ليس ببدع في جانب القدرة الإلهية، وإن كان عند المخاطبين عجيبا. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة ص: واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب
    [ ص: 4295 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [80] وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون .

    وعلمناه صنعة لبوس لكم أي: عمل الدروع الملبوسة. قيل كانت الدروع قبله صفائح، فحلقها وسردها. أي: جعلها حلقا وأدخل بعضها في بعض كما قال تعالى: وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد أي: لا توسع الحلقة فتقلق المسمار. ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة. ولهذا قال: لتحصنكم من بأسكم أي: لتحفظكم من جراحات قتالكم: فهل أنتم شاكرون أي: لنعم الله عليكم، لما ألهم عبده داود فعلمه ذلك رحمة بكم فيما يحفظ عليكم في المعامع حياتكم. وفي إيراد الأمر بالشكر على صورة الاستفهام، مبالغة في التقريع والتوبيخ، لما فيه من الإيماء إلى التقصير في الشكر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [81] ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين .

    ولسليمان الريح عاصفة أي: سخرناها له: تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وهي بيت المقدس: وكنا بكل شيء عالمين أي: ما تقضيه الحكمة البالغة فيه. وهذا كقوله تعالى: فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب

    قال الزمخشري رحمه الله: فإن قلت: وصفت هذه الريح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى، فما التوفيق بينهما؟ قلت: كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم. فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال: غدوها شهر ورواحها شهر فكان جمعها بين الأمرين، [ ص: 4296 ] أن تكون رخاء في نفسها، وعاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان، وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم، آية إلى آية، ومعجزة إلى معجزة.

    قال في (الانتصاف): وهذا كما ورد في وصف عصا موسى تارة بأنها جان وتارة بأنها ثعبان. والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم الجافي منها. ووجه ذلك أنها جمعت الوصفين فكانت في خفتها وفي سرعة حركتها كالجان، وكانت في عظم خلقها كالثعبان، ففي كل واحد من الريح والعصا، على هذا التقرير، معجزتان. والله أعلم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [82] ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين .

    ومن الشياطين من يغوصون له أي: في البحر لاستخراج نفائسه، تكميلا لخزائنه وتزيينا لقومه: ويعملون عملا دون ذلك أي: غير ذلك كبناء المدن والقصور واختراع الصنائع العجيبة كما قال تعالى: يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان وكنا لهم حافظين أي: مؤيدين ومعينين.

    تنبيه:

    الشياطين المذكورون، إما مردة الإنس وأشداؤهم، وإما مردة الجن لظاهر اللفظ. وعليه قال الجبائي: كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل؟ وإنما يمكنهم الوسوسة. وأجاب بأنه تعالى كثف أجسامهم خاصة وقواهم، وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزا لسليمان عليه السلام. والله أعلم.
    [ ص: 4297 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [83] وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [84] فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين .

    وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين أي: اذكر أيوب وما أصابه من البلاء ودعاءه ربه في كشف ما نزل به، واستجابته تعالى دعاءه وما امتن به عليه في رفع البلاء. وما ضاعف له بعد صبره من النعماء، لتعلم أن النصر مع الصبر، وأن عاقبة العسر اليسر. وأن لك الأسوة بمثل هذا النبي الصبور، فيما ينزل أحيانا بك من ضر. وأن البلاء لم ينج منه الأنبياء. بل هم أشد الناس ابتلاء. كما في الحديث « أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل » .

    وإن من أسباب الفرج دعاءه تعالى والابتهال إليه والتضرع له، وذكره بأسمائه الحسنى وصفاته العليا. وإن البلاء لا يدل على الهوان والشقاء. فإن السعادة والشقاء في هذا العالم لا يترتبان على صالح الأعمال وسيئها. لأن الدنيا ليست دار جزاء. وإن عاقبة الصدق في الصبر ، هي توفية الأجر ومضاعفة البر. وقد روي أن أيوب عليه السلام، لما امتحن بما فقد أرزاقه وهلك به جميع آل بيته، وبما لبث يعاني من قروح جسده آلاما، وصبر وشكر، رحمه مولاه فعادت له صحة بدنه وأوتي أضعاف ما فقده. ورزق عدة أولاد، وعاش عمرا طويلا أبصر أولاده إلى الجيل الرابع. ولذا قال تعالى: وذكرى للعابدين أي: تذكرة لغيره [ ص: 4298 ] من العابدين ليصبروا كما صبر، حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة. وبالجملة فالسر هو تثبيت قلوب المؤمنين وحملهم على الصبر في المجاهدة في سبيل الحق. وقد روى المفسرون ههنا في بلاء أيوب روايات مختلفات، بأسانيد واهيات، لا يقام لها عند أئمة الأثر وزن. ولا تعار من الثقة أدنى نظر. نعم يوجد في التوراة سفر لأيوب فيه من شرح ضره، بفقد كل مقتنياته ومواشيه وآل بيته، وبنزول مرض شديد به، عدم معه الراحة ولذة الحياة، غرائب. إلا أنها مما لا يوثق بها جميعها. لما داخلها من المزيج، وتوسع بها في الدخيل، حتى اختلط الحابل بالنابل. وإن كان يؤخذ من مجموعها بلاء فادح وضر مدهش. ولو علم الله خيرا في أكثر مما أجمله في تنزيله الحكيم، لتفضل علينا بتفصيله. ولذا يوقف عند إجماله فيما أجمل، وتفصيله فيما فصل.

    تنبيه:

    قال بعضهم: أكثر المحققين على أن أيوب كان بعد زمن إبراهيم عليهما السلام. وأنه كان غنيا من أرباب العقار والماشية. وكان أميرا في قومه. وأن أملاكه ومنزله في أرض خصيبة رائعة التربة كثيرة المتسلسلة في الجنوب الشرقي من البحر الميت. ومن جبل سعير بين بلاد أدوم وصحراء العربية . والله أعلم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [85] وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين [86] وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين .

    وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين أي: على القيام بأمر الله، وعلى شدائد النوب، وعلى احتمال الأذى في نصرة دينه تعالى، ففيهم أعظم أسوة: وأدخلناهم في رحمتنا أي: في النبوة أو في نعمة الآخرة: إنهم من الصالحين أي: الكاملين في الصلاح.

    [ ص: 4299 ] قال ابن كثير : أما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام. وقد تقدم ذكره في سورة مريم. وكذا إدريس عليه السلام. وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي.

    وقال آخرون: إنما كان رجلا صالحا، وكان ملكا عادلا وحكما مقسطا، وتوقف ابن جرير في ذلك، فالله أعلم.

    وذهب بعض المحققين إلى أن ذا الكفل هو حزقيل عليه السلام.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [87] وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [88] فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين .

    وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين أي: اذكر ذا النون يعني صاحب الحوت، وهو يونس عليه السلام، وصبره على ما أصابه، ثم إنابته ونجاته، ليتثبت في نبئه فؤادك ويقوى على الصبر على ما يقوله الطغاة جنانك. وهذه القصة مذكورة ههنا وفي سورة (الصافات) وفي سورة (ن). وذلك أن يونس بن متى عليه السلام، أمره الله أن ينطلق إلى أهل نينوى -من أرض الموصل ، كرسي سلطنة الأشوريين ليدعوهم إلى الإيمان به تعالى وحده، وإلى إقامة القسط ونشر العدل وحسن السيرة. وكانوا على الضد من ذلك، تعاظم كفرهم وتزايد شرهم. فخشي أن لا يتم له الأمر معهم، فأبق من بيت المقدس إلى يافا . ونزل في سفينة سائرة إلى ترشيش ليقيم فيها. فأرسل الله ريحا شديدة على البحر أشرفت السفينة معه على الغرق. فتخفف الركاب من أمتعتهم [ ص: 4300 ] فلم يفد، فوقع في أنفسهم أن في السفينة شخصا سيهلكون بسببه، فاقترعوا لينظروا من هو فخرجت القرعة على يونس، فقذفوه في البحر وسكن جيشانه وتموجه. وهيأ الله حوتا ليونس فابتلعه، فمكث في جوف الحوت ثلاثة أيام. ثم دعا ربه فاستجاب له، وألقاه الحوت على الساحل. ثم أوحى الله إلى يونس ثانية بالمسير إلى نينوى ، ودعوتها إلى الله تعالى، فوصلها ونادى فيهم بالتوحيد والتوبة. وتوعدهم إن لم يؤمنوا أن تنقلب بهم نينوى ، فلما تحققوا ذلك آمنوا. فرفع الله عنهم العذاب، قال تعالى: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين

    تنبيهات:

    الأول: يونس عليه السلام يسمى في التوراة (يونان) وهو عبراني. ويقال إنه من جت حافر وهي قرية في سبط زبولون، في شمال الأرض المقدسة. وإنه نبئ قبل المسيح بنحو ثمانمائة سنة. والله أعلم.

    الثاني: أكثر المفسرين (كما حكاه الرازي ) على أن يونس ذهب مغاضبا لربه. وأنه ظن بإباقه إلى الفلك، وتركه المسير إلى نينوى أولا، أن يترك ولا يقاص. قال بعض المحققين: إنما خالف يونس أولا الأمر الإلهي وترخص فيه، مخافة أن يظن أنه نبي كاذب إذا تاب أهل نينوى وعفا الله عن جرمهم. وإيثار صيغة المبالغة في (مغاضبا) للمبالغة. لأن أصله يكون بين اثنين، يجهد كل منهما في غلبة الآخر. فيقتضي بذل المقدور والتناهي. فاستعمل في لازمه للمبالغة، دون قصد (مفاعلة) وقد استدل بظاهر هذه الآية وأمثالها، من ذهب إلى جواز صدور الخطأ من الأنبياء، إلا الكذب في التبليغ، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ فيه، لأنه حجة الله على عباده. وإلا ما يجري مجرى بيان الوحي، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ في حال بيان المشروع. وهو قول الكرامية في المرجئة كما في (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد). [ ص: 4301 ] وقول الباقلاني من الأشعرية (على ما حكاه ابن حزم في الملل): وأما الجمهور المانعون من ذلك، فلهم في هذه الآية وأشباهها تأويلات. ونحن نؤثر ما قاله ابن حزم في هذا المقام، لأنه أطلق لسانا، قال رحمه الله: (بعد أن حكى مذهب الكرامية المذكور): وذهب أهل السنة والمعتزلة والنجارية والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبي معصية بعمد لا صغيرة ولا كبيرة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #459
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4301 الى صـ 4315
    الحلقة (458)





    ثم قال: وهذا القول الذي ندين الله تعالى به. ولا يحل لأحد أن يدين بسواه. ونقول: إنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد . ويقع منهم أيضا قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى، والتقرب به منه. فيوافق خلاف مراد الله تعالى. إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلا، بل ينبههم على ذلك ولا بد، إثر وقوعه منهم. وربما يبغض المكروه في الدنيا، كالذي أصاب آدم ويونس والأنبياء عليهم السلام، بخلافنا في هذا. فإننا غير مؤاخذين بما سهونا فيه، ولا بما قصدنا به وجه الله عز وجل، فلم يصادف مراده تعالى. بل نحن مأجورون على هذا الوجه أجرا واحدا.

    ثم قال (في الكلام على يونس عليه السلام): وأما إخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضبا، فلم يغاضب ربه قط، ولا قال الله تعالى إنه غاضب ربه. فمن زاد هذه الزيادة كان قائلا على الله الكذب، وزائدا في القرآن ما ليس فيه. هذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل، أنه يغاضب ربه تعالى. فكيف أن يفعل ذلك نبي من الأنبياء؟ فعلمنا يقينا أنه إنما غاضب قومه، ولم يوافق ذلك مراد الله عز وجل، فعوقب بذلك. وإن كان يونس عليه السلام لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عز وجل. وأما قوله تعالى: فظن أن لن نقدر عليه فليس على ما ظنوه من الظن السخيف الذي لا يجوز أن يظن بضعيفة من النساء أو بضعيف من الرجال. إلا أن يكون قد بلغ الغاية من الجهل. فكيف بنبي مفضل على الناس في العلم؟ ومن المحال المتيقن أن يكون نبي يظن أن الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليه. وهو يرى أن آدميا مثله يقدر عليه. ولا شك في أن من نسب هذا للنبي صلى الله عليه وسلم الفاضل، فإنه يشتد غضبه لو نسب ذلك إليه أو إلى ابنه. فكيف إلى يونس بن متى الذي يقول فيه [ ص: 4302 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا تفضلوني على يونس بن متى ؟ » فقد بطل ظنهم بلا شك، وصح أن معنى قوله: فظن أن لن نقدر عليه أي: لن نضيق عليه كما قال تعالى: وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه أي: ضيق عليه. فظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يضيق عليه في مغاضبته لقومه، إذ ظن أنه محسن في فعله ذلك: وإنما نهى الله عز وجل، محمدا صلى الله عليه وسلم عن أن يكون كصاحب الحوت، فنعم، نهاه الله عز وجل عن مغاضبة قومه، وأمره بالصبر على أذاهم وبالمطاولة لهم. وأما قوله تعالى: أنه استحق الذم والملامة، لولا النعمة التي تداركه بها، للبث معاقبا في بطن الحوت، فهذا نفس ما قلناه من أن الأنبياء عليهم السلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه، مما يظنونه خيرا وقربة إلى الله عز وجل، إذا لم يوافق مراد ربهم. وعلى هذا الوجه أقر على نفسه بأنه كان من الظالمين. والظلم وضع الشيء في غير موضعه. فلما وضع النبي صلى الله عليه وسلم المغاضبة في غير موضعها، اعترف في ذلك بالظلم. لا على أنه قصده وهو يدري أنه ظلم. انتهى كلام ابن حزم.

    وأقول: إن الذي يفتح باب الإشكالات هو التعمق في الألفاظ. والتنطع في شرحها وتوليد معاني ولوازم لها، والتوسع في وجوهها توسعا يميت رونق التركيب ونصاعة بلاغته. ومعلوم أن التنزيل الكريم فاق سائر أساليب الكلام المعهودة بأسلوبه البديع. ولذا كانت آية تأخذ بمجامع القلوب رقة وانسجاما. وبلاغة وانتظاما. فلا ترى في كلمه إلا المختارات لطفا، ولا في جمله إلا الفخيمات تركيبا، ولا في إشاراته إلا الأقوى رمزا، ولا في كناياته إلا الأعلى مغزى. ومن ذلك سنته في الملام والوعيد من إفراغ القول في أبلغ قالب شديد، مما يؤخذ منه شدة الخطب، وقوة العتب وذلك لعزة الجناب الإلهي والمقام الرباني. فالعربي البليغ طبعا، الذائق جبلة، إذا تلي عليه مجمل نبأ يونس عليه السلام في هذه الآية، يدهش لما ترمي [ ص: 4303 ] إليه من قوة العتب والملام، وأنه بإباقه غاضب مولاه، غضبا لا يماثل الغضب على العصاة. فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأنه ظن أن ينسى فلا يؤاخذ. ويفلت فلا يحصر. فأتاه ما لم يكن على بال. ووقع في شرك قدرة المتعال، ثم تداركته النعمة، ولحقته الرحمة. هذا مجمل ما يفهم من الآية منطوقا ومفهوما. فافهم ما ذكرته لك. فإنه يبلغك من التحقيق أملك.

    الثالث: عد بعض الملاحدة ابتلاع الحوت يونس محالا. فكتب بعض المحققين مجيبا بأن هذا إنكار لقدرة الله فاطر السماوات والأرض. الذي له في خلقه غرائب. ومنها الحيتان المتنوعة الهائلة الجثث، التي لم يزل يصطاد منها في هذا العصر، وفي بطونها أجساد الناس بملابسهم. وكتب آخر: لم يتعرض لتعيين نوع الحوت الذي ابتلع يونس. ولعله فيما قال قوم من المحققين. من النوع المعروف عند بعضهم (بالزفا) وهو من كبار الحيتان يكون في بحر الروم، واسع الحلقوم، حتى أنه ليبتلع الرجل برمته، دون أن يشدخه أو يجرحه. حتى يبقى في الإمكان أن يخرج منه وهو حي: ومع ذلك فلم يكن بغير معجزة بقاؤه ثلاثة أيام في جوف هذا الحوت، ولبث مالكا رشده متمكنا من التسبيح والدعاء. انتهى.

    الرابع: الجمع في قوله: في الظلمات إما على حقيقته، وهي ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل. وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. أو مجاز، يجعل الظلمة لشدتها وتكاثفها في بطن الحوت كأنها ظلمات. والمراد منها أحد المذكورات، أو بطن الحوت. وقدمه الزمخشري ونظره بآية: ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات

    الخامس: قوله تعالى: فاستجبنا له أي: دعاؤه: ونجيناه من الغم يعني بأن قذفه الحوت إلى الساحل، قيل لم يقل فنجيناه كما قال في قصة أيوب عليه السلام: فكشفنا لأنه دعا بالخلاص من الضر، فالكشف المذكور يترتب على استجابته. [ ص: 4304 ] ويونس عليه السلام لم يدع، فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته. ورد بأن الفاء في قصة أيوب تفسيرية. والعطف هنا أيضا تفسيري. والتفنن طريقة مسلوكة في علم البلاغة. ثم لا نسلم أن يونس لم يدع بالخلاص ولو لم يكن دعاء لم تتحقق الاستجابة. واستظهر الشهاب في سر الإتيان بالفاء ثمة. والواو هنا غير التفنن المذكور. أن يقال: إن الأول دعاء بكشف الضر وتلطف في السؤال.

    فلما أجمل في الاستجابة، وكان السؤال بطريقة الإيماء، ناسب أن يؤتى بالفاء التفصيلية. وأما هنا، فإنه لما هاجر من غير أمر، على خلاف معتاد الأنبياء عليهم السلام. كان ذلك ذنبا. كما أشار إليه بقوله: من الظالمين فما أومأ إليه هو الدعاء بعدم مؤاخذته بما صدر منه من سيئات الأبرار. فالاستجابة عبارة عن قبول توبته وعدم مؤاخذته: وليس ما بعده تفسيرا له، بل زيادة إحسان على مطلوبه. ولذا عطف بالواو. انتهى.

    السادس: قوله: وكذلك ننجي المؤمنين أي: إذا كانوا في غموم، وأخلصوا في أدعيتهم منيبين، لا سيما بهذا الدعاء: وقد روي في الترغيب آثار: منها عند أحمد والترمذي: ( دعوة ذي النون، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط، إلا استجاب له ). وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [89] وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين .

    وزكريا أي: واذكر خبره: إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا أي: حين طلب أن يهبه ربه ولدا يكون من بعده نبيا، ولا يتركه فردا وحيدا بلا وارث، وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم وفي سورة آل عمران أيضا. وقوله: وأنت خير الوارثين [ ص: 4305 ] ثناء مناسب للمسألة. قال الغزالي في (شرح الأسماء الحسنى): الوارث هو الذي ترجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك. وذلك هو الله سبحانه، إذ هو الباقي بعد فناء خلقه، وإليه مرجع كل شيء ومصيره. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [90] فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين .

    فاستجبنا له أي: دعاءه: ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه أي: أصلحناها للولادة بعد عقرها، معجزة وكرامة له. وقوله تعالى: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات تعليل لما فصل من فنون إحسانه تعالى، المتعلقة بالأنبياء المذكورين، أي: كانوا يبادرون في كل باب من الخير. وإيثار (في) على (إلى) للإشارة إلى ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير. لأن (إلى) تدل على الخروج عن الشيء والتوجه إليه: ويدعوننا رغبا ورهبا أي: ذوي رغب ورهب، أو راغبين في الثواب راجين للإجابة: وكانوا لنا خاشعين أي: مخبتين متضرعين. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [91] والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين .

    والتي أحصنت فرجها أي: اذكر نبأ التي أحصنته إحصانا كليا، عن الحلال والحرام جميعا. كما قالت: ولم يمسسني بشر والتعبير عنها بالموصول، لتفخيم شأنها، وتنزيهها عما زعموه في حقها، بادئ بدء: فنفخنا فيها من روحنا أي: نفخنا [ ص: 4306 ] الروح في عيسى فيها. أي: أحييناه في جوفها. فنزل نفخ الروح في عيسى ، لكونه في جوف مريم، منزلة نفخ الروح فيها. ونفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه. وقيل المعنى: فعلنا النفخ فيها من جهة روحنا جبريل عليه السلام، أي: أمرناه فنفخ. أو فنفخنا فيها بعض روحنا، أي: بعض الأرواح المخلوقة لنا. وذلك البعض هو روح عيسى ، لأنها وصلت في الهواء الذي نفخه في رحمها: وجعلناها وابنها أي: نبأهما: آية للعالمين أي: في كمال قدرته واختصاصه من شاء بما شاء. وقد كان من آيتهما إتيان الرزق لمريم في غير أوانه. وتثمير النخل اليابس. وإجراء العين، ونطق ابنها في المهد. وإحياء الموتى. وإبراء الأكمه والأبرص.

    قال الزمخشري : فإن قلت: هلا قيل: آيتين كما قال: وجعلنا الليل والنهار آيتين ؟ قلت: لأن حالهما بمجموعها آية واحدة. وهي ولادتها إياه من غير فحل. انتهى. وقيل: المعنى وجعلناها آية وابنها آية. فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. ولما أنهى ما ذكر تعالى من شأن جماعة من الأنبياء صلوات الله عليهم، أشار إلى أن عقائدهم وأصول دينهم واحدة، بقوله سبحانه وتعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [92] إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون .

    إن هذه أي: علة التوحيد والاستسلام لمعبود واحد لا شريك له: أمتكم أي: ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها. والخطاب للناس كافة: أمة واحدة أي: غير مختلفة. بل هي ملة واحدة. أي: أن جميع الأنبياء ورسل الله على ملة واحدة ودين واحد. كما قال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام وأنا ربكم أي: لا إله لكم غيري: فاعبدون أي: ولا تشركوا بي شيئا.

    [ ص: 4307 ] تنبيه:

    قلنا: إن الأمة هنا بمعنى الملة، وهو الدين المجتمع عليه، كما في قوله: إنا وجدنا آباءنا على أمة أي: على دين يجتمع عليه. والأمة بهذا المعنى هو ما رجحه كثير من المفسرين في هذه الآية، وفي آية: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون وتطلق (الأمة) بمعنى الجماعة. كما هي في قوله تعالى: وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون أي: جماعة. وكما في قوله: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا تكون بمعنى الجماعة مطلقا، وإنما هي بمعنى الجماعة الذين تربطهم رابطة اجتماع، يعتبرون بها واحدا، وتسوغ أن يطلق عليهم اسم واحد كاسم الأمة. وتطلق الأمة بمعنى السنين كما في قوله تعالى: ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة وفي قوله: وادكر بعد أمة وبمعنى الإمام الذي يقتدى به،كما في قوله: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله وبمعنى إحدى الأمم المعروفة كما في قوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس وهذا المعنى الأخير لا يخرج عن معنى الجماعة، على ما ذكرنا. وإنما خصصه العرف تخصيصا. كذا حققه العلامة محمد عبده رحمه الله في تفسير آية: كان الناس أمة واحدة
    [ ص: 4308 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [93] وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون .

    وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون أي: تفرق الناس في دينهم الذي أمرهم الله به، ودعاهم إليه، فصاروا فيه أحزابا ومللا.

    قال الزمخشري رحمه الله: والأصل (وتقطعتم) إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات. كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه، إلى آخرين، ويقبح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله؟ والمعنى جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، كما يتورع الجماعة الشيء ويقتسمونه. فيطير لهذا نصيب ولذاك نصيب، تمثيلا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى. ثم توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة، إليه يرجعون. فهو محاسبهم ومجازيهم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [94] فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون .

    فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون أي: فمن عمل من هؤلاء، الذين تفرقوا في دينهم، بما أمر الله به من العمل الصالح، وأطاعه في أمره ونهيه، وهو مقر بوحدانية الله، مصدق وعده ووعيده، متبرئ من الأنداد والآلهة، فلا كفران لسعيه، بل يشكر الله عمله هذا، ويثيبه ثواب أهل طاعته. وقوله تعالى: وإنا له أي: لسعيه المشكور: كاتبون أي: مثبتوه في صحيفة أعماله، ولا نضيعه.

    تنبيه:

    الكفران مصدر من: (كفر فلان النعمة كفرا وكفرانا) وأوثر (لا كفران) على (لا نكفر) للمبالغة. لأن نفي الجنس مستلزم له وأبلغ في التنزيه بعمومه. وعبر عن العمل [ ص: 4309 ] بالسعي لإظهار الاعتداد به. والآية كقوله تعالى: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا

    ثم أشار إلى مقابل هؤلاء، وهم من أعرض عن ذكره تعالى، بلحوق الوعيد لهم، لما جرت به سنته تعالى، بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [95] وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون .

    وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون أي: وحرام على أهل قرية فسقوا عن أمر ربهم، فأهلكهم بذنوبهم، أن يرجعوا إلى أهلهم، كقوله تعالى: ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون وقوله: فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون وزيادة (لا) هنا لتأكيد معنى النفي من (حرام) وهذا من أساليب التنزيل البديعة البالغة النهاية في الدقة. وسر الإخبار بعدم الرجوع مع وضوحه، هو الصدع بما يزعجهم ويؤسفهم ويلوعهم من الهلاك المؤبد، وفوات أمنيتهم الكبرى، وهي حياتهم الدنيا. وجعل أبو مسلم هذه الآية من تتمة ما قبلها، و(لا) فيها على بابها. وهي مع (حرام) من قبيل نفي النفي. فيدل على الإثبات. والمعنى: وحرام على القرية المهلكة، عدم رجوعها إلى الآخرة. بل واجب رجوعها للجزاء. فيكون الغرض إبطال قول من ينكر البعث. وتحقيق ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحد. وأنه سبحانه سيحييه، وبعمله يجزيه. واللفظ الكريم يحتمله ويتضح فيه. إلا أن الأول لرعاية النظائر من الآي أولى. وأما ذكر سواهما، فلا يدل عليه السياق ولا النظير. وفيه ما يخل بالبلاغة من التعقيد وفوات سلاسة التعبير.
    ثم أشار إلى تحقق نصر الرسل وغلبتهم، وكثرة أتباعهم حتى يحيطوا بأعدائهم من كل جانب، وينزلوا بهم ما تشخص لهم أبصارهم، يورثهم طول الندامة، بقوله تعالى:

    [ ص: 4310 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [96] حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون .

    حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج علم لكل أمة كثيرة العدد مختلطة من أجناس شتى: وهم من كل حدب ينسلون أي: من كل نشز من الأرض يسرعون، متجندين لقهر أعدائهم، تحت راية نبيهم أو أميره أو خليفته.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [97] واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين .

    واقترب الوعد الحق أي: طلعت طلائع النصر والقهر، ودحر الباطل والكفر: فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا أي: لهول ما حل بساحتهم والدهشة منه، قائلين: يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا أي: لم نعلم أنه حق: بل كنا ظالمين أي لأنفسنا، بالإخلال بالنظر والإباء والعناد. ثم أشار إلى شأنهم في الآخرة بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [98] إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون [99] لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون [100] لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون .

    إنكم وما تعبدون من دون الله أي: من الأوثان والأصنام: حصب جهنم أي: ما يرمى به إليها: أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون أي: فلا منجى لهم منها.

    [ ص: 4311 ] قال الزمخشري : فإن قلت: لم قرنوا بآلهتهم؟ قلت: لأنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة. حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم والنظر إلى وجه العدو باب من العذاب. ولأنهم قدروا أنهم يستشفعون بهم في الآخرة، ويستنفعون بشفاعتهم. فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدروا، لم يكن شيء أبغض إليهم منهم: لهم فيها زفير أي: ترديد نفس تنتفخ منه الضلوع: وهم فيها لا يسمعون أي: من الهول وشدة العذاب.
    ثم بين تعالى حال المؤمنين إثر حال الكافرين، حسبما جرت به سنة التنزيل، من شفع الوعد بالوعيد، وإيراد الترغيب مع الترهيب، بقوله سبحانه:

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [101] إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون [102] لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون [103] لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون .

    إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أي: الخصلة الحسنى، وهي السعادة أو التوفيق: أولئك عنها مبعدون لأنهم في غرفات الجنان آمنون. إذ وقاهم ربهم عذاب السعير: لا يسمعون حسيسها أي: صوتا يحس به منها، لبعدهم عنها وعما يفزعهم: وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر أي: للحشر كما قال تعالى: ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض وتتلقاهم الملائكة أي: تستقبلهم مهنئين لهم قائلين: هذا يومكم الذي كنتم توعدون أي في الدنيا، وتبشرون بنيل المثوبة الحسنى فيه.
    وقوله تعالى:

    [ ص: 4312 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [104] يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [105] ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون [106] إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين [107] وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .

    يوم نطوي السماء أي: اذكره. أو ظرف لـ: لا يحزنهم أو لـ: " تتلقاهم " . والطي ضد النشر. وقوله: كطي السجل للكتب أي: كما يطوى السجل وهو الكتاب. واللام في (للكتب) لام التبيين. ولذلك قرئ: (الكتاب) بالإفراد. أو بمعنى (من) وفيه قرب من الأول. أو (الكتب) بمعنى المكتوب. أي: كطي الصحيفة على مكتوبها. فاللام بمعنى (على) وهو ما اختاره ابن جرير .

    تنبيه:

    ما نقل عن ابن عباس أن السجل اسم رجل كان يكتب للنبي صلوات الله عليه ، كما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، فأثر منكر لا يصح.

    قال ابن كثير : وقد صرح بوضعه جماعة من الحفاظ، وإن كان في سنن أبي داود. منهم شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي.

    وكذلك تقدم في رده الإمام ابن جرير وقال: لا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل. [ ص: 4313 ] وكتاب النبي صلوات الله عليه، معروفون، وليس فيهم أحد اسمه السجل.

    وصدق رحمه الله في ذلك. وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث.

    وأما من ذكره في أسماء الصحابة، فإنما اعتمد على هذا الحديث. والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة. انتهى.

    هذه الآية كآية: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون وطي السماء كناية عن انكدار نجومها، ومحو رسومها، بفساد تركيبها واختلال نظامها. فلا يبقى أمر ما فيها من الكواكب على ما نراه اليوم. فيخرب العالم بأسره: كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين أي: منجزين إياه. ثم أشار إلى تحقيق مصداقه، بإعزاز المنبئ عنه، وإيراثه ملك جاحده بقوله تعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون أي: العاملون بطاعته. المنتهون إلى أمره ونهيه. دون العاملين منهم بمعصيته، المؤثرين طاعة الشيطان على طاعته. و(الزبور) علم على كتاب داود عليه السلام، ويقال: المراد به كل كتاب منزل. والذكر -قالوا- التوراة أو أم الكتاب. يعني اللوح الذي كتب فيه كل شيء قبل الخلق، والله أعلم. وقوله تعالى: إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين إشارة إلى المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة. أو إلى العبرة في إيراث الأرض الصالحين ودحر المجرمين. و(البلاغ) الكفاية. وقوله: لقوم عابدين أي: يعبدون الله، بما شرعه وأحبه ورضيه. ويؤثرون طاعته على طاعة الشياطين وشهوات النفس: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين أي: وما أرسلناك بهذه الحنيفية والدين الفطري، إلا حال كونك رحمة للخلق، فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين. وفي جعله نفس الرحمة مبالغة جلية. وجوز كون (رحمة) مفعولا له. أي: للرحمة، فهو نبي الرحمة.

    [ ص: 4314 ] تنبيه:

    قال الرازي : إنه عليه السلام كان رحمة في الدين وفي الدنيا. أما في الدين فلأنه بعث والناس في جاهلية وضلالة وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم. فبعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب. فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام. ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق، فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، وكان التوفيق قرينا له. قال الله تعالى: قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء إلى قوله تعالى: وهو عليهم عمى وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب، ونصروا ببركة دينه. انتهى.

    وقد أشرت إلى وجه الرحمة في بعثته صلوات الله عليه ، في (الشذرة) التي جمعتها في سيرته الزكية، في بيان افتقار الناس جميعا إلى رسالته، فقلت: كل من لحظ بعين الحكمة والاعتبار، ونفذت بصيرته إلى مكنون الأسرار، علم حاجة البشر كافة إلى رسالة خاتم النبيين، وأكبر منة الله به على العالمين، فقد بعث صلوات الله عليه وسلامه على حين فترة من الرسل، وإخافة للسبل، وانتشار من الأهواء، وتفرق من الملل، ما بين مشبه لله بخلقه، وملحد في اسمه، ومشير إلى غيره، كفر بواح، وشرك صراح، وفساد عام، وانتهاب للأموال والأرواح واغتصاب للحقوق، وشن للغارات، ووأد للبنات وأكل للدماء والميتات، وقطع للأرحام، وإعلان بالسفاح، وتحريف للكتب المنزلة، واعتقاد لأضاليل المتكهنة. وتأليه للأحبار والرهبان، وسيطرة من جبابرة الجور وزعماء الفتن وقادة الغرور، ظلمات بعضها فوق بعض، وطامات طبقت أكناف الأرض، استمرت الأمم على هذه الحال، الأجيال الطوال، حتى دعا داعي الفلاح، وأذن الله تعالى بالإصلاح. فأحدث بعد ذلك أمرا، وجعل بعد عسر يسرا. فإن النوائب إذا تناهت انتهت، وإذا توالت تولت. وذلك أن الله تعالى أرسل إلى البشر رسولا ليعتقهم من أسر الأوثان، [ ص: 4315 ] ويخرجهم من ظلمة الكفر وعمى التقليد إلى نور الإيمان، وينقذهم من النار والعار، ويرفع عنه الآصار، ويطهرهم من مساوئ الأخلاق والأعمال، ويرشدهم إلى صراط الحق. قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال تعالى: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين انتهى. وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [108] قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون [109] فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون [110] إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون [111] وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين [112] قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون .

    قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد أي: ما يوحى إلي، إلا استئثاره تعالى بالوحدانية في الألوهية. ومعنى القصر على ذلك، أنه الأصل الأصيل، وما عداه راجع إليه في جنبه. فهو قصر دعائي: فهل أنتم مسلمون أي: منقادون لما يوحى من التوحيد، مستسلمون له: فإن تولوا أي: عن التوحيد: فقل آذنتكم على سواء أي: أعلمتكم وهديتكم على كلمة سواء بيننا وبينكم، نؤمن بها ونجني ثمرات سعادتها في الدارين. أو المعنى دللتكم على صراط مستقيم، وبلغتكم الأمر به. فإن آمنتم به فقد سعدتم، وإلا فإن وعد الجاحدين آتيكم، وليس بمصروف عنكم. وإن كنت لا أدري متى يكون ذلك، لأن الله تعالى لم يعلمني علمه، ولم يطلعني عليه كما قال: وإن أدري أي: وما أدري: أقريب [ ص: 4316 ] أم بعيد ما توعدون أي: من الفتح عليكم، وإيراث أرضكم غيركم، ولحوق الذل والصغار بعصيانكم: إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون أي: فسيجزيكم على ذلك: وإن أدري لعله فتنة لكم أي: وما أدري لعل تأخير جزائكم استدراج لكم، وزيادة في افتتانكم، أو ابتلاء لينظر كيف تعملون. فـ(الفتنة) إما مجاز عن الاستدراج بذكر السبب وإرادة المسبب، أو هو بمعناه الأصلي. فهو استعارة مصرحة. وقوله تعالى: ومتاع إلى حين أي: تمتيع لكم إلى أجل مقدور. والتمتيع بمعنى الإبقاء والتأخير: قال وقرئ: :" قل رب احكم بالحق " أي: افصل بيننا وبينهم بالحق. وذلك بنصر من آمن بما أنزلت، على من كفر به، كقوله تعالى: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون أي: من الكذب والافتراء على الله ورسوله. بنصر أوليائه، وقهر أعدائه. وقد أجاب سبحانه دعوته، وأظهر كلمته، فله الحمد في الأولى والآخرة، إنه حميد مجيد.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #460
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ الْحَجِّ
    المجلد الحادى عشر
    صـ 4316 الى صـ 4335
    الحلقة (459)





    قال الرازي : قال القاضي: إنما ختم الله هذه السورة بقوله: قال رب احكم بالحق لأنه عليه السلام كان قد بلغ في البيان لهم الغاية، وبلغوا النهاية في أذيته وتكذيبه. فكان قصارى أمره تعالى بذلك تسلية له وتعريفا أن المقصود مصلحتهم. فإذا أبوا إلا التمادي في كفرهم، فعليك بالانقطاع إلى ربك، ليحكم بينك وبينهم بالحق. إما بتعجيل العقاب بالجهاد أو بغيره. وإما بتأخير ذلك. فإن أمرهم، وإن تأخر فما هو كائن قريب. وما روي أنه عليه السلام كان يقول ذلك في حروبه، كالدلالة على أنه تعالى أمره أن يقول هذا القول، كالاستعجال للأمر بمجاهدتهم. وبالله التوفيق.
    سُورَةُ الْحَجِّ

    سُمِّيَتْ بِهِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى أَصْلِ وُجُوبِهِ وَالْمَقْصُودِ مِنْ أَرْكَانِهِ ، وَهُوَ الطَّوَافُ ، إِذِ الْإِحْرَامُ نِيَّةٌ ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ مِنَ اسْتِعْدَادِهِ ، وَالسَّعْيُ مِنْ تَتِمَّتِهِ ، وَالْحَلْقُ خُرُوجٌ عَنْهُ .

    وذكر فيها منافعه وتعظيم شعائره وغير ذلك ، مما يشير إلى فوائده وأسراره . أفاده المهايمي .

    وعن مجاهد ، عن ابن عباس : أنها مكية سوى ثلاث آيات هذان خصمان ، إلى تمام الآيات الثلاث ، فإنهن نزلن بالمدينة ، وفي آثار أخرى أنها كلها مدنية ، كما في الإتقان وآياتها ثمان وسبعون آية .

    [ ص: 4321 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى :

    [1] يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم .

    { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } يأمر تعالى عباده بتقواه التي هي من جوامع الكلم ، في فعل المأمورات واجتناب المنهيات .

    قال المهايمي : أي : احفظوا تربيته عليكم ، بصرف نعمه إلى ما خلقها لأجله ، لئلا تقعوا في الكفران الموجب لانقلاب التربية عليكم ، بالانتقام منكم . انتهى .

    أي فالتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية ، مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ، لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به ترغيبا وترهيبا . أي : احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم ، وقوله تعالى : { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } تعليل لموجب الأمر ، بذكر بعض عقوباته الهائلة . فإن ملاحظة عظمها وهولها ، وفظاعة ما هي من مبادئه ومقدماته ، من الأحوال والأهوال ، التي لا ملجأ منها سوى التدرع بلباس التقوى ، مما يوجب مزيد الاعتناء بملابسته وملازمته لا محالة . و(الزلزلة ) التحريك الشديد والإزعاج العنيف ، بطريق التكرير بحيث يزيل الأشياء من مقارها ويخرجها عن مراكزها . وإضافتها للساعة ، من إضافة المصدر إلى فاعله مجازا ، كأنها هي التي تزلزل . أو إلى ظرفه ، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } ، وفي التعبير عنها بـ(الشيء ) ، إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها ، والعبارة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام . أفاده أبو السعود .

    وقد وصف عظمها في كثير من السور والآيات . كسورة التكوير وسورة الانفطار [ ص: 4322 ] وسورة الانشقاق وسورة الزلزال وغيرها . وقد أشير إلى شيء من بليغ هولها بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [2] يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد .

    { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت } أي : عن إرضاعها . أو عن الذي أرضعته وهو الطفل : { وتضع كل ذات حمل حملها } أي : ما في بطنها لغير تمام : { وترى الناس سكارى } أي : كأنهم سكارى : { وما هم بسكارى } أي : على التحقيق : { ولكن عذاب الله شديد } أي : ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله ، هو الذي أذهب عقولهم ، وطير تمييزهم ، وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه . قاله الزمخشري .

    لطيفة :

    قال الناصر في (" الانتصاف " ) : العلماء يقولون : إن من أدلة المجاز صدق نقيضه ، كقولك : (زيد حمار ) ، إذا وصفته بالبلادة . ثم يصدق أن تقول : (وما هو بحمار ) ، فتنفي عنه الحقيقة . فكذلك الآية . بعد أن أثبت السكر المجازي نفي الحقيقي أبلغ نفي مؤكد بالباء . والسر في تأييده التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم في تلك الحالة ، ليس من المعهود في شيء ، وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله . والاستدراك بقوله : { ولكن عذاب الله شديد } راجع إلى قوله : { وما هم بسكارى } كأنه تعليل لإثبات السكر المجازي . كأنه قيل إذا لم يكونوا سكارى من الخمر ، وهو السكر المعهود ، فما هذا السكر الغريب وما سببه ؟ فقال : سببه شدة عذاب الله تعالى . انتهى .

    [ ص: 4323 ] ثم أشير لحال المنكرين للساعة ، بقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [3] ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد .

    { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } أي : يخاصم في شأنه تعالى بغير علم . فيزعم أنه غير قادر على إحياء من قد بلي وصار ترابا ، ونحو ذلك من الأباطيل : { ويتبع } أي : في جداله : { كل شيطان مريد } أي : عات متمرد . كرؤساء الكفر الصادين عن الحق . ثم أشار لوصف آخر لهذا الشيطان المتبع ، بقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [4] كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير .

    { كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } أي : قضى على الشيطان أنه يضل من تولاه بأن اتخذه وليا ، وتبعه ، ولا يهديه إلى الحق ، بل يسوقه إلى عذاب جهنم الموقدة . وسوقه إياه إليه ، بدعائه إلى طاعته ومعصية الرحمن .

    تنبيه :

    قيل : نزلت الآية في النضر بن الحارث ، وكان جدلا .

    قال الزمخشري : وهي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله وما لا يجوز ، من الصفات والأفعال . ولا يرجع إلى علم ، ولا يعض فيه بضرس قاطع . وليس فيه اتباع للبرهان ولا نزول على النصفة فهو يخبط خبط عشواء ، غير فارق بين الحق والباطل . انتهى .
    ثم بين تعالى الحجة القاطعة لما يجادلون فيه ، بقوله :

    [ ص: 4324 ] القول في تأويل قوله تعالى :

    [5] يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنـزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج .

    يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث أي : من إمكانه وكونه مقدورا له تعالى . أو من وقوعه : فإنا خلقناكم من تراب أي : خلقنا أول آبائكم ، أو أول موادكم ، وهو المني ، من تراب . إذ خلق من أغذية متولدة منه . وغاية أمر البعث أنه خلق من التراب : ثم من نطفة أي : تولدت من الأغذية الترابية : ثم من علقة أي : قطعة من الدم جامدة : ثم من مضغة أي : قطعة من اللحم بقدر ما يمضغ : مخلقة وغير مخلقة أي مصورة وغير مصورة والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء . ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا : لنبين لكم أي : بهذا التدريج ، قدرتنا وحكمتنا ، وأن ما قبل التغير والفساد والتكون مرة ، قبلها أخرى . وأن من قدر على تغييره وتصويره أولا ، قدر على ذلك ثانيا ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى وهو وقت الوضع .

    قال أبو السعود : استئناف مسوق لبيان حالهم ، بعد تمام خلقهم . وعدم نظم هذا وما عطف عليه في سلك الخلق المعلل بالتبيين ، مع كونهما من متمماته ، ومن مبادئ التبيين أيضا . لما أن دلالة الأول على كمال قدرته تعالى على جميع المقدورات ، التي من جملتها البعث [ ص: 4325 ] المبحوث عنه ، أجلى وأظهر . أي : ونحن نقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها إلى أجل مسمى .

    ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم أي : كمال قوتكم وعقلكم . قال أبو السعود علة لـ : { نخرجكم } معطوفة على علة أخرى مناصبة لها . كأنه قيل : ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا . ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والتمييز : ومنكم من يتوفى أي : بعد بلوغ الأشد أو قبله : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وهو الهرم والخرف . والأرذل الأردأ : لكيلا يعلم من بعد علم شيئا أي : من بعد علم كثير ، شيئا من الأشياء ، أو شيئا من العلم ، مبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله واللام لام العاقبة .

    قال البيضاوي : والآية - يعني : ثم نخرجكم إلخ - استدلال ثان على إمكان البعث ، بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة . فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره .

    ثم أشار تعالى إلى حجة أخرى على صحة البعث ، بقوله : وترى الأرض هامدة أي : ميتة يابسة : فإذا أنـزلنا عليها الماء أي : المطر : اهتزت أي : تحركت بالنبات : وربت أي : انتفخت وعلت ، لما يتداخلها من الماء ويعلو من نباتها : وأنبتت من كل زوج أي : صنف : بهيج أي : حسن رائق يسر ناظره وهذه الحجة الثالثة ، لظهورها وكونها مشاهدة معاينة ، يكررها الله تعالى في كتابه الكريم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [6 - 7] ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور .

    ذلك بأن الله هو الحق أي : ذلك الذي ذكر من خلق الإنسان على أطوار مختلفة ، وتصريفه في أحوال متباينة ، وإحياء الأرض بعد موتها ، حاصل بسبب أن الله هو الحق [ ص: 4326 ] وحده في ذاته وصفاته وأفعاله . المحقق لما سواه من الأشياء ، فهي من آثار ألوهيته وشؤونه الذاتية وحده ; وما سواه مما يبعد باطل ، لا يقدر على شيء من ذلك : وأنه يحيي الموتى أي : يقدر على إحيائها ، إذ أحيا النطفة والأرض الميتة : وأنه على كل شيء قدير فإن القدرة التي جعل بها هذه الأشياء العجيبة ، لا يمتنع عليها شيء : وأن الساعة آتية لا ريب فيها أي : لاقتضاء الحكمة إياها . فهي في وضوح دلائلها التكوينية ، بحيث ليس فيها مظنة أن يرتاب في إتيانها : وأن الله يبعث من في القبور أي : من الأموات ، إحياء إلى موقف الحساب .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [8 - 10] ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد .

    ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير أي : يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بعلم ضروري ولا باستدلال ونظر صحيح ، يهدي إلى المعرفة . ولا بوحي مظهر للحق . أي : بل بمجرد الرأي والهوى ، وهذه الآية في حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر المقلدين - بفتح اللام - كما أن ما قبلها في حال الضلال الجهال المقلدين - بكسر اللام - فلا تكرار أو أنهما في الدعاة المضلين واعتبر تغاير أوصافهم فيها ، فلا تكرار أيضا .

    قال في (" الكشف " ) : والأول أظهر وأوفق بالمقام . وكذا اختاره أبو مسلم فيما نقله عنه الرازي ، ثم قال : فإن قيل كيف يصح ما قلتم ، والمقلد لا يكون مجادلا ؟ قلنا : قد يجادل تصويبا لتقليده وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها ، وإن كان معتمده الأصلي هو التقليد .

    [ ص: 4327 ] وقوله : ثاني عطفه حال من فاعل (يجادل ) أي : عاطفا لجانبه إعراضا واستكبارا عن الحق ، إذا دعي إليه .

    قال الزمخشري : ثني العطف عبارة عن الكبر والخيلاء . كتصعير الخد ولي الجيد . وقوله : ليضل عن سبيل الله أي : ليصد عن دينه وشرعه ، متعلق بـ(يجادل ) علة له : له في الدنيا خزي أي : إهانة ومذلة ، كما أصابه يوم بدر من الصغار والفشل : ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق أي : النار المحرقة : ذلك بما قدمت يداك على الالتفات ، أو إرادة القول . أي : يقال له يوم القيامة : ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والضلال والإضلال . وإسناده إلى يديه ، لما أن الاكتساب عادة يكون بالأيدي وأن الله ليس بظلام للعبيد أي : بل هو العدل في معاقبة الفجار ، وإثابة الصالحين .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [11] ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين .

    ومن الناس من يعبد الله على حرف شروع في حال المذبذبين ، إثر بيان حال المهاجرين . أي : ومنهم من يعبده تعالى على طرف من الدين ، لا في وسطه وقلبه . وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم ، لا على سكون وطمأنينة . كالذي ينحرف إلى طرف الجيش . فإن أحس بظفر وغنيمة قر وإلا فر : فإن أصابه خير أي : دنيوي من صحة وسعة : اطمأن به أي : ثبت على ما كان عليه ظاهرا : وإن أصابته فتنة أي : ما يفتتن به من مكروه ينزل به : انقلب على وجهه أي : رجع إلى ما كان عليه من الكفر : خسر أي : بهذا الانقلاب : الدنيا والآخرة أي : ضيعهما بذهاب عصمته ، وحبوط عمله ، بالارتداد : ذلك هو الخسران المبين أي : الواضح الذي لا يخفى على ذي بصيرة .

    [ ص: 4328 ] تنبيه :

    قال ابن جرير : يعني جل ذكره بقوله : ومن الناس إلخ أعرابا كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مهاجرين من باديتهم . فإن نالوا رخاء ، من عيش بعد الهجرة ، والدخول في الإسلام ، أقاموا على الإسلام . وإلا ارتدوا على أعقابهم . وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل . ثم أسنده من طرق .

    وهذا مما يؤيد أن السورة مدنية كما قاله جمع . وتقدم ذلك . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [12] يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد .

    يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه أي : حال ثابتة من فاعل (انقلب ) والأولى (خسر ) ولذلك قرئ (خاسر ) أي : ارتد عن دين الله يدعو من دونه آلهة لا تضره ، إن لم يعبدها في الدنيا ، ولا تنفعه في الآخرة إن عبدها - وقال أبو السعود : (يدعو ) استئناف مبين لعظيم الخسران : ذلك هو الضلال البعيد أي : عن الحق والهدى . وقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [13] يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير .

    يدعو أي : هذا المنقلب على وجهه ، إذا أصابته فتنة : لمن ضره أقرب من نفعه أي : وثنا أو صنما ، ضره في الدنيا بالذل والخزي وفي الآخرة بالعذاب ، أسرع إليه من نفعه الذي يتوقعه بعبادته ، وهو الشفاعة والتوسل به إلى الله تعالى . فاللام زائدة في المفعول به ، [ ص: 4329 ] وهو (من ) كما زيدت في قوله تعالى : ردف لكم في وجه . وذكر أن ابن مسعود كان يقرؤه : { يدعو من ضره } بغير لام . وهي مؤيدة للزيادة . و(ضره ) مبتدأ ، وأقرب خبر . وفي الآية وجوه كثيرة هذا أظهرها . وإثبات الضرر له هنا ، باعتبار معبوديته . ونفيه قبل باعتبار نفسه . والآية بمثابة الاستدراك أو الإضراب عما قبلها ، بإثبات ضر محقق لاحق لعابده ، تسفيها وتجهيلا لاعتقاده فيه أنه يستنفع به حين يستشفع به وإيراد صيغة التفضيل ، مع خلوه عن النفع بالمرة ، للمبالغة في تقبيح حاله ، والإمعان في ذمه : لبئس المولى أي : الناصر له : ولبئس العشير أي : المصاحب له .

    ولما بين سوء حال الكفرة من المجاهرين والمذبذبين ، أعقبه بكمال حسن حال المؤمنين ، بقوله تعالى :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [14] إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد .

    إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن الله يفعل ما يريد أي : من الأفعال المبنية على الحكمة ، التي من جملتها إثابة من أطاعه وتعذيب من عصاه .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [15] من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ .

    من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء [ ص: 4330 ] أي : بحبل إلى ما يعلوه : ثم ليقطع أي : ليختنق : فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ أي : غيظه . والمعنى من استبطأ نصر الله وطلبه عاجلا ، فليقتل نفسه . لأن له وقتا لا يقع إلا فيه . فالآية في قوم من المسلمين استبطؤوا نصر الله ، لاستعجالهم وشدة غيظهم ، وحنقهم على المشركين . وجوز أن تكون في قوم من المشركين ، والضمير في (ينصره ) للنبي صلى الله عليه وسلم . والمعنى : من كان منهم يظن أن لن ينصر الله نبيه ، فليختنق وليهلك نفسه ، ثم لينظر في نفسه ، هل يذهبن احتياله هذا في المضارة والمضادة ، ما يغيظه من النصرة ؟ كلا . فإن الله ناصر رسوله لا محالة . قال تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [16 - 17] وكذلك أنـزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد .

    وكذلك أنـزلناه أي : القرآن الكريم : آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة ، أنه يقضي بينهم في الآخرة بالعدل . فيدخل من آمن منهم به وعمل صالحا ، الجنة . ومن كفر به ، النار . فإنه تعالى شهيد على أفعالهم ، حفيظ لأقوالهم ، عليم بسرائرهم وما تكنه ضمائرهم . وتقدم في سورة البقرة التعريف بـ(الصابئين ) والمراد بـ(الذين ) أشركوا [ ص: 4331 ] كفار العرب خاصة . لأن المشركين في إطلاق التنزيل ، بمثابة العلم لهم .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [18] ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء .

    ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس بيان لعظمته تعالى وانفراده بألوهيته وربوبيته . بانقياد هذه العوالم العظمى له ، وجريها على وفق أمره وتدبيره . فالسجود فيها مستعار من معناه المتعارف ، لمطاوعة الأشياء له تعالى ، فيما يحدث فيها من أفعاله ، يجريها عليه من تدبيره وتسخيره لها . ووجه الشبه الحصول على وفق الإرادة من غير امتناع منها فيهما . وقوله : وكثير من الناس إما معطوف على ما قبله ، إن جوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا ، فيكون السجود في الجمادات الانقياد ، وفي العقلاء العبادة . أو مبتدأ خبره محذوف . أو فاعل لمضمر ، إن لم يجوز ذلك . وقوله تعالى :

    وكثير حق عليه العذاب أي : من الناس . أي : بكفره واستعصائه : ومن يهن الله أي : بأن كتب عليه الشقاوة حسبما علمه من صرف اختياره إلى الشر : فما له من مكرم أي : يكرمه بالسعادة : إن الله يفعل ما يشاء
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [19] هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم .

    هذان خصمان اختصموا في ربهم يعني فريق المؤمنين وفريق الكافرين المنقسم [ ص: 4332 ] إلى الفرق الخمس المبينة في الآية قبل . و(الخصم ) في الأصل مصدر . ولذا يوحد وينكر غالبا . ويستوي فيه الواحد المذكر وغيره ومعنى اختصموا في ربهم أي : في دينه وعبادته . والاختصام يشمل ما وقع أحيانا من التحاور الحقيقي بين أهل الأديان المذكورة ، والمعنوي . فإن اعتقاد كل من الفريقين بحقية ما هو عليه ، وبطلان ما عليه صاحبه ، وبناء أقواله وأفعاله عليه ، خصومة للفريقين الآخر . وإن لم يجز بينهما التحاور والخصام . ثم أشار إلى فصل خصومتهم المذكور في قوله تعالى : إن الله يفصل بينهم يوم القيامة بقوله سبحانه : فالذين كفروا قطعت أي : قدرت : لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم أي : الماء الحار .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [20 - 24] يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد .

    يصهر أي : يذاب : به ما في بطونهم أي : من الأمعاء والأحشاء : والجلود ولهم مقامع أي : سياط يضربون بها : { من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم [ ص: 4333 ] فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول } كما قال تعالى : تحيتهم فيها سلام وقولهم : الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء وهدوا إلى صراط الحميد أي : المحمود ، وهو الجنة . أو الحق تعالى ، المستحق لغاية الحمد .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [25] إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم .

    إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام أي : مكة : الذي جعلناه للناس سواء العاكف أي : المقيم : فيه والباد أي : الطارئ : ومن يرد فيه بإلحاد أي : بميل عن القصد : بظلم أي : بغير حق : نذقه من عذاب أليم أي : جزاء على هتكه حرمته . ويشمل الإلحاد الإشراك ومنع الناس من عمارته ، واقتراف الآثام . وتدل الآية على أن الواجب على من كان فيه ، أن يضبط نفسه ، ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهم به ويقصده . وقد ذهب بعض السلف إلى أن السيئة في الحرم أعظم منها في غيره ، وأنها تضاعف فيه ، وإن هم بها فيه أخذ بها . ومفعول (يرد ) إما محذوف ، أي : يرد شيئا أو مرادا ما ، والباء للملابسة . أو هي زائدة و (إلحادا ) مفعوله . أو للتعدية لتضمينه معنى (يلتبس ) . و(بظلم ) حال مرادفة . أو بدل مما قبله ، بإعادة الجار . أو صلة له . أي : ملحدا بسبب الظلم . وعلى كل ، فهو مؤكد لما قبله . ومن قوله : نذقه إلخ يؤخذ خبر إن ويكون مقدرا بعد قوله : والباد مدلولا عليه بآخر الآية ، كما ارتضى ذلك أبو حيان في (" البحر " ) . [ ص: 4334 ] ثم أشار تعالى إلى تقريع وتوبيخ من عبد غيره وأشرك به في البقعة المباركة ، التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، بقوله سبحانه :
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [26] وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود .

    وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أي : واذكر إذ عيناه وجعلناه له مباءة ، أي : منزلا ومرجعا لعبادته تعالى وحده فـ(أن ) في قوله تعالى : أن لا تشرك بي شيئا مفسرة لـ : بوأنا من حيث إنه متضمن لمعنى (تعبدنا ) لأن التبوئة للعبادة . أي : فعلنا ذلك لئلا تشرك بي شيئا : وطهر بيتي أي : من الأصنام والأوثان والأقذار : للطائفين والقائمين والركع السجود أي : لمن يطوف به ويقيم ويصلي . أو المراد بالقائمين وما بعده : (المصلين ) ، ويكون عبر عن الصلاة بأركانها ، للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك ، فكيف وقد اجتمعت ؟ .
    القول في تأويل قوله تعالى :

    [27 - 28] وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير .

    وأذن في الناس بالحج أي : ناد فيهم به ، قال الزمخشري : والنداء بالحج أن يقول : حجوا ، أو عليكم بالحج : يأتوك رجالا أي : مشاة ، جمع (راجل ) : وعلى كل ضامر [ ص: 4335 ] أي : ركبانا على كل بعير مهزول ، أتعبه بعد الشقة فهزله . والعدول عن ركبانا الأخصر ، للدلالة على كثرة الآتين من الأماكن البعيدة ، وقوله تعالى : { يأتون } صفة لكل ضامر ، لأنه في معنى الجمع . وقرئ يأتون صفة للرجال والركبان . أو استئناف ، فيكون الضمير للناس : من كل فج عميق أي : طريق واسع بعيد : ليشهدوا منافع لهم أي : ليحضروا منافع لهم دينية ودنيوية : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام أي : على ما ملكهم منها ، وذللها لهم ، ليجعلوها هديا وضحايا . قال الزمخشري : كنى عن النحر والذبح ، بذكر اسم الله . لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا أو ذبحوا . وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله أن يذكر اسمه - زاد الرازي - وأن يخالف المشركون في ذلك . فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان ، قال القفال : وكأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها . فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته ، طلبا لمرضاة الله تعالى ، واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته . والأيام المعلومات أيام العشر . أو يوم النحر وثلاثة أيام أو يومان بعده . أو يوم عرفة والنحر ويوم بعده . أقوال للأئمة .

    قال ابن كثير : ويعضد الثاني والثالث قوله تعالى : على ما رزقهم من بهيمة الأنعام يعني به ذكر الله عند ذبحها . انتهى .

    أقول : لا يبعد أن تكون (على ) تعليلية ، والمعنى : ليذكروا اسم الله وحده في تلك الأيام بحمده وشكره وتسبيحه ، لأجل ما رزقهم من تلك البهم . فإنه هو الرزاق لها وحده والمتفضل عليهم بها : ولو شاء لحظرها عليهم ولجعلها أوابد متوحشة . وقد امتن عليهم بها في غير موضع من تنزيله الكريم . كقوله سبحانه : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •