آية من المشكل الإعرابي في القرآن الكريم
) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا- الانبياء 22 (

المشكل :
نال القرآن الكريم من عناية الباحثين والدارسين ما لم ينله أي كتاب آخر فظهرت الكثير من المؤلفات ومن هذه المؤلفات كتب إعراب القرآن كإعراب القرآن للنحاس والتبيان للعكبري وغيرهما من الكتب ذلك أنه أفضل علم تصرف إليه الهمم وتتعب فيه الخواطر ويسارع إليه ذوو العقول السليمة .
ثم ظهر نوع مختص ضمن هذه المؤلفات وهو المختص بالآيات التي حصل فيها خلاف في إعرابها وسميت بالمشكلة الإعراب ولعل أهم كتاب في هذا الفن هو كتاب مشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب القيسي الذي كتب له مقدمة ألمح إلى أن دراسة كتاب الله من أجل العلوم ثم عرج على ذكر الإعراب وما ألف فيه لكنه انعطف كثيراً والتوى بعيداً عن مقصده عندما عاب على مؤلفي كتب إعراب القرآن في ذكرهم لحروف الخفض والنصب وبيان المبتدأ من الخبر مما هو ظاهر لا يحتاج إلى فضل وبيان ( 1 ).
وأراد أن يبين أهمية كتابه وذلك بأن التأليف يجب أن يكون في مشكله لا واضحه بقوله: (( وأغفل كثيراً مما يحتاج ألى معرفته من المشكلات فقصدت إلى تفسير مشكل الإعراب وذكر علله وصعبه ونادره ... فليس في كتاب الله عزوجل إعراب مشكل إلا وهو منصوص أو قياسه موجود )) ( 2 ) .
والرأي أن لا أحد ينكر وجود آيات مشكلة الإعراب في كتاب الله تعالى إلا أن الإعراب مطلوب الواضح منه والمشكل وقد بدأه مكي القيسي بالبسملة وختمه بسورة الناس .

آية من المشكل :
من الآيات المحوجة إلى فضل تمحيص ودراسة وهي من المشكل الإعرابي قوله تعالى : )لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا- الانبياء 22( وهذه الآية من ركائز العقيدة الإسلامية القائمة على التوحيد المتوافق مع سلامة العقل البشري من الآفات والتحير والضلال وجاءت بأسلوب منعت فيه أن تتعدد الآلهة فبتعددها يحصل الفساد بقوله ( لفسدتا ) قال أبو السعود:(( لفسدتا أي لبطلتا بما فيهما جميعاً وحيث انتفى التالي علم انتفاء المقدم قطعاً )) ( 3 ) .
الفسادُ نقيض الصلاح فَسَدَ يَفْسُدُ ويَفْسِدُ وفَسُدَ فَساداً وفُسُوداً فهو فاسدٌ وفَسِيدٌ فيهما ولا يقال انْفَسَد وأَفْسَدْتُه أَنا وقوله تعالى ويَسْعَوْنَ في الأَرض فساداً نصب فساداً لأَنه مفعول له أَراد يَسْعَوْن في الأَرض للفساد وقوم فَسْدَى كما قالوا ساقِطٌ وسَقْطَى قال سيبويه جمعوه جمع هَلْكى ( 4 ).
تصدرت الآية بالحرف الشرطي غير الجازم ( لو ) وهي من الأدوات التي يمتنع بها الشيء لامتناع غيره كقولنا ( لو جاء زيد لأكرمته ) ومعناه امتنع الإكرام لامتناع المجيء ( 5 ).
وفي هذه الآية امتنع فساد السموات والأرض لامتناع تعدد الآلهة واختلافهم ( 6 ).
( لو ) هذه لها عدة معان ٍغير الامتناع فتأتي شرطية غير امتناعية كقوله تعالى : )وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ – الأنفال 23 ( فهنا لا يصح الامتناع وآية ذلك أنه ليس بسديد أن يقال امتنع التولي لامتناع الإسماع لأنهم قد تولوا على كل حال أسمعهم أم لم يفعل ( 7 ).
وقد تأتي للتمني ( 8 ) نحو قوله تعالى : )وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا – البقرة 167 ( وقد تأتي بمعنى ( إن ) كقوله تعالى:)وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ – يوسف 17 ( وقد تكون للتقليل نحو:(تصدقوا ولو بظلف محرق) ( 9 ).

التحليل الإعرابي :
لو أجرينا التحليل الأعرابي لقوله تعالى: : )لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا- الأنبياء 22( وفق الألفاظ الواردة في الآية لتبين أمر المشكل الإعرابي فيها جلياً وقد ذكرنا ما تصدرت به الآية وهو ( لو ) .
( كان ) فعل ماض ناقص مبني على الفتح .
( فيهما ) جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر تقديره كائناً بالنصب
الظاهري أو استقر بالنصب المحلي لأنه خبر كان مقدم وخبرها
منصوب كما هو معلوم .
( آلهة ) اسم كان مؤخر مرفوع بضمة ظاهرة .
( إلا ) صفة بمعنى غير وقد (( وصفت آلهة بإلا كما توصف بغير لو قيل آلهة غير الله )) ( 10 ) ثم إنه منع أن ترفع على البدلية لأن البدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب كقوله تعالى : )وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ- هود 81( ( 11 ) والمقصود على قراءة الرفع لتصح البدلية .
ويرى الزركشي أن ( إلا ) هنا (( بمعنى غير إذا كانت صفة ويعرب الاسم بعد إلا إعراب غير ... وليست هنا للاستثناء وإلا لكان التقدير لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا وهو باطل )) ( 12 ).
وذكر رأياً آخر وهو جعل إلا بمعنى البدل وقال إنه رأي ابن الضائع في هذه الآية : )لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا- الأنبياء 22( أي بدل الله ثم نقل رأي ابن مالك بأن (إلا) هنا صفة للتأكيد لا للتخصيص وآية ذلك أنك لو حذفتها صح الكلام فيكون( لو كان فيها آلهة لفسدتا ) لأن الفساد مرتب على تعدد الآلهة ( 13 ). ويقول العكبري في ذلك:( قوله تعالى إلا الله الرفع على أن إلا صفة بمعنى غير ولا يجوز أن يكون بدلاً لأن المعنى يصير إلى قولك لو كان فيهما الله لفسدتا ) ( 14 ) ولا شك أن المعنى فاسد ولا يقره ذو عقل سليم وهذه البدلية منعها أيضاً ابن الأنباري في إنصافه ( لأن البدل يوجب إسقاط الأول ولا يجوز أن تكون آلهة في حكم الساقط لأنك لو أسقطته لكان بمنزلة لو كان فيها إلا الله وذلك لا يجوز ألا ترى أنك لا تقول جاءني إلا زيد ) ( 15 ).
ورد ابن هشام البدلية على من قال بها وهو المبرد في أن اسم الجلالة بدل من آلهة وأنه لا يجوز ( 16 ) .
هذه طائفة من الآراء حول هذه المسألة وهناك غير ذلك وحسبنا هذه ففيها غنية لمن أراد التحقق منها وما لم يذكر فهو يدور في فلك هذه الآراء على أنني وجدت رأياً لعله جدير بأن يقبل ويرتضى وهو القول بحركة العارية أو تحويل حركة الرفع من (غير) إلى ما بعدها لأن (إلا) لا تحتمل حركة الرفع التي يجب أن تكون لذلك يتم نقل ( حركة الرفع من (غير) إلى ما بعد (إلا) لعدم ظهورها على (إلا) على سبيل العارية فيقال (إلا) الله صفة ) ( 17 ).
ولكن يقرب منه رأي صاحب كتاب الواو المزيدة في جعله ( إلا مكان غير كما في قوله تعالى )لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا- الأنبياء 22( لأنه كانت غير مرفوعة فلما وضعت إلا مكانها ولا تصلح للرفع ارتفع ما بعدها على ما كانت غير مرتفعة به وهو النعت )) ( 18 ) ، أما ( لفسدتا ) فاللام هو جواب لو( 19 ) أي جواب للشرط من قبل وجود (لو) .
وكل هذا المذكور بين (إلا) و(غير) يندرج تحت باب تقارض الألفاظ في الأحكام وقد ذكره ابن هشام وتوسع فيه ومنه إعطاء (غير) حكم (إلا) في الاستثناء وإعطاء (إلا) حكم (غير) وصفاً وقد ذكر هذه الآية ( 20 ).
وعند التحقيق نجد أن هذا الأمر قد ذكره سيبويه في كتابه وعقد له باباً سماه ( باب غير ) وقال إن (غير) يكون فيها معنى ( إلا ) وكل موضع جاز فيه الاستثناء بـ(إلا) جاز بـ(غير) وجرى مجرى الاسم الذي بعده ( 21 ).








مسرد الهوامش

( 1 ) ينظر مشكل إعراب القرآن :1/63
( 2 ) مشكل إعراب القرآن: 1/ 64
( 3 ) إرشاد العقل السليم :6/61
( 4 ) ينظر لسان العرب: ( ف س د ) .
( 5 ) ينظر حروف المعاني للزجاجي : 3
( 6 ) ينظر التطبيقات اللغوية : 49
( 7 ) ينظر معاني النحو:4/76
( 8 ) ينظر مغني اللبيب : 1/352
( 9 ) ينظر معاني النحو:4/77- 78
( 10 ) الكشاف: 1/778
( 11 ) ينظر الكشاف : 1/779
( 12 ) البرهان في علوم القرآن :4/239
( 13 ) ينظر البرهان : 4/240
( 14 ) التبيان:2/131 ، وينظر المفصل:99
( 15 ) الإنصاف:272
( 16 ) ينظر مغني اللبيب: 1/969
( 17 ) التطبيقات اللغوية:49
( 18 ) الفصول المفيدة:194
( 19 ) ينظر المفصل:451
( 20 ) ينظر مغني اللبيب:1/915
( 21 ) ينظر سيبويه:2/343
مسرد المصادر والمراجع

- القرآن الكريم برواية حفص .
- إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم . محمد بن محمد العمادي أبو السعود نشر : دار إحياء التراث العربي – بيروت .
- الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين . أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري . نشر : دار الفكر - دمشق
- البرهان في علوم القرآن . محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي أبو عبد الله . تحقيق : محمد أبي الفضل إبراهيم . نشر : دار المعرفة - بيروت 1391.
- التبيان في إعراب القرآن . أبو البقاء محب الدين عبدالله بن الحسين العكبري . تحقيق : علي محمد البجاوي . نشر : إحياء الكتب العربية
- التطبيقات اللغوية . الدكتور علي الطاهر الفاسي . منشورات جامعة الفاتح . طرابلس ليبيا . طبع دار الكتاب الجديد المتحدة – بيروت لبنان 2005 .
- حروف المعاني . أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي . تحقيق : د.علي توفيق الحمد . نشر : مؤ سسة الرسالة - بيروت . الطبعة الأولى ، 1984.
- الفصول المفيدة في الواو المزيدة . صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيلكلدي بن عبدالله العلائي الدمشقي الشافعي . تحقيق : د. حسن موسى الشاعر. نشر : دار البشير – عمان . الطبعة الأولى ، 1990
- كتاب سيبويه . أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر سيبويه . تحقيق: عبد السلام محمد هارون . دار النشر : دار الجيل ـ بيروت
- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل . محمود
بن عمر الزمخشري. ترتيب وضبط وتصحيح : مصطفى حسين أحمد . دار
الكتاب العربي 1947 م .
- لسان العرب . محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري . نشر : دار صادر –
بيروت الطبعة الأولى
- مشكل إعراب القرآن . مكي بن أبي طالب القيسي أبو محمد . تحقيق : د. حاتم صالح الضامن . نشر : مؤسسة الرسالة – بيروت . الطبعة الثانية ، 1405
- معاني النحو. الدكتور فاضل السامرائي . مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر. دار احياء التراث العربي – بيروت . الطبعة الاولى 2007 .
- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب . جمال الدين أبو محمد عبدالله بن يوسف بن هشام الأنصاري . تحقيق : د.مازن المبارك ومحمد علي حمدالله . نشر : دار الفكر - بيروت . الطبعة السادسة ، 1985 .
- المفصل في صنعة الإعراب . أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري. تحقيق : د.علي بو ملحم . نشر : دار ومكتبة الهلال – بيروت .الطبعة الأولى ، 1993

محمد عبد ذياب الهيتي