الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد
فقد سئلت هل يجوز لشخص أن يدخل مطعماً ويدفع مبلغاً من المال وهو لا يدري عن كمية الطعام الذي يأكله؟
فأجبت : بأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر كما رواه مسلم في صحيحه برقم 1513 ولكن هل كل غرر منهي عنه؟جاءت نصوص أخرى تدل على انه يغتفر الغرر اليسير فليس كل غرر محرم كما في بيع الدابة الحامل ولاشك أن الثمن يزيد لأجل الحمل وهو مجهول هل هو ذكر أو أنثى وهل هو واحد أو أكثر وهل تلده حياً أم ميتاً, والدار تباع وأساسها مجهول لا يعرف قوته أو ضعفه لاختفائه في الأرض. وكذلك يجوز بيع النخل ولميبد صلاح ثمره إذا بيع مع الأرضمع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها لأن النهي في حال بيع الثمار فقط دون الأرض, ولذا وضع العلماء لهذه المسائل قاعدة هي : يصح تبعا ما لا يصح استقلالاً, فيغتفر هذا الغرر لكونه تبعا. إذن ينبغي أن يفرق بين الغرر الكثير والغرر اليسير وإذا نظرنا إلى واقع البوفيه المفتوح نجدأن من يدخله يعرف نفسه وكم المقدار الذي يأكله عادة كما أنه يدفع المبلغ ليشبع فهو مقابل الشبع كما أن صاحب البوفيه قد أخذ حسابه عند تقدير المبلغ لمن يأكل كثيرا ولمن يأكل قليلاً فلا يقع الغرر والجهالة المنهية فلم نسمع أن أحداً دخل البوفيه ثم تظلم لأنه لم يأكل بقدر المبلغ الذي دفع ولم نسمع أن صاحب مطعم بوفيه خسر بسبب الغرر وقد نص الفقهاء رحمهم الله على جواز مثل ذلك بل نقل النووي الإجماع على الجواز فقال في شرحه لمسلم "أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير منها : أنهم أجمعوا على صحة بيع الجُبة المحشوة, وإن لم ير حشوها, ولو بيع حشوها بانفراده لم يجز, وأجمعوا على جواز إجارة الدار والدابة والثوب ونحو ذلك شهراً, مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يوماً, وقد يكون تسعة وعشرين, وأجمعوا على جواز دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء, وفي قدر مُكثهم وأجمعوا على جواز الشرب من السقاء بالعوض, مع جهالة قدر المشروب واختلاف عادة الشّاربين وعكس هذا" ج9 ص 155
ولما تكلم ابن القيم عن الغرر اليسير المغتفر قال" وكذا دخول الحمام وكذا الشرب من فم السقا فإنه غير مقدر مع اختلاف الناس في قدره" ثم قال" فليس كل غرر سببا للتحريم والغرر إذا كان يسيرا أو لا يمكن الاحتراز منه لم يكن مانعا من صحة العقد فإن الغرر الحاصل في أساسات الجدران وداخل بطون الحيوان أو آخر الثمار التي بدا صلاح بعضها دون بعض لا يمكن الاحتراز منه والغرر الذي في دخول الحمام والشرب من السقا ونحوه غرر يسير فهذان النوعان لا يمنعان البيع" زاد المعاد ج5 ص 820-821
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله "هناك محلات تبيع الأطعمة تقول إدفع عشرة حتى الشبع؟ الجواب الظاهر أن هذا يتسامح فيه لأن الوجبة معروفة وهذا يتسامح فيه عادة والإنسان إذا عرف من نفسه أنه أكول فيجب أن يشترط على صاحب المطعم فالناس يختلفون" الشرح الممتع ج4 ص 322
قلت وليس هذا بشرط لما ذكرته من التعليل.
وقد أجاز الفقهاء الإجارة والأجرة للأجير والظئر- أي المرضعة- طعام بطنهما مع أن الناس يختلفون في قدر الأكل فمنهم الأكول ومنهم قليل الأكل قال في زاد المستقنع وشرحه الروض المربع مع حاشية ابن قاسم" وتصح الإجارة في الأجير والظئر بطعامهما وكسوتهما روي عن أبي بكر وعمر وأبي موسى في الأجير وأما الظئر فلقوله تعالى ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)" ج5 ص 299-300
قال في الإنصاف" وهذا المذهب مطلقاً وعليه جماهير الأصحاب"ج14 ص277
وقال في المغني " وهو مذهب مالك وإسحاق لما روى ابن ماجة عن عتبة بن الندَّر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ (طسم) حتى بلغ قصة موسى قال: "إن موسى آجر نفسه ثماني سنين أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه" وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال :كنت أجيرا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي احطب لهم إذا نزلوا و أحدوا بهم إذا ركبوا أخرجه ابن ماجة ولأن من ذكرنا من الصحابة وغيرهم فعلوه فلم يظهر له نكير فكان إجماعا ولأنه قد ثبت في الظئر بالآية فيثبت في غيرها بالقياس عليها" ا .هـ بتصرف ج8 ص 68-69
وبما أن الإجارة لا تصح إلا مع تحديد الأجرة ومع هذا جوزوا أن تكون بطعام بطن الأجير فهو نظير من يدخل البوفيه فيدفع المبلغ مقابل طعام بطنه سواء بسواء فالأمر واضح وجلي ومن خالف هذا الحكم فهو مخالف للإجماع الذي نقله الإمام النووي ولا نعلم أحداً من أهل العلم في السابق قال بخلاف ذلك والله أعلم.

أملاه الفقير إلى ربه المنان
عبدالمحسن بن ناصر آل عبيكان