مقال جديد للأخ الفاضل أحمد العساف
درر وفرائد في ميراث الصَّمت والملَكُوت
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الأثنين 25 من شهرِ شوال عام 1431
الثلاثاء 05, أكتوبر 2010
ahmadalassaf@gmail.com
لجينيات ـ وصلتني عبر الجوال رسالة من صديقي الأثير الصَّيدلي خالد المدني-رعاه الله- تروي نقلاً فخماً عن كتاب "ميراث الصَّمت والملكوت"؛ فحفزتني الرِّسالة للبحث عن الكتاب؛ فوجدته في إحدى المكتبات التِّجارية العامرة بعد أن نفد غير مرَّة، وحين رأيت اسم المؤلف تذَّكرت أنَّ مكتبتي تحوي كتاباً آخر للمؤلف عنوانه"الهادي والهاذي".
والكتاب من تأليف الشَّيخ عبد الله بن عبد العزيز الهدلق، ويقع في (182) صفحة من القطع المتوسط، وبين يدي طبعته الأولى عام (1431) بدون ناشر. ويبدأ هذا الكتاب النَّفيس بمقدِّمة حافلة، ثم أربع عشرة مقالة زاخرة بالدُّرر، فقصَّة قصيرة، ثمَّ حوار ماتع عن القراءة. وقد كتب المؤلف بعض هذه المقالات عفو الخاطر؛ وكدَّ ذهنه في بعضها الآخر، ونشرها خلال سبعة عشر عاماً في سبع مطبوعات. وأسمى مقاصده من نشرها "أن أكشف لكثير من القراء عمّا لمنهجِ التفكير، والتنوُّعِ المعرفيّ، والبيان الوضيء؛ من أثرٍ بالغٍ على بنيةِ العقل، ونوعِ الخطاب". وقد انقطع المؤلف للقراءة باحثاً عن "بهجة الإصابة بالدّهْشة" من خلال قراءة الكتب التي قلَّما يُشار إليها، والنَّظر في عقول مؤلفين لا يعرفهم عامَّة النَّاس.
ويظهر من ثاني مقالة افتتان الكاتب بشخصية الإمام ابن تيميَّة- قدَّس الله روحه-، وقد كتب إحدى عشرة فقرة بديعة متأملاً بها شيخ الإسلام، وحياته وتراثه، وما قيل عنه، وما تميَّز به علم هذا الرَّجل الموسوعي من مرجعية وبقاء. وكم تمنّى المؤلف لو أنَّ سيد قطب وعبد الوهاب المسيري رحمهما الله- قد عرفا تراث ابن تيميَّة وأفادا منه. وقد لفت الأنظار إلى أهمية دراسة هذا العَلَم من جميع جوانب شخصيته، مع الإحاطة بأحوال عصره.
وفي مقالة بعنوان: "بئس هذا الناس" ذكر الكاتب أنَّ قلمه لا يكون في أحسن حالاته إلاَّ إذا ساءت نفسه! وأخبرنا أنَّه حبس نفسه في داره عدَّة سنوات؛ وقرأ في اليوم والليلة أكثر من ثلاث عشرة ساعة، واعتنى بفنِّ التَّراجم الذَّاتية حتى نفض المكتبات العامَّة والتِّجارية نفضاً، وطالع كلَّ سيرة ذاتية لها شأن، ونقل عدداً من الفوائد الماتعة والمدهشة منها، وكان ينوي إصدار كتاب يبهر القارئ ويفيده عمَّا انتخبه من كتب التَّراجم الذَّاتية؛ ولكنَّه انصرف عن هذا المشروع لأسباب سردها، وليت أنَّ أبا أحمد ينعم النَّظر فيها كرَّة أخرى؛ لنحوز بهجة الإصابة بالدَّهشة!
ثم سرد عشرين فائدة عالية من مجالس الشَّيخ العلاّمة بكر أبو زيد -رحمه الله-، وسطَّر مقالة عن ابن دقيق العيد وعبد الوهاب المسيري وكافكا وبسمارك ويوسف أفندي الرَّجل والفاكهة! ثم خواطر عن كتابات أبي عبد الرحمن بن عقيل، ومقالة عن الشُّعور بالنَّقص الحضاري، فمقالة عن ألمانيا وهتلر؛ ومفاضلة في مجلس أدبي بين مي زيادة وماري عجمي! وخاطرات عن الطَّوابير الأمثال، ومن درره مقالة عن إبداع الحضارة الإسلامية في التَّأليف، ولدى الكاتب قدر مجموع من هذا الإبداع حقُّه أن يفرد في كتاب، وعساه أن ينشط للإفراد بعد أن تمتَّع بهذا القدر؛ حتى لا يكون مصيره القران مع منتخب التَّراجم الذَّاتية!
وللمؤلف علاقة خاصَّة بالشَّيخ العلاّمة حمد الجاسر -رحمه الله-، فقد جاوره وجالسه، وكتب مقالة تصف الحزن لفراق شيخه، وأتبعها بثانية فيها من فرائد مجالس علاَّمة الجزيرة، وخبر الجاسر عند الهدلق لا يستوفيه مجلدان كبيران، ويصدُّه عن إخراجه خشية أن يوصم باللؤم! وحكاية "اللؤم" هذه تجدونها في المقالة. ومن العبرة ما نقله المؤلف عن الشَّيخ الجاسر من النَّدم على تضييع فرصة تعلُّم اللغة الإنجليزية؛ وهو يشاركة ذات النَّدم.
وفي المقالة ما قبل الأخير قصة أليمة عن العلاَّمة المحقق محمد أبو الفضل إبراهيم -رحمه الله- وجاره مغني المونولوج "شكوكو"، وأكثر إيلاماً منها خبر ضياع كلب "شكوكو"! وإلى الله المشتكى. ثم خاطرة عن الإبداع، فقصَّة قصيرة عن كهربائي مثَّقَّف وطبيب عاجز! وختم الكتاب بحوار عن القراءة، وقد اعترف المؤلف باستعارته كتباً من مكتبة مدرسته الابتدائية ولم يرجعها؛ ولن يرجعها للوزارة إلا بحكم قضائي! كما ذكر أنَّه جمع بعض تعليقات أحمد خيري على كتبه التي قرأها، وهي تعليقات عالية كما يصفها الكاتب -وحسبك به-، وغاية الجمع النَّشر وآمل ألاَّ يطول بنا الانتظار؛ وألاَّ يكون مصيرها الإرجاء كالتَّراجم الذَّاتية وإبداعات الحضارة الإسلامية في التَّأليف! ويحوي الميراث الجميل للصَّمت بين دفتيه عناوين كتب كثيرة أطراها المؤلف وأثنى عليها؛ وكلُّ الصَّيد في جوف الفرا.
إنَّ شغف الشَّيخ المثَّقَّف الهدلق بالقراءة لأمر جدير بالاقتداء، لأنَّنا نحتاج جيلاً مؤمناً مثَّقَّفاً؛ يعرف لغة مخالفيه وطرائق تفكيرهم حتى يحسن التواصل معهم وإقناعهم بما لديه من خير وحكمة وعاها من تراثه الأصيل السَّامي، وما أحسن قولة المؤلف: "لم أُحبَّ أن يذلّني أحدٌ- أنا السلفيّ-إذلالاً معرفيا"، وقد أجهد عينه بالقراءه، وأفنى جيبه بشراء الكتب لتحقيق هذه الغاية، وأعمل ذهنه لتكون سلفيته التي يفاخر بها سلفية متجدِّدة كما كتب في أول مقالة له من هذا الكتاب الرائع، وهي دعوة مَنْ أخذ الكتاب بقوة فلم يتراخ أو يخنع أو يتميَّع. وما أولى شبابنا الصَّالح المجتهد بقراءة هذا الكتاب، والاستفادة من صوابه الكثير، وانتهاج طريقة مماثلة لطريقة المؤلف في الانكباب على القراءة؛ وإعادة تذَّوق طعم الحياة.
http://lojainiat.com/index.cfm?do=cm...ontentid=47262