هذه القواعد التي قمت بجردها من تفسير "التحرير والتنوير" والمتعلقة بالنسخ، فإني لن أقوم بدراستها؛ بل سأكتفي بإعطاء المعنى العام لها، مع مثال تطبيقي. وهي كما يلي:
1 ــ القاعدة: العام المتأخر عن العمل ينسخ الخاص.
ــ المعنى الإجمالي للقاعدة.
إن من القواعد المختلف فيها بين العلماء قاعدة هل العام ينسخ الخاص؟ دون تقييده بأنه متأخر عن العمل، حيث ذهب الأحناف إلى القول بالجواز، بناء على أصلهم في أن العام قطعي الدلالة، بينما الجمهور قالوا بالمنع؛ لأن العام عندهم ظني الدلالة، والظني لا ينسخ القطعي. أما هذه القاعدة التي ذكرها ابن عاشور فإنه قال عقبها:" اتفاقا." أي اتفق على أن العام إذا تأخر عن العمل بالخاص؛ فإنه ينسخه. ولقد ذكر صيغة أخرى لهذه القاعدة قريبة منها وهي:"العام المتأخر عن العمل بالخاص ناسخ." وهذه أوضح وأبين.
ــ مثال تطبيقي لهذه القاعدة:
يقول الإمام ابن عاشور:"واختلفوا في دلالتها( أي: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام} )على جواز قتل الكافر المحارب؛ إذا لجأ إلى الحرم بدون أن يكون قتال، وكذا الجاني إذا لجأ إلى الحرم فارا من القصاص والعقوبة فقال مالك: بجواز ذلك واحتج على ذلك بأن قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة:5] الآية قد نسخ هاته الآية وهو قول قتادة ومقاتل بناء على تأخر نزولها عن وقت العمل بهذه الآية والعام المتأخر عن العمل ينسخ الخاص اتفاقا."
2 ــ القاعدة: فمهما لم يقع عمل بالعموم، فالتخصيص ليس بنسخ.
أ ــ المعنى الإجمالي للقاعدة.
هذه القاعدة عكس القاعدة السابقة، فهي تعني أن المخصص لا يكون نسخا؛ إلا إذا عمل بالعام، أما عند انعدام العمل به فلا يجوز القول بأن التخصيص نسخ، بناء على ما ذهب إليه الشيخ ابن عاشور، في تقعيده لهذه القاعدة. وفي موضع آخر يجمع بين التخصيص والتقييد قائلا:" التخصيص بعد العمل بالعام، والتقييد بعد العمل بالمطلق كلاهما نسخ."هذا وقد ذهب الحنفية إلى أن التخصيص بالمخصص المنفصل نسخ مطلقا. وهذه المسألة أيضا قد اختلف فيها بين العلماء.
ب ــ مثال تطبيقي للقاعدة.
يقول الإمام ابن عاشور رحمه الله تعالى:" وقد اتفق علماء الإسلام على أن الوصية لا تكون لوارث لما رواه أصحاب "السنن" عن عمر بن خارجة وما رواه أبو داود والترمذي عن أبي أمامة كلاهما يقول: سمعت النبي قال: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث" وذلك في حجة الوداع، فخص بذلك عموم الوالدين وعموم الأقربين وهذا التخصيص نسخ، لأنه وقع بعد العمل بالعام وهو وإن كان خبر أحاد فقد اعتبر من قبيل المتواتر، لأنه سمعه الكافة وتلقاه علماء الأمة بالقبول."
3 ــ القاعدة: الوجوب إذا نسخ بقي الندب.
أ ــ المعنى الإجمالي للقاعدة.
هذه القاعدة تعني أن الحكم إذا كان واجبا؛ فإن النسخ يصرفه عن ذلك الوجوب إلى الندب، وهذا ليس متفقا عليه؛ بل هناك من يرى أن النسخ يقلب الواجب ممنوعا، وهناك من يرى أن الأمر يرجع إلى ما كان عليه قبل النسخ. يقول الإمام الغزالي:" الحق أنه إذا نسخ (أي: الوجوب) رجع الأمر إلى ما كان قبل الوجوب من تحريم أو إباحة وصار الوجوب بالنسخ كأن لم يكن." وهذه القاعدة يمكن إدراجها في مباحث الحكم الشرعي؛ بل علاقتها به قد تكون أوضح وأوثق من علاقتها بمباحث النسخ. ولتبيان معناها أكثر نذكر ما قاله ابن عاشور في:
ب ــ مثال تطبيقي للقاعدة.
يقول رحمه الله تعالى:"وبالفرائض نسخ وجوب الوصية الذي اقتضته هذه الآية وبقيت الوصية مندوبة بناء على أن الوجوب إذا نسخ بقي الندب. وإلى هذا ذهب جمهور أهل النظر من العلماء الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد." وهذا هو الأصح عنده.
ثم قال:" وقيل نسخت مشروعية الوصية فصارت ممنوعة قاله إبراهيم بن خُثَيْم وهو شذوذ وخلاف لما اشتهر في السنة إلاّ أن يريد بأَنها صارت ممنوعة للوارث.
وقيل : الآية مُحكَمَة لم تُنسخ، والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبْدين والأقارِب الذين لا ميراث لهم وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاووس واختاره الطبري."
4 ــ القاعدة: لا يتصور معنى النسخ ـ بالمعنى الاصطلاحي ـ مع تغاير مورد الناسخ والمنسوخ.
أ ــ المعنى الإجمالي للقاعدة.
يعني لتحقق النسخ لا بد من اتحاد الناسخ والمنسوخ في المحل والمورد وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى التعارض بينهما؛ إلا في الوقت والتاريخ فإنه يكون مختلفا؛ بحيث يتأخر الناسخ عن المنسوخ. وكذلك تباين الحكمين من حيث الأخف والأيسر، والأثقل والأشد، ومن حيث الإيجاب والندب، والتحريم والكراهة. ويقول مبينا أنه لا نسخ إن لم يكن هناك تعارض بين الدليلين الواردين في محل واحد:" إن لم يكن تعارض بين الآيتين، ولا نسخ." قال هذا عند جمعه بين آيتي التقوى. وقال بعد ذكره الرواية التي تقول بالنسخ بين الآيتين:" والحق أن هذا بيان لا نسخ، كما حققه المحققون، ولكن شاع عند المتقدمين إطلاق النسخ على ما يشمل البيان."
ب ــ مثال تطبيقي للقاعدة.
ومما يمثل به تطبيقا لهذه القاعدة قوله رحمه الله:"وأما الاحتجاج للجواز (أي: جواز أخذ الزوج من مال امرأته) بقوله: ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا)؛ فمورده في عفو المرأة عن بعض الصداق ، فإن ضمير (منه) عائد إلى الصدقات ، لأن أول الآية ( وأتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم) فهو إرشاد لما يعرض في حال العصمة مما يزيد الألفة، فلا تعارض بين الآيتين ولو سلمنا التعارض لكان يجب على الناظر سلوك الجمع بين الآيتين أو الترجيح." إلى أن يقول:"واختلفوا في هذه الآية ـ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُن َّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ـ هل هي محكمة أم منسوخة ؟ فالجمهور على أنها محكمة، وقال فريق: منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً ) ونسبه القرطبي لبكر بن عبد الله المزني، وهو قول شاذ، ومورد آية النساء في الرجل يريد فراق امرأته، فيحرم عليه أن يفارقها، ثم يزيد فيأخذ منها مالاً، بخلاف آية البقرة فهي في إرادة المرأة فراق زوجها عن كراهية." لا مجال للقول بالنسخ بين الآيتين؛ لعدم اتحاد موردهما.
ويقول أيضا:" ومن قال أن هذه الآية ـ {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ـ نسختها آيات القتال فقد وهم: لأن العفو باب آخر، وأما القتال فله أسبابه ولعله أراد من النسخ ما يشمل معنى البيان أو التخصيص."
5 ــ بعض القواعد الأخرى:
أ ــ الزيادة على النص ليست بنسخ عند المحققين، وتسميتها بالنسخ اصطلاح القدماء.
ب ــ مخالفة الإجماع للنص تتضمن أن مستند الإجماع ناسخ للنص. ويقول أيضا:
ــ الإجماع على مخالفة حكم النص يعتبر ناسخا لأنه يتضمن ناسخا.
ج ــ الحكم المنسوخ إنما يلغى العمل به في المستقبل لا في ما مضى.