إنَّ الحمدَ لله تعالى نحمده ونستعينُ به ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرورِ أنفسنا وسيئاتِ أعمالِنا من يهدى اللهُ تعالى فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسوله.
أما بعــــــدِ
فإن أصدق الحديثِ كتاب الله تعالي وأحسنَ الهدي هدي محمدٍ صلي الله عليه وآله وسلم ، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها وكلَّ محدَثةٍ بدعه وكلَّ بدعةٍ ضلالة وكلَّ ضلالةٍ في النار ، اللهم صلى على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنَّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنَّك حميدٌ مجيد
دَرَسْنَا هَذَا الْمَسَاء بِعُنْوَان( فَاسْمَع إِذاً) .
وَأَبْدَأ كَلَامِي بِذِكْر مَقْطَع مِن حَدِيْث بَدَأ بِه الْإِمَام مُسْلِم مِن كِتَاب الْطَّهَارَة مِن صَحِيْحِه وَفِي آَخِر هَذَا الْحَدِيْث يَقُوْل رَسُوْل الْلَّه- صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم-:" كُلُّ الْنَّاس يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَه فَمُوْبِقُهَا أَو مُعْتِقُهَا "
الشاهد من الحديث:شِبْه الْدُّنْيَا بِسُوْق وَالْبِضَاعَة الَّتِي تُبَاع فِي هَذَا الْسُّوْق أَنَا وَأَنْت ، فَإِذَا خَرَجَت مِن بَيْتِك صَبَاحا ، فَأَنَا أَو أَنْت أَحَد رَجُلَيْن ،كِلَانَا يَبِيْع نَفْسَه ، يَبِيْع نَفْسَه بِأَعْمَالِه الَّتِي يَعْمَلُهَا فِي هَذَا الْيَوْم إِن كَانَت الْأَعْمَال خَيْراً فَهَذَا بَائِع نَفْسَه فَمُعْتِقُهَا( أَي مَن الْنَّار )، وَإِن عَملاً طَالِحاً وَعَمِل سُوَء فَهَذَا بِائِع نَفْسِه فَمُوْبِقُهَا (أَي مُهْلِكُهُا ).
مَا مِن إِنْسَان مِنَّا إِلَا وَهُو أَحَد هَذَيْن الرَجُلَيْن.
رَجُل عَمِل صَالِحاً فَرَبِح وَرَجُل آَخَر عَمَل غَيْر ذَلِك فَخَسِر .
الْدُّنْيَا مَزْرَعَة الْآَخِرَة.
فَلَا شَك أَن الْدُّنْيَا مَزْرَعَة الْآَخِرَة ، فَهَل تُرِيْد أَن تَتَجَاوَز عقْبَة الْدُّنْيَا لِتَصِل إِلَى الْلَّه بِسَلَام ؟ إِن كُنْت تُرِيْد أَن تَسْمَع هَذَا فَاسْمَع إِذاً مَا سَأَقُوْلُه لَك .
مَّعْلُوْم لَدَى كُل الْعُقَلَاء أَنَّه إِذَا أَرَاد أَن يَصِل إِلَى غَايَة وَكَانَت الْطَّرِيْق مُهْلِكَة فِيْهَا وُحُوْش وَفِيْهَا قِطَاع طُرُق ، أَنَّه لَا يَسْلُك هَذَا الْطَّرِيْق إِلَا بِحِرَاسَة ، أَو عَلَيْه أَن يَسْلُك طَرِيْقا آَمِناً حَتَّى يَصِل إِلَى غَايَتِه ، حَب الْدُّنْيَا رَأْس كُل خَطِيَّة فَالَدُّنْيَا مَزْرَعَة الْآَخِرَة فَمَن اسْتَثَمْرَهَا اسْتِثْمَارا حَقِيْقِياً كَانَت رَأْس مَال جَيِّد لَكِن حُب الْدُّنْيَا رَأْس كُل خَطِيَّة ، وَهَذَا بَعْض الْنَّاس يَرْوِيْه حَدِيْثاً عَن رَسُوْل الْلَّه- صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم- ، وَهَذَا لَا يَصِح عَنْه إِنَّمَا نَحْن نَقُوْلُه قَوْلَا (حَب الْدُّنْيَا رَأْس كُل خَطِيَّة )
مُعَالَجَة الْنَّبِي_صَلَّ الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم لِطَّرِيْق الْدُّنْيَا الْمُوَحِّش.
أَنْت لَابُد وَأَنْت بْن الْدُّنْيَا رَضِعَت مِن لِبَانِهَا وَلَم تُفْطَم بَعْد،الْمَوْلُ وْد عِنْدَمَا يُوْلَد يُفْطَم بَعْد عَامَيْن،أَمَّا نَحْن فَلَا نُفَطَم عَن الْدُّنْيَا حَتَّى نَمُوْت إِلَا إِذَا كُنَّا مِن أَهْل الْيَقَظَة ، طَرِيْق الْدُّنْيَا مُوَحِّش ، عَالَجَه الْنَّبِي- صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم- فِي حَدِيْث مَشْهُوْر رَوَاه الْإِمَام الْبُخَارِي فِي صَحِيْحِه مِن حَدِيْث بْن عُمَر –رَضِي الْلَّه عَنْهُمَا قَال- صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم-:" كُن فِي الْدُّنْيَا كأنكَ غَرِيْبٌ أَو عَابِرُ سَبِيِل " .
(أَو) فِي هَذَا الْحَدِيْث لَيْسَت لِلْتَّخْيِيْر, كَمَا لَو قُلْت لَك خُذ هَذَا أَو ذَاك فَأَنْت مُخَيَّر أَن تَأْخُذ هَذَا أَو هَذَا,بَل لَمَّا يُسَمِّيْه عُلَمَاء الْبَيَان لِلْإِضْرَاب .
مَا مَعْنَى (أَو) لِلْإِضْرَاب ؟
إِذَا جَاءَت (أَو) بِمَعْنَى الْإِضْرَاب فَتَكُوْن بِمَعْنَى بَل ،وَسُمِّي إِضْرَابَا لِأَنَّك أَضْرَبْت عَن الْكَلَام الَّذِي قَبْلَهَا وَأَثْبَت الْكَلَام الَّذِي بَعْدَهَا ، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَي:﴿ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (النحل:77) .
(أو) هنا بمعنى بل ، ﴿ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾ كَأَنَّه قَال: لَا ، لَا ، أَضْرِب عَن هَذَا الْكَلَام ، أُتْرُكَه بَل هُو أَقْرَب مِن لَمْح الْبَصَر ، فَنَكُوْن أَثْبَتْنَا مَا بَعْد أَو ، وَتَرَكْنَا مَا قَبْلَهَا ، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى أَيْضا﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ﴾(الصافات:147) ، أَي بَل يَزِيْدُوْن فَهُنَا فِي هَذَا الْحَدِيْث:" كُن فِي الْدُّنْيَا كأنكَ غَرِيْبٌ أَو عَابِرُ سَبِيِل"
وَجْه الْدَّلَالَة:كَ َنَّمَا قَال لَه: لَا، لَا لَا تَكُن غَرِيْبا ، رَجَعَت عَن هَذَا الْكَلَام بَل كُن عَابِر سَبِيِل حَتَّى تَنْجُو مِنْهَا, لِأَن الْغَرِيْب قَد يَأْنَس فِي دَار الْغُرْبَة وَأَنْتُم جَمِيْعا غُرَبَاء ،لَيْس هَذَا هُو مَوْطِنُكُم الْأَصْلِي ، وَمَع ذَلِك أَنِسْتُم ، وَجَدْتُم أَصْدِقَاء جُدُدا وَجِيْرَاناً وَأَحْبَابّاً أَنْسَوْكُم أَحْبَابَكُم فِي بِلَادِكُم الْأَصْلِيَّة ،تَعِيْشُوْن فِي أُنْس وَسَلَام وَوَدَاع،بَل قَد يَكُوْن بَعْضُكُم أَسْعَد حَالاً هُنَا فِي دِيَار الْغُرْبَة مِن حَالِه فِي بِلَادِه الْأَصْلِيَّة.
الْأُنْس فِي الْدُّنْيَا وَمَضَارِّه عَلَي الْإِنْسَان وَالْمَخْرَج مِن ذَلِك.
وَالْأِنْس فِي الْدُّنْيَا مَمْنُوْع لِأَنَّك إِذَا أَنِسَت رَكَنَت ، وَإِذَا رَكَنَت هَلَكْت
الْمَخْرَج: لَا تَكُن غَرِيْبا فَتَأْنَس فِي دَار الْغُرْبَة ، بَل كُن عَابِر سَبِيِل عَابِر الْسَّبِيل رَجُل لَا وَطَن لَه وَلَا بَلَد ، وَلَا بَيْت ، يَحْمِل خَيْمَتِه عَلَى كَتِفِه ، وَيحْمَل زَادَه عَلَى كَتِفِه الْآَخِر ، وَلَه غَايَة يُرِيْد أَن يَصِل إِلَيْهَا فَيَمْشِي طِيْلَة الْنَّهَار فَإِذَا جَاء الْلَّيْل عَرَّس وَنَصَب خَيْمَتَه وَنَام ، فَإِذَا أَصْبَح الْصَّبَاح جَمْع خَيْمَتِه وَحَمَلَهَا عَلَى كَتِفِه وَحَمَل زَادَه عَلَى الْكَتِف الْأُخْرَى وَوَاصَل الْسِيَر إِلَى غَايَة هُو يُرِيْدُهَا.
فَيَا تُرَى أَيأنَس عَابِر الْسَّبِيل بِشَيْء ؟
لَا يَأْنَس بِشَيْء أَبَدا إِلَا إِذَا وَصَل إِلَى مَوْطِنِه الْأَصْلِي الَّذِي يُرِيْدُه ، أَو هَدَفُه الَّذِي يُرِيْدُه ,إِذَا أَرَدْت أَن تَصِل إِلَى الْجَنَّة بِسَلَام فَلَا بُد أَن تَتَجَاوَز عَقْبَة الْدُّنْيَا.
نَحْن مَعَاشِر الْمُسْلِمِيْن مَا الَّذِي نُرِيْدُه فِي نِهَايَة الْشَّوْط؟
نُرِيْد أَن نَدْخُل الْجّنة إِذَا أَرَدْت أَن تَصِل إِلَى الْجَنَّة بِسَلَام فَلَا بُد أَن تَتَجَاوَز عقْبَة الْدُّنْيَا، وَلَا يُمْكِن لَك أَن تَتَجَاوَز هَذِه الْعَقَبَة إِلَا إِذَا كُنْت مِن أَهْل الْيَقَظَة، وَدَعُوْنِي أُفَسِّر لَكُم مَا مَعْنَى الْيَقْظَة ؟
الْنَّاس أَمَام الْيَقَظَة نَوْعَان:-
نَوْع يَقِظ فِي الْدُّنْيَا : أَزَال الْلَّه عَن عَيْنَيْه غِشَاوَة حَب الْدُّنْيَا فَهُو يَعِيْش فِيْهَا لَكِنَّه يَنْظُر إِلَى الْآَخِرَة .
وَرَجُل آَخَر يَسْتَيْقِظ فِي الْوَقْت الْضَّائِع: حَيْث لَا تَنْفَعُه الْيَقَظَة ، كَمَا قَال تَعَالَي فِي هَذَا الْصِّنْف:﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ (ق:22) ، وَهَذَا يُقَال لِأَهْل الْغَفْلَة فِي الْدُّنْيَا الَّذِيْن عَاشُوْا لِمُتَع الْدُّنْيَا، فَإِذَا مَات أَبْصَر الْحَقِيقَة وَعَرَف أَنَّه كَان مُغَفَّلاً وَكَان أَعْمَى ﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ﴾ الَّذِي تَرَاه الْآَن ، مُنْكَر وَنَكِيْر وَعَذَاب الْقَبْر إِلَى آَخِرِه ، فَكَشَفْنَا عَنْك غِطَاءَك لَمَّا تَرَكَت الْدُّنْيَا ، ﴿ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾
حديد: أَي فِي غَايَة الْقُوَّة وَأَصْبَحَت تَرَى الْأَشْيَاء عَلَى حَقَّيْقَتِهَا وَهَؤُلَاء الْمُغَفَّلُون كَمَا قُلْت لَك يَسْتَيْقِظُوْن فِي الْوَقْت الْضَّائِع الَّذِي لَا يُجْدِي كَمَا قَال تَعَالَى:﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾(الأنعام:28،27) .
الْشَّاهِد مِن الْآَيَة. رَب ارْجِعُوْن سَأَعْمَل صَالِحا ، وَلَوَرَد مَرَّة أُخْرَى لِعَمَل مِثْلَمَا كَان يَعْمَل قَبْل ذَلِك مِن مُخَالَفَة الْلَّه تَعَالَى .
مِن هُم أَهْل الْيَقَظَة فِي الْدُّنْيَا؟
أَهْل الْيَقَظَة فِي الْدُّنْيَا هُم الَّذِيْن يَعِيْشُوْن فِي الْدُّنْيَا بُأَبْدَانِهِم وَيَرَوْن الْآَخِرَة بِبَصَائِرِهِم ، وَلَكِنَّه بِرُغْم ذَلِك لَا يعْرَف قَدْر الْجَنَّة ، يَقْرَأ عَنْهَا نَعَم ، يَتَخَيَّل مَا فِي الْجَنَّة مَن الْنَّعِيم ، نَعَم ، وَلَكِنَّه لَا يَسْتَطِيْع أَن يَصِل إِلَى حَقِيْقَة هَذَا الْنَّعِيم أَبَدا ، كَمَا قَال- صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم- فِي الْحَدِيْث الَّذِي رَوَاه الْشَّيْخَان وَالْإِمَام أَحْمَد وَالْتِّرْمِذِي وَبِن حِبَّان وَالْحَاكِم وَأَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُم ، عَن أَبِي هُرَيْرَة- رَضِي الْلَّه عَنْه- عَن الْنَّبِي- صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم-قَال:" إِن لِلَّه مَلَائِكَةً فُضُلاً عَن كُتَّاب الْنَّاس" فَكُل وَاحِد مِنَّا لَه مَلَائِكَة يَكْتُبُوْن حَسَنَاتِه وَيَكْتُبُوْن ذُنُوْبِه ، هَذَا الْنَّوْع مِن الْمَلَائِكَة زِيَادَة لَيْس الَّذِيْن يَكْتُبُوْن أَعْمَال الْنَّاس،" يَلْتَمِسُوْن مَجَالِس الْذِّكْر " كهذا المجلس " فَيَسْأَلُهُم الْلَّه- عَز وَجَل- عِنَدَمّا يَصِلُوٓا إِلَى مَجْلِس مِن مَجَالِس الْذِّكْر يَطُوْفُوْن بِهَؤُلَاء الَّذِيْن يَسْتَمِعُوْن الْذِّكْر، وَيَمْلَئُوْن مَا بَيْن الْسَّمَاء وَالْأَرْض وَيُنَادِي بَعْضُهُم عَلَى بَعْض وَيَقُوْلُوْا "هَلُمُّوا بُغْيَتِكُم ،"أي هذه البغية وهذا الذي تبحثون عنه .
" فَيَسْأَلُهُم الْلَّه- عَز وَجَل- وَهُو أَعْلَم بِهِم كَيْف رَأَيْتُم عِبَادِي ، يَقُوْلُوْن يَا رَبِّي: يُمَجِّدُونَك،و َيُسَبِّحُوْنَك ،وَيُهَلِّلُونَ ك ، وَيُكَبِّرُونَك ، فَيَقُوْل لَهُم: هَل رَأَوْنِي ؟ فَيَقُوْلُوْن: لَا،فَيَقُوْل لَهُم: كَيْف لَو رَأَوْنِي ؟" أَي يُمَجِّدُونَه وَيُسَبِّحُوْنَ ه وَيُكَبِّرُونَه ، وَيُعَظِّمُونَه وَلَم يَرْوِه .قَال:كَيْف لَو رَأَوْنِي ؟ ، قَالُوْا لَو رَأَوْك لَكَانُوْا أَشَد لَك تَمْجِيْداً وَتَعْظِيْماً وَتَحْمِيْداً وَتَّهْلِيْلاً ، فَقَال لَهُم: مَا يَطْلُبُوْن ؟ قَالُوْا يَطْلُبُوْن الْجَنّة ، فَقَال لَهُم: هَل رَأَوْهَا ؟ ، قَالُوْا لَا يَا ر بَّنَا مَا رَأَوْهَا ، فَقَال لَهُم: كَيْف لَو رَأَوْهَا ؟ قَالُوْا لَو رَأَوْهَا كَانُوْا أَشَد عَلَيْهَا حِرْصاً وَأَعْظَم طَلَباً ، قَال: مِمَّا يَتَعَوَّذُون ؟ قَالُوْا: رَبَّنَا يَتَعَوَّذُون مِن الْنَّار ، قَال: هَل رَأَوْهَا ؟ قَالُوْا: لَا يَا رَبَّنَا مَا رَأَوْهَا ، قَال: كَيْف لَو رَأَوْهَا ؟ قَالُوْا: لَو رَأَوْهَا لَكَانُوْا أَشَد فِرَاراً وَهَرَباً مِنْهَا ، فَقَال الْلَّه- عَز وَجَل- أُشْهِدُكُم أَنَّنِي غَفَرْت لَكُم ، وَأُعْطِيَت لَهُم مَّا يَسْأَلُوْن ، قَالُوْا رَبُّنَا إِن فِيْهِم فُلَانا مَا جَاء يَطْلُب " .
مَا جَاء يَذْكَر وَلَا يَجْلِس فِي مَجَالِس الْذِّكْر ، إِنَّمَا أَرَاد رَجُلاً مِن الْمَجِلس كَان لَه حَاجَة " وَهُو رَجُل خَطَّاء ، لَه ذُنُوْب ، فَقَال الْلَّه- عَز وَجَل- غَفَرَت لَه هُم الْقَوْم لَا يَشْقَى بِهِم جَلِيْسُهُم " ، فَغَفَر لَه بِالْرَّغْم مِن أَنَّه لَم يَأْتِي لِلْذِّكْر إِكْرَاما لِعِبَادِه الُمْتَّقِيْن الَّذِيْن جَلَسُوْا يَذْكُرُوْن الْلَّه .
الشاهد من الحديث: " قَال: مَا يَطْلُبُوْن ؟ قَالُوْا يَطْلُبُوْن الْجَنّة ، فَقَال: هَل رَأَوْهَا ؟ ،قَالُوْا لَا مَا رَأَوْهَا ،َقَال: كَيْف لَو رَأَوْهَا "، إِذا نَحْن نَطْلُب الْجَنَّة وَلَا نَدْرِي حَقِيْقَتُهَا ، كَمَا قَال بِن عَبَّاس- رَضِي الْلَّه عَنْهُمَا-:" لَيْس فِي الْجَنَّة مِن الْدُّنْيَا إِلَّا الْأَسْمَاء "
قال تعالى عن الجنة مثلًا:﴿ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾ (الرحمن:68) أَنْت مَاذَا تَعْرِف عَن الْرُّمَّان ، تَعْرِف هَذِه الثَّمَرَة الَّتِي طَعِمْتُهَا
كُل شَيْء فِي الْدُّنْيَا وَهُو فِي الْجَنَّة يَتَشَابَه فِي الْأَسْمَاء فَقَط.
الْرُّمَّان الَّذِي فِي الْجَنَّة لَا تَسْتَطِيْع أَن تَتَصَوَّر مَذَاقُه وَلَا حَلَاوَتُه ، لَكِن عَرَفْت أَن فِي الْجَنَّة رُمَّانا ، لِأَنَّه فِي الْدُّنْيَا ، فَكُل شَيْء فِي الْدُّنْيَا وَهُو فِي الْجَنَّة يَتَشَابَه فِي الْأَسْمَاء فَقَط ، فِي الْجَنَّة لَبَن و خَمْر ،وَلَكِن أَنْت لَا تَدْرِي حَقِيْقَة الْخَمْر وَلَا مُتْعَة الْشَّارِب لَهَا فِي الْجَنَّة ، إِذاً لَيْس فِي الْدُّنْيَا مِن الْجَنَّة إِلَّا الْأَسْمَاء ، أَمَّا الْحَقِّيَّقَة فَأَنْت لَا تَعْرِفُهَا,فَأ هْل الْيَقَظَة الَّذِيْن يُدَاوِمُوْن عَلَى مَعْرِفَة أُمُوْر الْآَخِرَة سَيَعْرِفُوْن إِذَا دَخَلُوْا الْجَنَّة أَنَّهُم لَم يُقَدِّرُوْهَا حَق قْدِرَهَا كَمَا قَال الْقَائِل وَكَان يُحِب امْرَأَة وَتَصَوّرِهَا أَجْمَل امْرَأَة فِي الْدُّنْيَا ، وَلَم يُصَل عَقْلِه إِلَى أَجْمَل مِنْهَا أَبَدا فَأَنْشَد قَائِلا:
وَكَنْت أَرَى أَن قَد تَنَاهَى بِي الْهَوَى
إِلَى غَايَة مَا بَعْدَهَا لِي مَطْلَبُ
فَلَمَّا تَلَاقَيْنَا وَعَايَنْت حُسْنَهَا
تيقنتُ أني إنما كنتُ ألعـبُ
الْشَّاهِد مِن الْكَلَام: قَال كُنْت أَتَصُوُرهَا تَصَوُّراً مُعَيَّناً ، وَلَكِن لَمَّا رَأَيْتُهَا عَلَى حَقَّيْقَتِهَا تَبَيَّن أَنَّنِي كُنْت سَاذِجاً جِداً ، وَكُنْت أَلْعَب لَأَنّنِي مَا قَدَرْت أَن تَكُوْن بِمِثْل هَذَا الْجَمَال .
وَالْمُحِب عَادَة يَبْذَل حُشَاشَة نَفْسِه ، وَثَمَرَة فُؤَادُه لِمَن يُحِب ثُم يَرَى فِي الْنِّهَايَة أَنَّه مَا قَدَّّم شَيْئاً لِحَبِيْبِه ، مَهْمَا بَذَل .
كَمَا قَال الْقَائِل:.
يَا رَاحِلاً وَجَمِيْل الْصَّبْر يَتَّبِعـه
هَل مِن سَبِيِل إِلَى لُقْيَاك يَتَفـقُ
مَا أَنْصَفَتْك دُمُوْعِي وَهْي دَامِيَة
وَلَا وَفَى لَك قَلْبِي وَهْو يَحْتَرِقُ
يَقُوْل: أَيُّهَا الْرَّاحِل الَّذِي تَرَكْتَنِي وَأَخَذَت الْصَّبْر مَعَك وَأَنْت رَاحِل فَصَار لَا صَبْر لِي ، وَذَرَفْت عَلَيْك دُمُوْعِي كُلُّهَا حَتَّى انْبَجَس الْدَّم بَعْد الْدَّّمْع ، أَي عَيْنَيْه قُذِفَت دَما ،بَكَى حَتَّى انْتَهَت دُمُوْعِه ثُم جَاء الْدَّم ، يَقُوْل عَيْنَي مَا أَنْصَفَتْك بِالْرَّغْم مِن أَنَّه يَبْكِي دَما .
وَلَا وَفَى لَك قَلْبِي وَهْو يَحْتَرِق: وَأَنَا مَا أَدَّيْت حَق الْوَفَاء لَك بِالْرَّغْم مِن أَن قَلْبِي يَحْتَرِق لِفِرَاقِك ، فَهَكَذَا الْمُحِب يَبْذَل كُل شَيْء لِحَبِيْبِه ثُم يَرَى فِي الْنِّهَايَة أَنَّه مَا وَفَّاه حَقَّه .
فَإِذَا كُنْت مُحِبا تَطْلُب الْجَنَّة فَاسْمَع إِذا.
مَا سَأَقُوْلُه لَك فِي هَذَا الْحَدِيْث الَّذِي رَوَاه الْإِمَام الْتِّرْمِذِي وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا مِن حَدِيْث النَّوَّاس بْن سَمْعَان- رَضِي الْلَّه عَنْه- قَال: قَال رَسُوْل الْلَّه- صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم- ، الْحَدِيْث الَّذِي سَأَذْكُرُه مَثْل وَأَنْت تَسْمَعُنِي تَخَيَّل هَذَا الْمَثَل حَتَّى تفهَم الْحَدِيْث ، قَال- صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم-:" ضَرَب الْلَّه مَثَلاً صِرَاطاً مُسْتَقِيْماً "، هذا هو الصراط: أي الطريق ، " وَعَلَى جَنْبَتَي الْصِّرَاط سُوَرَان " فِيْهِمَا _ أَي فِي هَذَيْن الْسُّوْرَيْن _ " أَبْوَابٌ مُّفَتَّحَة ، وَعَلَى الْأَبْوَاب سُتُوْر مُرْخَاة "_ أي على كل باب ستارة مشدودة _ " وَعَلَى رَأْس الْصِّرَاط دَاعٍ يَدْعُوَا يَقُوْل يَا أَيُّهَا الْنَّاس أَدْخِلُوَا الْصِّرَاط جَمِيْعاً وَلَا تَتَعَوَّجُوا ، وَدَاعٍ يَدْعُوَ مِن فَوْق الْصِّرَاط " _ أَي مَكَانَه عَالِي _" كُلَّمَا أَرَاد رَجُلٌ أَن يَفْتَح بَاباً مِن هَذِه الْأَبْوَاب الَّتِي فِي الْسُّوْر قَال لَه وَيْحَك لَا تَفْتَحْه فَإِنَّك مَتَى فَتَحْتُه وَلَجْتُه " أي دخلت فيه .
قَال - صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم- مُوَضِّحا هَذَا الْمَثَل:
قال:" الْصِّرَاط: هُو الْإِسْلَام ، وَالْسُّوْرَان: حُدُوْد الْلَّه ، وَالْأَبْوَاب الْمُفَتَّحَة: مَحَارِم الْلَّه ، وَالْدَّاعِي الَّذِي يَدْعُوَ عَلَى رَأْس الْصِّرَاط: كِتَاب الْلَّه ، وَالْدَّاعِي الَّذِي يَدْعُوَ مِن فَوْق الْصِّرَاط: هُو وَاعِظ الْلَّه فِي قَلْب كُل مُؤْمِن " .
الْأَمْثَال عَادَة تَكُوْن مِن بَاب الْمُبِيْن .
لِأَن الْكَلَام إِمَّا أَن يَكُوْن مُجْمَلَاً ، وَإِمَّا أَن يَكُوْن مُبَيِّناً، الْكَلَام الْمُجْمَل تَخْتَلِف فِيْه الْأَنْظَار،وَا حِد يَقُوْل مَعْنَاه كَذَا وَالْثَّانِي يَقُوْل: مَعْنَاه كَذَا وَالْثَّالِث يَقُوْل: بَل مَعْنَاه كَذَا ، أَي تَخْتَلِف الْأَنْظَار فِي فَهْم كَلِمَة مُجْمَلَه،كَقَو ْل الْلَّه- عَز وَجَل- مَثَلا فِيْمَا يَتَعَلَّق بِالْقُرْء﴿وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾(البقرة:228) الْمَرْأَة إِذَا طُلِقَت ُتَنْتَظِر ثَلَاثَة قُرُوَء الْقَرْء هُنَا حَيْض،أَم طُهْر ؟ أَي تَبْدَأ تُعَد الْعِدَّة مِن أَوَّل مَا تَحِيْض وَتَأْخُذ ثَلَاث حَيْضَات ، تَحِيَض ثُم َتطْهُر ثُم تَحِيَض ثُم تَطْهُر ثُم تَحِيَض الْحَيْضَة الثَّالِثَة ثُم تَكُوْن خَرَجَت مِن زَوْجِهَا ، أَما الْقَرْء: طُهْر ، تَطْهُر ثُم تَحِيَض ، ثُم تَطْهُر ثُم تَحِيَض ثُم تَطْهُر وَتَنْفَك مَن زَوَّجَهَا .
هَل الْقَرْء حَيْض أَم طُهْر ، وَبِأَي شَيْء تَبْدَأ الْمَرْأَة فِي عَد الْعِدَّة ؟
الْعُلَمَاء لَهُم مَذْهَبَان فِي هَذَا:
أَهْل الْكُوْفَة يَقُوْلُوْن: الْقَرْء: حَيْض .
وَأَهْل الْحِجَاز يَقُوْلُوْن: الْقَرْء: طُهْر .