الإنابة في الحج
د. محمد طاهر حكيم
أجمع العلماء على أن فريضة الحج مرة في العمر لمن استطاع إليه سبيلاً، لقوله - تعالى -: [ ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً ][آل عمران: 97]. ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا) فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ) [1].
وأجمعوا على أن من كان عليه حج وهو قادر على أن يحج بنفسه لا يجزئ
أن يحج عنه غيره، وأن من لا مال له يستنيب به غيره فلا حج عليه [2].
واختلفوا في المريض والمعضوب يكون كل واحد منهما قادراً على ما يستأجر به من يحج عنه، هل يجب عليهما في ذلك؟ بعد إجماعهم على أنه لا يلزمهما المسير إلى الحج، إنما فرضه الله على المستطيع. ولا استطاعة لهما [3]. وكذلك اختلفوا فيمن مات وعليه حج. هل يحج عنه أم لا؟
* أما المريض والمعضوب: فقد ذهب جمهور أهل العلم منهم: علي بن أبي طالب، والحسن، والثوري، وابن المبارك، وداود، وابن المنذر، والأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، إلى أنهما إذا وجدا مالاً ورجلاً يحج عنهما، وجب الحج عليهما [4].
واحتجوا على ذلك بأدلة، منها:
1 - حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ فقال: (نعم. وذلك في حجة الوداع) [5].
2 - وحديث أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: (حج عن أبيك واعتمر) [6].
* وذهب بعض أهل العلم إلى أن المعضوب لا يجب عليه الحج أصلاً وإن ملك المال رُوي ذلك عن الليث والحسن بن صالح، وبه قال الإمام مالك [7] وهو رواية عند الحنفية [8].
واحتجوا بالآتي:
1 - قوله - تعالى -: [ ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً ] [آل عمران: 97] فالآية وردت مقيدة لمن يستطيع السبيل إلى البيت. فمن لم يستطع السبيل إليه لم تتناوله الآية، والاستطاعة صفة موجودة بالمستطيع كالعلم والحياة، وإذا لم توجد به استطاعة فليس بمستطيع فلا يجب عليه حج [9].
2 - وقوله - تعالى -: [ وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى ][النجم: 39] فأخبر أنه ليس له إلا ما سعى، فمن قال: إنه له سعي غيره فقد خالف ظاهر الآية [10].
3 - قالوا: وأما حديث (الخثعمية ) فهو مخالف لظاهر القرآن؛ فيرجح ظاهر القرآن [11].
وقد أجيب عن هذه الأدلة مِن جانب الجمهور:
1 - الاستطاعة تكون بالغير كما تكون بالنفس. قال ابن رشد: (وهي أي الاستطاعة تتصور على نوعين: مباشرة ونيابة ) [12].
2 - وعن الآية: ] وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى [[النجم: 39] فقالوا: إننا نقول كذلك. ولكنه بذل ماله للنائب؛ فكأن الحج أصبح من سعيه.
وقد نقلوا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: (إن هذه الآية منوطة بقوله - تعالى -: [ والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ] [الطور: 21]
وقال أكثر أهل العلم: هي محكمة.
وقال الربيع بن أنس: هذه الآية في الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره، وقال أبو بكر الوراق: ] إلاَّ مَا سَعَى [إلا ما نوى [13]. وقيل غير ذلك. وعلى أيٍّ كان الأمر فليس في الآية دليل للمالكية ومن معهم فيما ذهبوا إليه.
3- وأما القول بأن ظاهر حديث (الخثعمية ) مخالف لظاهر القرآن فجوابه كما قال الحافظ ابن حجر: (وتعقب بأن في تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لها على ذلك حجة ظاهرة ).
ويظهر من هذا أن قول الجمهور أقوى. والله أعلم.
* وأما من مات وعليه حِجة الإسلام أو قضاء أو نذر فإنه يجب أن يحج عنه من جميع ماله أوصى أو لم يوص ويكون الحج عنه من حيث وجب عليه، لا من حيث مكان موته؛ لأن القضاء يكون بصفة الأداء. قال بهذا جماعة من أهل العلم منهم: ابن عباس، وأبو هريرة، وابن المبارك، وابن سيرين، وابن المسيب، وأبو ثور، وابن المنذر، وهو قول الشافعي وأحمد [14].
واحتج هؤلاء بالآتي:
1- حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (إن أمي نذرتْ أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها! أرأيت لو كان على أمكِ دين أكنتِ قاضيته؟ اقضوا الله؛ فالله؛ أحق بالوفاء ) [15].
2- وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رجل: (يا رسول الله)! إن أبي مات ولم حج. فأحج عنه؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟
قال: نعم، قال: فدين الله أحق ) [16].
3 - ولأنه حق تدخله النيابة لزمه في حال الحياة فلم يسقط بالموت كديْن الآدمي، ويجب من رأس المال؛ لأنه ديْن واجب، فكان من رأس المال كديْن الآدمي [17].
* وذهب آخرون إلى أن من مات وكان قد وجب عليه الحج ولم يحج فإن أوصى حُج عنه من ثلث التركة وإلا فلا يجب على الورثة شيء إلا أن يَطَّوَّعوا. قال به النخعي والشعبي وحماد والليث في جماعة.
وبه قال أبو حنيفة [18] ومالك [19]؛ لأن الميت ليس له حق إلا في ثلث ماله، ودين العباد أقوى؛ لأنه مبني على المشاحَّة، ولأن له مطالِباً بخلاف دَيْن الله - تعالى - لأنه مبني على المسامحة فلا يعتبر إلا من الثلث لعدم المنازع فيه.
* وهناك قول ثالث روي عن ابن عمر والقاسم بن محمد وابن أبي ذئب؛ حيث قالوا: لا يحج أحد عن أحد مطلقاً [20]. والأحاديث المذكورة حجة عليهم.
شروط الحج عن الغير [21] :
اشترط الفقهاء شروطاً للحج عن الغير، نذكر أهمها:
1 - نية النائب عن الأصيل عند الإحرام؛ لأن النائب يحج عن الأصيل لا عن نفسه فلا بد من نيته، كأن يقول: أحرمت عن فلان أو لبيك عن فلان. وهذا الشرط متفق عليه.
2 - أن يكون الأصيل عاجزاً عن أداء الحج بنفسه وله مال، فإن كان قادراً على الأداء بأن كان صحيح البدن وله مال فلا يجوز حج غيره عنه باتفاق الجمهور غير المالكية.
أما مالكية: فلم يجيزوا الحج عن الحي مطلقاً. وعليه: لا يجوز أن يستنيب في الحج الواجب من يقدر على الحج بنفسه إجماعاً. وأجاز الجمهور الحج عن الميت، لكن إذا أوصى عند الحنفية والمالكية. وقال الشافعية والحنابلة: يجب الحج عنه إذا كان قادراً ومات مفرطاً.
3 - أن يستمر العجز كالمرض إلى الموت. وهذا باتفاق الحنفية والشافعية، فلو زال العجز قبل الموت لم يجزئه حج النائب؛ لأن جواز الحج عن الغير ثبت بخلاف القياس لضرورة العجز الذي لا يُرجى برؤه، فيتقيد الجواز به.
وقال الحنابلة: يجزئه؛ لأنه أتى بما أمر به. فخرج عن العهدة كما لو لم يزل عذره. وهذا أظهر.
4 - أن يُحْرِمَ على النحو الذي طالب به الأصيل. فلو اعتمر مثلاً وقد أمره بالحج، ثم حج من مكة، لا يجوز عند الحنفية.
وكذا لو أوصى بالحج وحدد المال أو المكان؛ فالأمر على ما حدده وعينه؛ وإن لم يحدد شيئاً فالحج من بلد المنوب عنه؛ لأن الحج وجب على الأصيل من بلده فوجب أن ينوب عنه منه، وهذا عند الحنفية والحنابلة. وقال الشافعية: يجب على النائب الحج من ميقات الأصيل؛ لأن الحج يجب من الميقات.
5 - يجب أن يكون النائب قد حج عن نفسه قبل الحج عن الغير عند الشافعية والحنابلة لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: (لبيك عن شبرمة) قال: مَنْ شبرمة؟. قال: أخ لي، أو قريب. قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: (حجَّ عن نفسك، ثم حج عن شبرمة ) [22].
ويجوز عند الحنفية مع الكراهة التحريمية الحج عن الغير قبل أن يحج الرجل عن نفسه عملاً بإطلاق حديث (الخثعمية) المتقدم من غير استفسار عن سبقها الحج عن نفسها.
وترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم المقال أو الخطاب، أما سبب الكراهة فهو أنه تارك فرض الحج.
وكذلك قال المالكية: يكره الحج عن الغير أي في حالة الوصية بالحج قبل أن يحج عن نفسه؛ بناءاً على أن الحج واجب على التراخي وإلا مُنع على القول بأنه على الفور وهو المعتمد عندهم.
والقول الأول أرجح لحديث (شبرمة) ويحمل ترك الاستفصال في حديث (الخثعمية) على علمه - صلى الله عليه وسلم - بأنها حجت عن نفسها أولاً وإن لم يروِ لنا طريق علمه بذلك؛ جمعاً بين الأدلة كلها كما قال الكمال ابن الهمام [23].
هذه أهـم شروط الحج عن الغير؛ والله - تعالى - أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
ـــــــــــــــ
(1) رواه مسلم، 9/101، وأحمد والنسائي وغيرهم.
(2) المغني لابن قدامة 3/178، 180.
(3) تفسير القرطبي 4/150.
(4) انظر سنن الترمذي 3/677، وشرح السنة، 7/26، والمبسوط 4/ 148، وفتح القدير 2/309، والمغني 3/177، وكشاف القناع 2/255، وزاد الشافعي: أنه إذا لم يجد مالاً يحج به غيره ولكن وجد من يطيعه من ولده ونحوه فإن الحج يجب عليه كذلك انظر المجموع 7/74 75، ومغني المحتاج 1/469 470، والمهذب 1/266، والغاية القصوى 1/431.
(5) رواه البخاري 4/67 (على الفتح) ومسلم 9/97 98 (بشرح النووي)، ومالك 2/267، وأحمد 3/313، و4/98، و5/420، وأبو داود 2/401، والترمذي 3/675، والنسائي 5/117، و8/228.
(6) أخرجه الترمذي 3/678، وقال: حسن صحيح وأبو داود 2/402، والنسائي 5/117.
(7) انظر شرح السنة 7/26، والمنتقى 2/269، والشرح الصغير 2/ 115، والكافي 1/357.
(8) كما في المبسوط 4/153، وجعله المذهب وانظر البدائع 3/1085، وملتقى الأبحر 1/233.
(9) المنتقى 2/269، وانظر القرطبي 4/151.
(10) تفسير القرطبي 4/151.
(11) تفسير القرطبي 4/152، وراجع فتح الباري 4/70.
(12) بداية المجتهد 1/319 وانظر المجموع 7/75.
(13) تفسير القرطبي 17/114 115، وانظر: ملتقى الأبحر 1/234.
(14) انظر: سنن الترمذي 3/677، وشرح السنة 7/26، والتمهيد 9/ 136، والمجموع 7/87، 90، ومغني المحتاج 1/468، والمغني 3/195، والإنصاف 3/ 409، والإقناع 1/344.
(15) رواه البخاري 4/64، والنسائي بمعناه 5/117.
(16) رواه النسائي 5/118.
(17) المهذب 1/267، وراجع فتح الباري 4/66.
(18) انظر التمهيد 9/136، والمحلى 7/53، وعمدة القارئ 10/213 214، وعند الحنفية: لو مات رجل بعد وجوب الحج عليه ولم يوص به فيحج عنه رجل حجة الإسلام من غير وصية، قالوا: يجزيه إنْ شاء الله لأنه إيصال ثواب وهو لا يختص بأمر من قريب أو بعيد، ذكره ابن عابدين في حاشيته 2/600، وراجع مختصر الطحاوي ص 59.
(19) المنتقى 2/271، والشرح الصغير 2/15، والقرطبي 4/151، وعنده: إذا لم يوص فالصدقة أفضل من استئجار من يحج عنه، فإن حجّ أحد تطوعاً فله أجر الدعاء.
(20) المحلى 7/45، والمجموع 7/90، ومعالم السنن 2/401، وعمدة القارئ 9/213.
(21) منع قوم من النحاة إدخال (ال) على (غير وكل وبعض) لأن هذه لا تتعرف بالإضافة فلا تتعرف بالألف واللام، قال ابن عابدين: إنها تدخل عليها؛ لأنها هنا ليست للتعريف ولكنها المعاقبة للإضافة رد المحتار 2/323، (نقلاً عن الفقه الإسلامي وأدلته 3/37).
(22) رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني (نيل الأوطار 4/292).
(23) انظر فتح القدير 2/317 321و الشرح الصغير 2/15، ومغني المحتاج 1/470، وكشاف القناع 2/462، وانظر الفقه الإسلامي وأدلته 3/49 55.