قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله تعالى ـ :
فإن قيل : كيف تدّعون أن هذه العقوبات ـ أي قتل الجاني ـ لاصقة بالعقول ، وموافقة للمصالح ، وأنتم تعلمون أنه لا شيء بعد الكفر بالله أفظع ولا أقبح من سفك الدماء ؟!
فكيف تردعون عن سفك الدم بسفكه؟!
وهل مثال ذلك إلا إزالة نجاسة بنجاسة ؟!
ثم لو كان ذلك مستحسنا لكان أولى أن يحرق ثوب من حرق ثوب غيره ، وأن يذبح حيوان من ذبح حيوان غيره ، وأن تخرب دار من خرب دار غيره ، وأن يجوز لمن شتم أن يشتم شاتمه ، وماالفرق في صريح العقل بين هذا وبين قتل من قتل غيره أو قطع من قطعه ؟!!
وإذا كان إراقة الدم الأول مفسدة وقطع الطرف كذلك فكيف زالت تلك المفسدة بإراقة الدم الثاني وقطع الطرف الثاني ؟!
وهل هذا إلا مضاعفة للمفسدة وتكثير لها؟!
ولو كانت المفسدة الأولى تزول بهذه المفسدة الثانية لكان فيه ما فيه إذ كيف تزال مفسدة بمفسدة نظيرها من كل وجه ؟!
فكيف والأُولى لا سبيل إلى إزالتها وتقرير ذلك بما ذكرناه من عدم إزالة مفسدة تحريق الثياب وذبح المواشي وخراب الدور وقطع الأشجار بمثلها؟!
ثم كيف حَسُن أن يعاقب السارق بقطع يده التي اكتسب بها السرقة ولم تحسن عقوبة الزاني بقطع فرجه الذي اكتسب به الزنا؟!
ولا القاذف بقطع لسانه الذي اكتسب به القذف؟!
ولا المزور على الإمام والمسلمين يقطع أنامله التي اكتسب بها التزوير؟! ولا الناظر إلى ما لا يحل له بقلع عينه التي اكتسب بها الحرام ؟!
فعلم أن الأمر في هذه العقوبات جنسا وقدرا وسببا ليس بقياس ، إنما هو محض المشيئة ، ولله التصرف في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
فالجواب وبالله التوفيق والتأييد من طريقين : مجمل ومفصل .
أما المجمل ؛ فهو أن من شرع هذه العقوبات ورتبها على أسبابها جنسا وقدرا فهو عالم الغيب والشهادة وأحكم الحاكمين وأعلم العالمين ومن أحاط بكل شيء علما وعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون وأحاط علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها وخفيها وظاهرها ما يمكن اطلاع البشر عليه وما لا يمكنهم وليست هذه التخصيصات والتقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة كما أن التخصيصات والتقديرات الواقعة في خلقه كذلك فهذا في خلقه وذاك في أمره ومصدرهما جميعا عن كمال علمه وحكمته ووضعه كل شى في موضعه الذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلا إياه كما وضع قوة البصر والنور للباصر في العين وقوة السمع في الأذن وقوة الشم في الأنف وقوة النطق في اللسان والشفتين وقوة البطش في اليد وقوة المشي في الرجل وخص كل حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره فشمل إتقانه وإحكامه لكل ما شمله خلقه كما قال تعالى (صنع الله الذي أتقن كل شيء) وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان وأحكمه غاية الإحكام ؛ فلأن يكون أمره في غاية الإتقان والإحكام أولى وأحرى ومن لم يعرف ذلك مفصلا ؛ لم يسعه أن ينكره مجملا !
ولا يكون جهله بحكمة الله في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدوره عن محض العلم والحكمة مسوغا له إنكاره في نفس الأمر .
وسبحان الله ! ما أعظم ظلم الإنسان وجهله!!
فإنه لو اعترض على أي صاحب صناعة كانت ممن تقصر عنها معرفته وإدراكه على ذلك وسأله عما اختصت به صناعته من الأسباب والآلات والأفعال والمقادير وكيف كان كل شيء من ذلك الوجه الذي هو عليه لا أكبر ولا أصغر ولا على شكل غير ذلك يسخر منه ويهزأ به وعجب من سخف عقله وقلة معرفته هذا ما تهيئه بمشاركته له في صناعته ووصوله فيها إلى ما وصل إليه والزيادة عليه والاستدراك عليه فيها هذا مع أن صاحب تلك الصناعة غير مدفوع عن العجز والقصور وعدم الإحاطة والجهل بل ذلك عنده عتيد حاضر ثم لا يسعه إلا التسليم له والاعتراف بحكمته وإقراره بجهله وعجزه عما وصل إليه من ذلك .
فهلا وسعه ذلك مع أحكم الحاكمين وأعلم العالمين ومن أتقن كل شيء فأحكمه وأوقعه على وفق الحكمة والمصلحة ؟!
وقد كان هذا الوجه وحده كافيا في دفع كل شبهة وجواب كل سؤال وهذا غير الطريق التي سلكها نفاة الحكم والتعليل ولكن مع هذا فنتصدى للجواب المفصل بحسب الاستعداد وما يناسب علومنا الناقصة وأفهامنا الجامدة وعقولنا الضعيفة وعباراتنا القاصرة فنقول وبالله التوفيق................ ...........
أما الجواب المفصل فانظره ـ غير مأمور ـ في إعلام الموقعين (2/120)
أخوكم أبو ريان .