نظرة في كتب التراجم التي فيها تضعيف لبعض القراء
د/ أحمد بن فارس السلوم
مما يلاحظه من ينظر في كتب تراجم القراء، أن بعض نقاد المحدثين يضعف رواية المقرئ، ويجهله في الحديث، فالقاعدة في التعامل مع هؤلاء أنْ لا تطرد أقوالهم فيما سوى تخصصاتهم.فحين نرى تضعيف النقاد لقارئ ما فهذا يعني عدم قبول روايته في باب الحديث، أما في باب القراءة فهو ثقة حجة، يُرجَع في ذلك إلى أقوال نقاد المقرئين.
وقد يرد على هذا إشكال، فيقال: كيف يوثق في رواية القرآن العظيم ويقبل إخباره في هذا الباب، ويُتْرك في باب رواية الحديث، والقرآن أعظم وأجل، وقد علم بالسبر والتقسيم أن الرجل لا يخرج أن يكون ثقة صادقاً أو غير ذلك، فإن كان ثقة قُبِلَ قوله في كل ما يرويه، وإن لم يكن كذلك لم يقبل قوله في شيء، أمَّا أن يقبل في القراءة ويرد في الحديث فهذا تحكم بلا دليل.
والجواب عن ذلك:
إن الأصل في العلوم أن لكل فن رجاله، فقد يعتني شخص ما بفن ويوليه اهتمامه فيضبطه، ويقصر فيما سواه، ليس لأنه غير مقبول القول، ولا جائز الشهادة، بل لأنه فقد في غير فنه الذي اهتم به شرطاً مهماً في قبول روايته وهو شرط الضبط، فإن الغالب على من اهتم بعلم أن ينصرف إليه كليا ويترك ما سواه فيخف ضبطه له واعتناؤه به.
مثال ذلك: أن الإمام أبا حنيفة صرف جهده في ضبط الفقه وإتقانه، حتى غدا الناس عيالاً عليه في الفقه، ولكنه لم يول جانب الرواية من الحفظ والضبط والمعرفة ما أولاه للفقه، فلذلك تكلم في روايته بعض الحفاظ، وضعفوه فيها، لا لأنه مجروح العدالة، بل لأنه لم يضبط فن الحديث، ولا اختص له، ولم يمارس أسانيده، فقد يقع منه الخطأ في بعض ذلك، ويكون تضعيفه في باب الرواية لا يعني إهداره في ما سوى ذلك من أبواب العلوم.
وقد يوفق الله تعالى إنساناً فيجمع بين الفنين، كالإمام مالك وتلميذه الشافعي رحمهما الله، فقد كانا فقيهين محدثين، متقنين لعلوم الفقه والحديث والقراءة، فقد كان مالك ثقة في قراءة نافع، وكان الشافعي ثقة في قراءة ابن كثير، مع ما حباهما الله به من الفقه ورواية الحديث، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.وكذلك القول في القراء، فبعضهم صرف جهده لضبط القراءة، فهو فيها ثقة حجة ولكنه في غير القراءة ليس بالقوي، لأنه لم يضبط غير فنه.
مثال ذلك: حفص بن سليمان الغاضري، الراوي عن عاصم فإنه ثقة في القراءة مجمع عليه، روايته مما تواترت عند القراء، ولكنه في الحديث دون ذلك، بل قال الحافظ ابن حجر: متروك الحديث مع إمامته في القراءة(1).
وعلى النقيض من ذلك، قد يوجد من هو ثقة في الحديث، إمام حجة فيه، ولكنه شاذ القراءة عند القراء، كالأعمش سليمان بن مهران الكاهلي، فإنهم ألحقوا قراءته بالشواذ، مع كونه إماماً في الحديث، مجمعاً على ثقته.
وقد وفق الله طائفة للجمع بين هذين العلمين فكانوا ثقات محتجاً بهم عند كلا الفريقين، كعاصم ونافع وأبي عمرو البصري وأبي بكر بن عياش، وابن عامر، وهشام بن عمار، وخلف البزار، شيخا الإمام البخاري، كل هؤلاء ثقات عند الطرفين.
لذلك كان من الخطأ أن نطبق قواعد المحدثين في نقد الأسانيد على أسانيد القراء، ولو فعلنا ذلك لما صفا لنا منها الكثير، فمثلاً: حين ينظر الباحث في إسناد قراءة عاصم، ويرى أنه يرويها حفص بن سليمان عن عاصم عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ..ثم ينظر في كتب تراجم المحدثين وما دونوا من الجرح والتعديل، ويحقق حال حفص فإنه سيرى من أقوالهم ما يفيد ضعفه، فإذا أخذ هذا الحكم ثم طبّقه على إسناد هذه القراءة، لتوصل إلى تضعيف القراءة، وبالتالي تبطل هذه القراءة التي يقرأ بها عامة أهل المشرق الإسلامي!.وليس هذا هو السبيل القويم في دراسة أسانيد القراء، بل الواجب على من رام ذلك أن ينظر في كتب القراء وما سطروه من جرح وتعديل في أحوال المقرئين، لأنه فنهم، وهؤلاء رجالهم.
وكذلك الحال أيضاً في قبول أقوال النقاد المحدثين في ما روي عنهم من نقد بعض القراءات، فإنه قد روي عن بعض نقاد الحديث الطعن في بعض القراءات، كما روي عن الإمام أحمد الطعن في قراءة حمزة بن حبيب الزيات، فهذا الإمام أحمد وإن كان من أئمة النقد عند المحدثين إلا أن قوله في تضعيف القراءة ليس بحجة بعد تلقي علماء القراءات لهذه القراءة بالقبول، لأن الإمام أحمد ليس من أهل هذا الفن ولا هو من نقاده، ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، وكذلك يكون المرجع في علوم الرسم والضبط والتجويد إلى القراء، لأنهم هم أهل الاختصاص وهم المباشرون لهذه العلوم، فهم ادرى بها.
وقد وجد بعض الفقهاء المعاصرين من أفتى بعدم لزوم التجويد في القراءة، بل بالغ بعضهم فزعم أنه محدث بدعة، وأن الأولين ما كانوا يعرفونه. فالقول في هؤلاء إنهم تكلموا في غير فنِّهم، وأتوا بما لا يجوز فيه تقليدهم، وخالفوا إجماع أهل العلم بالقراءة، فقد قال ابن الباذش: اعلم أن القراء مجتمعون على التزام التجويد أهـ(2).
وإجماع القراء على هذه المسألة حجة لا يجوز مخالفته، كما أن إجماع الفقهاء على مسألةٍ ما حجة لا تجوز مخالفته، والله أعلم.
الهوامش:
(1) تقريب التهذيب ترجمة رقم 1414.
(2) الإقناع ص354.