بسم الله الرحمن الرحيم



من "عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي " ، للإمام أبي بكر بن العربي ( 543 هـ )

****************************** *****

أبواب الأحكام
عن رسول الله صلى الله عليه و سلم

باب ما جاء في القاضي

* باب # ([1])
- ( حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِى عَوْنٍ الثَّقَفِىِّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ عَن رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ : « كَيْفَ تَقْضِى ». فَقَالَ : أَقْضِى بِمَا فِى كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ : « فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِى كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ : فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . قَالَ : « فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ». قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِى.
قَالَ : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ».

- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِىٍّ ، قَالاَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِى عَوْنٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو ابْنُ أَخٍ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ عَنْ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.
قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ عِنْدِى بِمُتَّصِلٍ.
وَأَبُو عَوْنٍ الثَّقَفِىُّ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ) . اهـ


* * *

( حديث معاذ في القياس )

رواه أبو عيسي عن شعبة عن محمد بن عبيد الله أبي عون الثقفي عن الحارث بن عمر بن اخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حمص عن معاذ ، وقال : ليس إسناده بمتصل .

(( الإسناد ))
اختلف الناس في هذا الحديث فمنهم من قال إنه لا يصح ، و منهم من قال هو صحيح ، والدين القول بصحته ؛ فإنه حديثٌ مشهور يرويه شعبة بن الحججاج ، رواه عنه جماعة من الرفقاء والأئمة ، منهم يحيي بن سعيد وعبد الله بن المبارك ووأبو داود الطيالسي ، والحارث ابن عمرو الهذلي الذي يروى عنه وإن لم يُعرف إلا بهذا الحديث ، فكفي برواية شعبة عنه وبكونه ابن أخ للمغيرة بن شعبة في التعديل له والتعريف به ، وغاية حظه في مرتبته أن يكون من الأفراد ، ولا يقدح ذلك فيه ، ولا أحد من أصحاب معاذ مجهولا ، و يجوز أن يكون في الخبر إسقاط الأسماء عن جماعة ، ولايُدخِله ذلك في حيز الجهالة ، إنما يَدخُل في المجهولات إذا كان واحداً ؛ فيقال : حدثني رجل ، حدثني انسان . ولا يكون الرَجل للرجل صاحباً حتي يكون له به اختصاص ، فكيف وقد زيد تعريفا بهم أن أضيفوا الي بلد ، وقد خرّج البخاري - الذي شرط الصحة - في حديث عروة البارقي : سمعتُ الحيَّ يتحدثون عن عروة . ولم يكن ذلك الحديث في جملة المجهولات ، وقال مالك في القسامة : أخبرني رجالٌ من كبراء قومه ، وفي الصحيح عن الزهري حدثني : رجالٌ عن أبي هريرة : من صلي علي جنازة فله قيراط .

(( الأصول ))
فيه مسائل :

( الأولي ) لو اتفق علي صحة هذا الحديث لم يكن ذلك أصلاً في التعلق عند علمائنا الأصوليين في إثبات الاجتهاد ؛ لأن خبر الواحد علي أصلهم لاتعلق به فيه ، ولكن أقول إنه ينضاف علي أصلهم الي غيره ، فيكون مجموعها من باب التواتر المعنوي ؛ كشجاعة أبي بكر الصديق وجُوده بماله علي الدين وفي مصالح المسلمين .

( الثانية ) كان إرسال معاذ الي اليمن مع أبي موسي والييْن قرينيْن ، أشركهما النبي صلي الله عليه وسلم فيها ، وأمرهما أن ييسرا ولا يعسرا ، ويبشرا ولاينفرا ، ويتطاوعا ولايختلفا ؛ فكان ذلك أصلاً في تولية أميريْن وقاضييْن مشتركيْن في الإمارة والأ قضية ، فاذا وقعت نازلة نظرا فيها ، فإن اتفقا علي الحكم وإلاّ تراجعا القول حتي يتفقا علي الصواب ، فإن اختلفا رفعا الأمر إلي من فوقهما فينظر فيه ، وينفذان مااتفقا عليه ، ولولا اشتراكهما لمَا قال : تطاوعا ولاتختلفا .
وكان أبو موسي ليّنا فَطِناً حاذقا فقيها ، وقال التاريخية - رحم الله سواهم - وأهل البدع - لاأكرم الله مأواهم - إن أبي موسي كان رجلا غفولاً ، وقد بيَّنا في " العواصم من القواصم " وفي كتاب المريدين من الانوار ، أن أبا موسي كان بالصفة التي ذكرنا ، والكذبة الشنعاء في مسألة الحكَميْن لم يجَُز قط شيء منها ، وقد ذكر الحفّاظ من الدار قطني وغيره صفتها أو ماتفقا عليه ، من أن يختار المسلمون في الباقين من العشرة من يتولي ، فما اتفقوا عليه أنفذ من ذلك ، واستوفينا التحقيق به في غير موضع .

( الثالثة ) في ترتيب أدلّة الأحكام من الكتاب والسنة والاجتهاد تفصيل، وذلك أن القرآن هو الأصل في البيان ، وهو فيه علي وجوه من الجلاء والخفاء ؛ فتولى النبي صلي الله عليه وسلم بيانه ؛ كما قيل له : [ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ] ، فإن لم يكن له في كتاب الله جلاء طلبه ؛ ففي بيان النبي صلي الله عليه وسلم . وبقي إن كان بين القرآن والسنة تعارض ، وهي مسألة خلاف طويلة ، قد بيّناها في أصول الفقه ؛ فلا نطيل بها ههنا ، ولتنظر هنالك .

( الرابعة ) قوله : ( اجتهد رأيي ) . قال علماؤنا : هو افتعال من الجهد ، وهو الجد في الأمر بجميع وجوهه ، يعني في طلب النظائر والأشباه التي تلحق المسكوت بالمنطوق به فيها ، وقد بيّناه في كتابه [2]من الأصول . و قال في بعض الطرق : " ولا آني " أي لاأقصر عن الغاية التي أقدر عليه .

( الخامسة ) والمطلوب بالاجتهاد ، وفيه زحامٌ واضطراب ، والذي يظهر الآن أنه ما يغلب علي ظنه أنه نظير ما وقع البيان من الله فيه .

( السادسة ) فيه تحريم التقليد ، ولكن علي مَن كانت له قدرة علي النظر وعِلْم بمأخذ الادلة ؛ روي الأئمة من الحسان - واللفظ لأبي داود أكثر من أبي عيسي - قال عليٌّ : بعثني رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي اليمن قاضياً ، فقلت يارسول الله : ترسلني وأنا حديث السن ولاعِلم لي بالقضاء ، فقال : إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك ، إذا تقاضي إليك رجُلان ، فلا تقض للأول حتي تسمع كلام الآخر ؛ فإنه أحري أن يتبين لك القضاء . فما شككتُ بعد ، وفي الترمذي : أقضاكم عليّ وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ وأفرضكم زيد . ولايكون قاضيا إلا مَن عَلِم الحلال والحرام ، ولكن سرعة الفصل صنعةٌ في القضاء ، والغوص علي دقائق الأدلة نوعٌ من الفطنة كانت لعليّ .

( السابعة ) ليس الرأي بالتشهي ، وإنما هو ماتراه بعد التدبر ؛ قال النبي صلي الله عليه وسلم - في الحسان - : انما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل عليَّ فيه شيء . وكان زيدٌ أفرضهم ؛ لاجل انفراده لها ، فكان أدرب فيها ؛ لأن التمرن والاعتياد يقدم صاحبه في بلوغ المراد .

(( الأحكام ))
فيه ست مسائل :

( الأولي ) من خطأ القاضي الحكم بظاهرٍ يعلمُ المحكومُ له خلافه ، فذلك لاحرج علي القاضي فيه ، ولا يحل له به من ظاهر الحكم ، ولو كان القضاء به من رسول الله صلي الله صلي الله عليه وسلم خير خليفة ، وقد بيّن ذلك صلي الله عليه وسلم في حديث أم سلمة ؛ فقال : فمن قضيتُ له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه . الحديث ، وعَللّ بأنه بَشَر ، لايعلمُ من الباطن الا ماأطلعه الظهر الباطن .

( الثانية ) قال أصحاب أبي حنيفة : قول النبي صلي الله عليه وسلم لعليّ : اذا تقاضي إليك الخصمان فلا تقض لأحدهما حتي تسمع من الاخر . دليلٌ على أنه لايقضي علي الغائب إذا ادُعِي عليه ، وهي إحدي روايتنا في تفصيل لأنه لم يسمع منه ، وهذا إنما هو مع إمكان السماع من الآخَر ، وأما مع تعذره بمغيب فلا يمنع القضاء ؛ كما لو تعذّر باغماء أو جنون أو حَجْر أو صِغَر ، وقد ناقض أبو حنيفة في القضاء في الوديعة علي المودع عنده بالنفقة لزوج المودع ، وفي الأخذ بالشفعة .

( الثالثة ) خطأ القاضي بعلمٍ لا يُوجِب عليه ضماناً ولايدركه فيه تعَقُب ، وإذا قضي بجهلٍ فحمكه حكم المتعمد في ماله وبدنه ، يؤخذ منه القصاص في كل واحد منهما بما يتعلق به ، وذلك مذكور في مسائل الخلاف ، والتفريغ علي التفصيل فلينظر فيه .

( الرابعة ) يجوز للقاضي بل يجب أن يقضي برأيه فيما يقضي فيه اجتهاده ، وهو فَرْضُه ، ولايجوز له أن يقضي بعلمه ، وهي مسألة عظمي في مسائل الخلاف ، والأصلُ فيها عندنا الإجماعُ علي أنه لايحكم في الحدود ، مِن قبل أن يُحْدِث أصحابُ الشافعي فيه قولاً مخرّجاً ، حين رأوا أنها لازمة لهم ، وقاعدة المسألة هي المصلحة في نفس التهمة ، وزوال الريبة عن القاضي .

( الخامسة ) قوله : اذا اجتهد القاضي الحاكم دليلٌ علي أن من صفاته الاجتهاد ، وذلك معني يختص بالعلم دون المقلّد ، وقال بعض أصحاب أبي حنيفة يجوز أن يوَلَّى المقلد القضاء ، وكذلك رجلٌ علم الحق فقضي به ، وهذا ليس بصفة المقلد كما يشهد يقضي . وهذه عمدتهم . قلنا يلزمكم أن يقضي بما عَلِم كما يشهدُ مَن عَلِم . فإن قيل : أليس يقلد الشهود والمقومين ؟ قلنا : لأنه جاهلٌ بطريق الشهادة ولاسبيل له الي احصائها ، وكذلك التقويم ؛ فكانت ضرورة ، وههنا لايجوز له أن يجهل طريق الحكم ولايخل عليه طريق الحق ، فكان كالمفتي ، ومن لايفتي لايقضي بل هذا أولى .

( السادسة ) ليس من صفاته أن يكون غنياً باجماع ، وقد قال الله عن بني اسرائيل في طالوت : { أني يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ) . والقاضي أبداً في حكم الشرع لايكون إلاّ غنيا ؛ لأن بيت المال له ولأمثاله ، فغناه فيه ، فلما حبس بيت المال أربابه ، واحتاج هو وأمثاله ، كان غنى القاضي أفضل من فقره ؛ أخبرني أبوبكر الطرطوشي بالمسجد الأقصي طهره الله ، قال : لما ولي جدي - يعني لأمه أبوزيد بن الحشا – القضاء بطليطلة ، جمع أهلها ، وأخرج لهم صندوقا فيه عشرة الاف دينار وأخرج لهم خُلعا من ثيابٍ حسنة ، فقال لهم : هذا مالي ، فلا تحسبوا ظهور حالي من ولايتكم ، ولانمُُو مالي من أموالكم . اهـ

[ انتهى - بحمد الله - شرح حديث معاذ في الاجتهاد و القياس ، من عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي ، للإمام أبي بكر بن العربي المالكي ، رحمه الله ]

________________
نقله و نََسَخَهُ :
د . أبو بكر عبد الستار خليل
عفا الله عنه و عافاه في الداريْن

[ من مكتبة مشكاة الإسلامية ]

______________________________ _____-

[1]) من " عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي " ، للإمام أبي بكر بن العربي المالكي ،
نسخة المكتبة الوقفية المصورة pdf، ج 6 ص 68



عن نسخة دار الكتب العلمية ، عن الطبعة المصرية القديمة

و أحسب أن هذا الشرح لحديث الاجتهاد غير موجود على هيئة ( وورد word ) على شبكة المعلومات ؛ لذا كتبته بها ؛ تيسيراً للنَسْخ و النقل و البحث


[2] ) هكذا هي مكتوبة في النسخة المصورة