بسم الله الرحمن الرحيم , والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين , أما بعد :
فإن الله عز وجل لما كان إنما خلقنا لنحقق عبادته جل وعلا , وكان من قام بذلك أدخله الجنة خالداً فيها , ومن لم يقم بها أدخله النار وهو فيها من الخالدين ؛ كان أعظم منة علينا أن هدانا لذلك , ومن تمام هذه النعمة وكمالها أن هدانا جل وعلا لعبادته على طريقة واضحة ومحجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك , محكمةٌ لا تختلف , مؤتلفةٌ لا تتناقض , فصار الناظر فيها يجد أن في كثير من أحكامها تشابهاً ظاهراً , وأن جميعها يخدم أصلاً واحداً , وهو المقصود من إيجاد الخليقة , فدفع هذا التشابه والإحكام العلماء إلى استنباط القواعد التي يمكن أن ترجع إليها هذه الأحكام وتجعل كالفروع لها , وأهم هذه القواعد التي استخرجها العلماء القواعد الخمس الكبرى , وهي : (اليقين لا يزول بالشك) , و(لا ضرر ولا ضرار) , و(العادة مُحكمة) , و(الأمور بمقاصدها) , و(المشقة تجلب التيسير) , وكلها لها أدلة وبعضها نص الدليل الشرعي.
وكلامي في هذا المقال عن قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) وهي ذات مكانة عظيمة في الفقه الإسلامي , بل ذكر بعضهم أنها تشكل أحد قسمي الأحكام الشرعية , إذ الأحكام إما أن تكون لجلب منافع أو لدفع مضار , وهذه القاعدة تنص على دفع المضار , إلا أن هذا قد يكون فيه مبالغة إذ كل التعبدات لجلب المنافع الأخروية أو الأخروية والدنيوية , ولدفع المضار الأخروية أو الأخروية والدنيوية , ولا يستفاد من القاعدة مشروعية عبادة من العبادات , ولكن لا يخفى على ناظر في الفقه منزلتها ومكانتها وكثرة استعمالها وانبناء أحكام كثيرة عليها.
وهي ككثير من القواعد الفقهية منهل سهل غني يمكن أن تؤخذ منه أحكام الوقائع المستجدة التي لا نص فيها , ويلجأ إليها المجتهد عند نزول الوقائع , لا سيما وأن قاعدتنا هي نص حديث نبوي , إذ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لا ضرر ولا ضرار) , وإن كان في الحديث كلام إلا أن العمومات الشرعية من الآيات والأحاديث تدل دلالة قطعية على هذا المعنى , ويصعب حصرها والإحاطة بها ولعل من أبرزها قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب : 58] , وقوله تعالى : {لا تضار والدة بولدها} [البقرة : 233] , وقوله تعالى : {ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} [الطلاق : 6] , وقوله تعالى : {ولا يضار كاتب ولا شهيد} [البقرة : 282] , وقوله تعالى : {أو دين غير مضار} [النساء : 12] , وقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة : 190] , وغير ذلك كثير من الآيات والأحاديث الدالة على معنى هذه القاعدة.
والمعنى الإجمالي لهذه القاعدة أن الضرر والضرار محرمان في الشريعة الإسلامية ؛ إذ النفي في القاعدة والذي استخدم فيه أداة النفي (لا) لا لنفي الوجود الحقيقي ؛ بل لنفي الوجود الشرعي وهو بمعنى النهي أيضاً , فيفيد أن لا ضرر موجود فيما جاءت به الشريعة , وأن الشريعة تنهى عن إيقاع الضرر أيضاً.
لكن قد يكون الضرر ضرراً في ذاته محققاً لنفع عظيم في غيره , كالدواء المر , والكي النافع , وهذا مدرك في كل العادات والأنظمة والتشريعات , ومن هذا المنطلق سنت العقوبات ونحوها , وهذا مما جاءت به الشريعة ومنه كل الحدود والتعزيرات الشرعية , فهذا بلا شك غير داخل في القاعدة ؛ لأنه في المحصلة الكلية والنتيجة النهائية ليس ضرراً ولا إضراراً.
وأيضاً الضرر اليسير الذي لا تسير الحياة إلا به , ويكون تابعاً لغيره , لا شك أنه لو منع لحصل منه مشقة عظيمة.
وثمة سؤال يرد على الذهن عند قراءة نص القاعدة , وهو ما الفرق بين الضرر والإضرار , فليعلم أن ثمة من قال أنهما بمعنى واحد , وأن التكرار للتأكيد , ومن العلماء من رفض هذا لأن التأسيس أولى من التأكيد , ومن ذهبوا إلى هذا المذهب صاروا على ثلاثة أقوال , فمنهم من قال : أن الضرر إلحاق مضرة بالغير مع انتفاع المضر بذلك , والإضرار بدون أن ينتفع , ومنهم من قال : أن الضرر إلحاق المضرة ابتداءً , والضرار على سبيل المجازاة , وهذان القولان فيهما قصر لمعنى القاعدة على إلحاق الضرر بالغير , وهو إنقاص لمعناها , إذ معناها أعم من هذا , فهو شامل أيضاً لما لو أضر الإنسان بنفسه , ومنهم من قال : أن الضرر المراد به : ما يوصل إلى الوقوع في الضرر وفعله , والضرار المراد به : فعل الضرر والوقوع فيه , ولا أدري أله مستند من اللغة أو لا , إلا أن معرفة الفرق بينهما لا يبلغ في الأهمية مبلغ معرفة أن هذه القاعدة عامة شاملة للنهي عن كل ضرر , دالة على تحريم إيقاع الضرر على أي وجه كان , لأن النكرة المنفية تعم , لا سيما وأن في التكرار نوع تأكيد.
وإن لفت الانتباه إلى القواعد الفقهية وأهمية استغلالها بالتفريع عليه وإرجاع الفروع الفقهية المتناثرة إليها أمر في غاية الأهمية , إذ أنها تسهل الصعب , وتقرب البعيد , وتضبط الملكة الفقهية عند المجتهد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه / عبد الرحمن العوض.