بسم الله الرحمن الرحيم
دليل النخبة إلى أحكام الخطبة (5)
مقدار العدد الذي تنعقد به صلاة الجمعة
هذه المسألة من أكثر المسائل الفقهية خلافاً بين العلماء , ويتضح ذلك من خلال الأقوال فيها والتي بلغت أكثر من عشرين قولاً في تحديد العدد المشروط لصلاة الجمعة ( فتح الباري : 2/423) .
وفيها عدة مباحث :
المبحث الأول : ذكر العدد الذي تنعقد به صلاة الجمعة إجمالاً .
اعلم أن بعض أهل العلم ـ رحمهم الله تعالى ـ قد نقل الإجماع على اشتراط الجماعة لصلاة الجمعة .
قال ابن رشد الحفيد (بداية المجتهد :1/201) :(اتفق الكل على أن من شرطها الجماعة ...) .
وقال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ (المجموع :4/504) :(أجمع العلماء على أن الجمعة لا تصح من منفرد , وأن الجماعة شرط لصحتها ) .
وممن نقل الإجماع ابن حجر في الفتح :(2/308) , والشوكاني في نيل الأوطار :(2/209) .
وشذ القاشاني عن الإجماع قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ :(وحكى الدارمي عن القاشاني أنها تنعقد بواحد منفرد , والقاشاني لا يعتد به في الإجماع ) .
وممن حكم بشذوذ هذا القول العلامة العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ فقال ـ وهو يعدد أقوال أهل العلم في اشتراط العدد ـ (الشرح الممتع: 5/41) : (القول السادس: أن الجمعة تصح حتى من واحد؛ لأن الجمعة فرض الوقت، فما الفرق بين الجماعة والواحد، كما أن الظهر فرض الوقت , ولا فرق بين الواحد والجماعة، ومن ادعى شرطية العدد في الجمعة فعليه الدليل، ولكن هذا قول شاذ، وهناك أقوال أخرى ) .
قال الشوكاني (نيل الأوطار :2/290) :(كما أنه لا مستند لصحتها من الواحد ) .ونقل ص :288منه هذا القول عن : (صاحب البحر عن الحسن بن صالح ).(ولم يستبعده في وبل الغمام وهذا من نوادره ) . (الاختيارات الفقهية للشوكاني للشيخ العيزري ص : 101) .
واستُدل له بما أخرجه الإمام احمد : (1/37) , والنسائي : (1420) وصححه الألباني : (صحيح ابن ماجة : 1063 - 1064 ) .
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى (1 ) قال : (قال عمر ـ رضي الله عنه ـ : صلاة الجمعة ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ) .
قال ابن حزم :(المحلى: 3/ 248 ) : ( وذهب بعض الناس إلى أنها ركعتان للفذ وللجماعة بهذا الخبر قال على: وهذا خطأ، لان الجمعة اسم إسلامي لليوم، لم يكن في الجاهلية، إنما كان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية (العروبة)، فسمى في الإسلام (يوم الجمعة)، لأنه يجتمع فيه للصلاة اسماً مأخوذاً من الجمع، فلا تكون صلاة الجمعة إلا في جماعة , وإلا فليست صلاة جمعة، إنما هي ظهر، والظهر أربع كما قدمنا) .
المبحث الثاني : ذكر العدد الذي تنعقد به صلاة الجمعة.
وقال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ (المجموع : 4/263) :(أجمع العلماء على أن الجمعة لا تصح من منفرد , وأن الجماعة شرط لصحتها ) .
قال ابن رشد الحفيد (بداية المجتهد :1/201) :(اتفق الكل على أن من شرطها الجماعة , واختلفوا في مقدار الجماعة ) .
وقد تعددت أقوال أهل العلم في مقدار العدد الذي تنعقد به صلاة الجمعة ـ مع إجماعهم على اشتراط الجماعة لها ـ قال ابن رشد (بداية المجتهد :1/201) :(وسبب اختلافهم في هذا : اختلافهم في أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع , هل ذلك ثلاثة , أو أربعة , أو اثنان ؟ وهل الإمام داخل فيهم , أم ليس بداخل فيهم ؟ وهل الجمع المشترط في هذه الصلاة هو أقل ما ينطبق عليه اسم الجمع في غالب الأحوال , وذلك هو أكثر من الثلاثة والأربعة ؟ ).
وأقتصر هنا على نقل أشهر الأقوال في ذلك وهي كالتالي :
الأول : أنها تنعقد بثلاثة ، وهذا هو قول الحنفية على خلاف بينهم هل يعتبر الإمام منهم ؟ فقال أبو حنيفة ومحمد : ثلاثة سوى الإمام ، وقال أبو يوسف : اثنان سوى الإمام (انظر : مختصر الطحاوي ص : 35 ، وبدائع الصنائع : 2 / 268 ).
وهو رواية عن الإمام أحمد ـ وهناك روايات أخرى عن الإمام أحمد ، حيث بلغت الروايات عنه في هذه المسألة سبع روايات ( انظر : الفروع: 2 / 99 ، والإنصاف : 2 / 378 ، والمبدع : 2 / 152 ).
وهو قول الأوزاعي , وأبو ثور (انظر المغني : 3/45, والمجموع 4/259) .
وهو قول قديم منسوب للشافعي قال النووي ( المجموع4 /258 ):( ونقل ابن القاص في التلخيص قولاً للشافعي قديما أنها تنعقد بثلاثة إمام ومأمومين هكذا حكاه عن الأصحاب والذي هو موجود في التلخيص ثلاثة مع الإمام ثم إن هذا القول الذي حكاه غريب أنكره جمهور الأصحاب وغلطوه فيه قال القفال : في شرحه التلخيص : هذا القول غلط لم يذكره الشافعي قط ولا أعرفه , وإنما هو مذهب أبي حنيفة ) .
وفي روضة الطالبين (2/7):(ولم يثبته عامة الأصحاب ) .
، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية (انظر الاختيارات ص : 79 ).

وبه قال العلامة عبد الرحمن السعدي (انظر الفتاوى السعدية ص :133) , والعلامة الإمام عبد العزيز بن باز ( كتاب الدعوة : 1/ 66 ) .
ورجحه العلامة الفقيه محمد بن صالح العثيمين ( الشرح الممتع :5/41) . فقال :(وأقرب الأقوال إلى الصواب: أنها تنعقد بثلاثة، وتجب عليهم) .
أدلتهم من الكتاب والسنة :
أولاً : من الكتاب :
قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }الجمعة:9.
وجه الدلالة : قال ابن قدامة (المغني:3/45) : (وهذه صيغة الجمع فيدخل فيه الثلاثة ) .
ثانياً : من السنة النبوية :
الدليل الأول :
عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال : (إذا كانوا ثلاثة في سفر فليؤمهم أحدهم , وأحقهم بالإمامة أقرؤهم) رواه مسلم :(672) .
وجه الدلالة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر الثلاثة بالإمامة , وهو عام في إمامة الصلاة كلها , الجمعة والجماعة .(الدرر السنية : 5/18) .
مناقشة الدليل : قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ : (المحلى : 3 / 250-251 ) :(وهذا خبر صحيح، إلا أنه لا حجة لهم فيه، لان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقل: إنه لا تكون جماعة ولا جمعة بأقل من ثلاثة , وأما حجتنا فهي ما قد ذكرناه قبل من حديث مالك بن الحويرث أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: (إذا سافرتما فأذنا وأقيما، وليؤمكما اكبر كما) فجعل عليه السلام للاثنين حكم الجماعة في الصلاة) .
الإجابة عن هذه المناقشة : يجاب بأنه وإن قيل ذلك بالنسبة للجماعة ألا أنه لا يقال بذلك في الجمعة , لا ختلافها عن الجماعة من حيث طلب الاجتماع , فهي لا تقام في أكثر من موضع في البلد إلا لحاجة , وتشترط لها الخطبة التي تحتاج إلى جمع يستمع لها , ونحو ذلك (انظر مقدار العدد الذي تنعقد به صلاة الجمعة للحجيلان ص : 33 ـ 34 ) .
الدليل الثاني :
مارواه أبو الدرداء قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقول ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية ) .
قال زائدة : قال السائب : يعني بالجماعة الصلاة في الجماعة .
رواه أبوداود :(547) , والنسائي :(847) .وحسنه الألباني :( صحيح الجامع :5701 ) .
وجه الدلالة : قال العلامة العثيمين (الشرح الممتع : 5/52 ) :(والصلاة عامة تشمل الجمعة وغيرها، فإذا كانوا ثلاثة في قرية لا تقام فيهم الصلاة، فإن الشيطان قد استحوذ عليهم، وهذا يدل على وجوب صلاة الجمعة على الثلاثة) .
الدليل الثالث : مارواه الحكم بن ميناء أن عبدالله بن عمر وأبا هريرة حدثاه أنهما سمعا رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقول على أعواد منبره : لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين ) رواه مسلم :(865) .
وجه الدلالة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توعد القوم على ترك الجمعة قال في المصباح المنير (مادة ق و م ) :(والقوم جماعة الرجال ليس فيهم امرأة ...قال الصغاني : وربما دخل النساء تبعاً لأن قوم كل نبي رجال ونساء ) . وعلى هذا فالقوم الجماعة , وأقل الجمع ثلاثة , فدل على أن الجمعة تنعقد بهم (مجلة البحوث الإسلامية العدد15 ص : 85) .
القول الثاني : لا تنعقد الجمعة إلا بأربعين فأكثر
وبهذا قال عبيد الله بن عبدالله بن عتبة .
وإسحاق بن راهويه, ورواية عن عمربن عبد العزيز وهو القول المشهور عن الإمام الشافعي, وهو المذهب الصحيح (انظر المجموع : 4/259, والمغني: 3/44) .
، وهو الرواية المشهورة عن الإمام أحمد ، والمذهب عند أصحابه ، وعليه أكثرهم (انظر الفروع : 2 / 99 ، والمغني 3/44 ).
أدلتهم :
استدلو بأدلة من السنة : أقواها ـ كما قال النووي (المجموع : 4/259 ) : (أقرب مايحتج به ) ـ : مارواه عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال
: ( كنت قائد أبي حين ذهب بصره . فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان استغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة ودعا له . فمكثت حيناً أسمع ذلك منه . ثم قلت في نفسي والله إن ذا لعجز . إني أسمعه كلما سمع أذان الجمعة يستغفر لأبي أمامة ويصلي عليه , ولا أسأله عن ذلك لم هو ؟ فخرجت به كما كنت أخرج به إلى الجمعة . فلما سمع الأذان استغفر كما كان يفعل . فقلت له يا أبتاه أرأيتك صلاتك على أسعد ابن زرارة كلما سمعت النداء بالجمعة لم هو ؟ قال : أي بني كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ من مكة في نقيع الخضمات في هزم من حرة بني بياضة . قلت كم كنتم يومئذ ؟ قال أربعين رجلاً ) رواه أبوداود (1069) , وابن ماجة (1082) وحسنه النووي في المجموع ( ) والحافظ في التلخيص (2/56) , والألباني في الإرواء (3/67) .
وجه الدلالة قال النووي :(المجموع 4 / 260) : (قال أصحابنا وجه الدلالة منه أن يقال أجمعت الأمة على اشتراط العدد , والأصل الظهر فلا تصح الجمعة إلا بعدد ثبت فيه التوقيف وقد ثبت جوازها بأربعين فلا يجوز بأقل منه إلا بدليل صريح ).
وناقش هذا الكلام ابن حزم فقال :( ولا حجة له في هذا، لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقل إنه لا تجوز الجمعة بأقل من هذا العدد، نعم والجمعة واجبة بأربعين رجلاً وبأكثر من أربعين , وبأقل من أربعين ).
ولمن أراد المزيد فقد ناقش الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ هذا الدليل من أحد عشر وجهاً كما في الدرر السنية : (5/ 28- 33) .
وأما عن بقية أدلتهم من السنة فقال العلامة الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ : (وليس في عدد الأربعين حديث ثابت غير حديث كعب بن مالك المتقدم وهو لا يدل على شرطيته لأنها واقعة عين كما قال الشوكاني ) .
. الثالث : أنها لا تنعقد إلا بعدد تتقرَّى بهم القرية ، ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم ، وهو المشهور عند المالكية (انظر : بداية المجتهد :1 / 158 ، والكافي لابن عبد البر :1 / 149 ) .

واختاره السيوطي (الحاوي للفتاوى :1/66) , والشنقيطي ( أضواء البيان : 6/385) .
ومما استدلوا به الآية في الجمعة , وحديث طارق بن شهاب مرفوعاً : ( الجمعة حق واجب على كل مسلم ) رواه أبوداود (67) وقال :( طارق بن شهاب قد رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يسمع منه شيئاً ) . وصححه الألباني في الإرواء :(3/54-55) وذكر له شواهد .
ووجه أدلتهم أنها موجبة للجمعة , ولم يرد فيها تحديد بل وردت مطلقة (انظر المنتقى شرح الموطأ 1/198) .
الرابع : لا ينعقد إلا برجلين , إمام ومأموم فأكثر .
وبه قال النخعي (المحلى 3 / 249 ) والحسن بن حي (المحلى 3 / 249 )
والطبري (بداية المجتهد 1/ 201 ) والظاهرية ( المحلى 3 / 249 ) واختاره الشوكاني ( نيل الأوطار 2 /290 ) وبه قالالمحقق أبو الطيب صديق حسان خان (الأجوبة النافعة ص :77) .وقال العلامة العثيمين ( الشرح الممتع 5/53) : (وهو قول قوي ) .
أدلتهم :

استدلو بالآية فقالوا :الأمر بالسعي إلى الجمعة عام فلايجوز أن يخرج عن هذا الأمر إلا بنص جلي أو إجماع متيقن , وليس ذلك إلا للفذ وحده . ( المحلى 3 / 251 ) .
من السنة :
مارواه مالك بن الحويرث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :(إذا سافرتما فأذنا وأقيما , وليؤمكما أكبركما ) فجعل النبي الاثنين حكم الجماعة في الصلاة , فكذلك في الجمعة .
الترجيح :
مما تقدم يتضح أنه لم يرد دليل في تعيين عدد مخصوص قال العلامة الشنقيطي ـ رحمه الله تعالى ـ :( والواقع أن كل هذه الأقوال ليس عليها مستند يعول عليه في العدد بحيث لو نقص واحد بطلت ...ولم نطل الكلام في هذه المسألة لعدم وجود نص صريح فيها وكل ما يستدل به فهو حكاية حال تحتمل الزيادة والنقص ولا يعمل بمفاهيمها والعلم عند الله تعالى) .
قال العلامة المحقق أبو الطيب صديق حسان خان " الموعظة الحسنة بما يخطب في شهور السنة " : (والعجب من كثرة الأقوال في تقدير العدد حتى بلغت إلى خمسة عشر قولا ليس على شيء منها دليل يستدل به قط إلا قول من قال : إنها تنعقد جماعة الجمعة بما تنعقد به سائر الجماعة كيف والشروط إنما تثبت بأدلة خاصة تدل على انعدام المشروط عند انعدام شرطه فإثبات مثل هذه الشروط بما ليس بدليل أصلا فضلاً عن أن يكون دليلاً على الشرطية مجازفة بالغة وجرأة على التقول على الله وعلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى شريعته ) .نقلاً عن الأجوبة النافعة للألباني ص :77) .
وأقرب الأقوال للصواب وأسعدهم بالدليل ـ والله أعلم ـ هو القول الأول ـ وهو قول الجمهور ـ والخلاف بينهم وبين من يقول بالاثنين إنما هو في أقل الجمع , وحساب الإمام من
العدد أم لا .
المبحث الثالث : ذكر العدد الذي تنعقد به صلاة الجمعة للخطبة .

اختلف الفقهاء في اشتراط حضور العدد الذي تنعقد به الجمعة للخطبة ، وذلك على قولين :
القول الأول : يشترط حضور العدد الذي تنعقد به الجمعة للخطبة .
وبهذا قال المالكية ( انظر : الإشراف 1 / 134 ، ومواهب الجليل 2 / 165 - 166 ، والفواكه الدواني 1 / 306) .
) ، والشافعية (انظر : الوجيز 1 / 62 ، والمجموع 4 / 259، وروضة الطالبين 2
) ، والحنابلة (انظر : الفروع 2 / 111 ، والإنصاف 2 / 390 ) .
القول الثاني : لا يشترط حضور العدد الذي تنعقد به الجمعة للخطبة .
وهذا القول منسوب إلى الإمام أبي حنيفة (الإشراف 1 / 134 ، وابن قدامة في المغني 3 / 50) .
الأدلة :
أدلة أصحاب القول الأول :
استدلوا بأدلة من السنة :

أولا : من السنة :
ما رواه مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ) أخرجه البخاري ( 605 ) .
وجه الدلالة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصلاة كما صلى ، ولم يخطب وحده ، وإنما خطب بحضرة العدد الذين تنعقد بهم الجمعة (انظر مواهب الجليل 2 / 166) .
مناقشة هذا الدليل : يناقش من وجهين :
الأول : أن هذا استدلال بالفعل ، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب .
الثاني : أن هذا الدليل - على تقدير القول بأنه يدل على الوجوب - لا يقتضي اكتمال العدد الذي تنعقد به الجمعة ، وإنما يتحقق بحضور عدد يستمع الخطبة .

دليل صاحب القول الثاني :
أن الخطبة ذكر يتقدم الصلاة ، فلم يشترط له العدد ، كالأذان (ينظر : المغني 3 / 210 .) .
مناقشة هذا الدليل : نوقش بأنه قياس مع الفارق ؛ لأن الأذان ليس بشرط ، وإنما مقصوده الإعلام ، والإعلام للغائبين ، والخطبة مقصودها التذكير والموعظة ، وذلك يكون للحاضرين ، كما أنها مشتقة من الخطاب ، والخطاب إنما يكون للحاضرين.
الترجيح :
الذي يظهر - والله أعلم بالصواب - هو أنه يجب حضور الخطبة جماعة يتحقق بهم مقصودها من الوعظ والتذكير ،


المبحث الرابع : استمرار حضور العدد حتى نهاية الخطبة
اختلف القائلون في المطلب السابق باشتراط حضور العدد للخطبة هل يجب أن يكون الحضور لجميع الخطبة ، أو يكفي حضور بعضها ، فلو انفضوا , أو بعضهم في أثنائها لم تصح ؟ وذلك على قولين :
القول الأول : يشترط حضور القدر الواجب منها ، فإن انفضوا في أثنائها لم يعتد بالركن المفعول حال غيبتهم .
وبهذا قال الشافعية (انظر : المجموع 4 / 261 ، وروضة الطالبين 2 / 7 - 8 ، ) .
) ، والحنابلة (انظر : والفروع 2 / 111 ، وكشاف القناع 2 / 34 ) .
على اختلاف بينهم في وجوب توفر أركان في الخطبتين جميعا

القول الثاني : يشترط حضور جميع الخطبة .
وهذا هو الظاهر من قول المالكية حيث أطلقوا القول باشتراط حضور العدد الذي تنعقد به الجمعة للخطبة (انظر : الإشراف 1 / 134 ، ومواهب الجليل 2 / 165 ) .
قال الشيخ الحجيلان (خطبة الجمعة وأحكامها الفقهية: 46) : (ولم أطلع على أدلة صريحة لأصحاب القولين ، ولعل أصحاب القول الأول يستدلون بأن القدر الواجب من الخطبة - وهي شروطها - هي التي لا تصح إلا بها ، فلو أخلّ الخطيب بشيء منها لم تصح ، فيكون استماع العدد الذي تنعقد به الجمعة إليها واجبا ليتحقق المقصود من هذا الواجب ، وهو الاستماع للتذكر والاتعاظ .
وأما القول الثاني فلم يتبين لي الوجه فيه .

وأما الترجيح فإن القول باشتراط حضور العدد للقدر الواجب من الخطبة هو الأظهر، ولكن لا يلزم اكتمال العدد الذي تنعقد به الجمعة ... والله تعالى أعلم بالصواب ).
قلت : قد بوب الإمام البخاري في صحيحه فقال :( باب إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة فصلاة الإمام ومن بقي جائزة ).
قال الحافظ ( فتح الباري: 2/422) :( قوله: "باب إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة الخ" ظاهر الترجمة أن استمرار الجماعة الذين تنعقد بهم الجمعة إلى تمامها ليس بشرط في صحتها، بل الشرط أن تبقى منهم بقية ما. ولم يتعرض البخاري لعدد من تقوم بهم الجمعة لأنه لم يثبت منه شيء على شرطه ) .


(1 ) و قد اختلف العلماء في سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى من عمر ؛ و سبب اختلافهم في ذلك : اختلافهم في تحديد مولده : فقد نقل بعضهم انه ولد لست سنين بقيت من خلافة عمر . بينما نقل آخرون : أنه ولد قبل ذلك ، قال أبو نعيم في حلية الأولياء : (4/353):((و لد في خلافة الصديق أو قبل ذلك، و حدث عن عمر)) . و كذا جزم الذهبي في سير أعلام النبلاء : (4/263 ) بنحو قول أبي نعيم.
قال الذهبي (تهذيب التهذيب :3/414) :(قلت : وقال ابن أبي حاتم : قلت : لأبي يصح لابن أبي ليلى سماع من عمر , قال : لا , قال : أبو حاتم روى عن عبد الرحمن أنه رأى عمر وبعض أهل العلم يدخل بينه وبين عمر البراء بن عازب وبعضهم كعب بن عجرة , وقال الآجري عن أبي داود : رأى عمر ولا أدري يصح أم لا وقال : أبو خيثمة في مسنده ثنا يزيد بن هارون أنا سفيان الثوري عن زبيد ـ وهو الأيامي ـ عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى : سمعت عمر يقول : صلاة الأضحى ركعتين والفطر ركعتين الحديث قال أبو خيثمة : تفرد به يزيد بن هارون هكذا , ولم يقل أحد سمعت عمر غيره ورواه يحيى بن سعيد وغير واحد عن سفيان عن زبيد عن عبد الرحمن عن الثقة عن عمر ورواه شريك عن زبيد عن عبد الرحمن عن عمر ولم يقل سمعت , وقال ابن أبي خيثمة في تاريخه : وقد روى سماعه من عمر من طرق وليست بصحيح وقال الخليلي في الإرشاد الحفاظ لا يثبتون سماعه من عمر وقال ابن المديني : كان شعبة ينكر أن يكون سمع من عمر . قال ابن المديني : لم يسمع من معاذ بن جبل , وكذا قال الترمذي في العلل الكبير وابن خزيمة , وقال يعقوب بن شيبة : قال ابن معين : لم يسمع من عمر ولا من عثمان وسمع من علي , وقال ابن معين : لم يسمع من المقداد) .
هكذا اختلف في سماعه : فالأثر منقطع على رأي من لا يثبت السماع ، و متصل على رأي من يثبت له السماع .
.كتبه أبومالك عدنان المقطري اليمن ـ تعز