الحمد لله وحده ..
وبعد..
فمن أسعفته فراسته = فلعله يدرك أنني لستُ من محبي بيان الأستاذ عبد الله الهدلق،ولكن الذي لاشك فيه أني أحب القراءة له،وقد أعجزت هذه المعادلة رجلاً من أذكى وأبر من عرفتُ حتى جادلني عليها جدالاً يقطع الأنفاس..
وأصل هذا الباب : أن الرجل قد يكتب فيعجبك معناه وتعجبك قدرته على حسن الإبانة عن معناه وتعجبك حلة الإبانة التي يكسو بها معناه..
فهي ثلاث خصال :
1- المعنى.
2- الإبانة عن المعنى.
3- اللفظ الذي به تكون الإبانة.
وقد اعتاد الناس أن يقولوا أنها لفظ ومعنى وفقط،ويخالفهم العبد الفقير فيزعم أن الرجل قد يبين عن معناه إبانة حسنة بلفظ وسط لا براعة فيه ولا فجاجة،وقد يرزق الرجل عبارة مجلجلة وألفاظاً صكت له بدار ضرب خفية تأخذ بمجامع النفس إدهاشاً فتأسرها = لكنها بعد ذلك لا تسطيع تمام الإبانة عن معناه الذي أراد..
ولا أستحسن إذا وقع للكاتب شيء من هذا الصنف الأخير أن يلوم أفهام الناس دائماً ،ولا أرى بأساً إن عاد على نفسه باللوم أحياناً..
وإذا عدنا إلى مقالة الأستاذ الكريم هذه = فإن أمرها عندي يرجع لنفس الثلاثة :
1- أما مافيها من المعنى فهو معنى حسن شريف وكل ذي فقه يرى أنه مادعاه إلى تقرير هذا المعنى إلا حدبه على الصف الذي ينتمي إليه، وحرصه على أن يَنْفِرَ من هذا الصنف فئات توسع آفاقها المعرفية توسعة ترد عنها عادية الحوادث وتدفع عنها تهم المتنفخين وتزيدها معرفة بالباطل وترشدها إلى درر من المعاني الجميلة والأفكار الحسنة قدر الله أنه قد يقع بين ركام الباطل وسطور العدمية العبثية الوجودية شيء منها..
وهذا المعنى من الأستاذ معنى مكرور معاد،ولذلك لما وصلتني المقال قرأتها قراءة واحدة في دقيقتين على الأكثر ،وكرهتُ مافيها من تكرار المعاني السالفة البيان ،وعذرتُه في هذا التكرار الذي يُعذر إن وقع في مثله من يدعو لباب غفل الناس عنه.
2- أما اللفظ : فللأستاذ حلته البيانية ومعجمه اللغوي وتراكيبه التصويرية التي تتمرغ على جانبها الشرقي تارة وعلى جانبها الغربي تارة ولربما استوت على ظهرها متوسطة تارة ثالثة،وهي حلته التي اختارها لنفسه،وقد قدمتُ أني لا أحب هذا الجنس من البيان ولا أطيقه،ولكني لا أطيق أيضاً أن يُتخذ التعليق على مقال موضعاً لبيان عدم الإطاقة هذا،ولستُ أرى أخانا الفاضل عراق الحموي(وهو رجل عاقل فاضل كما عهدته) إلا غلبه بغض هذا اللون من البيان كما أبغضه = فسارع إلى الإعلان به في هذا الموضع وهذا ليس حسناً..
لكن القبيح بالفعل والذي ماكنت أحب لأخي عراق الحموي أن يتورط فيه فهو أن يلغ مع الأفاضل في مسألة مقصود الأستاذ بعبارته وألا يقبل تفسير خالد المرسي لها وأن يجعل هذا التفسير من جنس تفسيرات الواقفين على شاطيء الشيخ محيي الدين..
ولو علم أخونا عراق غير معلم = فأهم حجج إبطال هذه التفسيرات هو المحكم الثابت بالاستقراء المبين لمنهج الشيخ محيي الدين والذي يمنع تفسير تلك العبارات بتلك التفسيرات القرمطية،أما والمحكم الثابت هو ما عرفناه من دين الهدلق=فلو لم يكن بد من رفض تفسير المرسي=فليُسأل الأستاذ إذاً عن مراده بدلاً من تلك العجلة المعيبة التي وقع فيها الإخوة الأفاضل هنا..
بقيت ثالثة غير حسنة من أخينا عراق وهو ذكره أن المقالة صنعت كلمة ولم تصنع فكرة،ورأيي أن الفكرة شريفة جداً وصدقني يا عراق لو تمت للأستاذ فكرته وأطاعه فيها نفر من الناس= لخف ما تعاني وأعاني ويعاني كل صاحب رأي حر يرضى لحريته أن تقيد بالمحكم الثابت ولا يرضى لها أن يقيدها ضيق العطن وقلة الاطلاع وضعف المنة المعرفية..
3- نأتي للثالثة وهي هل أسعفت الأستاذَ حلتُه البيانية في الإبانة عن معناه وهل الإخوة الذين أخطأوا فهم مراده قد ركبهم الغلط من كل وجه ؟
أما أنا فلا أرى الغلط قد أتاهم إلا من العجلة إلى فقه معنى لم يرده صاحبه وفي النص وسباق دين الشيخ المعروف ما يمنع إرادة تلك المعاني،لكني أيضاً لا أبريء الشيخ تبرئة تامة،وأحب منه لو أتى الناس هوناً هوناً ،وراعى المحال التي يُساق إليها الكلام دوماً ،وقلل الإغراب نوعاً،وإني إذ أدعوه إلى ودع شيء يسير من حلته البيانية = فليس ذلك لبغضي إياها؛إذ لو تركت نفسي لبغضها = لوددتُ أن لو نزعت تلك الحلة كلها،وإنما أدعوه لذلك حباً له وكرامة لفكرته أن تعوق انتشارها تلك الحصوات..
وأعظه بواحدة : أستاذنا الكريم،اعلم أنك لست واسعاً كل الناس،فإن يكن حمد = فستكون مذمة،فاصبر وصابر وما توفيقك إلا بالله..