هذا ردٌ على رسالة من صديق يكاد أن يقع في براثن الإحباط جرّاء المشاهد الحزينة التي قرأ فيها فسادا وتناقضا مستشرياً في مجتمعاتنا.


يقول فيها :


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


أخي الحبيب :


لا أعلم كيف ولا من أين أبدأ بثي وحزني لك , فالأمر قد بلغ عندي مبلغاَ أكاد أن أفقد معه اتزاني.


تحتشد في عقلي حزمٌ لا حصر لها من الأفكار والتناقضات والأطروحات وكأن الفضاء المكتظ بالسعار المسمى حوارا قد اجتمع كله داخل جمجمتي حتى شل تفكيري وأتى على ما بقي من صفاء في الذهن وبصيرة بالحال.


كيف لا يحدث لي هذا –بل وللناس جميعا- وواقعنا التعيس يرزح تحت المتناقضات بشكل يدع الحليم حيرانا. ألا ترى أن الثابت بات متحولا والمجمع عليه أضحى الخلاف فيه أمرا سائغا.


فبدل أن يكون الضعيف قويا في بلاد المسلمين حتى ينتصر له ,والقوي ضعيفا حتى ينتصر منه, زاد ضعف الضعيف حتى بدأ يعايش أجواء العبودية , وتعاظم بطر القوي حتى انهمك في سحق من حوله وزاد بطشه حتى أصبح من المستبدين في الأرض.


بل حتى في أمور الديانة , ما تربينا عليه من أحكام الدين والعقيدة وتلقيناه بالقبول من العلماء الربانيين, أصبح اليوم مثارا للجدل وعرضة للنقد والنقض, لا من علماء ربانيين مثلهم, ولكن من كتاب أعمدة يحظى اليوم الواحد منهم باحتفاء وحصانة لم يعد يتمتع العالم بعشرها.


لقد أصبحت أرى نفسي مغفلا ساذجا حينما أٌلزم نفسي بتطبيق النظام وإتيان البيوت من أبوابها في الوقت الذي يعيث فيه كثير من الناس الفساد, فيتقحمون الأبواب ويؤثرون شريعة الغاب فيكون لهم ما يريدون ...ولا رقيب ولا حسيب, فرأيت أنه لا بأس بهذا المنهج إن لم يكن لي سبيل إلا إياه, والغاية إذن تبرر الوسيلة.


أين هم علمائنا الذين نعول عليهم بعد الله في إحقاق الحق وإزالة المنكر أو التقليل منه. أهم حقا كانوا قد حرّموا أمورا لم ينزل الله بِتحريمها سلطانا, حتى إذا تبدت الأمور وانكشف المستور, سقطت هيبتهم بين الناس وسقطت يا للأسف هيبة الدين بسقوطهم فأصبح الناس يشكّون في حرمة ما هو حرام قطعا , أم أن الخرق قد اتسع فآثروا الانزواء والنجاة بالنفس من مجابهة المد الشرس الذي بات يتسلح بنفس سلاحهم الذي طالما أشهروه في وجه مخالفيهم , فكان الجزاء من جنس العمل!.


ما بالهم أصبحت أصواتهم تتناقص ومساحة ما يتحدثون عنه تتقلص حتى لم تعد تسمع لهم صوتا إن كان ما عندهم من آراء يتقاطع مع الأجندة العليا.


لم أعد أسمع من آرائهم وفتواهم إلا تلك التي أصبح العوام يحفظونها غيبا بل يستحضرون الأقوال المختلفة حولها.


هل نجح القوم في زرع الخوف في قلوبهم حينما أجهزوا على أحدهم ليكون مآله عبرة للباقين؟


إنها والله كارثة حينما يسكت الحق بسكوت أهله في وقت أشد ما يكون الناس حاجة للبيان.



هل فعلا سنرى يوما في بلدنا الحبيب الكنائس والصلبان تشيد بجانب بيوت الله كما هي حال بيوت محاربة الله ورسوله المتمثلة بصروح الربا؟.


هل سنرى المراقص والحانات في الرياض وجدة والدمام؟ دع عنك دور السينما!


أرجو منك أن تساعدني على ما أنا فيه من التخبط والذهول.


أخوك الحائر


.











وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته


أخي الحبيب



حقا إن ما يحدث في بلدي الحبيب لهو مما تدمع له العين وينفطر له القلب ألما وحسرة ولا نقول إلا ما يرضي ربنا .


ولكني على يقين من أمرين أساسيين:


: أولهما أن المنكرات عموما وهذه الجرائم خصوصا لا ترتكب إلا عند توفر ركنين مهمين



أما أحدهما فهو ذلك الذي أعمى الهوى سمعه وبصره وبات عبدا للريال والأسهم والبيت والسيارة والخميصة والخميلة والمنصب والجاه , فسعى لاهثا وراء سرابها البراق لا يهتم معه إلى أي سبيل يقوده ذلك السراب.


فحينما تسنح له الفرصة في ظل الفوضى العارمة فإنه يخر ساجدا في محراب الخيانة والرذيلة وينهمك في الفساد وإهلاك الحرث والنسل , بل ويعمل جاهدا على إبقاء


الأمور عل حالها إن كانت في صالحه, ويرفع عقيرته بما يسميه إصلاحا إن كان سيؤدي به ذلك إلى مراده وإن كان إصلاحه المزعوم هو فساد عريض.


فلو قلت له نريد برنامجا للحد من تكشف العورات في المستشفيات فلا يباشر المرأة حين ولادتها إلا امرأة قالوا لك: أنتم تريدون أن تعيشوا عالما افتراضيا. عليكم بالواقع و الواقع فقط, كيف يمكن أن تغيروا واقعا نعيشه منذ زمن بعيد.


فإذا صدقهم البسطاء من الناس, ثم أتى هؤلاء البسطاء أنفسهم ليسألوا أولئك القوم حين يعملون دون كلل أو ملل لاختلاط التعليم الأولي (الصفوف الدنيا) والنهائي (كاوست) قائلين لهم:أنتم تريدون أن تعيشوا عالما افتراضيا. عليكم بالواقع و الواقع فقط, كيف يمكن أن تغيروا واقعا نعيشه منذ زمن بعيد!!!


بزغت قرون المكابرة والجبروت والطغيان من رؤوس أدعياء الإصلاح أن: "كفو عن إعاقة التنمية أيها الرجعيون المتخلفون. ألا ترون أنا نقود البلد إلى التنمية والإصلاح وأنتم لا تحسنون إلا صناعة الكوابيس"




وأما الركن الآخر من أركان الفساد فهو ذلك الذي يسكت عن الأول , فهو كالمتواطئ شعر أو لم يشعر , رضي بهذا الوصف أو لم يرض. فما سكوته إلا جبن وخور وخوف على متاعه وجاهه ومنصبه.


فهو تارة يقول : وما يفيد نصحي وإنكاري عند هؤلاء الذين لا يستمعون ولا هم يذكرون, وتارة يقول إن الخرق قد اتسع على الراقع والأمر لا يستحق مني أن أعرض نفسي للمسائلة ولا مستقبلي للخطر .


ولا أعلم والله أيهما أشد جرما وأولى باللوم والعقاب , الأول أم الثاني , وهل المستقبل الذي يخشى العاقل ضيعته إلا ذاك اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) . اللهم عاملنا بعفوك ولا تعاملنا بعدلك



عفا الله عنك, إن الله تعالى يقول :( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم لك بما عصوا وكانوا يعتدون.. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون), وتقول أنت : الغاية تبرر الوسيلة!!!


الله تعالى يقول "لعن" ...الله أكبر ما أشدها من كلمة..... بسبب "لا يتناهون عن منكر فعلوه" وتقول "الغاية تبرر الوسيلة"...


ياحسرة على العباد ما يأتيهم من ذ كر من ربهم إلا كانوا عنه معرضين.


أخشى ما أخشاه ألا يحصل الواحد شيئا , لا نصيبه من الدنيا, ولا رحمة ربه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.




أما الأمر الثاني فهو أني على يقين أيضا أن الذي يحدث في مجتمعنا لم يكن ليحدث إلا لأننا مستحقون له بكل أطيافنا, حكاما ومحكومين علماء وعامة و .... (يعفو عن كثير).


(ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى )


وقد قيل لابن المبارك في الاستسقاء : إننا استبطئنا المطر. فقال لهم: أستبطئتم المطر؟ والله إني أستبطئ حجارة تنزل عليكم من السماء. فرحماك رحماك يارب


لا خلل في حياة المسلم أكبر من تنكبه النظرة الربانية للأمور من حوله. إن دين الله لا يتبدل ولا يتغير وسننه لا تتحول . ولكن الذي يتغير هو الأشياء والمسميات والمظاهر أما الحقائق فهي هي, والحق هو هو, والباطل هو هو منذ خلق الله السماوات والأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.


ولكن لا يوفق إلى رؤية الأمور على حقيقتها ويتعامل معها بمنهج العدل والحق إلا الرجل الذي أذعن لسلطان الله رب العالمين في كل ما يأتي وما يذر, لأنه قد قال بقلبه قبل لسانه: " رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا"


ولأنه أدرك أن حقيقة الإسلام هي استسلامه لأمر الله ونهيه (فلما أسلما وتله للجبين , وناديناه أن يا إبرهيم, قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين), واستحكامه لهدي الإسلام في كل حقير وجليل , بل ورضاه واطمئنانه لذلك لا مجرد الاستحكام (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)


فواغوثاه...... ما نقول عن أناس آمنوا بألسنتهم ثم لا أقول أنهم وجدوا في أنفسهم حرجا مما قضى الله ورسوله بل هم لم يحكموا شرع الله أصلا.


أن العارفين بحقيقة الهداية التي يتلوها (ولا أقول يطلبها ففرق بين الأمرين) كثير من الناس في الفاتحة أكثر من سبع عشرة مرة في اليوم والليلة ليدركون أنها تتمثل أولا في أن يرى المرء الحق حقا والباطل باطلا. لأنه إن لم يوفق لهذ ا فأنى له اتباع الحق واجتناب الباطل الذي ما هو إلا ثمرة لحقيقة الهداية.


وما تهافت أكثر الناس على كثير من المشتبهات والمحرمات وتفريطهم لصلاح أحوالهم إلا بسبب دورانهم في فلك الهوى وحظوظ النفس وعدم إقبالهم على تقوية إيمانهم واعتصامهم بخالقهم العظيم واقتدائهم بهدي نبيهم وإن كان ظاهر بعضهم الصلاح والاستقامة .


أخي , إن المسلك السديد والمنهج الرشيد في التعامل مع كل ما حولنا هو أن يستند الواحد منا إلى كتاب ربه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.


(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) فيعود عليه بالبصيرة والرشاد في الدنيا والفلاح في الآخرة.


فإن رأى الناس يتهافتون من حوله على حطام الدنيا تذكر قول الذين أوتوا العلم من قوم قارون (ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون)


وإن رأى تسابق الناس على المكاسب أيا كانت تذ كر قوله تعالى عمن من الله عليهم بالهداية و ابتلاهم بقلة الدنيا في أيديهم (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) وتالله إنه الفرح الذي لا يدانيه فرح يوم يصلح المرء فيكون كالغريب في زمان كثر فيه الخبث وقل فيه المعين على الخير.


ومن أعظم المزالق التي تزل فيها الأقدام وتنتكس الأحوال إلى الحور بعد الكور هو أن نحصر الحق في شخص أو أشخاص , حتى إذا زل هذا الشخص أو تقهقر , جاء الشيطان ليجلب بخيله ورجله قائلا:


"أهؤلاء حملة الدين الذين تزعم, يتساقطون الاحد تلو الآخر. لو أن ما كانوا عليه حقا ما باعوه بأدنى ثمن.


عليك بأولئك الأذكياء المجربين الذين يزنون الأمور بالعقل والحكمة والتجربة والاطلاع, فبهم ستنهض الأمة ويعلو شأنها".


فيكون نكوص هذا الشخص سببا في زهدك في المنهج السديد الذي ارتضاه الله لبني البشر.


إذن فدر مع الحق حيث دار ولا تتعلق بالأشخاص كائنا من كان, وتذكر قول ابن عباس:


"يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء, أقول : قال رسول الله, وتقولون : قال أبو بكر و عمر"



فما بالك بمن دونهما!!


ولو تأملت معي فإن هذا الحوار الذي أسميته سعارا وقد أصبت في تسميته قد أصاب أقطابه بالحمى التي أذهلتهم عن استماع بعضهم بعضا وجعلتهم يشتغلون بالتصيد والتخوين والتجهيل والتصنيف والتبديع .. بل والتكفير أحيانا.


ما ذا كانت النتيجة؟


كان الضحية هو الإنسان النقي البسيط الذي يبحث عن الحقيقة التي تسعده في الدنيا وتنجيه في الآخرة دون الاشتغال بالمعارك الكلامية والنضال من أجل الأحزاب والانتصار للرفاق.


ولا تجد أحدا من الفريقين ينبس ببنت شفة حيال الفساد الأكبر , بل ينهمك كل من الفريقين في تدبيج خطابات المديح والثناء والتملق!


إن الناس بسبب هذا الصراع المختلق ينصرفون عن ما ينفعهم في الدارين, وينشغلون عن أساس الفساد في أحوال العباد والبلاد. ولا أرى مستفيدا من هذا الصراع إلى السياسي ذي الكم الواسع الذي قد أودع فيه صندوق العدة التي يسخرها لترميم وتقوية أركان منزله الذي قد علاه التصدع . أما هذه العدة فلا يخفى عليك ما هي حقيقتها و ما أنواعها, وما عليك إلا أن تنظر إلى حال المجتمع سابقا وفي هذه الأيام. فقد كان بالأمس إقصاء كما هو اليوم إقصاء . ولكن الإقصاء بالأمس كانت له لحية مسدلة, أما إقصاء اليوم فهو أملس الخدين ويلبس قبعة أمريكية (مزورة بعناية لتناسب صندوق العدة إياه).


ليس عندي أدنى شك أن القبعة الأمريكية الحقيقية تعلم بهذا التزوير وانتحال الشخصية, ولكنها تقول:


لا بأس بمثل هذا, ما دام أنه يقضي على ثوابتهم التي تتقاطع مع مصالحنا , وما دام أن ما يرتدونه ليس قبعتنا الحقيقية التي لو ارتدوها لكانت بدايتهم وكانت نهايتنا و نهاية مصالحنا عندهم.



هذا وقد يلبس الشيطان على كثير من الفضلاء أمثالك فيقول : ما فائدة الإنكار عند من لا يسمعون النصح بل لا يريدون سماعه ويشمئزون من رؤية من ظاهره الصلاح.


ولكن المنهج الحق الذي لا يتغير هو أن الإنكار بوسائله الثلاثة مطلوب حسب القدرة ( بمعناها الإيجابي لا السلبي ).


بل إن الدين كما قال صلى الله عليه وسلم هو النصيحة.


وما آيات الأعراف عنا ببعيدة والتي أدعو نفسي وإياك وكل مسلم أن يقرأها ويتدبر معناها ويطالع تفسيرها ( الأعراف 162-165)


لقد أرخيت لقلمي العنان لأني أعلم أني حين أتحدث أليك فإني أتحدث إلى نفسي.... ووالله لا أقول هذ ا تملقا وإنما هي مما يختلج في النفس أظهرته مكتوبا اليوم.


والذي نفسي بيده إني أحوج منك إلى هذا الكلام ولكن أردت أن أكتبه فأقرأه على نفسي لأني لا أجد من يحدثني به . وليكن بعد ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.


,يبدو أنك يا أخي تعيش حالة من الإحباط لما ترى من الغثائية حولك, التي طالت حتى العلماء ,لكن ثق بالله ولا تسمح لليأس أن يفسد عليك أمور معاشك ومعادك , وانهمك في عمل مثمر يسرك أن تجده غدا يوم تقف بين يدي مالك الملك, واصدع بما تؤمر وأعرض عن الجاهلين.


,الله يتولانا وإياك ويمسكنا بالكتاب ويجعلنا ممن يعمل به ويدعو به وإليه.