تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 15 من 23 الأولىالأولى ... 567891011121314151617181920212223 الأخيرةالأخيرة
النتائج 281 إلى 300 من 441

الموضوع: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

  1. #281
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"
    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1757 الى صـ 1764
    الحلقة (281)




    فأقام له من بين أفراده مرشدين هادين، وميزهم من بينها بخصائص في أنفسهم لا يشركهم فيها سواهم، وأيد ذلك - زيادة في الإقناع - بآيات باهرات تملك النفوس، وتأخذ الطريق على سوابق العقول، فيستخذي الطامح، ويذل الجامح، ويصطدم بها عقل العاقل فيرجع إلى رشده، وينبهر لها بصر الجاهل فيرتد عن غيه، يطرقون القول بقوارع من أمر الله، ويدهشون المدارك ببواهر من آياته، فيحيطون العقول بما لا مندوحة من الإذعان له، ويستوي في الركون لما يجيئون به المالك والمملوك، والسطلان والصعلوك، والعاقل والجاهل، والمفضول [ ص: 1757 ] والفاضل، فيكون الإذعان لهم أشبه بالاضطراري منه بالاختياري النظري، يعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم، وما أراد أن يعلموه من شؤون ذاته وكمال صفاته، وأولئك هم الأنبياء والمرسلون، فبعثة الأنبياء - صلوات الله عليهم - من متممات كون الإنسان، ومن أهم حاجاته في بقائه، ومنزلتها من النوع منزلة العقل من الشخص، نعمة أتمها الله: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل

    ثم قال في الكلام على وظيفة الرسل - عليهم السلام -: تبين مما تقدم في حاجة العالم الإنساني إلى الرسل أنهم من الأمم بمنزلة العقول من الأشخاص، وأن بعثتهم حاجة من حاجات العقول البشرية، قضت رحمة المبدع الحكيم بسدادها، ونعمة من واهب الوجود ميز بها الإنسان عن بقية الكائنات من جنسه، ولكنها حاجة روحية، وكل ما لامس الحس منها فالقصد فيه إلى الروح وتطهيرها من دنس الأهواء الضالة وتقويم ملكاتها، أو إيداعها ما فيه سعادتها في الحياتين.

    أما تفصيل طرق المعيشة، والحذق في وجوه الكسب، وتطاول شهوات العقل إلى درك ما أعد للوصول إليه، من أسرار العلم - فذلك مما لا دخل للرسالات فيه، إلا من وجه العظة العامة، والإرشاد إلى الاعتدال فيه، وتقرير أن شرط ذلك كله أن لا يحدث ريبا في الاعتقاد بأن للكون إلها واحدا، قادرا عالما، حكيما متصفا بما أوجب الدليل أن يتصف به، وباستواء نسبة الكائنات إليه في أنها مخلوقة له وصنع قدرته، وإنما تفاوتها فيما اختص به بعضها من الكمال.

    وشرطه أن لا ينال شيء من تلك الأعمال السابقة أحدا من الناس بشر في نفسه أو عرضه أو ماله، بغير حق يقتضيه نظام عامة الأمة، على ما حدد في شريعتها.

    يرشدون العقل إلى معرفة الله وما يجب أن يعرف من صفاته، ويبينون الحد الذي يجب [ ص: 1758 ] أن يقف عنده في طلب ذلك العرفان، على وجه لا يشق عليه الاطمئنان إليه، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة، يجمعون كلمة الخلق على إله واحد لا فرقة معه، ويخلون السبيل بينهم وبينه وحده، وينهضون نفوسهم إلى التعلق به في جميع الأعمال والمعاملات، ويذكرونهم بعظمته بفرض ضروب من العبادات، فيما اختلف من الأوقات، تذكرة لمن ينسى، وتزكية مستمرة لمن يخشى، تقوي ما ضعف منهم، وتزيد المستيقن يقينا.

    يبينون للناس ما اختلفت عليه عقولهم وشهواتهم، وتنازعته مصالحهم ولذاتهم، فيفصلون في تلك المخاصمات بأمر الله الصادع، ويؤيدون بما يبلغون عنه ما تقوم به المصالح العامة، ولا تفوت به المنافع الخاصة، يعودون بالناس إلى الألفة، ويكشفون لهم سر المحبة، ويستلفتونهم إلى أن فيها انتظام شمل الجماعة، ويفرضون عليهم مجاهدة أنفسهم، ليستوطنوها قلوبهم، ويشعروها أفئدتهم، يعلمونهم لذلك أن يرعى كل حق الآخر، وإن كان لا يغفل حقه، وأن لا يتجاوز في الطلب حده، وأن يعين قويهم ضعيفهم، ويمد غنيهم فقيرهم، ويهدي راشدهم ضالهم، ويعلم عالمهم جاهلهم:

    يضعون لهم بأمر الله حدودا عامة، يسهل عليهم أن يردوا إليها أعمالهم، كاحترام الدماء البشرية إلا بحق، مع بيان الحق الذي يبيح تناوله، واحترام الأعراض، مع بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع، ويشرعون لهم مع ذلك أن يقوموا أنفسهم بالملكات الفاضلة، كالصدق والأمانة، والوفاء بالعقود، والمحافظة على العهود، والرحمة بالضعفاء، والإقدام على نصيحة الأقوياء، والاعتراف لكل مخلوق بحقه بلا استثناء.

    يحملونهم على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية إلى طلب الرغائب السامية، آخذين في ذلك كله بطرف من الترغيب والترهيب، والإنذار والتبشير، حسبما أمرهم الله جل شأنه.

    يفصلون في جميع ذلك للناس ما يؤهلهم لرضا الله عنهم، وما يعرضهم لسخطه عليهم.

    [ ص: 1759 ] ثم يحيطون بيانهم بنبأ الدار الآخرة، وما أعد الله فيها من الثواب وحسن العقبى لمن وقف عند حدوده، وأخذ بأوامره، وتجنب الوقوع في محظوراته، يعلمونهم من أنباء الغيب ما أذن الله لعباده في العلم به، مما لو صعب على العقل اكتناهه لم يشق عليه الاعتراف بوجوده.

    بهذا تطمئن النفوس، وتثلج الصدور، ويعتصم المرزوء بالصبر؛ انتظارا لجزيل الأجر، أو إرضاء لمن بيده الأمر، وبهذا ينحل أعظم مشكل في الاجتماع الإنساني، لا يزال العقلاء يجهدون أنفسهم في حله إلى اليوم.

    ليس من وظائف الرسل ما هو من عمل المدرسين ومعلمي الصناعات، فليس مما جاءوا له تعليم التاريخ، ولا تفصيل ما يحويه عالم الكواكب، ولا بيان ما اختلف من حركاتها، ولا ما استكن من طبقات الأرض، ولا مقادير الطول فيها والعرض، ولا ما تحتاج إليه النباتات في نموها، ولا ما تفتقر إليه الحيوانات في إبقاء أشخاصها وأنواعها .... وغير ذلك مما وضعت له العلوم، وتسابقت في الوصول إلى دقائقه الفهوم، فإن ذلك كله من وسائل الكسب وتحصيل طرق الراحة، هدى الله إليه البشر بما أودع فيهم من الإدراك، يزيد في سعادة المخلصين، ويقضي فيه بالنكد على المقصرين.

    ولكن كانت سنة الله في ذلك أن يتبع طريقة التدرج في الكمال، وقد جاءت شرائع الأنبياء بما يحمل على الإجمال بالسعي فيه، وما يكفل التزامه بالوصول إلى ما أعد الله له الفطر الإنسانية من مراتب الارتقاء.

    أما ما ورد في كلام الأنبياء من الإشارة إلى شيء مما ذكرنا في أحوال الأفلاك أو هيئة الأرض - فإنما يقصد منه النظر إلى ما فيه من الدلالة على حكمة مبدعه، أو توجيه الفكر إلى الغوص لإدراك أسراره وبدائعه.

    وحالهم - عليهم الصلاة والسلام - في مخاطبة أممهم لا يجوز أن تكون فوق ما يفهمون، وإلا ضاعت الحكمة في إرسالهم، ولهذا قد يأتي التعبير الذي سيق إلى العامة بما يحتاج إلى التأويل والتفسير عند الخاصة، وكذلك ما وجه إلى الخاصة يحتاج إلى الزمان الطويل حتى يفهمه العامة، وهذا القسم أقل ما ورد في كلامهم.

    [ ص: 1760 ] على كل حال لا يجوز أن يقام الدين حاجزا بين الأرواح وبين ما ميزها الله به من الاستعداد للعلم بحقائق الكائنات الممكنة بقدر الإمكان، بل يجب أن يكون الدين باعثا على طلب العرفان، مطالبا لها باحترام البرهان، فارضا عليها أن تبذل ما تستطيع من الجهد في معرفة ما بين يديه من العوالم، ولكن مع التزام القصد، والوقوف في سلامة الاعتقاد عند الحد، ومن قال غير ذلك فقد جهل الدين، وجنى عليه جناية لا يغفرها له رب الدين. انتهى.

    ولما تضمن قوله تعالى: إنا أوحينا إليك الآية، إثبات نبوته والاحتجاج على تعنتهم عليه بسؤال كتاب ينزل عليهم من السماء، كأنه قيل: إنهم لا يشهدون ذلك.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    لكن الله يشهد بما أنـزل إليك أنـزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا [166]

    لكن الله يشهد بما أنـزل إليك من القرآن المعجز الناطق بنبوتك. قال الزمخشري : معنى شهادة الله بما أنزل إليه إثباته لصحته بإظهار المعجزات، كما تثبت الدعاوى بالبينات، إذ الحكيم لا يؤيد الكاذب بالمعجزة.

    أنـزله بعلمه أي: وهو عالم به، رقيب عليه، فالظرف حال من الفاعل، والجملة كالتفسير لما قبلها.

    والملائكة يشهدون أي: بذلك وكفى بالله شهيدا على صحة نبوتك وإن لم يشهد غيره، وفيه تسلية للنبي، صلى الله عليه وسلم.

    [ ص: 1761 ]
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا [167]

    إن الذين كفروا أي: بما شهد الله بإنزاله، مع اطلاعهم على إعجازه وصدوا عن سبيل الله وهو دين الإسلام من أراد سلوكه قد ضلوا أي: بما فعلوا ضلالا بعيدا لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا [168]

    إن الذين كفروا وظلموا أي: الخلائق بإضلالهم لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة، التي هي طريق الجنة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا [169]

    إلا طريق جهنم أي: المؤدي إليها وهو اكتسابهم الأعمال السيئة خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا أي: هينا لا يعسر عليه ولا يستعظمه.

    ولما قرر أمر النبوة، وبين الطريق الموصل إلى العلم بها، ووعيد من أنكرها - خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعيد على الرد، فقال تعالى:
    [ ص: 1762 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما [170]

    يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم أي: بالهدى، ودين الحق، والبيان الشافي الذي يجب قبوله فآمنوا خيرا لكم أي: إيمانا خيرا لكم، أو ائتوا أمرا خيرا لكم من تقليد المعاندين وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض أي: فهو قادر على تعذيبكم لعظم ملكوته، أو فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم، كما قال تعالى: إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [إبراهيم: 8] وكان الله عليما حكيما في صنعه.

    ولما أجاب تعالى عن شبهات اليهود وألزمهم الحجة، جرد الخطاب للنصارى؛ زجرا لهم عما هم عليه من الكفر والضلال، فقال سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا [171]

    يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم أي: بالإفراط في رفع شأن عيسى - عليه السلام - [ ص: 1763 ] وادعاء ألوهيته، فإنه تجاوز فوق المنزلة التي أوتيها، وهي الرسالة، واستفيد حرمة الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد.

    وفي الصحيح عن عمر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله .

    وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، أن رجلا قال: يا محمد! يا سيدنا وابن سيدنا! وخيرنا وابن خيرنا! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيها الناس! عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل .

    قال ابن كثير : تفرد به من هذا الوجه.

    ولا تقولوا على الله إلا الحق أي: لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد، واتخاذ الصاحبة والولد، بل نزهوه عن جميع ذلك.

    إنما المسيح عيسى ابن مريم صفة له مفيدة لبطلان ما وصفوه به من كونه ابنا لله تعالى رسول الله خبر المبتدأ أعني المسيح، أي: مقصور على مقام الرسالة لا يتخطاه وكلمته أي: مكون بكلمته وأمره الذي هو (كن) من غير واسطة أب ولا نطفة.

    ألقاها إلى مريم أي: أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ جبريل - عليه السلام - وروح منه أي: بتخليقه وتكوينه كسائر الأرواح المخلوقة، وإنما أضافه إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال: بيت الله، وناقة الله.

    وقيل: الروح هو نفخ جبريل - عليه السلام - في جيب درع مريم ، فحملت بإذن الله، سمي النفخ روحا؛ لأنه ريح تخرج من الروح، وإنما أضافه إلى نفسه؛ لأنه وجد بأمره تعالى وإذنه.

    قال أبو السعود : (من) لابتداء الغاية مجازا لا تبعيضية، كما زعمت النصارى.

    يحكى أن طبيبا نصرانيا للرشيد ناظر علي بن حسين الواقدي المروزي ذات يوم، فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى - عليه السلام - جزء منه تعالى، وتلا هذه الآية، فقرأ الواقدي: [ ص: 1764 ] وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [الجاثية: 13] فقال: إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءا منه، تعالى علوا كبيرا، فانقطع النصراني وأسلم، وفرح الرشيد فرحا شديدا، ووصل الواقدي بصلة فاخرة.

    وقيل: سمي روحا؛ لإحيائه الموتى بإذن الله، وقيل: لإحيائه القلوب، كما سمي به القرآن لذلك، في قوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا [الشورى: 52].

    وقيل: أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم بالبشارة.

    وقيل: جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح، فلما كان عيسى - عليه السلام - متكونا من النفخ لا من النطفة وصف بالروح.

    وتقديم كونه - عليه السلام - رسول الله في الذكر مع تأخره عن كونه كلمته تعالى وروحا منه في الوجود - لتحقيق الحق من أول الأمر بما هو نص فيه غير محتمل للتأويل، وتعيين مآل ما يحتمله، وسد باب التأويل الزائغ. انتهى.

    فآمنوا بالله وخصوه بالألوهية ورسله أي: جميعهم، وصفوهم بالرسالة، ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية.

    ولا تقولوا ثلاثة أي: الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم ، كما ينبئ عنه قوله تعالى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله [المائدة: 116].





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #282
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1765 الى صـ 1772
    الحلقة (282)




    وقد ذكر السيد عبد الله الهندي في مناظرته مع قسيس الهند حكاية عن مناظره أنه [ ص: 1765 ] حكى أن فرقة من النصارى تسمى (كولى ري دينس) كانت تقول: الآلهة ثلاثة: الأب والابن ومريم، قال: ولعل هذا الأمر كان مكتوبا في نسخهم؛ لأن القرآن كذبهم. انتهى.

    أو التقدير: ولا تقولوا: الله ثلاثة، أي: ثلاثة أقانيم، وفي تعاليمهم المدرسية المطبوعة الآن ما نصه: أخص أسرار المسيحية سر الثالوث، وهو إله واحد في ثلاثة أقانيم: الأب والابن وروح القدس.

    والأب هو الله، والابن هو الله، وروح القدس هو الله، وليسوا ثلاثة آلهة، بل إله واحد موجود في ثلاثة أقانيم متساوين في الجوهر، ومتميزين فيما بينهم بالأقنومية؛ وذلك لأن لهم جوهرا واحدا ولاهوتا واحدا، وذاتا واحدة، وليس أحد هذه الأقانيم الثلاثة أعظم أو أقدم أو أقدر من الآخرين؛ لكون الثلاثة متساوية في العظمة والأزلية والقدرة وفي كل شيء، ما عدا الأقنومية، ولا نقدر أن نفهم جيدا هذه الحقائق؛ لأنها أسرار فائقة العقل والإدراك البشري. انتهى كلامهم في تعليمهم المدرسي المطبوع في بيروت سنة (1876) مسيحية.

    فانظر إلى هذا التناقض والتمويه، يعترفون بأن الثلاثة آلهة، ثم يناقضون قولهم وينكرون ذلك.

    ونقل العلامة الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه "إظهار الحق" عن صاحب "ميزان الحق" النصراني أنه قال: نحن لا نقول: إن الله ثلاثة أشخاص أو شخص واحد، بل نقول بثلاثة أقانيم في الوحدة، وبين الأقانيم الثلاثة وثلاثة أشخاص بعد السماء والأرض. انتهى.

    قال رحمة الله: وهذه مغالطة صرفة؛ لأن الموجود لا يمكن أن يوجد بدون التشخص، فإذا فرض أن الأقانيم موجودون وممتازون بالامتياز الحقيقي - كما صرح هو بنفسه في كتبه - فالقول بوجود الأقانيم الثلاثة هو بعينه القول بوجود الأشخاص الثلاثة، على أنه وقع في الصحيفة التاسعة والعشرين من كتاب الصلاة، الرائج في كنيسة إنكلترة، المطبوع سنة (1818) ما ترجمته: أيها الثلاثة المقدسون والمباركون والعالون منزلة، الذين هم واحد. يعني ثلاثة أشخاص وإلها واحدا، فوقع فيه ثلاثة أشخاص صريحا، وكذلك مملوءة بعبارات [ ص: 1766 ] مصرحة بأن عيسى ابن الله، وأنه الله، وأن مريم أم الله وزوجة الله، ويسجدون لها ولصورتها السجود المحرم في كتبهم لغير الله، كما يسجدون لله، نسأله سبحانه وتعالى الحفظ، ونعوذ به من الخذلان وتسويلات الشيطان.

    ولقد شفى الغليل الأستاذ الجليل الشيخ رحمة الله في "إظهار الحق" فساق - في الباب الرابع منه - إبطال التثليث بالبراهين الدامغة والحجج البالغة.

    كما رد عليهم من المسلمين وممن أسلم منهم عدد وافر يفوت الحصر، وقد انتشر - ولله الحمد - في ذلك مؤلفات نافعة، بل رد عليهم فرق كثيرة منهم.

    فقد جاء في كتاب "الرأي الصواب وفصل الخطاب" للقس جبارة ما صورته: إن المسيحيين الموحدين الذين ظهروا منذ (80) سنة في أميركا ولهم الآن ثلاثمائة كنيسة، والدرجة الأولى في المعارف والمدارس والاجتماعات الأدبية، وكذلك لهم في إنكلترا ثلاثمائة كنيسة، وتآليف عديدة معتبرة، ويعتبرون القرآن كما يعتبرون الإنجيل والتوراة كتبا إلهية - لا يؤمنون بتثليث الآلهة، أي أنهم لا يعتقدون بكون السيد المسيح أو الروح القدس هو إله حقيقي، كالله الواجب الوجود، بل يعتقدون أن الله وحده هو الإله الحق. انتهى.

    وفيه أيضا ما لفظه: كل الكتب المنزلة تعلم بالوحدانية وتنفي تثليث الآلهة، أو كون الله ثلاثة، وتعلن صريحا بأوضح العبارة أن الله واحد أحد، وأنه لا إله حقا سواه. انتهى.

    وفي كتاب "سوسنة سليمان" ذكر فرق منهم متعددة صارت إلى إنكار ألوهية المسيح والروح القدس، وهذا الكتاب ساق من فرقهم العتيقة والحديثة واختلافهم ما يقضي بالعجب، مما يؤيد ما قاله الحافظ ابن كثير من أن لهم آراء مختلفة وأقوالا غير مؤتلفة. ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولا. انتهى.

    قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في "الرسالة القبرصية": فتفرق النصارى في التثليث والاتحاد تفرقا، وتشتتوا تشتيتا لا يقر به عاقل، ولم يجئ نقل إلا كلمات متشابهات في الإنجيل وما قبله من الكتب، قد بينتها كلمات محكمات في الإنجيل وما قبله، كلها تنطق [ ص: 1767 ] بعبودية المسيح وعبادته لله وحده، ودعائه وتضرعه.

    ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسله كان أمر الدين توحيد الله والإقرار برسله، فأرباب التثليث في الوحدانية والاتحاد في الرسالة قد دخل في أصل دينهم من الفساد ما هو بين بفطرة الله التي فطر الناس عليها، وبكتب الله التي أنزلها. انتهى.

    وقد اجتمع لدي - بحمده تعالى - حين كتابة هذه السطور عشرون مؤلفا في الرد عليهم، وكلها - ولله الحمد - مطبوعة منتشرة، فلا حاجة للإطالة بالنقل عنها؛ لسهولة الوقوف عليها.

    قال الماوردي في "أعلام النبوة": فأما النصارى فقد كانوا قبل أن تنصر قسطنطين الملك على دين صحيح في توحيد الله تعالى ونبوة عيسى - عليه السلام - ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصر قسطنطين، وهو أول من تنصر من ملوك الروم، أي: لأن الروم كانت صابئة، ثم قهرهم على التنصر قسطنطين لما ملكهم.

    فقال أوائل النسطورية: إن عيسى هو الله.

    وقال أوائل اليعاقبة: إنه ابن الله.

    وقال أوائل الملكانية: إن الآلهة ثلاثة، أحدهم عيسى.

    ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر، حين استنكرته النفوس، ودفعته العقول، فقالوا: إن الله تعالى جوهر واحد، هو ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنها واحدة في الجوهرية، وأن أقنوم الأب هو الذات، وأقنوم الابن هو الكلمة، وأقنوم روح القدس هو الحياة.

    واختلفوا في الأقانيم، فقال بعضهم: هي خواص، وقال بعضهم: هي أشخاص، وقال بعضهم: هي صفات، وقالوا: إن الكلمة اتحدت بعيسى ، واختلفوا في الاتحاد.

    ثم قال: وليس لهذه المذاهب شبهة تقبلها العقول، وفسادها ظاهر في المعقول.

    وقوله تعالى: انتهوا أي: عن التثليث خيرا لكم أي: انتهاء خيرا، أو اقصدوا خيرا من التثليث وهو التوحيد.

    إنما الله إله واحد أي: بالذات، لا تعدد فيه بوجه ما.

    وبقوله: سبحانه أن يكون له ولد تنزيه لمقامه - جل شأنه - عما زعموه من بنوة عيسى؛ [ ص: 1768 ] حيث قالوا: إنه الله وابن الله، والذي أوقعهم في هذه المهلكة الوخيمة، والورطة الجسيمة - ما ورد موهما من ألفاظ الإنجيل كالأب والابن، فلم يحملوها على ما أريد منها، وحملوها على ظاهرها، فضلوا وأضلوا.

    وفي "منية الأذكياء" ما نصه: وأما ما ورد في الإنجيل الموجود الآن من إطلاق ابن الله على عيسى - عليه السلام - فهو إن لم يكن مما حرف يكون مجازا، بمعنى ابن المحبة، كما يقال: فلان من أبناء الدنيا.

    ونظير ذلك قول عيسى - عليه السلام – لليهود حين ادعوا أن لهم أبا واحدا هو الله: (لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني) ثم قال لهم: (أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعلموا) ادعت اليهود أن الله تعالى أبوهم، أي أنهم مطيعون له إطاعة الابن للأب، فكذبهم عيسى - عليه السلام - وجعلهم أبناء الشيطان، أي: أنهم مطيعون له، ولا يخفى أن الابن والأب هنا مجازان.

    وقد كثر إطلاق اسم الأب على الله تعالى، واسم الابن على العبد الصالح - في الكتب السالفة، فهو إما من الخبط في الترجمة، وإما مؤول بما ذكرنا، فلا تغفل.

    لكن قد منع من هذا الإطلاق في الملة المحمدية بالكلية؛ تحرزا من الإيهام والوقوع في شرك الأوهام، وهذا هو الطريق الرشد.

    وقوله تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض تعليل لتنزهه مما نسب إليه، بمعنى أن كل ما فيهما خلقه وملكه، فكيف يكون بعض ملكه جزءا منه؟! إذ البنوة والملك لا يجتمعان.

    وكفى بالله وكيلا أي: إليه يكل كل الخلق أمورهم، وهو غني عنهم، فأنى يتصور في حقه اتخاذ الولد، الذي هو شأن العجزة المحتاجين في تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم، وقوله تعالى:
    [ ص: 1769 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا [172]

    لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله جملة مستأنفة لتقرير ما سبق من التنزيه، أي: لن يأنف من أن يكون عبدا لله، فإن عبوديته شرف يتباهى به.

    ولا الملائكة المقربون من أن يكونوا عبيدا له تعالى، واحتج بالآية من زعم فضل الملائكة على الأنبياء.

    قال الزمخشري : أي: ولا من هو أعلى منه قدرا، وأعظم منه خطرا، وهم الملائكة الكروبيون، الذين حول العرش، كجبريل وميكائيل وإسرافيل ، ومن في طبقتهم.

    ثم قال: فإن قلت: من أين دل قوله: ولا الملائكة المقربون على أن المعنى: ولا من فوقه؟ قلت: من حيث إن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة، كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف بالمسيح ؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين؛ لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل:


    وما مثله من يجاود حاتم ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره


    لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود، ومن كان له [ ص: 1770 ] ذوق فليذق مع هذه الآية قوله: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى [البقرة: 120] حتى يعترف بالفرق البين. انتهى.

    قال البيضاوي : وجوابه أن الآية للرد على عبدة المسيح والملائكة، فلا يتجه ذلك، وإن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير، كقولك: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس، وإن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة، وهم الكروبيون الذين هم حول العرش، أو من أعلى منهم رتبة من الملائكة على المسيح من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا والنزاع فيه. انتهى.

    قال ناصر الدين في "الانتصاف": وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة ، فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء، وذهب القاضي أبو بكر - منا - والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة، واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة، من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشري .

    ونحن - بعون الله - نشبع القول في المسألة من حيث الآية، فنقول: أورد الأشعرية على الاستدلال بها أسئلة:

    أحدها: أن سيدنا محمدا عليه - أفضل الصلاة والسلام - أفضل من عيسى - عليه الصلاة والسلام - فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح أن تكون أفضل من محمد - عليه الصلاة والسلام - وهذا السؤال إنما يتوجه إذ لم يدع مورده أن كل واحد من آحاد الأنبياء أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة. وبين طائفتنا في هذه الطرف خلاف.

    (السؤال الثاني) أن قوله: ولا الملائكة المقربون صيغة جمع، تتناول مجموع الملائكة، فهذا يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح [ ص: 1771 ] ولا يلزم أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح ، وفي هذا السؤال أيضا نظر؛ لأن مورده إذا بنى على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة فقد يقال يلزمه القول بأنه أفضل من الكل، كما أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لما كان أفضل من كل واحد من آحاد الأنبياء كان أفضل من كلهم، ولم يفرق بين التفضيل على التفصيل والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى.

    وقد كان بعض المعاصرين يفصل بين التفضيلين، وادعى أنه لا يلزم منه على التفصيل تفضيل على الجملة، ولم يثبت عنه هذا القول، ولو قاله أحد فهو مردود بوجه لطيف، وهو: أن التفضيل المراد جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة، والأحاديث متوافرة بذلك، وحينئذ لا يخلو إما أن ترفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق على أنه أفضل من كل واحد منهم، أو لا ترفع درجة أحد منهم عليه، لا سبيل إلى الأول؛ لأنه يلزم منه رفع المفضول على الأفضل، فتعين الثاني وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع ضرورة، فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعا.

    الثالث: أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو، وهي لا تقتضي ترتيبا، وأما الاستشهاد بالمثال المذكور على أن الثاني أبدا يكون أعلى رتبة - فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك، كقول القائل: ما عابني على هذا الأمر زيد ولا عمرو. قلت: وكقولك: لا تؤذ مسلما ولا ذميا، فإن هذا الترتيب وجه الكلام، والثاني أدنى وأخفض درجة، ولو ذهبت تعكس هذا فقلت: لا تؤذ ذميا ولا مسلما ليجعل الأعلى ثانيا - لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة. وهذا المثال بين ما يورد في نقض القانون المقرر، ولكن الحق أولى من المراء، وليس بين المثالين تعارض.

    ونحن نمهد تمهيدا يرفع اللبس ويكشف الغطاء، فنقول: النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة، وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى، وفي مواضع تأخيره، وتلك النكتة مقتضى البلاغة، التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول، فإذا اعتمدت ذلك فمهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة [ ص: 1772 ] إلى أوله، أو يكون الآخر مندرجا في الأول، قد أفاده، وأنت مستغن عن الآخر - فأعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول، مثاله الآية المذكورة، فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه؛ لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح - على هذا التقدير - عبدا لله غير مستنكف من العبودية - لزم من ذلك أن من دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبدا لله، وهم الملائكة على هذا التقدير، فلم يتجدد إذا بقوله: ولا الملائكة المقربون إلا ما سلف أول الكلام.

    وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة فإنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبدا له، إلا أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك، وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة، إذ لم يستلزم الأول الآخر، فصار الكلام على هذا التقدير تتجدد فوائده وتتزايد، وما كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز؛ لأن الغاية في البلاغة.

    وبهذه النكتة يجب أن نقول: لا تؤذ مسلما ولا ذميا، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية؛ لأنك إذا نهيته عن إيذاء المسلم فقد يقال: ذاك من خواصه؛ احتراما للإسلام، فلا يلزم من ذلك نهيه عن الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية، فإذا قلت: ولا ذميا - فقد جددت فائدة لم تكن في الأول، وترقيت من النهي عن بعض أنواع الأذى إلى النهي عن أكثر منه.

    ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية، فقلت: لا تؤذ ذميا، فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهي، إذ يساوي الذمي في سبب الاحترام - وهو الإنسانية مثلا - ويمتاز عنه بسبب أجل وأعظم وهو الإسلام، فيقنعه هذا النهي عن تجديد نهي آخر عن أذى المسلم.

    فإن قلت: ولا مسلما، لم تجدد له فائدة، ولم تعلمه غير ما علمه أولا، فقد علمت أنها نكتة واحدة، توجب أحيانا تقديم الأعلى، وأحيانا تأخيره، ولا يميز لك ذلك إلا السياق، وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير الأعلى.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #283
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ النِّسَاءِ
    المجلد الخامس
    صـ 1773 الى صـ 1780
    الحلقة (283)




    ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة [ ص: 1773 ] قوله تعالى: فلا تقل لهما أف [الإسراء: 23] استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه، بتقدير الأدنى، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن تريد نهيا عن أعلى من التأفيف والإنهار (كذا) لأنه مستغنى عنه، وما يحتاج المتدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهدا سواها ما فرطنا في الكتاب من شيء [الأنعام: 38].

    ولما اقتضى الإنصاف تسليم مقتضى الآية لتفضيل الملائكة، وكانت الأدلة على تفضيل الأنبياء عتيدة عند المعتقد لذلك - جمع بين الآية وتلك الأدلة بحمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف، وذاك أن تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار، قال: وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية؛ لأن المقصود الرد على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى - عليه السلام - مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، وصدرت على يديه الخوارق، لا يستنكف عن عبادة الله، بل من هو أكثر خوارق وأظهر آثارا كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل - عليه السلام - وقد بلغ من قوته وإقدار الله له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه، فقلب عاليها [ ص: 1774 ] سافلها، فيكون تفضيل الملائكة إذا بهذا الاعتبار، لا خلاف أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر، وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء، وليس في الآية عليه دليل.

    ولما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى كونه مخلوقا، أي: موجودا من غير أب، أنبأنا الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب لا يستنكف من عبادة الله، بل ولا الملائكة المخلوقون من غير أب ولا أم، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى ، ويشهد لذلك أن الله تعالى نظر عيسى بآدم - عليهما السلام - فنظر الغريب بالأغرب، وشبه العجيب من قدرته بالأعجب؛ إذ عيسى مخلوق من أم، وآدم من غير أم ولا أب، ولذلك قال: خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون [آل عمران: 59] ومدار هذا البحث على النكتة التي نبهت عليها، فمتى استقام اشتمال المذكور أياما على فائدة لم يشتمل عليها الأول، بأي طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد - فقد استد النظر وطابق صيغة الآية، والله أعلم.

    وعلى الجملة فالمسألة سمعية، والقطع فيها معروف بالنص الذي لا يحتمل تأويلا، ووجوده عسر، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. انتهى.

    ومن يستنكف عن عبادته أي: يأنف منها ويمتنع ويستكبر أي: يتعظم عنها ويترفع فسيحشرهم إليه جميعا أي: فيجمعهم يوم القيامة لموعدهم الذي وعدهم، ويفصل بينهم بحكمه العدل.
    [ ص: 1775 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا [173]

    فأما الذين آمنوا فلم يستكبروا عن عبوديته وعملوا الصالحات فلم يستنكفوا عن عبادته فيوفيهم أجورهم أي: ثواب أعمالهم من غير أن ينقص منها شيء ويزيدهم أي: على أجورهم شيئا عظيما من فضله بتضعيفها أضعافا مضاعفة؛ مبالغة في إعزازهم.

    وأما الذين استنكفوا واستكبروا أي: عن عبادة الله عز وجل: فيعذبهم عذابا أليما هو عذاب النار ولا يجدون لهم من دون الله وليا يواليهم ليعزهم ولا نصيرا ينصرهم ويدفع عنهم العذاب.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنـزلنا إليكم نورا مبينا [174]

    يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم لما بين تعالى بطلان ما عليه الكفرة على طبقاتهم من فنون الكفر والضلال عمم الخطاب ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد - عليه الصلاة والسلام - وسماه برهانا لما أوتيه من البراهين القاطعة التي شهدت بصدقه، ففيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت ببعثته، فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل.

    قال أبو السعود : التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين؛ لإظهار اللطف بهم، والإيذان بأن مجيئه إليهم لتربيتهم وتكميلهم.

    وأنـزلنا إليكم نورا مبينا أي: ضياء واضحا على الحق، يهتدى به من ظلمات الضلال، وهو القرآن.
    [ ص: 1776 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما [175]

    فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به أي: عصموا به أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان فسيدخلهم في رحمة منه وهي الجنة وفضل يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة، كالنظر إلى وجهه الكريم وغيره من مواهبه الجليلة ويهديهم إليه صراطا مستقيما فيسلكهم - بتمسكهم بالبرهان والنور المبين - الطريق الواضح القصد، وهو الإسلام. وتقديم ذكر الوعد بإدخال الجنة على الوعد بالهداية إليها - على خلاف الترتيب في الوجود بين الموعودين - للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم [176]

    يستفتونك أي: في ميراث الكلالة، استغني عن ذكره لوروده في قوله سبحانه: قل الله يفتيكم في الكلالة وقد مر تفسيرها في مطلع السورة الكريمة. والمستفتي جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما.

    روى الشيخان وغيرهما عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا مريض، فتوضأ فصب علي - أو قال: صبوا عليه - فعقلت فقلت: لا يرثني [ ص: 1777 ] إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض.

    إن امرؤ هلك أي: مات، واختصاص الهلاك بميتة السوء عرف طارئ لا يعتد به، بدليل ما لا يحصى من الآي والأحاديث، ولطرو هذا العرف قال الشهاب في "شرح الشفاء": إنه يمنع إطلاقه في حق الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ولا يعتد بأصل اللغة القديمة، كما لا يخفى عمن له مساس بالقواعد الشرعية، والله أعلم. كذا في "تاج العروس".

    ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك أي: الميت، من المال.

    قال ابن كثير : تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد ، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد، وهو رواية عن عمر بن الخطاب، رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح، ولكن الذي يرجع إليه قول الجمهور.

    وقضى الصديق - رضي الله عنه - أنه الذي لا ولد له ولا والد، ويدل على ذلك قوله: (وله أخت) ولو كان معها أب لم ترث شيئا؛ لأنه يحجبها بالإجماع، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن، ولا والد بالنص أيضا، عند التأمل أيضا؛ لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد، بل ليس لها ميراث بالكلية.

    وروى الإمام أحمد ، عن زيد بن ثابت ، أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم؟ فأعطى الزوج النصف، والأخت النصف، فكلم في ذلك، فقال: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بذلك.

    وقد نقل ابن جرير وغيره، عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان (في الميت ترك بنتا وأختا): إنه لا شيء للأخت لقوله: إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك قال: فإذا ترك بنتا فقد ترك ولدا فلا شيء للأخت.

    وخالفهما الجمهور فقالوا (في المسألة): للبنت النصف بالفرض، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب، بدليل غير هذه الآية، وهذه نقصت أن يفرض لها في هذه الآية.

    وأما وراثتها بالتعصيب [ ص: 1778 ] فلما رواه البخاري من طريق سليمان ، عن إبراهيم ، عن الأسود قال: قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النصف للبنت والنصف للأخت، ثم قال سليمان (قضى فينا) ولم يذكر (على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم).

    وفي صحيح البخاري أيضا عن هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى الأشعري عن بنت، وبنت ابن، وأخت؟ فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني، فسأل ابن مسعود فأخبره بقول أبي موسى ، فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم -: النصف للبنت، ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين، وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.

    وقوله: وهو يرثها إن لم يكن لها ولد أي: والأخ يرث جميع ما لها إذا ماتت كلالة وليس لها ولد، أي: ولا والد؛ لأنها لو كان لها ولد لم يرث الأخ شيئا، فإن فرض أن معه من له فرض صرف إليه فرضه، كزوج أو أخ من أم، وصرف الباقي إلى الأخ؛ لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر .

    وقوله تعالى: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك أي: فإن كان لمن يموت كلالة أختان - فرض لهما الثلثان، وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما، ومن ههنا أخذ الجماعة حكم البنتين، كما استفيد حكم الأخوات من البنات [ ص: 1779 ] في قوله: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك [النساء: 11].

    قوله تعالى: وإن كانوا أي: من يرث بطريق الأخوة إخوة أي: مختلطة رجالا ونساء فللذكر أي: منهم مثل حظ الأنثيين أي: مثل نصيب اثنتين من أخواته الإناث.

    يبين الله لكم أن تضلوا أي: كراهة أن تضلوا في ذلك، أو على تقدير (اللام ولا) في طرفي (أن) أي: لئلا تضلوا، وقيل: ليس هناك حذف ولا تقدير، وإنما هو مفعول (يبين) أي: يبين لكم ضلالكم الذي هو من شأنكم إذا خليتم وطباعكم؛ لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه.

    ورجحه بعضهم بأنه من حسن الختام، والالتفات إلى أول السورة وهو: يا أيها الناس اتقوا ربكم [النساء: 1] فإنه أمرهم بالتقوى، وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية، ولما تم تفصيله قال لهم: إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم، فإن الشر إذا عرف اجتنب، والخير إذا عرف ارتكب.

    قال العلامة أبو السعود : وأنت خبير بأن ذلك إنما يليق بما إذا كان بيانه تعالى على طريقة تعيين مواقع الخطأ والضلال من غير تصريح بما هو الحق والصواب، وليس كذلك.

    [ ص: 1780 ] والله بكل شيء من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم عليم مبالغ في العلم، فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم.
    تنبيهات:

    الأول: اعلم أنه تعالى لما بين في أول السورة أحكام الأموال ختم آخرها بذلك أيضا؛ ليكون الآخر مشاكلا للأول، وأما وسط السورة فقد اشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفة للدين.

    الثاني: أنزل في الكلالة آيتان : إحداهما في الشتاء، وهي التي في أول هذه السورة، والأخرى في الصيف وهي هذه الآية، ولهذا تسمى هذه الآية آية الصيف.

    الثالث: روى البخاري ومسلم ، عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: آخر سورة نزلت (براءة) وآخر آية نزلت: (يستفتونك) والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو الموفق والمعين.

    وقد تم بحمده تعالى ما تيسر من "محاسن تأويل" هذه السورة الكريمة ضحوة الجمعة، غرة صفر الخير عام (1320) في السدة اليمنى العليا من جامع السنانية، على يد كاتبه وجامعه العبد الضعيف الذليل الجهول محمد جمال الدين القاسمي، غفر المولى له وأعانه على الإتمام.

    بمنه وكرمه

    ويليه الجزء السادس، وأوله: (سورة المائدة).


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #284
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1788 الى صـ 1798
    الحلقة (284)


    [ ص: 1788 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    الجزء السادس

    سورة المائدة


    سميت بها لأن قصتها أعجب ما ذكر فيها. لاشتمالها على آيات كثيرة ولطف عظيم على من آمن. وعنف شديد على من كفر. فهو أعظم دواعي قبول التكاليف، المفيدة عقدة المحبة من الاتصال الإيماني بين الله وبين عبيده. أفاده المهايمي.

    وهذه السورة مدنية. وآياتها مائة وعشرون.

    قال الشهاب الخفاجي: السورة مدنية، إلا قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم إلخ، فإنها نزلت بمكة. انتهى.

    أقول: في كلامه نظران:

    الأول: - إن هذا بناء على أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة. والمدني ما نزل بالمدينة، وهو اصطلاح لبعض السلف. ولكن الأشهر كما في (الإتقان) أن المكي ما نزل قبل الهجرة. والمدني ما نزل بعدها، سواء نزل بمكة أم بالمدينة، عام الفتح أو عام حجة الوداع، أم بسفر من الأسفار.

    الثاني - بقي عليه، لو مشى على ذاك الاصطلاح آيات آخر.

    قال السيوطي في (الإتقان): في (النوع الثاني معرفة الحضري والسفري) للسفري أمثلة.

    منها: أول المائدة. أخرج البيهقي في (شعب الإيمان) عن أسماء بنت يزيد أنها نزلت بمنى. وأخرج في (الدلائل) عن أم عمرو، عن عمها أنها نزلت في مسير له، وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب قال: نزلت سورة المائدة في حجة الوداع، فيما بين مكة والمدينة.

    [ ص: 1789 ] ومنها: اليوم أكملت لكم دينكم في الصحيح عن عمر:

    أنها نزلت عشية عرفة، يوم الجمعة، عام حجة الوداع، وله طرق كثيرة. لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري، أنها نزلت يوم غدير خم. وأخرج مثله من حديث أبي هريرة، وفيه: إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، مرجعه من حجة الوداع، وكلاهما لا يصح.

    ومنها: آية التيمم فيها. في الصحيح عن عائشة أنها نزلت بالبيداء وهم داخلون المدينة.

    [ ص: 1790 ] ومنها: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم الآية. نزلت ببطن نخل.

    ومنها: والله يعصمك من الناس نزلت في ذات الرقاع. انتهى.

    وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه الروايات، عند هذه الآيات.

    قال ابن كثير: روى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت: إني لآخذة بزمام العضباء - ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذ نزلت عليه المائدة كلها. فكادت من ثقلها تدق عضد الناقة.

    وروى الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، لم تستطع أن تحمله، فنزل عنها. تفرد به أحمد.

    وروى الحاكم عن جبير بن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير! تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم. فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت. فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

    [ ص: 1791 ] بسم الله الرحمن الرحيم

    القول في تأويل قوله تعالى:

    [1] يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد .

    يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود روى ابن أبي حاتم; أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال: اعهد إلي! فقال: إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه.

    و (الوفاء) ضد الغدر، كما في "القاموس" وقال غيره: هو ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء. يقال: وفى بالعهد وأوفى به.

    قال ناصر الدين في "الانتصاف": ورد في الكتاب العزيز: وفى بالتضعيف في قوله تعالى: وإبراهيم الذي وفى ورد: أوفى كثيرا. ومنه: أوفوا العقود. وأما: (وفى) ثلاثيا، فلم يرد إلا في قوله تعالى: ومن أوفى بعهده من الله لأنه بنى أفعل التفضيل من: (وفى) إذ لا يبنى إلا من ثلاثي.

    [ ص: 1792 ] و (العقود) جمع عقد؛ وهو العهد الموثق. شبه بعقد الحبل ونحوه، وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف.

    قال علي بن طلحة: قال ابن عباس: يعني بالعهود ما أحل الله وما حرم، وما فرض، وما حد في القرآن كله، ولا تغدروا ولا تنكثوا. وقال زيد بن أسلم: العقود ستة: عهد الله، وعقد الحلف، وعقد الشركة، وعقد البيع، وعقد النكاح، وعقد اليمين. قال الزمخشري: والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه، من تحليل حلاله وتحريم حرامه. وأنه كلام قديم مجملا. ثم عقب بالتفصيل. وهو قوله: أحلت لكم بهيمة الأنعام البهيمة ما لا عقل له مطلقا، من ذوات الأرواح أو ذوات الأربع.

    قال الراغب: خص في المتعارف بما عدا السباع والطير، وإضافتها للأنعام، للبيان كثوب الخز. وإفرادها لإرادة الجنس. أي: أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام. جمع (نعم) محركة وقد تسكن عينه. هي الإبل والبقر والشاء والمعز: إلا ما يتلى يعني: رخصت لكم الأنعام كلها. إلا ما حرم عليكم في هذه السورة، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك.

    وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبحيرة.

    فأخبر الله تعالى أنهما حلالان، إلا ما بين في هذه السورة، ثم قال: غير محلي الصيد وأنتم حرم يعني: أحلت لكم هذه الأشياء. من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون. ف: (غير) نصب على الحالية من ضمير (لكم). قال في "العناية": ولا يرد ما قيل: إنه يلزم تقيد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم. وهي قد أحلت لهم مطلقا. ولا يظهر له فائدة، إلا إذا عنى بالبهيمة الظباء وحمر الوحش وبقره، لأنه – مع عدم اطراد اعتبار المفهوم - يعلم منه غيره بالطريق الأولى. لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها، وهم محرمون لدفع الحرج عنهم، فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانا لإنعام الله عليهم بما رخص لهم من ذلك.

    وبيانا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم. وفي "الإكليل": في الآية تحريم الصيد في الإحرام والحرم. لأن: (حرما) بمعنى محرمين، ويقال: أحرم أي: بحج وعمرة. وأحرم: دخل في الحرم. انتهى.

    [ ص: 1793 ] قال بعض الزيدية: والمراد بالصيد المحرم على المحرم. هو صيد البر. لقوله في هذه السورة: أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما هذا إذا جعل (حرم) جمع (محرم) وهو الفاعل للإحرام، وإن جعل للداخل في الحرم، استوى تحريم البحري والبري. وذلك حيث يكون في الحرم نهر فيه صيد فيحرم، لقوله تعالى: ومن دخله كان آمنا لأنه يقال لمن دخل الحرم، أنه محرم. كما يقال: أعرق وأنجد: إذا دخل العراق ونجدا. ويكون التحريم في مكة وحرم المدينة؛ لما ورد من الأخبار في النهي عن صيد المدينة وأخذ شجرها. نحو: المدينة حرم من عير إلى ثور. انتهى.

    إن الله يحكم ما يريد من تحليل وتحريم. وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه.
    [ ص: 1794 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [2] يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب .

    يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله أي: معالم دينه. وهي المناسك. وإحلالها أن يتهاون بحرمتها، وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها. وقد روى ابن جرير عن عكرمة [ ص: 1795 ] والسدي قالا: نزلت في الحطم، واسمه شريح بن هند البكري. أتى المدينة وحده. وخلف خيله خارج المدينة. ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إلام تدعو الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. فقال: حسن. إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم. ولعلي أسلم وآتي بهم. فخرج من عنده، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل منربيعة يتكلم بلسان شيطان. فلما خرج شريح قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ ص: 1796 ] لقد دخل بوجه كافر، وخرج بقفا غادر، وما الرجل بمسلم، فمر بسرح من سراح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول:


    قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم

    ولا بجزار على ظهر الوضم
    باتوا نياما وابن هند لم ينم

    بات يقاسيها غلام كالزلم
    خدلج الساقين ممسوح القدم



    فتبعوه فلم يدركوه. فلما كان العام القابل، خرج شريح حاجا مع حجاج بكر بن وائل، من اليمامة. ومعه تجارة عظيمة. وقد قلد الهدي. فقال المسلمون: يا رسول الله! هذا الحطم قد خرج حاجا فخل بيننا وبينه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد قلد الهدي. فقالوا: يا رسول الله! هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية. فأبى النبي صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله
    قال ابن عباس: هي المناسك. كان المشركون يحجون ويهدون. فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم. فنهاهم الله عن ذلك.

    وعن ابن عباس أيضا: لا تحلوا شعائر الله هي أن تصيد وأنت محرم. ويقال: شعائر الله، شرائع دينه التي حدها لعباده. وإخلالها الإخلال بها. وظاهر أن عموم اللفظ يشمل الجميع.

    [ ص: 1797 ] ولا الشهر الحرام المراد به الجنس. فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم.

    وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب. أي: لا تحلوها بالقتال فيها. وقد كانت العرب تحرم القتال فيها في الجاهلية. فلما جاء الإسلام لم ينقض هذا الحكم. بل أكده. كذا في "لباب التأويل".

    قال ابن كثير: يعني بقوله: ولا الشهر الحرام تحريمه والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه، من الابتداء بالقتال. كما قال تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وقال تعالى: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 1798 ] قال في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا. منها أربعة حرم...» الحديث. وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت. كما هو مذهب طائفة من السلف.

    وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنه، في قوله تعالى: ولا الشهر الحرام يعني: لا تستحلوا القتال فيه. وكذا قال مقاتل وعبد الكريم بن مالك الجزري. واختاره ابن جرير أيضا. وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ. وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم. واحتجوا بقوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم والمراد أشهر التسيير الأربعة.

    قالوا: فلم يستثن شهرا حراما من غيره. انتهى. وفي كتاب: "الناسخ والمنسوخ" لابن حزم: إن الآية نسخت بآية السيف. ونقل بعض الزيدية في "تفسيره" عن الحسن أنه ليس في هذه السورة منسوخ. وعن أبي ميسرة: فيها ثماني عشرة فريضة. وليس فيها منسوخ. (انتهى).


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #285
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1799 الى صـ 1811
    الحلقة (285)



    وروى ابن أبي حاتم عن ابن عوف قال: قلت للحسن: نسخ من المائدة شيء؟ قال: لا.

    وقال الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" في "فصل سرية الخبط" كان أميرها أبا عبيدة بن الجراح، وكانت في رجب، فيما ذكره الحافظ بن سيد الناس في "عيون الأثر".

    ثم قال في فقه هذه القصة: إن فيها جواز القتال في الشهر الحرام. إن كان ذكر التاريخ فيها برجب، محفوظا. والظاهر -والله أعلم- أنه وهم غير محفوظ. إذ لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غزا في الشهر الحرام، ولا أغار فيه، ولا بعث فيه سرية. وقد عير [ ص: 1799 ] المشركون المسلمين لقتالهم فيه في أول رجب، في قصة العلاء بن الحضرمي، فقالوا: استحل محمد الشهر الحرام. وأنزل الله في ذلك: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ولم يثبت ما ينسخ هذا بنص يجب المصير إليه، ولا اجتمعت الأمة على نسخه. وقد استدل على تحريم القتال في الأشهر الحرام بقوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ولا حجة في هذا. لأن الأشهر الحرم هاهنا هي أشهر التسيير التي سير الله فيها المشركين في الأرض يأمنون فيها. وكان أولها يوم الحج الأكبر، عاشر ذي الحجة. وآخرها عاشر ربيع الآخر. هذا هو الصحيح في الآية لوجوه عديدة، ليس هذا موضعها. انتهى.

    وقوله تعالى: ولا الهدي أي: لا تحلوه بأن يتعرض له بالغصب أو بالمنع عن بلوغ محله. والهدي: ما أهدي إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء. وفي "الإكليل": هذا أصل في مشروعية الإهداء إلى البيت. وتحريم الإغارة عليه. وذبحه قبل بلوغ محله. واستدل بالآية أيضا على منع الأكل منه.

    ولا القلائد جمع قلادة. وهي ما يقلد به الهدي. من نعل أو لحاء شجر، ليعلم أنه هدي، فلا يتعرض له. والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي. وهي البدن. وعطفها على (الهدي) مع دخولها فيه، لمزيد التوصية بها، لمزيتها على ما عداها. إذ هي أشرف الهدي. كقوله تعالى: وجبريل وميكال عطفا على الملائكة. كأنه قيل: والقلائد منه، خصوصا. أو النهي عن التعرض لنفس القلائد، مبالغة في النهي عن التعرض [ ص: 1800 ] لأصحابها. على معنى: لا تحلوا قلائدها فضلا أن تحلوها. كما نهى عن إبداء الزينة بقوله تعالى: ولا يبدين زينتهن مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها. كذا لأبي السعود.

    وقال الحافظ ابن كثير: يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام. فإن فيه تعظيم شعائر الله. ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام.

    وليعلم أنه هدي إلى الكعبة. فيجتنبها من يريدها بسوء. وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها. فإن من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ولهذا لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحليفة. وهو وادي العقيق. فلما أصبح طاف على نسائه، وكن تسعا. ثم اغتسل وتطيب وصلى ركعتين. ثم أشعر هديه وقلده. وأهل للحج والعمرة، وكان هديه إبلا كثيرة تنيف على الستين، من أحسن الأشكال والألوان كما قال تعالى: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب

    [ ص: 1801 ] قال بعض السلف: إعظامها استحسانها واستسمانها. قال علي بن أبي طالب: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن. رواه أهل السنن. وقال مقاتل: ولا القلائد، فلا تستحلوه. وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم. قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر. وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره، فيأمنون به. رواه ابن أبي حاتم.

    وقال عطاء: كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون. فنهى الله عن قطع شجره وكذا قال مطرف بن عبد الله. وأمانهم بذلك منسوخ. كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نسخ من هذه السورة آيتان: آية القلائد. وقوله: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وبسنده إلى ابن عوف قال: قلت للحسن: نسخ من المائدة شيء؟ قال: لا.

    ولا آمين البيت الحرام أي: لا تحلوا قوما قاصدين زيارة المسجد الحرام بأن تصدوهم أو تقاتلوهم أو تؤذوهم، لأنه من دخله كان آمنا. وقوله تعالى: يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا حال من المستكن في: آمين أي: قاصدين زيارته حال كونهم [ ص: 1802 ] طالبين التجارة ورضوان الله بحجهم. ونقل ابن كثير عن ثمانية من سلف المفسرين أنه عنى بالفضل طلب الرزق بالتجارة. قال: كما تقدم في قوله تعالى: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جرير أن الآية نزلت في الحطم بن هند البكري. وتقدمت قصته. وقال ابن طلحة عن ابن عباس: كان المؤمنون والمشركون يحجون، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا من مؤمن أو كافر. ثم أنزل الله بعده: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا الآية. وقال تعالى: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله وقال: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر فنفى المشركين من المسجد الحرام. وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن قتادة في قوله: ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام قال: منسوخ. كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلد من الشجر، فلم يعرض [ ص: 1803 ] له أحد. فإذا رجع تقلد قلادة من شعر، فلم يعرض له أحد، وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت. فنسخها قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: ولا القلائد يعني أن من تقلد قلادة من الحرم، فأمنوه. قال: ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك. قال الشاعر:


    ألم تقتلا الحرجين إذ أعوراكما يمران بالأيدي اللحاء المضفرا


    أفاده ابن كثير. وهذه الروايات توضح أنه عنى: (الآمين): المشركين خاصة. إذا هم [ ص: 1804 ] المحتاجون إلى نهي المؤمنين عن إحلالهم وما يفيده التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم. وكذا الرضوان من تشريفهم، والإشعار بحصول مبتغاهم. فالسر فيه تأكيد النهي والمبالغة في استنكار المنهي عنه. قال الزمخشري وأبو السعود: قد كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم، وأن الحج يقربهم إلى الله تعالى. فوصفهم الله تعالى بظنهم. وذلك الظن الفاسد، وإن كان بمعزل من استتباع رضوانه تعالى، لكن لا بعد في كونه مدارا لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية، وخلاصهم عن المكاره العاجلة. لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره. ونقل الرازي عن أبي مسلم الأصفهاني، أن المراد بالآية، الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فلما زال العهد بسورة براءة، زال ذلك الخطر، ولزم المراد بقوله تعالى: فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا انتهى.

    وإذا حللتم أي: خرجتم من الإحرام، أو خرجتم من الحرم إلى الحل: فاصطادوا أي: فلا جناح عليكم في الاصطياد: ولا يجرمنكم شنآن قوم أي: لا يحملنكم على الجريمة، شدة بغض قوم: أن صدوكم عن المسجد الحرام . أي: لأن صدوكم عن زيارته والطواف به للعمرة. وقرئ بكسر الهمزة من (إن) على أنها شرطية: أن تعتدوا أي: عليهم. قال أبو السعود: وإنما حذف، تعويلا على ظهوره، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي من النهي، منع صدور الاعتداء عن المخاطبين، محافظة على تعظيم الشعائر. لا منع وقوعه على القوم، مراعاة لجانبهم، وهو ثاني مفعولي: يجرمنكم أي: لا يكسبنكم شدة بغضكم لهم، لصدهم إياكم عن المسجد الحرام، اعتداءكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي.

    تنبيهات:

    الأول: قال ابن كثير: لا يحملنكم بغض قوم، قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك عام الحديبية، على أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتقتصوا منهم ظلما [ ص: 1805 ] وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد. وهذه الآية كما سيأتي من قوله: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى أن: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل. فإن العدل واجب على كل أحد، في كل أحد، في كل حال.

    وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك، بمثل أن تطيع الله فيه. والعدل، به قامت السماوات والأرض. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سهل بن عفان، حدثنا عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه، حين صدهم المشركون عن البيت. وقد اشتد ذلك عليهم. فمر بهم ناس من المشركين من أهل المشرق، يريدون العمرة. فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم. فأنزل إليه هذه الآية.

    الثاني: قوله: ولا يجرمنكم نهي عن إحلال قوم من الآمين، خصوا به مع اندراجهم في النهي عن إحلال الكل كافة، لاستقلالهم بأمور ربما يتوهم كونها مصححة لإحلالهم، داعية إليه.

    الثالث: لعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا مع ظهور تعلقه بما قبله، للإيذان بأن حرمة الاعتداد لا تنتهي بالخروج عن الإحرام، كانتهاء حرمة الاصطياد به، بل هي باقية ما لم تنقطع علامتهم عن الشعائر بالكلية. وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض بسائر الآمين، بالطريق الأولى. أفاده أبو السعود.

    الرابع: دلت الآية على أن المضارة ممنوعة. ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر [ ص: 1806 ] ولا ضرار في الإسلام» . وقوله عليه الصلاة والسلام: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» . ذكره بعض الزيدية. وفي "الإكليل": في الآية النهي عن الاعتداء وأنه لا يؤخذ أحد بذنب أحد.

    الخامس: (جرم) جار مجرى (كسب) في المعنى وفي التعدي إلى مفعول واحد، وإلى اثنين، يقال: جرم ذنبا، نحو كسبه. وجرمته ذنبا، نحو: كسبته إياه، خلا أن (جرم) يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه. وهو السبب في إيثاره ههنا على الثاني. وقد ينقل الأول من كل منها بالهمزة إلى معنى الثاني. فيقال: أجرمته ذنبا وأكسبته إياه. وعليه قراءة من قرأ: (يجرمنكم) بضم الياء. أفاده أبو السعود.

    وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان لما كان الاعتداء غالبا بطريق التظاهر والتعاون، أمروا، إثر ما نهوا عنه، بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى. ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى. فدخل فيه ما نحن بصدده من التعاون على العفو والإغضاء عما وقع منهم، دخولا أوليا. ثم نهوا عن التعاون في كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي. فاندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني: أفاده أبو السعود.

    قال ابن جرير: الإثم: ترك ما أمر الله بفعله. والعدوان: جواز ما حد الله في الدين، ومجاوزة ما فرض الله في النفس والغير. وفي معنى الآية أحاديث كثيرة. منها عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدال على الخير كفاعله» . رواه البزار. وعن أبي مسعود البدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» . رواه مسلم.

    وعن [ ص: 1807 ] أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه. لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه. لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» . رواه مسلم.

    وعن سهل بن سعد; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي عليه السلام، يوم خيبر: «فوالله! لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم» ، متفق عليه.

    وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه [ ص: 1808 ] وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قيل: يا رسول الله، هذا! نصرته مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال: تحجزه وتمنعه من الظلم. فذاك نصرك إياه» . رواه الإمام أحمد والشيخان. وعن يحيى بن وثاب عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» ، رواه الإمام أحمد.

    وروى الطبراني والضياء المقدسي عن أوس بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مشى مع ظالم ليعينه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام» ، وعن النواس بن سمعان قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم؟ فقال: البر حسن الخلق. والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» . رواه مسلم.

    تنبيه: في فروع مهمة.

    قال بعض الزيدية: من ثمرات الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    وأنه [ ص: 1809 ] لا يجوز إعانة متعد ولا عاص، فيدخل في ذلك تكثير سواد الظلمة بوجه، من قول أو فعل أو أخذ ولاية أو مساكنة. وفي "الإكليل": استدل المالكية بالآية على بطلان إجارة الإنسان نفسه، لحمل خمر ونحوه، وبيع العنب لعاصره خمرا والسلاح لمن يعصي به، وأشباه ذلك. انتهى وهو متجه. وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية في كتابه: "السياسة الشرعية": ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم؛ فإن التعاون نوعان: نوع على البر والتقوى، من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين، فهذا ما أمر الله به ورسوله. ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة، فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية، متوهم أنه متورع. وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع، إذا كان كل منهما كف وإمساك.

    والثاني: تعاون على الإثم والعدوان، كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، وضرب من لا يستحق الضرب، ونحو ذلك. فهذا الذي حرمه الله ورسوله. نعم، إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق، وتعذر ردها إلى أصحابها، ككثير من الأموال السلطانية، فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين، كسداد الثغور ونفقة المقاتلة، ونحو ذلك، من الإعانة على البر والتقوى، إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال، إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم - أن يصرفها مع التوبة، إن كان هو الظالم، إلى مصالح المسلمين. وإن كان غيره قد أخذها فعليه أن يفعل بها ذلك. وكذلك لو امتنع السلطان من ردها، كان الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها، أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها وعلى المسلمين. فإن مدار الشريعة على قوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم [ ص: 1810 ] المفسر لقوله: اتقوا الله حق تقاته وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» . أخرجاه في الصحيحين.

    وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتبطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت، كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما - هو المشروع، والمعين على الإثم والعدوان من أعان ظالما على ظلمه. أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه، أو على أداء المظلمة، فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم. بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم. مثال ذلك: ولي اليتيم والوقف، إذا طلب ظالم منه مالا، فاجتهد في دفع ذلك بدفع ما هو أقل منه إليه أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع - فهو محسن، وما على المحسنين من سبيل. وكذلك وكيل المالك من المتأدبين والكتاب وغيرهم، الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم، لا يتوكل للظالمين في الأخذ. وكذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة، فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان، وقسطها بينهم على قدر طاقتهم، من غير محاباة لنفسه ولا لغيره، ولا ارتشاء، بل توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء - كان محسنا. لكن الغالب أن من يدخل في ذلك [ ص: 1811 ] يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفرا لمن يريد، وآخذا ممن يريد، وهذا من أكبر الظلمة الذين يحشرون في توابيت من نار هم وأعوانهم وأشباههم، ثم يقذفون في النار. انتهى.

    واتقوا الله أي: اخشوه فيما أمركم ونهاكم: إن الله شديد العقاب يعني لمن خالف أمره. ففيه وعيد وتهديد عظيم. ثم بين تعالى المحرمات التي أشير إليها بقوله تعالى: إلا ما يتلى عليكم فقال:


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #286
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1812 الى صـ 1822
    الحلقة (286)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [3] حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم

    حرمت عليكم الميتة وهي ما فارقه الروح بغير سبب خارجي. لأنها تنجست بمفارقته من غير مطهر، من ذكر اسم الله تحقيقا أو تقديرا، كإسلام الذابح. كذا في "التبصير". وقد خص من (الميتة) السمك بالسنة: فإنه حلال. مات بتذكية أو غيرها. لما رواه مالك في موطئه، والشافعي وأحمد في مسنديهما، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى [ ص: 1812 ] الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر؟ فقال: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . وهكذا الجراد. لما سيأتي. قال الرازي: تحريم الميتة موافق لما في العقول. لأن الدم جوهر لطيف جدا. فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه، وتعفن وفسد، وحصل من أكله مضار عظيمة. انتهى.

    أخرج ابن منده في كتاب (الصحابة) من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده حبان قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة. فأنزل تحريم الميتة فأكفأت القدر: والدم أي: المسفوح منه. لقوله تعالى في الأنعام: أو دما مسفوحا وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال؟ فقال: كلوه. فقالوا: إنه دم. فقال: إنما حرم عليكم الدم المسفوح. وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد بن القاسم عن عائشة قالت: إنما نهي عن الدم السافح.

    قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحل لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان فالسمك والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال» . وكذا رواه أحمد بن حنبل [ ص: 1813 ] وابن ماجه والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهو ضعيف. قال الحافظ البيهقي: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس، عن أسامة، وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، مرفوعا. قال الحافظ ابن كثير: وثلاثتهم كلهم ضعفاء. ولكن بعضهم أصلح من بعض. وقد رواه سليمان بن بلال، أحد الأثبات، عن زيد بن أسلم عن ابن عمر، فوقفه بعضهم عليه، قال الحافظ أبو زرعة الرازي: وهو أصح. نقله ابن كثير.

    أقول: أقوى مما ذكر في الحجة، ما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد. وفيهما أيضا من حديث جابر، إن البحر ألقى حوتا ميتا فأكل منه الجيش. فلما قدموا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا رزقا أخرج الله لكم. أطعمونا منه إن كان معكم. فأتاه بعضهم بشيء. وفي البخاري عن عمر في قوله تعالى: أحل لكم صيد البحر وطعامه قال: صيده ما اصطيد. وطعامه ما رمي به. وفيه عن ابن عباس قال: طعامه ميتته.

    قال ابن كثير: روى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو صدي بن عجلان قال: بعثني [ ص: 1814 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم. فبينما نحن كذلك، إذ جاءوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها. فقالوا: هلم، يا صدي! فكل. قال قلت: ويحكم، إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم، فأقبلوا عليه، قالوا: وما ذاك؟ فتلوت عليهم هذه الآية: حرمت عليكم الميتة والدم الآية. ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه. وزاد بعد هذا السياق قال: فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون علي. فقلت: ويحكم! اسقوني شربة من ماء فإني شديد العطش. قال: وعلي عباءتي. فقالوا: لا. ولكن ندعك حتى تموت عطشا. قال: فاغتممت وضربت برأسي في العباء. ونمت على الرمضاء في حر شديد. قال: فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج. لم ير الناس أحسن منه. وفيه شراب لم ير الناس ألذ منه. فأمكنني منه فشربته. فلما فرغت من شرابي استيقظت، فلا، والله! ما عطشت ولا عربت (عرب كفرح فسدت معدته. قاموس) بعد تيك الشربة.

    ورواه الحاكم في مستدركه عن علي بن حماد، عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي أمامة. وزاد بعد قوله: (بعد تيك الشربة): فسمعتهم يقولون: أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تمجعوه بمذقة؟ فأتوني بمذقة فقلت: لا حاجة لي فيها. إن الله أطعمني وسقاني. وأريتهم بطني، فأسلموا عن آخرهم.
    انتهى.

    قال الزمخشري: كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها. والفصيد، وهو الدم في المباعر، يشوونها ويقولون: لم يحرم من فزد له.

    [ ص: 1815 ] وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة في قوله تعالى: إنما حرم عليكم الميتة والدم الآية.

    قال المهايمي: حرم الدم لأنه متعلق الروح بلا واسطة. فأشبه النجس بالذات، لا يؤثر فيه المطهر ولحم الخنزير لأنه نجس في حياته بصفاته الذميمة وهي -وإن زالت بالموت- فهو منجس ولم يقبل التطهير. لأنه لما كان نجسا حال الحياة والموت، أشبه النجس بالذات، فكأنه زيد تنجيسه بالموت. وإنما ذكر اللحم إشارة إلى أنه -وإن لم يكن موصوفا في الحياة بالصفات المنجسة لروحه- كان متنجسا بنجاسة روحه، ثم بزوال الروح. انتهى.

    قال ابن كثير: وقوله تعالى: ولحم الخنـزير يعني إنسيه ووحشيه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطرد. وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده بلحم الخنزير ودمه» ، فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به؟ وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره. وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم بيع الخمر [ ص: 1816 ] والميتة والخنزير والأصنام: فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا؛ هو حرام» .

    وما أهل لغير الله به أي: نودي عليه غير اسم الله، كما في "الصحاح" وأصل الإهلال رفع الصوت، وكان العرب في الجاهلية يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح، فحرم الله ذلك بهذه الآية.

    وبقوله: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه

    قال ابن كثير في الآية: أي: ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله، فهو حرام؛ لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم. فمن عدل بها عن ذلك، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع. وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية، إما عمدا أو نسيانا، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام، إن شاء الله تعالى. وروى ابن أبي حاتم عن الجارود بن أبي سبرة قال: كان رجل من بني رياح يقال له: ابن نائل. وكان شاعرا. نافر غالبا، جد الفرزدق بماء بظهر الكوفة. على أن يعقر هذا مائة من إبله، إذا وردت الماء. قاما بسيفيهما فجعلا يكشفان عراقيبها. قال: فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم. وعلي بالكوفة. قال: فخرج علي. على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وهو ينادي: يا أيها الناس! لا تأكلوا من لحومها. فإنما أهل بها لغير الله. هذا أثر غريب.

    [ ص: 1817 ] يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب» . ثم أسند عن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل. أفاده ابن كثير.

    وفي "القاموس وشرحه": وعاقره: فاخره وكارمه في عقر الإبل. ويقال: تعاقرا إذا عقرا إبلهما، يتباريان بذلك، ليرى أيهما أعقر لها. ومن ذلك معاقرة غالب بن صعصعة. أبي الفرزدق وسحيم بن وثيل الرياحي لما تعاقرا بصوأر. فعقر سحيم خمسا ثم بدا له. وعقر غالب مائة.

    وفي حديث ابن عباس: لا تأكلوا من تعاقر الأعراب. فإني لا آمن أن يكون مما أهل به لغير الله.

    قال ابن الأثير: هو عقرهم الإبل، كان الرجلان يتباريان في الجود والسخاء. فيعقر هذا وهذا. حتى يعجز أحدهما الآخر. وكانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخرا. ولا يقصدون به وجه الله تعالى. فشبهه بما ذبح لغير الله تعالى. انتهى.

    وروى الإمام مسلم عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: «لعن الله من ذبح لغير الله. لعن الله من لعن والديه. لعن الله من آوى محدثا. لعن الله من غير منار الأرض» .

    وروى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ ص: 1818 ] «دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا. فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقرب. قالوا له: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا، فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل. فضربوا عنقه. فدخل الجنة» . وفي هذه القصة ترهيب من وجوه: منها كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم. ومنها معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم. مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر. ومنها أن في هذا شاهدا للحديث الصحيح: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك» . كذا في كتاب "التوحيد".

    والمنخنقة وهي التي تموت بالخنق إما قصدا وإما اتفاقا. بأن تتخبل في وثاقها فتموت به. قال الحسن وغيره: هي التي تختنق بحبل الصائد أو غيره. وبأي وجه اختنقت فهي حرام. وقال ابن عباس: كانت الجاهلية يخنقون الشاة. حتى إذا ماتت أكلوها. والمنخنقة من جنس الميتة، لأنها لما ماتت، وما سال دمها، كانت كالميت حتف أنفه. إلا أنها فارقت الميتة بكونها تموت بسبب انعصار الحلق بالخنق، بخلاف الميتة فإنها بلا سبب.

    قال المهايمي: المنخنقة، وإن ذكر اسم الله عليها فقد عارضه سريان خباثة الخانق إليها، مع تنجسها بالموت: والموقوذة يعني المقتولة بالخشب. وكان أهل الجاهلية يضربون الشاة بالعصي. حتى إذا ماتت أكلوها. وفي "القاموس وشرحه" الوقذ شدة الضرب. وقذه يقذه وقذا: ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت. وشاة وقيذ وموقوذة قتلت بالخشب. وقال أبو سعيد: الوقذ الضرب على فأس القفا. فيصير هدتها إلى الدماغ، فيذهب [ ص: 1819 ] العقل. فيقال: رجل موقوذ. وفي الصحيح أن عدي بن حاتم قال: «قلت: يا رسول الله! إني أرمي بالمعراض الصيد، فأصيب. قال: إذا رميت بالمعراض فخرق فكله. وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ. فلا تأكله» .

    والمتردية هي الساقطة من جبل أو في بئر، فتموت. والتردي السقوط فهي مهواة. وهذه الثلاثة في معنى الميتة. فإنها ماتت ولم يسل دمها والنطيحة هي التي نطحتها أخرى فماتت. فهي حرام. وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها. وإن أرسل إنسان الناطح بذكر اسم الله؛ لأنه لما لم يكن بطريق الصيد المشروع، لم تخل من خباثة.

    فائدة:

    قال التبريزي في "تهذيبه" وابن قتيبة في "أدب الكاتب": ما كان على فعيل، نعتا للمؤنث وهو في تأويل مفعول، كان بغير هاء. نحو: كف خضيب. وملحفة غسيل. وربما جاءت بالهاء يذهب بها مذهب الأسماء. نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع... وقالوا: ملحفة جديدة. لأنها في تأويل مجدودة أي: مقطوعة. وإذا لم يجز فيه مفعول فهو بالهاء. نحو مريضة وظريفة وكبيرة وصغيرة. وجاءت أشياء شاذة. فقالوا: ريح خريق وناقة سديس وكتيبة خصيف.

    وقال ابن السكيت: قد تأتي فعيلة بالهاء وهي في تأويل مفعول بها. تخرج مخرج الأسماء ولا يذهب بها مذهب النعوت. نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع، ومررت بقتيلة بني فلان.

    وقال الجوهري: إنما جاءت النطيحة بالهاء، لغلبة الاسم عليها. وكذلك الفريسة والأكيلة والرمية. لأنه ليس هو (نطحتها، فهي منطوحة) وإنما هو الشيء في نفسه مما ينطح والشيء مما يفرس ويؤكل.

    [ ص: 1820 ] وما أكل السبع أي: ما عدا عليها فأكل بعضها. قال قتادة: كان أهل الجاهلية، إذا جرح السبع شيئا فقتله أو أكل منه، أكلوا ما بقي منه. فحرمه الله تعالى.

    قال المهايمي: هو، وإن أشبه الصيد، لكنه لما أكله قصد بذلك نفسه، فسرت خباثته فيها. انتهى.

    و (السبع) بضم الباء وفتحها وسكونها: المفترس من الحيوان. مثل الأسد والذئب والنمر والفهد. وما أشبهها مما له ناب، ويعدو على الناس والدواب فيفترسها. وسمي ذلك لتمام قوته. وذلك أن (السبع) من الأعداد التامة، وفي الآية محذوف تقديره: وما أكل السبع بعضه. كما ذكرنا. لأن ما أكله فقد فقد، فلا حكم له، إنما الحكم للباقي منه.

    وقوله تعالى: إلا ما ذكيتم أي: ما أدركتم ذكاته من هذه المذكورات: المنخنقة فما بعدها. بحيث ينسب موتها إلى الذبح دون غيره، فإنه يتحقق فيه المطهر، ولا يؤثر فيه السابق. لأن اللاحق ينسخه. بل هو واقع قبل تأثير السابق. إذ لا يتم التأثير إلا بالموت. أفاده المهايمي.

    قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي: إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح، فكلوه فهو ذكي. وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن والسدي. وروى ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي، في الآية قال: إن مصعت بذنبها، أو ركضت برجلها، أو طرفت بعينها، فكل. وروى ابن جرير عن الحارث عن علي أيضا قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدا أو رجلا، فكله. وهكذا روي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد; أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح، فهي حلال. وهذا مذهب جمهور الفقهاء. أفاده ابن كثير.

    وفي "الموطأ": سئل مالك عن شاة تردت فتكسرت، فأدركها صاحبها فذبحها، [ ص: 1821 ] فسال الدم منها ولم تتحرك؟ فقال مالك: إذا كان ذبحها ونفسها يجري وهي تطرف، فليأكلها.

    والتذكية الذبح، كالذكا والذكاة. قال الراغب: حقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية. ولكن خص في الشرع بإبطال الحياة على وجه دون وجه. أي: وهو قطع الحلقوم والمريء. بمنهر للدم: من سكين وسيف وزجاج وحجر وقصب، له حد يقطع كما السلاح المحدد. ما لم يكن سنا أو ظفرا. لحديث رافع بن خديج في الصحيحين وغيرهما قال: «قلت: يا رسول الله! إنا لاقو العدو غدا. وليس معنا مدى. أفنذبح بالقصب؟ فقال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوه ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم. وأما الظفر فمدى الحبشة» .

    وأما حديث أبي العشراء عن أبيه: «قلت: يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ قال: لو طعنت في فخذها لأجزأك» . أخرجه أحمد وأهل السنن - ففي إسناده مجهولون.

    [ ص: 1822 ] وأبو العشراء لا يعرف من أبوه. ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة. فهو مجهول. كذا في "الروضة".

    وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص": أبو العشراء مختلف في اسمه وفي اسم أبيه. وقد تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه على الصحيح. ولا يعرف حاله.

    وقال في "التقريب": أعرابي مجهول.

    قال الترمذي في جامعه، بعد سوقه لهذا الحديث: قال أحمد بن منيع: قال يزيد بن هارون: هذا في الضرورة. وفي الباب عن رافع بن خديج. انتهى.

    وقال ابن كثير: وهذا الحديث صحيح. ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة. انتهى.

    وتصحيحه له، مع جهالة راويه المذكور، فيه نظر. فإن حد الصحيح كما في "التقريب" ما اتصل إسناده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة. قال (شارحه السيوطي): فخرج بقيد (العدول) ما نقله مجهول عينا أو حالا. أي: فليس بصحيح بل ضعيف.

    وفي "النخبة" أن خبر الآحاد مقبول ومردود، والثاني إما لسقط من إسناد أو طعن في راو. والطعن إما لكذب أو تهمته بذلك. إلى أن قال: أو جهالته بأن لا يعرف فيه تعديل ولا تجريح معين. فتبصر.

    وما ذبح على النصب قال الزمخشري: كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت. يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها. يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها. تسمى الأنصاب.

    قال ابن كثير: فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع وحرم عليهم أكل هذه الذبائح، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله. لما في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. انتهى.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #287
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1823 الى صـ 1834
    الحلقة (287)



    وقد ورد النهي عن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره تعالى. فروى أبو داود بإسناد [ ص: 1823 ] على شرط الشيخين، عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: «نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك. فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله. ولا فيما لا يملك ابن آدم» .

    ففيه: أن المعصية قد تؤثر في الأرض. وكذلك الطاعة. وفيه المنع من النذر إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله. أو عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله أيضا. وإنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة لأنه نذر معصية وفيه الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم، ولو لم يقصده. كذا في "كتاب التوحيد".

    لطيفة:

    (النصب) بضمتين، وضم فسكون، إما جمع، واحده نصاب. ككتاب وكتب. أو مفرد جمعه أنصاب كعنق وأعناق. وقفل وأقفال. وفي "القاموس وشرحه": النصب: كل ما نصب وجعل علما. وكل ما نصب فعبد من دون الله تعالى. والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهل عليها ويذبح لغير الله تعالى. وقال القتيبي: النصب صنم أو حجر. وكانت الجاهلية تنصبه تذبح عنده، فيحمر بالدم. ومنه حديث أبي ذر في إسلامه قال: [ ص: 1824 ] فخرجت مغشيا علي ثم ارتفعت كأني نصب أحمر -يريد أنهم ضربوه حتى أدموه- فصار كالنصب المحمر بدم الذبائح. انتهى.

    قال ابن جريج: كانت النصب ثلاثمائة وستين نصبا. وكانوا يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت، بدماء تلك الذبائح. ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب.

    وأن تستقسموا بالأزلام أي: وحرم عليكم، أيها المؤمنون، الاستقسام بالأزلام، أي: طلب القسم والحكم بها. والأزلام جمع زلم (محركة). و (كصرد) وهي: قداح ثلاثة كانوا يستقسمون به في الجاهلية. مكتوب على أحدها: (افعل) وعلى الآخر (لا تفعل) والثالث غفل، ليس عليه شيء. وقد زلمت وسويت ووضعت في الكعبة. يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد رجل سفرا أو نكاحا. أتى السادن وقال: أخرج لي زلما. فيجيلها ثم يخرج زلما منها. فإذا خرج قدح الأمر، مضى على ما عزم عليه. أو النهي قعد عما أراده. أو الفارغ أعاد.

    قال الزهري (في معنى الآية): أي: تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين. فمعنى الاستقسام هو طلب معرفة ما قسم له من الخير والشر، مما لم يقسم له بواسطة ضرب القداح. وذكر محمد بن إسحاق وغيره; أن أعظم أصنام قريش، صنم كان يقال له هبل. منصوب على بئر داخل الكعبة، فيها توضع الهدايا، وأموال الكعبة فيه. وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم. فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه. وفي "اللباب": كانت أزلامهم سبع قداح مستوية مكتوب على واحد منها: (أمرني ربي) وعلى واحد: (نهاني) وعلى واحد: (منكم) وعلى واحد: (من غيركم) وعلى واحد: (ملصق) وعلى واحد: (العقل) وعلى واحد غفل. أي: ليس عليه شيء. وكانت العرب، في الجاهلية، إذا أرادوا سفرا أو تجارة أو نكاحا، أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل، أو تحمل عقل، أو غير ذلك من الأمور العظام - جاءوا إلى هبل. وكانت أعظم صنم لقريش بمكة. وجاءوا بمائة [ ص: 1825 ] درهم. وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم. فإن خرج: (أمرني ربي) فعلوا ذلك الأمر. وإن خرج: (نهاني ربي) لم يفعلوه. وإن أجالوا على نسب، فإن خرج: (منكم) كان وسطا منهم. وإن خرج: (من غيركم) كان حلفا فيهم. وإن خرج: (ملصق) كان على حاله. وإن اختلفوا في العقل. وهو الدين، من خرج عليه قدح العقل تحمله. وإن خرج غفل أجالوا ثانيا. حتى يخرج المكتوب عليه. فنهاهم الله عن ذلك وحرمه وسماه فسقا، كما يأتي. وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها. وفي أيديهما الأزلام. فقال: «قاتلهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بهما أبدا» . وفي الصحيح أن سراقة بن مالك بن جعشم، لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وهما ذاهبان إلى المدينة. مهاجرين، قال: فاستقسمت بالأزلام: هل أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره: لا تضرهم. قال: فعصيت الأزلام واتبعتهم. ثم استقسم بها ثانية وثالثة. كل ذلك يخرج الذي يكره: لا تضرهم. وكان كذلك. وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك. ثم أسلم بعد ذلك.

    وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائرا» .

    ذلكم فسق أي: خروج عن الأخذ بالطريق المشروع. والإشارة إلى الاستقسام. أو إلى تناول ما حرم عليهم. لأن المعنى: حرم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا. فإن قلت: لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام، لتعرف الحال - فسقا؟ قلت: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب. [ ص: 1826 ] وقال: قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله .

    واعتقاد أن إليه طريقا وإلى استنباطه. وقوله: أمرني ربي ونهاني ربي - افتراء على الله. وما يدريه أنه أمره أو نهاه؟ والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب الصنم، فقد روي أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم - فأمره ظاهر. كذا في الكشاف.

    تنبيه:

    في "الإكليل": استدل بهذه الآية على تحريم القمار والتنجيم والرمل وكل ما شاكل ذلك. وعداه بعضهم إلى منع القرعة في الأحكام، وهو مردود. انتهى. أي: لتباين القصد فيهما. فإن القرعة في قسمة الغنائم وإخراج النساء ونحوها، لتطيب نفوسهم والبراءة من التهمة في إيثار البعض. ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة. كما "في العناية".

    قال الحاكم: وتدل على تحريم التمسك بالفأل والزجر والتطير والنجوم. فأما التفاؤل بالخير فمباح. قال الأصم: ومن هذا قول المنجم: إذا طلع نجم كذا فاخرج، وإن لم يطلع فلا تخرج.

    قال الراضي بالله: ومن عمل بالأيام في السعد والنحس، معتقدا أن لها تأثيرا، كفر. وإن لم يعتقد أثم. وقد روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن قطن بن قبيصة، عن أبيه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت» .

    قال عوف أحد رواته: العيافة زجر الطير، والطرق الخط يخط بالأرض. وفي "القاموس" عفت الطير عيافة: زجرتها. وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها، فتتسعد أو تتتشأم، وهو من عادة العرب كثيرا.

    [ ص: 1827 ] وقال أبو زيد: الطرق أن يخط الرجل في الأرض بإصبعين ثم بإصبع.

    وقال ابن الأثير: الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء. وقيل: هو الخط بالرمل. والجبت: كل ما عبد من دون الله تعالى. وقد روى مسلم في صحيحه، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين يوما» .

    وروى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» . وعن عمران بن حصين مرفوعا: «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن له، أو سحر أو سحر له. ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» . رواه البزار بإسناد جيد. ورواه الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن من حديث ابن عباس. دون قوله: ومن أتى... إلخ.

    قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك. وقيل: هو الكاهن. والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير. وقال أبو العباس بن تيمية: العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق. وقال ابن عباس (في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم): ما أرى من فعل ذلك، له عند الله من خلاق. وفي الأحاديث السابقة من الترهيب ما فيها من التصريح بأنه لا يجتمع تصديق الكاهن مع [ ص: 1828 ] الإيمان بالقرآن، والتصريح بأنه كفر. وعن ابن مسعود مرفوعا. «الطيرة شرك. الشرك الطيرة. ما منا إلا... ولكن الله يذهبه بالتوكل» . رواه أبو داود والترمذي وصححه. وجعل آخره من قول ابن مسعود.

    ولأحمد من حديث ابن عمرو: من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم! لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل. قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة» . رواه الشيخان.

    ولأبي داود بسند صحيح عن عروة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أحسنها الفأل ولا ترد مسلما. فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم! لا يأتي بالحسنات إلا أنت. ولا يدفع السيئات إلا أنت. ولا حول ولا قوة إلا بك» .

    فائدة:

    قال الحافظ ابن كثير: قد أمر الله المؤمنين، إذا ترددوا في أمورهم، أن يستخيروه، بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه. كما رواه الإمام أحمد والبخاري [ ص: 1829 ] وأهل السنن من طرق عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما السورة من القرآن: ويقول: «إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم! إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم. فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم! إن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسميه باسمه) خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال: عاجل أمري) وآجله فاقدره لي، ويسره لي ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاصرفني عنه واصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به» . هذا لفظ الإمام أحمد.

    اليوم يئس أي: قنط: الذين كفروا من دينكم روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، يعني: يئسوا أن يراجعوا دينهم. وكذا روي عن عطاء بن أبي رباح والسدي ومقاتل بن حيان. وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم» . نقله ابن كثير. وعليه ف (من) تعليلية. أي: يئسوا من مراجعة دينهم لأجل دينكم الذي ضم إليه جمهور الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها. ودخلوا فيه أفواجا. وللزمخشري تأويل بديع، تابعه عليه من بعده، ونحن نسوقه أيضا. قال رحمه الله: لم يرد بقوله: اليوم يوم بعينه. وإنما أريد به الزمان الحاضر، وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية. كقولك: كنت بالأمس شابا وأنت اليوم أشيب. فلا تريد (بالأمس) اليوم الذي قبل يومك ولا (باليوم) يومك. وقيل: أريد يوم نزولها. وقد نزلت يوم الجمعة، وكان يوم عرفة، بعد العصر في حجة الوداع. وقوله تعالى: يئس . إلخ. أي: يئسوا منه أن يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث، بعد ما حرمت عليكم. وقيل: [ ص: 1830 ] يئسوا من دينكم أن يغلبوه. لأن الله عز وجل وفى بوعده من إظهاره على الدين كله.

    فلا تخشوهم بعد إظهار الدين، وزوال الخوف من الكفار، وانقلابهم مغلوبين مقهورين، بعدما كانوا غالبين: واخشون وأخلصوا لي الخشية. انتهى كلامه.

    وأوضح الوجه الأول، الرازي فقال: ليس المراد باليوم هو ذلك اليوم بعينه، حتى يقال: إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه: لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار، لأنكم الآن صرتم حيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم.

    ثم بين تعالى أكبر نعمه وأعظم مننه على هذه الأمة وهو: إكماله لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه. ولهذا جعله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه. فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة. ولهذا قال: اليوم أكملت لكم دينكم يعني أحكامه وفرائضه، فلا زيادة بعده، ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام. هذا ما روي عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير وقتادة: معنى (الإكمال) أنه لم يحج معهم مشرك. وخلال الموسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين. وقيل: معناه كفايتهم أمر العدو، وجعل اليد العليا لهم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد، إذا كفوا من ينازعهم. وبما ذكرنا أولا - من أن المراد بالإكمال عدم الزيادة - يندفع ما يتوهم من ثبوت النقص أولا. ولذا قال ابن الأنباري (في الآية): اليوم أكملت لكم شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت. وذلك أن الله تعالى كان يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر. فيكون الوقت الأول تاما في وقته. وكذلك الوقت الثاني تاما في وقته. فهو كما يقول القائل: عندي عشرة كاملة، ومعلوم أن العشرين أكمل منها. [ ص: 1831 ] والشرائع التي تعبد الله عز وجل بها عباده، في الأوقات المختلفة، مختلفة.

    وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبد بها. فكمل الله عز وجل الشرائع في اليوم الذي ذكره - وهو يوم عرفة - ولم يوجب ذلك، أن الدين كان ناقصا في وقت من الأوقات.

    وللإمام القفال نحو ذلك، نقله عنه الرازي واختاره. قال: إن الدين ما كان ناقصا البتة، بل كان أبدا كاملا. يعني: كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلا أنه تعالى كان عالما في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه. فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت. وكان يزيد بعد العدم. وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة، وحكم ببقائها إلى يوم القيامة. فالشرع أبدا كان كاملا. إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص. والثاني كمال إلى يوم القيامة. فلأجل هذا قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي يعني بإكمال الدين والشريعة. لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام. أو بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين. وهدم منار الجاهلية ومناسكهم، وأن لم يحج معكم مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. أو بإنجاز ما وعدهم بقوله: ولأتم نعمتي عليكم . فكان من تمام النعمة فتح مكة وما ذكرنا ورضيت لكم الإسلام دينا يعني: اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ، أو معناه: الانقياد لأمري فيما شرعت لكم من الفرائض والأحكام والحدود ومعالم الدين الذي أكملته لكم. ومعلوم أن الإسلام لم يزل مرضيا للحق تعالى منذ القدم، إلا أن المعني به، في الآية، الصفة التي هو اليوم بها. وهي نهاية الكمال والبلوغ به أقصى درجاته. أي: فالزموه ولا تفارقوه: إن الدين عند الله الإسلام ..!

    [ ص: 1832 ] روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال جبريل: قال الله عز وجل: هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه» .

    فوائد:

    الأولى: روى الإمام أحمد والشيخان وغيرهم عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين! إنكم تقرءون آية في كتابكم، لو علينا، معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: وأي آية؟ قال: قوله: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي فقال عمر: والله! إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله [ ص: 1833 ] عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة.

    قال ابن كثير: وقد روي هذا من غير وجه عن عمر. وروى ابن جرير عن قبيصة بن أبي ذئب قال: قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه. فقال عمر: أي آية يا كعب؟ فقال: اليوم أكملت لكم دينكم فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت، والمكان الذي أنزلت فيه. نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة. وكلاهما بحمد الله لنا عيد. وروى ابن جرير القصة أيضا عن ابن عباس، وأنه قال: نزلت يوم عيدين اثنين. يوم عيد ويوم جمعة... وروى ابن مردويه عن ابن الحنفية عن علي قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم عشية عرفة: اليوم أكملت لكم دينكم . ورواه أيضا عن سمرة. وروى ابن جرير نحوه عن معاوية. وروي عن السدي قال: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. فقالت أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة. فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن. فنزلت. فأتيته فسجيت عليه بردا كان علي.

    وقال ابن جرير وغيره: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما.

    وقال ابن جرير: حدثنا سفيان بن وكيع: حدثنا ابن فضيل عن هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت: اليوم أكملت لكم دينكم - وذلك يوم الحج الأكبر - بكى عمر. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا.

    فأما إذ كمل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال: صدقت.


    قال ابن كثير: ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء» . انتهى.

    قلت: والحديث المذكور رواه مسلم عن أبي هريرة. والترمذي عن ابن مسعود. [ ص: 1834 ] وابن ماجه عنهما أيضا وعن أنس، والطبراني عن سلمان وسهل وابن عباس.

    هذا، وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في الآية قال: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس. ومن طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى حجة الوداع. وروى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري; أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم.

    حين قال لعلي: من كنت مولاه فعلي مولاه. ثم رواه عن أبي هريرة وفيه: إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة - يعني مرجعه صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع.

    قال ابن كثير: ولا يصح لا هذا ولا هذا. بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية، أنها نزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة، كما قدمنا عن عمر وعلي ومعاوية وابن عباس وسمرة رضي الله عنهم، وعن ثلة من التابعين.

    الثانية: استدل نفاة القياس بهذه الآية، على أن القياس باطل؛ وذلك لأن الآية دلت على أنه تعالى قد نص على الحكم في جميع الوقائع، إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن الدين كاملا، وإذا حصل النص في جميع الوقائع، فالقياس - إن كان على وفق ذلك النص - كان عبثا وإن كان على خلافه كان باطلا.

    وأجاب عنه مثبتو القياس بما بسطه الرازي. فانظره.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #288
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1835 الى صـ 1847
    الحلقة (288)



    الثالثة: قال صاحب "فتح البيان": لا معنى للإكمال في الآية إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه الشرع. إما بالنص على كل فرد، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة. ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله: [ ص: 1835 ] ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تركتكم على الواضحة، ليلها كنهارها» . وجاءت نصوص الكتاب العزيز بإكمال الدين. وبما يفيد هذا المعنى، ويصحح دلالته، ويؤيد برهانه، ويكفي في دفع الرأي، وأنه ليس من الدين - قول الله تعالى هذا؛ فإنه إذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض إليه نبيه صلى الله عليه وسلم، فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه لأنه إن كان من الدين - في اعتقادهم - فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم، وهذا فيه رد للقرآن. وإن لم يكن من الدين، فأي فائدة في الاشتغال بما ليس منه؟ وما ليس منه فهو رد بنص السنة المطهرة. كما ثبت في "الصحيح" - وهذه حجة قاهرة ودليل باهر لا يمكن أهل الرأي أن يدفعوه بدافع أبدا. فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصك به وجوه أهل الرأي، وترغم به آنافهم، وتدحض به حجتهم. فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه. ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل. فمن جاء بشيء من عند نفسه [ ص: 1836 ] وزعم أنه من ديننا قلنا له: إن الله أصدق منك: ومن أصدق من الله قيلا . اذهب لا حاجة لنا في رأيك. وليت المقلدة فهموا هذه الآية حق الفهم حتى يستريحوا ويريحوا. وقد أخبرنا الله في محكم كتابه أن القرآن أحاط بكل شيء فقال: ما فرطنا في الكتاب من شيء وقال: تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة ثم أمر عباده بالحكم بكتابه فقال: وأن احكم بينهم بما أنـزل الله ولا تتبع أهواءهم وقال: لتحكم بين الناس بما أراك الله وقال: إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين [ ص: 1837 ] وقال: ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون وفي آية: هم الظالمون وفي أخرى: هم الفاسقون وأمر عباده أيضا في محكم كتابه باتباع ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وهذه أعم آية في القرآن، وأبينها في الأخذ بالسنة المطهرة، وقال: ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) . وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز. [ ص: 1838 ] وقال: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة

    والاستكثار من الاستدلال على وجوب طاعة الله وطاعة رسوله لا يأتي بعائدة. ولا فائدة زائدة، فليس أحد من المسلمين يخالف في ذلك. ومن أنكره فهو خارج عن حزب المسلمين. وإنما أوردنا هذه الآيات الكريمة، والبينات العظيمة تليينا لقلب المقلد الذي قد جمد، وصار كالجلمد. فإنه إذا سمع مثل هذه الأوامر القرآنية، ربما امتثلها وأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، طاعة لأوامره. فإن هذه الطاعة، وإن كانت معلومة لكل مسلم، لكن الإنسان قد يذهل عن القوارع الفرقانية والزواجر المحمدية، فإذا ذكر بها ذكر. ولا سيما من نشأ على التقليد وأدرك سلفه ثابتين عليه غير متزحزحين عنه. فإنه يقع في قلبه، أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه. وما كان مخالفا له فليس من الإسلام في شيء. فإذا راجع نفسه رجع.

    ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب، ثم سمع - قبل أن يتمرد بالعلم ويعرف ما قاله الناس - خلاف ذلك المألوف، استنكره وأباه قلبه، ونفر عنه طبعه. وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر. ولكن إذا وازن العاقل بعقله، بين من اتبع أحد أئمة المذاهب في مسألة من مسائله التي رواها عنه المقلد - ولا مستند لذلك العالم فيها، بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل - وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن والسنة; أفاده العقل بأن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل، لا جامع بينهما، لأن من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به، واتبع ما شرعه الشارع لجميع الأمة: أولها وآخرها، [ ص: 1839 ] وحيها وميتها...! والعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون أن يرجع إلى غيره. والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة، واسترواء النص، وكيف حكم الله في محكم كتابه أو على لسان رسوله في تلك المسألة. فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجة إذا دل عليها، أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها. فهم رواة وهو مسترو، وهذا عامل بالرواية لا بالرأي; والمقلد عامل بالرأي لا بالرواية. لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة. وذلك في سؤاله يطالب بالحجة لا بالرأي، فهو قابل لرواية الغير لا لرأيه. وهما من هذه الحيثية متقابلان، فانظر كم الفرق بين المنزلتين؟ والكلام في ذلك يطول ويستدعي استغراق الأوراق الكثيرة. وهو مبسوط في مواطنه، وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ، وبالله التوفيق. انتهى كلامه.

    الرابعة: قال بعض الزيدية: ثمرة الآية تعظيم هذا اليوم المذكور، وأنه يلزم الشكر لله تعالى على التمسك بملة الإسلام.

    وقوله تعالى: فمن اضطر متصل بذكر المحرمات. وما بينهما اعتراض بما يوجب أن يجتنب عنه. وهو أن تناولها فسوق، وحرمتها من جملة الدين الكامل، والنعمة التامة، والإسلام المرضي. ومعناه: فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات: الميتة وما بعدها، أي: أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة وما بعدها: في مخمصة أي: مجاعة يخاف معها الموت أو مبادئه - و (المخمصة): مصدر مثل المغضبة والمعتبة. يقال: خمصه الجوع خمصا ومخمصة، وخمص البطن (مثلثة الميم) خلا غير متجانف لإثم أي: غير منحرف إليه بالأكل فوق الضرورة، أو العصيان بالسفر. كقوله تعالى: غير باغ ولا عاد [ ص: 1840 ] فإن الله غفور رحيم لتناوله الحرام - فلا يؤاخذه به: رحيم أي: بإعطائه الرخصة فيه لعلمه بحاجة عبده المضطر، وافتقاره إلى ذلك، فيتجاوز عنه ويغفر له. وفي "المسند" و "صحيح" ابن حبان عن ابن عمر - مرفوعا - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته» . لفظ ابن حبان. وفي لفظ لأحمد: «من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة» ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجبا في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها. وقد يكون مندوبا، وقد يكون مباحا، بحسب الأحوال. واختلفوا: هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق، أو له أن يشبع ويتزود؟ على أقوال. وليس من شرط تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما - كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم - بل متى اضطر إلى ذلك جاز له. وقد روى الإمام أحمد عن أبي واقد الليثي; أنهم قالوا: يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة. فمتى تحل لنا بها [ ص: 1841 ] الميتة؟ فقال: «إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا، فشأنكم بها.» . إسناده صحيح على شرط الشيخين، والاصطباح: شرب اللبن بالغداة فما دون القائلة، وما كان منه بالعشي فهو الاغتباق، ومعنى لم تحتفئوا: أي: تقتلعوا. وفي اللفظة عدة روايات، وروى أبو داود عن الفجيع العامري: أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما يحل لنا من الميتة؟ قال: ما طعامكم؟، قلنا: نصطبح ونغتبق! قال أبو نعيم: فسره لي عقبة: قدح غدوة وقدح عشية، قال: ذاك، وأبي! الجوع. فأحل لهم الميتة على هذه الحال» . تفرد به أبو داود. وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئا لا يكفيهم. فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم. وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع، ولا يتقيد ذلك بسد الرمق. والله أعلم.

    وروى أبو داود عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده. فقال رجل: [ ص: 1842 ] إن ناقة لي ضلت. فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت. فقالت له امرأته: انحرها! فأبى، فنفقت، فقالت اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتاه، «فسأله، فقال له: هل عندك غنى يغنيك؟ قال: لا! قال: فكلوها! قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك!» تفرد به.

    وقد يحتج به من يجوز الأكل والشبع والتزود منها مدة، يغلب على ظنه الاحتياج إليها. والله أعلم. أفاده ابن كثير. وقوله: (فنفقت). أي: ماتت. (من باب نصر وفرح) قال ابن بري: أنشد ثعلب:


    فما أشياء نشريها بمال فإن نفقت فأكسد ما تكون؟


    تنبيه:

    قال بعض المفسرين: ليس في هذه الآية بيان لتقديم أحدها. والفقهاء يقولون: يقدم الأخف تحريما، فميتة المأكول على ميتة غيره. انتهى.

    وفي "رحمة الأمة" أن المضطر إذا وجد ميتة وطعام الغير، ومالكه غائب، أن له أكله بشرط الضمان، دون الميتة. عند مالك وأكثر أصحاب الشافعي وجماعة من الحنفية. وعند أحمد وآخرين: يأكل الميتة.

    قال ابن كثير: قد استدل بقوله تعالى: غير متجانف لإثم من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر، لأن الرخص لا تنال بالمعاصي. والله أعلم.
    [ ص: 1843 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [4] يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب .

    يسألونك ماذا أحل لهم أي: من المطاعم: قل أحل لكم الطيبات أي: ما ليس بخبيث منها. وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة. و (الطيب) في اللغة هو المستلذ. و (الحلال) المأذون فيه، يسمى طيبا تشبيها بما هو مستلذ. لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة: وما علمتم من الجوارح عطف على (الطيبات) بتقدير مضاف. أي: وصيد ما علمتموه. أو مبتدأ، على أن (ما) شرطية وجوابها (فكلوا). و (الجوارح): الكواسب من سباع البهائم والطير - كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين - لأنها تجرح لأهلها أي: تكسب لهم. الواحدة جارحة. تقول العرب: فلان جرح أهله خيرا، أي: كسبهم خيرا. وفلان لا جارح له؛ أي: لا كاسب. ومنه قوله تعالى: ويعلم ما جرحتم بالنهار أي: كسبتم. وقيل: سميت (جوارح) لأنها تجرح الصيد عند إمساكه. وقوله تعالى: مكلبين أي: معلمين لها أن تستشلي إذا أشليت، وتنزجر إذا زجرت، وتجتنب عند الدعوة، ولا تنفر عند الإرادة، فتصير كأنها وكلاؤكم لتعلمهن. إلا إذا قتلت بأنفسها من غير تعليم، فلا يحل صيدها.

    قال الزمخشري: (المكلب) مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها [ ص: 1844 ] لذلك، بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف. واشتقاقه من (الكلب) لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب. فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه. أو لأن السبع يسمى كلبا. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك. فأكله الأسد» . (الحديث حسن، أخرجه الحاكم)، أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال: هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به. وانتصاب (مكلبين) على الحال من (علمتم). فإذا قلت: ما فائدة هذه الحال وقد استغني عنها ب (علمتم)؟ قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه، مدربا فيه، موصوفا بالتكليب. وقوله تعالى: تعلمونهن حال ثانية أو استئناف، وفيه فائدة جليلة. وهي أن على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلا من أقتل أهله علما، وأنحرهم دراية، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه. وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل. فكم من آخذ، عن غيره متقن، قد ضيع أيامه، وعض عند لقاء النحارير أنامله: مما علمكم الله أي: من علم التكليب، لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل. أو مما عرفكم أن تعلموه من إتباع الصيد بإرسال صاحبه. وانزجاره بزجره. وانصرافه بدعائه. وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه. انتهى.

    وقال الناصر في "الانتصاف": وفي الآية دليل على أن البهائم لها علم. لأن تعليمها، معناه لغة تحصيل العلم له بطرقه. خلافا لمنكري ذلك.

    فكلوا مما أمسكن عليكم أي: صدن لكم وإن قتلنه بأن لم يأكلن منه: واذكروا اسم الله عليه الضمير يرجع إلى (ما علمتم من الجوارح) أي: سموا عليه عند إرساله، كما بينه حديث أبي ثعلبة وعدي الآتي. وجوز رجوعه إلى (ما أمسكن) على معنى: وسموا عليه إذا أدركتم زكاته: واتقوا الله أي: بالأكل مما فقد فيه شرط من هذه الشرائط استعجالا إليها: إن الله سريع الحساب أي: المجازاة على كل ما جل ودق.

    [ ص: 1845 ] تنبيهات:

    الأول: روى ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين. سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: «يا رسول الله! قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها» ؟ فنزلت: يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ; قال سعيد: يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم; وقال مقاتل: ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه، وهو الحلال من الرزق. وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي؟ فقال: ليس هو من الطيبات، رواه ابن أبي حاتم.

    وقال ابن وهب: سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس؟ فقال: ليس هو من الطيبات. وروى ابن أبي حاتم في سبب نزولها أثرا آخر، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب فقتلت، فجاء الناس فقالوا: يا رسول الله! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها، فسكت. فأنزل الله: يسألونك الآية.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أرسل الرجل كلبه وسمى فأمسك عليه، فليأكل مما لم يأكل» .

    وعند ابن جرير عن أبي رافع قال: «جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه، فأذن له فقال: قد أذنا لك يا رسول الله! قال: أجل. ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب. قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة. حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها. ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته. فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاءوا فقالوا: يا رسول الله! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأنزل الله عز وجل: يسألونك » . [ ص: 1846 ] ورواه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح ولم يخرجاه.

    وروى ابن جرير أيضا عن عكرمة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي. فجاء عاصم بن عدي وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة فقالوا: ماذا أحل لنا يا رسول الله» ؟ فنزلت الآية: رواه الحاكم أيضا عن عكرمة. وكذا قال محمد بن كعب القرظي في سبب نزولها: أنه في قتل الكلاب - أفاده ابن كثير.

    قال بعض المفسرين: لما نزلت الآية، أذن صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها. وأمر بقتل العقور وما يضر. انتهى.

    أقول: روى الإمام أحمد ومسلم عن جابر قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب. حتى أن امرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين؛ فإنه شيطان» .

    وروى الشيخان عن ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، إلا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية» .

    وعن عبد الله بن المغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها. فاقتلوا منها كل أسود بهيم» . رواه أبو داود والدارمي، وزاد [ ص: 1847 ] الترمذي والنسائي: «وما من أهل بيت يرتبطون كلبا إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط. إلا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم» .

    وظاهر هذه الأحاديث، أنه صلى الله عليه وسلم كان أمر بقتلها كلها. ثم رخص في استبقائها. إلا الأسود فإنه مستحق القتل.

    وقول إمام الحرمين: ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب حيث لا ضرر فيها حتى الأسود البهيم - يحتاج إلى برهان.

    قال ابن عبد البر: في هذه الأحاديث إباحة اتخاذ الكلب للصيد والماشية.

    وكذلك للزرع؛ لأنها زيادة حافظ. وكراهة اتخاذها لغير ذلك. إلا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر، اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضار قياسا، فمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة، لما فيه من ترويع الناس، وامتناع دخول الملائكة إلى البيت الذي الكلاب فيه.

    ثم قال: ووجه الحديث عندي; أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعا، لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها، فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك.

    وروي أن المنصور بالله سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث؟ فلم يعرفه. فقال المنصور: لأنه ينبح الضيف ويروع السائل. انتهى.

    وقال الخطابي: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم... إلخ» . أنه صلى الله عليه وسلم كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق، لأنه ما من خلق لله تعالى إلا وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة. يقول: إذا كان الأمر على هذا، ولا سبيل إلى قتلهن، فاقتلوا أشرارهن وهي السود البهم. وأبقوا ما سواها لتنتفعوا بهن في الحراسة.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #289
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1848 الى صـ 1862
    الحلقة (289)



    [ ص: 1848 ] وقال الطيبي: قوله: «أمة من الأمم» إشارة إلى قوله تعالى: وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم أي: أمثالكم في كونها دالة على الصانع ومسبحة له. قال تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده أي: يسبح بلسان القال أو الحال. حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وتنزيهه عما لا يجوز عليه، فبالنظر إلى هذا المعنى، لا يجوز التعرض لها بالقتل والإفناء. ولكن إذا كان لدفع مضرة - كقتل الفواسق الخمس - أو جلب منفعة - كذبح الحيوانات المأكولة - جاز ذلك.

    الثاني: ذهب جمهور الصحابة والتابعين والأئمة إلى أن الجوارح التي يحل صيدها، ما قبل التعليم من ذي ناب كالكلب والفهد والنمر، أو ذي مخلب كالطيور المذكورة قبل. قال في "النهاية": حتى الهر إن تعلم، واحتجوا بعموم الآية.

    وروى أحمد وأبو داود عن مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه، فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل ولم يأكل منه شيئا. فإنه أمسكه عليك» .

    [ ص: 1849 ] قال البيهقي: تفرد مجالد بذكر الباز فيه، وخالف الحفاظ.

    أقول: روى ابن جرير بالمسند المذكور إلى عدي قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي؟ فقال: ما أمسك عليك فكل» . وعن ابن عمر ومجاهد: «لا يحل إلا صيد الكلب فقط» . وروى ابن جرير بسنده، أن ابن عمر قال: أما ما صاد من الطير (والبزاة من الطير) فما أدركت فهو لك. وإلا فلا تطعمه. وقال ابن أبي حاتم: كره مجاهد صيد الطير كله، وقرأ قوله: وما علمتم من الجوارح مكلبين أي: فإن قوله تعالى: مكلبين يشير إلى قصر ذلك على الكلب. وقال الحسن البصري والنخعي وأحمد وإسحاق: يحل من كل شيء إلا الكلب الأسود البهيم. لأنه قد أمر بقتله.

    الثالث: قدمنا أن انتصاب: مكلبين على الحال من: علمتم . قال ابن كثير: ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو (الجوارح) أي: وما علمتم من الجوارح في حال [ ص: 1850 ] كونهن مكلبات للصيد. وذلك أن تصيد بمخالبها وأظفارها.

    فيستدل بذلك، والحالة هذه، على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته وبمخالبه وظفره، أنه يحل. كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء. ولهذا قال: تعلمونهن مما علمكم الله وهو أنه إذا أرسله استرسل، وإذا استشلاه استشلى، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه، ولا يمسكه لنفسه. ولهذا قال تعالى: فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه فمتى كان الجارح معلما وأمسك على صاحبه - وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله - حل الصيد وإن قتله، بالإجماع.

    وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة. كما ثبت في "الصحيحين" [ ص: 1851 ] عن عدي بن حاتم قال: قلت: «يا رسول الله! إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله؟ فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها. فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره. قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد؟ فقال: إذا رميت بالمعراض الصيد فخرق فكله فإن أصابه بعرض، فإنه وقيذ، فلا تأكله» .

    [ ص: 1852 ] وفي لفظ لهما: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله. فإن أمسك عليك فأدركته حيا. فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه، فكله وإن أخذ الكلب ذكاته» . وفي رواية لهما: «فإن أكل فلا تأكله. فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» . فهذا دليل للجمهور أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا. ولم يستفصلوا. كما ورد بذلك الحديث. وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يحرم مطلقا. أكل أو لم يأكل.

    [ ص: 1853 ] روى ابن جرير عن سلمان الفارسي وأبي هريرة قالا: كل وإن أكل ثلثيه. وعن سعد بن أبي وقاص: «وإن أكل ثلثيه» . وعنه: «وإن لم يبق إلا بضعة» . وعن ابن عمر: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك. أكل أو لم يأكل. وحكاه عن علي وابن عباس وغير واحد من التابعين.

    وروي ذلك مرفوعا أيضا. أخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا، يقال له أبو ثعلبة، قال: «يا رسول الله! إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها. [ ص: 1854 ] قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان لك كلاب مكلبة، فكل مما أمسكن عليك. فقال: ذكي وغير ذكي، وإن أكل منه؟ قال: نعم. وإن أكل منه. فقال: يا رسول الله! أفتني في قوسي! فقال: كل ما ردت عليك قوسك. قال: ذكي وغير ذكي؟ قال: وإن تغيب عنك ما لم يضل أو تجد فيه أثرا غير سهمك. قال: أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها. قال: اغسلها وكل فيها» . هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائي. وكذا رواه أبو داود عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله، فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك» .

    وقد احتج بما ذكرنا من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه، وقد توسط آخرون فقالوا: إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم. لحديث عدي، وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم. وأما إن أمسكه، ثم انتظر صاحبه، فطال عليه، وجاع فأكل منه لجوعه، فإنه لا يؤثر في التحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة. وهذا تفريق حسن، وجمع بين الحديثين، صحيح.

    وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه "النهاية": أن لو فصل مفصل هذا التفصيل. وقد حقق الله أمنيته، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب. أفاده ابن كثير.

    قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وسلك الناس في الجمع بين حديث عدي وأبي ثعلبة طرقا منها للقائلين بالتحريم (الأولى): حمل حديث أبي ثعلبة الأعرابي على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه، و (الثانية) الترجيح، فرواية عدي في الصحيحين ورواية الأعرابي في غيرهما. ومختلف في تضعيفها. وأيضا، فرواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم. وهو خوف الإمساك على نفسه، متأيد بأن الأصل في الميتة التحريم. فإذا [ ص: 1855 ] شككنا في السبب المبيح، رجعنا إلى الأصل ولظاهر الآية المذكورة. فإن مقتضاها أن الذي تمسكه من غير إرسال لا يباح، ويتقوى أيضا بالشواهد من حديث ابن عباس عند أحمد: إذا أرسلت الكلب فأكل الصيد، فلا تأكل. فإنما أمسك على نفسه. فإذا أرسلته فقتله ولم يأكل، فكل. فإنما أمسك على صاحبه. وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس. وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع، نحوه بمعناه. ولو كان مجرد الإمساك كافيا لما احتيج إلى زيادة: (عليكم) في الآية. وأما القائلون بالإباحة، فحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه، وحديث الأعرابي على بيان الجواز. قال بعضهم: ومناسبة ذلك أن عديا كان موسرا.

    فاختير له الحمل على الأولى. بخلاف أبي ثعلبة، فإنه كان بعكسه. ولا يخفى ضعف هذا التمسك، مع التصريح بالتعليل في الحديث لخوف الإمساك على نفسه. وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة: إن شرب من دمه فلا تأكل؛ فإنه لم يعلم ما علمته. وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله، دل على أنه ليس يعلم التعليم المشروط.

    الرابع: في الآية مشروعية التسمية. قال ابن كثير: قوله تعالى: واذكروا اسم الله عليه أي: عند إرساله له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: [ ص: 1856 ] «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك» . وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في "الصحيحين" أيضا: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله. وإذا رميت بسهمك» . ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة، كالإمام أحمد رحمه الله، في المشهور عنه، التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث. وهذا القول المشهور عند الجمهور أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال. كما قال السدي وغيره. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، في هذه الآية: «إذا أرسلت جارحك فقل: بسم الله. وإن نسيت فلا حرج» . انتهى.

    قال بعض الزيدية: والتسمية هنا كالتسمية على الذبيحة. فمن قائل بوجوبها على الذاكر لا الناسي. لحديث: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» . ومن قائل بأنها مستحبة. ومن قائل بأنها شرط مطلقا. المشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذبيحة. فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث. ثم قال: لقائل أن يقول: يحتمل أن يرجع قوله تعالى: واذكروا اسم الله عليه إلى الأكل. أي: فسموا عند الأكل. فدلالة الآية محتملة في وجوب التسمية. انتهى. وهذا الاحتمال حكاه ابن كثير ونصه:

    [ ص: 1857 ] وقال بعض الناس: المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل. كما ثبت في "الصحيحين"; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ربيبه، عمر بن أبي سلمة، فقال: «سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك» . وفي "صحيح البخاري" عن عائشة; أنهم قالوا: «يا رسول الله! إن قوما يأتوننا، حديث عهد بكفر، بلحمان، لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا؟ فقال: سموا الله أنتم وكلوا أنتم» . وقال الترمذي: حسن صحيح.

    الخامس: في الآية جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة. لأن التعليم قد يحتاج إلى ذلك. كذا في "الإكليل". وتقدم عن الزمخشري والناصر ما في الآية أيضا من الأخذ عن النحرير، وأن البهائم لها علم. واستدل بالآية على إباحة اتخاذ الكلب للصيد وللحراسة، بالسنة: كما تقدم.
    [ ص: 1858 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [5] اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين

    وقوله تعالى: اليوم أحل لكم الطيبات أي: من الذبائح والصيد. تكريره تأكيد للمنة. قال أبو السعود: قيل: المراد بالأيام الثلاثة وقت واحد. وإنما كرر للتأكيد. ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره. والمراد بالطيبات ما مر.

    تنبيه:

    قال بعض مفسري الزيدية: دلت الآية على جواز أكل العالي من الأطعمة والأصباغ. قال في "الروضة والغدير": وإن كان التقنع بالأدون هو الأولى، كما فعله علي عليه السلام وغيره من الفضلاء. فقد روي أن عليا عليه السلام كان يطعم الناس أطيب الطعام. فرأى بعض أصحابه طعامه. وهو خبز شعير غير منخول، وملح جريش، وهو مختوم عليه لئلا يبدل. ومن كلامه عليه السلام: والله! لأروضن نفسي رياضة تهش إلى القرص إن وجدته مطعوما، وإلى الملح إن وجدته مأدوما. ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كراهة الإدامين مجتمعين. انتهى.

    وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم: يعني ذبائحهم.

    قال ابن كثير: وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء; أن ذبائحهم حلال للمسلمين. لأنهم [ ص: 1859 ] يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه، تعالى وتقدس. انتهى.

    قال المهايمي: وإن لم يعتد بذكرهم اسم الله، لكنهم لما ذكروه، أشبه ما يعتد بذكره، فأشبه طعامهم الطيبات.

    مباحث:

    الأول: ما ذكرناه من أن المعني بالطعام الذبائح، هو الذي قاله أئمة السلف: صحابة كابن عباس وأبي أمامة، وأتباعا كمجاهد وثمانية غيره، كما في ابن جرير وابن كثير. وفي "اللباب": أجمعوا على أن المراد: وطعام الذين أوتوا الكتاب ذبائحهم خاصة. لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم. فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة. ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح. فحمل هذه الآية عليه أولى. لأن سائر الطعام لا يختلف، من تولاه من كتابي أو غيره. وإنما تختلف الذكاة. فلما خص أهل الكتاب بالذكر، دل على أن المراد بطعامهم ذبائحهم. انتهى.

    الثاني: استدل بالآية على جميع أجزاء ذبائحهم. وهو قول الجمهور.

    قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وعن مالك وأحمد، تحريم ما حرم الله على أهل الكتاب كالشحوم. قال ابن القاسم: لأن الذي أباحه الله طعامهم. وليس الشحوم من طعامهم. ولا يقصدونها عند الذكاة. وتعقب بأن ابن عباس فسر (طعامهم) بذبائحهم، وإذا أبيحت ذبائحهم لم يحتج إلى قصدهم أجزاء المذبوح. والتذكية لا تقع على بعض أجزاء المذبوح دون بعض. وإن كانت التذكية شائعة في جميعها دخل الشحم لا محالة. وأيضا فإن الله تعالى نص بأنه حرم عليهم كل ذي ظفر. فكان يلزم، على قول هذا القائل، أن اليهودي، إذا ذبح ما له ظفر، لا يحل للمسلم أكله. ثم قال ابن حجر: وقوله تعالى: أحل لكم الطيبات [ ص: 1860 ] يستدل به على الحل، لأنه لم يخص لحما من شحم، وكون الشحوم محرمة على أهل الكتاب لا يضر، لأنها محرمة عليهم لا علينا. وغايته بعد أن يتقرر أن ذبائحهم لنا حلال، أن الذي حرم عليهم منها مسكوت في شرعنا عن تحريمه علينا. فيكون على أصل الإباحة. انتهى.

    وفي "الصحيح" عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: «كنا محاصرين قصر خيبر. فرمى إنسان بجراب فيه شحم. فنزوت لآخذه. فالتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه» . وفي رواية: «أدلي بجراب من شحم يوم خيبر. فحضنته وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدا. والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم» .

    قال الحافظ ابن حجر: فيه حجة على من منع ما حرم عليهم كالشحوم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ابن مغفل على الانتفاع بالجراب المذكور. وفيه جواز أكل الشحم، مما ذبحه أهل الكتاب، ولو كانوا أهل حرب. انتهى.

    وقال الحافظ ابن كثير: استدل على المالكية الجمهور بهذا الحديث. وفي ذلك نظر. لأنه قضية عين. ويحتمل أن يكون شحما يعتقدون حله، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما. والله أعلم.

    وأجود منه في الدلالة ما ثبت في "الصحيح" أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 1861 ] شاة مصلية. وقد سموا ذراعها - وكان يعجبه الذراع - فتناوله فنهش منه نهشة. فأخبره الذراع أنه مسموم، فلفظه وأثر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبهره. وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور، فمات. فقتل اليهودية التي سمتها، وكان اسمها زينب. ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا؟ وفي الحديث الآخر: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة. يعني ودكا زنخا» .

    الثالث: تمسك ابن العربي - من أئمة المالكية - بهذه الآية على حل ما يقتله الفرنج، وإن رأينا ذلك، لأنه من طعامهم. نقله عنه الشيخ خليل في "توضيحه" واستبعده. وقال الإمام ابن زكري: صنف ابن العربي في إباحة مذكى النصراني بغير وجه ذكاتنا. والمحققون على تحريمه. وقد أوضح ذلك الفقيه محمد الدليمي السوسي المالكي في "فتاويه"، وقد سئل عن ذبيحة الكتابي: هل تحل المذكى كيف كانت. سواء وافقت ذكاتنا أم لا؟ بقوله مجيبا: [ ص: 1862 ] قال الإمام ابن العربي: إذا سل النصراني عنق دجاجة حل للمسلم أكلها. لأن الله تعالى أحل لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم. وكل ما ذكوه على مقتضى دينهم، حل لنا أكله. ولا يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا. وذلك رخصة من الله تعالى وتيسير منه علينا. ولا يستثنى من ذلك إلا ما حرم الله تعالى على الخصوص. فإنه، وإن كان طعامهم الذي يستحلونه، فلا يحل لنا أكله. انتهى.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #290
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1863 الى صـ 1873
    الحلقة (290)



    الرابع: قال الرازي: نقل عن بعض أئمة الزيدية; أن المراد ب (الطعام) في الآية الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة. انتهى.

    وقد اطلعت على قطعة من تفسير بديع لبعض الزيدية قال فيه: اختلف العلماء من الأئمة والفقهاء: ما أريد ب (الطعام)؟ فقال القاسم والهادي ومحمد بن عبد الله، ورواية عن زيد: إن ذبائح أهل الكتاب وجميع الكفار لا تجوز. لقوله تعالى: إلا ما ذكيتم وهذا خطاب للمسلمين، والرواية الثانية عن زيد وعامة الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والجعفرية والإمامية. واختاره الأمير ح والأمير يحيى: جواز ذبائح أهل الكتاب. ويفسرون (الطعام) بالذبائح وغيرها. وهذا مروي عن الحسن والزهري والشعبي وعطاء وقتادة وأكثر المفسرين. وأخذوا بالعموم في إطلاق (الطعام). فأجاب الأولون بأن (الطعام) يطلق على الحبوب يقال: سوق الطعام. قال القاضي: الأقرب الحل. لأن ذلك بفعلهم يصير طعاما. ولأنه خص أهل الكتاب. أجيب: بأنه خصهم لئلا يظن أن طعامهم الذي لم يذكوه محرم. ثم عند الهادي والقاسم، عليهما السلام، تنجس رطوباتهم. لقوله تعالى: إنما المشركون نجس فيحرم ما حصل فيه رطوبتهم، إلا ما أخذناه قهرا. وعند المؤيد بالله ومن معه: إن رطوبتهم طاهرة. والخلاف في الرطوبة عامة في الكفار. انتهى.

    وفي "الروضة الندية" ما نصه: وأما ذبيحة أهل الذمة، فقد دل على حلها القرآن الكريم بهذه الآية. ومن قال: إن اللحم لا يتناوله (الطعام) فقد قصر في البحث، ولم [ ص: 1863 ] ينظر في كتب اللغة، ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل ذبائح أهل الكتاب. كما في أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سما، والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها. ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلى بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع. فإن قلت: قد يذبحونه لغير الله، أو بغير تسمية، أو على غير الصفة المشروعة في الذبح. قلت: إن صح شيء من هذا، فالكلام في ذبيحته، كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على أحد هذه الوجوه. وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابي مانعا، لا كونه أخذ بشرط معتبر. انتهى.

    الخامس: أريد ب: أهل الكتاب اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - وهم متنصرو العرب من بني تغلب - فلا تحل ذبيحته. روي عن علي بن أبي طالب قال: لا تأكل من ذبائح نصارى بني تغلب؛ فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر. وبه قال ابن مسعود. وسئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب؟ فقال: لا بأس به. ثم قرأ: ومن يتولهم منكم فإنه منهم . هذا قول الحسن وعطاء والشعبي وعكرمة وقتادة والزهري والحكم وحماد - كذا في "اللباب".

    قال ابن كثير: وأما المجوس فإنهم - وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب - فإنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. خلافا لأبي ثور، إبراهيم بن خالد الكلبي (أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي، وأحمد بن حنبل) ولما قال ذلك، واشتهر عنه، أنكر عليه الفقهاء ذلك. حتى قال عنه الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه - يعني في هذه المسألة - وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب.

    [ ص: 1864 ] ولكن لم يثبت بهذا اللفظ. وإنما الذي في "صحيح" البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر. ولو سلم صحة هذا الحديث، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فدل بمفهوم المخالفة، على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل...!

    السادس: قيل: هذه الآية تقتضي إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا، وإن ذكروا غير اسم الله تعالى. وعن ابن عمر: لو ذبح يهودي أو نصراني على غير اسم الله تعالى، لا يحل ذلك. وهو قول ربيعة. وسئل الشعبي وعطاء، عن النصراني يذبح باسم المسيح؟ فقال: يحل. فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. وقال الحسن: إذا ذبح اليهودي أو النصراني وذكر اسم الله، وأنت تسمع، فلا تأكل. وإذا غاب عنك فكل. فقد أحله الله لك. كذا في "اللباب". وقول الحسن - في هذا البحث - هو الحسن.

    وفي "النهاية" من كتب الزيدية: أما إذا ذبح أهل الذمة لأعيادهم وكنائسهم. فكرهه مالك، وأباحه أشهب، وحرمه الشافعي. وذلك لتعارض عموم قوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب وعموم قوله تعالى: وما أهل به لغير الله فتخصيص [ ص: 1865 ] كل واحد للآخر محتمل. ثم قال: والجمهور على تحريم ذبيحة المرتد. وأجازها إسحاق، وكرهها الثوري. وسبت الخلاف: هل المرتد يتناول اسم (الكتاب) أم لا؟ قال: وهكذا منشأ الخلاف في ذبائح بني تغلب، هل اسم (الكتاب) يتناول المتنصر والمتهود من العرب، كما روي عن ابن عباس؟ أو لا يتناول، كما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام. انتهى.

    وقوله تعالى: وطعامكم حل لهم يعني: ذبائحكم حلال لهم. فتأكل اليهود والنصارى ذبيحة المسلمين. كذا في "التفسير" المنسوب لابن عباس.

    ونقل بعض مفسري الزيدية عن ابن عباس وأبي الدرداء، وبقية التابعين السالف ذكرهم، وأكثر المفسرين والفقهاء، أن المراد ذبائح المسلمين.

    وقال الزجاج: تأويله: حل لكم أن تطعموهم. لأن الحلال والحرام والفرائض إنما تعقد على أهل الشريعة.

    وقال ابن كثير: أي: ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم. وليس إخبارا عن الحكم عندهم. اللهم! إلا يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه. سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها. والأول أظهر في المعنى. أي: ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم. وهذا من باب المكافأة والمجازاة. كما ألبس [ ص: 1866 ] النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أبي ابن سلول حين مات ودفنه فيه. قالوا: لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه. فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلك. فأما الحديث الذي فيه «لا تصحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي» فمحمول على الندب والاستحباب، والله أعلم. انتهى.

    وقال الرازي: أي: ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم. لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا. وأيضا فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيها على التمييز بين النوعين. انتهى.

    وقال البرهان البقاعي في "تفسيره": وقوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم أي: تناوله لحاجتكم إلى مخالطتهم، للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية. ولما كان هذا مشعرا بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم. زاده تأكيدا بقوله: وطعامكم حل لهم أي: فلا عليكم في بذله لهم، ولا عليهم في تناوله. انتهى.

    وفي "أمالي" الإمام السهيلي رحمه الله تعالى: قيل: ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ فعنه جوابان: أحدهما أن المعنى: انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم، فإن أطعموكموه فكلوه، ولا تنظروا إلى ما كان محرما عليهم، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم. ثم نسخ ذلك في شرعنا. والآية بيان لنا لا لهم، أي: اعلموا أن ما كان محرما عليهم، مما هو حلال قد أحل لهم أيضا. ولذلك لو أطعمونا خنزيرا أو نحوه وقالوا: [ ص: 1867 ] هو حلال في شريعتنا، وقد أباح الله لكم طعامنا - كذبناهم وقلنا: إن الطعام الذي يحل لكم هو الذي يحل لنا، لا غيره. فالمعنى - طعامهم حل لكم، إذا كان الطعام الذي أحللته لكم. وهذا التفسير معنى قول السدي وغيره.

    الثاني: للنحاس والزجاج والنقاش وكثير من المتأخرين، أن المعنى: جائز لكم أن تطعموهم من طعامكم. لا أن يبين لهم ما يحل لهم في دينهم. لأن دينهم باطل. إلا أنه لم يقل: وإطعامكم، بل (طعامكم) - والطعام المأكول - وأما الفعل فهو الإطعام. فإن زعموا أن (الطعام) يقوم مقام (الإطعام) توسعا، قلنا: بقي اعتراض آخر. وهو الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ. وهو ممتنع بالإجماع. لا يجيزون (إطعام زيد حسن للمساكين) ولا (ضربك شديد زيدا) فكيف جاز (وطعامكم حل لهم)؟ انتهى.

    قال الناصر في "الانتصاف": وقد يستدل بهذه الآية من يرى الكفار مخاطبين بفروع الشريعة. لأن التحليل حكم وقد علقه بهم في قوله: وطعامكم حل لهم كما علق الحكم بالمؤمنين. وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله: لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن فإن لقائل أن يقول: في تلك الآية نفي الحكم ليس بحكم. ولا يستطيع ذلك في آية (المائدة) هذه. لأن الحكم فيها مثبت، والله أعلم.

    ثم قال: ولما استشعر الزمخشري دلالتها على ذلك، وهو من القائلين بأن الكفار يستحيل خطابهم بفروع الشريعة - أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين، أي: لا جناح عليكم - أيها المسلمون! - أن تطعموا أهل الكتاب. انتهى.

    والمحصنات من المؤمنات عطف على (الطيبات) أو مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه. أي: حل لكم. والمراد ب (المحصنات) العفيفات عن الزنى. كما قال تعالى في الآية الأخرى: محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان وهو المروي عن الحسن والشعبي وسفيان وإبراهيم ومجاهد. وحكى ابن جرير رواية أخرى عن مجاهد أنه قال: [ ص: 1868 ] المحصنات الحرائر. فقيل: عني بهن غير الإماء. وقيل: أراد بهن العفيفات، كقول الجمهور. وذلك لأن الحر يطلق على خلاف العبد، وعلى خيار كل شيء، كما في "القاموس".

    قال الزمخشري: وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم. والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق. وكذلك نكاح غير العفائف منهن. انتهى.

    أقول: جواز نكاح الأمة موقوف على خوف العنت وعدم طول الحرة، لآية: ومن لم يستطع منكم طولا إلخ. وأما نكاح غير العفيفة فأجازه الأكثرون. وذهب الإمام أحمد إلى تحريم نكاح الزانية على زان وغيره، حتى تتوب وتنقضي عدتها. لقوله تعالى: والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ولما أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات، والطبراني في "الكبير" و "الأوسط" من حديث عبد الله بن عمرو: أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول، كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه. فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم: والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك

    وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه، من حديث ابن عمر: أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة. وكان بمكة بغي يقال لها عناق. وكانت صديقته. قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقا؟ قال فسكت عني. فنزلت الآية: والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فدعاني فقرأها علي وقال: لا تنكحها.

    [ ص: 1869 ] وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد رجاله ثقات، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله» . قال ابن القيم: أخذ بهذه الفتاوى - التي لا معارض لها - الإمام أحمد ومن وافقه - وهي من محاسن مذهبه - فإنه يجوز أن ينكح الرجل زوجا تحبه. ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلا قد ذكرناها في موضع آخر.

    وأخرج ابن ماجه والترمذي وصححه، من حديث عمرو بن الأحوص، أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: «استوصوا في النساء خيرا، فإنما هن عندكم عوان. ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك. إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. فإن فعلن، فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا» . وأخرج أبو داود والنسائي، من حديث ابن عباس قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال: غربها، قال: أخاف أن تتبعها نفسي. قال: فاستمتع بها» . قال المنذري: ورجال إسناده محتج بهم في الصحيحين.

    قال ابن القيم: عورض بهذا الحديث المتشابه، الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تجويز البغايا. واختلفت مسالك المحرمين لذلك فيه، فقالت طائفة: المراد ب (اللامس) [ ص: 1870 ] ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة. وقالت طائفة: بل هذا في الدوام غير مؤثر. وإنما المانع ورود العقد على الزانية فهذا هو الحرام، وقالت طائفة: بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما؛ فإنه لما أمر بمفارقتها خاف من أن لا يصبر عنها فيواقعها حراما، فأمره حينئذ بإمساكها. إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فسادا من مواقعتها بالسفاح. وقالت طائفة: بل الحديث ضعيف لا يثبت. وقالت طائفة: ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية. وإنما فيه أنها لا تمنع ممن يمسها أو يضع يده عليها أو نحو ذلك، فهي تعطي الليان لذلك. ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى. ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة. فأمره بفراقها، تركا لما يريبه إلى ما لا يريبه. فلما أخبره بأن نفسه تتبعها، وأنه لا صبر له عنها، رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك. والله تعالى أعلم. وتتمة البحث في ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في سورة النور.

    فائدة:

    أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها، أنه يفرق بينهما وترد عليه ما بذل لها من المهر. رواه ابن جرير عنهم.

    والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أي: هن أيضا حل لكم. والجمهور: على أن المراد ب (المحصنات) العفائف عن الزنى، كما قدمنا.

    قال ابن كثير: وهو الأشبه. لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل، حشفا وسوء كيلة.

    وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف - ممن فسر (المحصنات) بالعفيفات; أن الآية تعم كل كتابية عفيفة. سواء كانت حرة أو أمة. ومن فسرها ب (الحرائر) قال: لا يصح نكاح الأمة الكتابية بحال، إذ لا يحتمل عار الكفر مع عار الرق، على أنه يؤدي إلى استرقاق الكافر ولد المسلم.

    تنبيهات:

    [ ص: 1871 ] الأول: ظاهر الآية جواز نكاح الكتابية. وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمفسرين.

    ورواية عن زيد والصادق والباقر، واختاره الإمام يحيى وقال: إنه إجماع الصدر الأول من الصحابة، وأن عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه، وهي نصرانية. وأن طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية. كذا نقله المفسرون. وروى البيهقي وعبد الرزاق وابن جرير عن عمر أنه قال: المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة. وروى عبد الرزاق أيضا عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب كتب إلى حذيفة بن اليمان وهو بالكوفة، ونكح امرأة من أهل الكتاب، فكتب: أن فارقها فإنك بأرض المجوس، فإني أخشى أن يقول الجاهل: قد تزوج صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرة! ويحلل الرخصة التي كانت من الله عز وجل فيتزوجوا نساء المجوس... ففارقها.

    وروى عبد الرزاق والبيهقي عن قتادة: أن حذيفة نكح يهودية. فقال عمر: طلقها فإنها جمرة. فقال: أحرام هي؟ قال: لا، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن...

    وروى عبد الرزاق عن زيد بن وهب قال: كتب عمر بن الخطاب: إن المسلم ينكح النصرانية، والنصراني لا ينكح المسلمة. وروي أيضا عن جابر قال: نساء أهل الكتاب لنا حل، ونساؤنا عليهم حرام. وروي أيضا عن معمر عن الزهري قال: نكح رجل من قومي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من أهل الكتاب. وروي عن ابن عمر كراهية ذلك. ويحتج بقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وكان يقول: لا أعلم شركا [ ص: 1872 ] أعظم من قولها: إن ربها عيسى. وأجاب الجمهور بأنه عام خص بهذه الآية، إن قيل بدخول الكتابيات في عموم المشركات، وإلا، فلا معارضة بين الآيتين. لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع. كقوله تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة وكقوله: وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم

    الثاني: استدل بعموم الآية من جوز نكاح الحربيات الكتابيات. وروي عن ابن عباس: أن الإذن في الذميات خاصة، ويقرأ: قاتلوا الذين - إلى قوله -: حتى يعطوا الجزية قال: فمن أعطى، حل. ومن لا، فلا. وهذا الاستدلال دقيق جدا. فليتأمل!.

    الثالث: قال المهايمي: لما اعتبر في طعام أهل الكتاب شبهه بالطيب - كما قدمنا - اعتبر في باب النكاح، فأحل المحصنات منهم، واحتمل كفرهن لأنه إنما لم يحتمل كفر غيرهم لأنهم يدعون إلى النار. وهؤلاء لما اعترفوا بأصل النبوة، ولا شبهة لهم في أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فضلا عن حجة، ضعفت دعوتهم إليها، فلم يعتد بها. على أن الرجل مستول على المرأة. فلا تؤثر فيه تأثير الرجل؛ فلذلك لم يصح تزويج المسلمة بالكتابي. على أن فيه إذلالا للمسلمة فلا تحتمل.

    الرابع: ذهب ثلة من العترة الطاهرة إلى أن المراد من (المحصنات) المؤمنات منهن. ذهابا إلى تحريم نكاح الكافرة. قال بعض مفسري الزيدية، بعد أن ساق مذهب الأكثرين المتقدم: وقال القاسم والهادي والنفس الزكية ومحمد بن عبد الله وعامة القاسمية - وهو مروي [ ص: 1873 ] عن ابن عمر: إنه لا يجوز لمسلم نكاح كافرة، كتابية كانت أو غيرها. واحتجوا بقوله في سورة البقرة: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن قالوا - يعني الأكثرين -: هذا في المشركات لا في الكتابيات، قلنا: اسم الشرك ينطلق على أهل الكتاب بدليل قوله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم إلى قوله: سبحانه عما يشركون وعن ابن عمر: لا أعلم شركا أعظم من قول النصرانية: إن ربها عيسى. وعن عطاء: قد كثر الله المسلمات. وإنما رخص لهم يومئذ. قالوا: إنه تعالى عطف أحدهما على الآخر فدل على أنهما غيران، حيث قال تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين قلنا: هذا كقوله تعالى: الوصية للوالدين والأقربين قالوا: الآية مصرحة بالجواز في قوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب قلنا: في سورة النور: الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين وقوله في سورة النساء: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #291
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1874 الى صـ 1886
    الحلقة (291)



    [ ص: 1874 ] فشرط الإيمان في هذا يقضي بالتحريم. فتتأول هذه الآية: أنه أراد المحصنات من أهل الكتاب اللاتي قد أسلمن، لأنهم كانوا يتكرهون ذلك، فسماهن باسم ما كن عليه. وقد ورد مثل هذا في كتاب الله تعالى. قال الله: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به وقوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وقوله تعالى: وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله قالوا: سبب النزول وفعل الصحابة يدل على الجواز. وإنا نجمع بين الآيات الكريمة فنقول: قوله: ولا تنكحوا المشركات عام نخصه بقوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب أو نقول: أراد ب: المشركات الوثنيات وب: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ما أفاده الظاهر. أو يكون قوله: والمحصنات ناسخا لتحريم الكتابيات بقوله: ولا تنكحوا المشركات قلنا: نقابل ما ذكرتم بما روي، أن كعب بن مالك [ ص: 1875 ] أراد أن يتزوج بيهودية أو نصرانية. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «إنها لا تحصن ماءك» ; وروي أنه نهاه عن ذلك. وبأنا نتأول قوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب فنجمع ونقول: تخصيص المشركات ب: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب متراخ، والبيان لا يجوز أن يتراخى! قالوا: روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحل لنا ذبائح أهل الكتاب وأحل لنا نساؤهم، وحرم عليهم أن يتزوجوا نساءنا» . قال في "الشفا": قال علماؤنا: هذا حديث ضعيف النقل. قالوا: قوله صلى الله عليه وسلم في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» الخبر. أفاد جواز ذبائحهم ونكاح نسائهم. قلنا: الجواز منسوخ بأدلة التحريم. ثم إنا نقوي أدلتنا بالقياس فنقول: كافرة فأشبهت الحربية، أو لما حرمت الموارثة حرمت المناكحة. أو لما حرم نكاح الكافر للمسلمة حرم العكس. قالوا: لا حكم للاعتبار مع الأدلة. انتهى بحروفه وهو فقه غريب.

    وقوله تعالى: إذا آتيتموهن أجورهن أي: أعطيتموهن مهورهن. وتقييد الحل بإيتائها، لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى، مبادرة لفراغ الذمة. فإن شغل الذمة بحق الآدمي أشد من شغلها بحق الله تعالى: محصنين متعففين: غير مسافحين أي: غير مجاهرين بالزنى: ولا متخذي أخدان مسرين به، و (الخدن) الصديق، يقع على الذكر والأنثى. وحمل المسافحة على إظهار الزنى لظهور مقابله في الإسرار، لتبادره من الخدن وهو الصديق. وقيل: الأول نهي عن الزنى، والثاني نهي عن مخالطتهن. كذا في "العناية".

    قال ابن كثير: كما شرط الإحصان في النساء - وهي العفة عن الزنى - كذلك شرطها في الرجال. وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا؛ ولهذا قال: غير مسافحين وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم: ولا متخذي أخدان أي: ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهن، كما تقدم في سورة النساء، سواء، ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البغي حتى تتوب، [ ص: 1876 ] وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف. وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنى، لهذه الآية وللحديث: «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله» .

    وروى ابن جرير: أن عمر بن الخطاب قال: لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة. فقال له أبي بن كعب: يا أمير المؤمنين! الشرك أعظم من ذلك. وقد يقبل منه إذا تاب.

    وقوله تعالى: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين يريد ب (الإيمان) شرائع الإسلام. على أنه مصدر أريد به المؤمن به، ك (درهم ضرب الأمير). (الكفر) الإباء عنه وجحوده. والآية تذييل لقوله: اليوم أحل لكم الطيبات تعظيما لشأن ما أحله الله وما حرمه، وتغليظا على من خالف ذلك. كذلك في "العناية".
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [6] يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون .

    [ ص: 1877 ] يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين لما كان من جملة الإيفاء بالعقود التي افتتحت به هذه السورة إقامة الصلاة، وكانت مشروطة بالطهارة، بين سبحانه في هذه الآية كيفيتها.

    قال بعض المفسرين: نزلت في عبد الرحمن وكان جريحا: وقيل لما احتبس صلى الله عليه وسلم في سفر ليلا - بسبب عقد ضاع لعائشة، وأصبحوا على غير ماء. انتهى.

    والثاني رواه البخاري - كما في "أسباب النزول" للسيوطي - وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة النساء في (آية التيمم) ثمة. فانظره.

    ولهذه الآية ثمرات هي أحكام شرعية.

    الأولى: وجوب الوضوء وقت القيام إلى الصلاة أي: إرادته. فقوله تعالى: إذا قمتم إلى الصلاة كقوله: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله وكقولك: إذا ضربت غلامك فهون عليه: في أن المراد إرادة الفعل. قال الزمخشري: فإن قلت: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت: لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له، وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه. فكما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: الإنسان لا يطير، والأعمى لا يبصر، أي: لا يقدران على الطيران والإبصار. ومنه قوله تعالى: نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين يعني إنا كنا قادرين على الإعادة - كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل، وذلك لأن الفعل مسبب عن القدرة والإرادة. فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما. ولإيجاز الكلام ونحوه، من إقامة المسبب مقام السبب، قولهم: كما تدين تدان. عبر عن الفعل المبتدأ - الذي هو سبب الجزاء - بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه.

    [ ص: 1878 ] الثانية: ظاهر الآية وجوب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا. نظرا إلى عموم: الذين آمنوا من غير اختصاص بالمحدثين. والجمهور على خلافه؛ لما روى الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن بريدة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة. فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله! إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله. قال: إني عمدا فعلته يا عمر» .

    وروى البخاري عن سويد بن النعمان قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عام خيبر. حتى إذا كنا بالصهباء صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر. فلما صلى دعا بالأطعمة. فلم يؤت إلا بالسويق. فأكلنا وشربنا. ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى المغرب. فمضمض ثم صلى بنا المغرب ولم يتوضأ.

    وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وقد سئل عن وضوء أبيه عبد الله، لكل صلاة، طاهرا أو غير طاهر، عمن هو؟ قال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب؟ إن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة، طاهرا أو غير طاهر. فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. فكان عبد الله يرى أنه به قوة على ذلك. كان يفعله حتى مات. قال ابن كثير: وفي فعل ابن عمر هذا، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة، دلالة على استحباب ذلك. كما هو مذهب الجمهور.

    [ ص: 1879 ] وقد روى ابن جرير عن ابن سيرين، أن الخلفاء كانوا يتوضؤون لكل صلاة. وعن عكرمة: أن عليا - رضي الله عنه - كان يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية. وعن النزال بن سبرة قال: رأيت عليا صلى الظهر. ثم قعد للناس في الرحبة. ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه. ثم مسح برأسه ورجليه وقال: هذا وضوء من لم يحدث، وفي رواية: أنه توضأ وضوءا فيه تجوز فقال: هذا وضوء من لم يحدث; وكذا حكى أنس عن عمر أنه فعله، والطرق كلها جيدة.

    وأما ما رواه أبو داود الطيالسي عن سعيد بن المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء - فهو غريب عنه. ثم هو محمول على من اعتقد وجوبه، وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك. روى الإمام أحمد عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة. قيل له: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث! ورواه البخاري وأهل السنن أيضا.

    وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن جرير عن ابن عمر مرفوعا: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات. وضعفه الترمذي.

    وإذا دلت هذه الأحاديث على أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، فالوجه في الخروج من ظاهر الآية، أن الخطاب فيه خاص بالمحدثين.

    [ ص: 1880 ] وفي "العناية": الإجماع صرفها عن ظاهرها. فأما أن تكون مقيدة - أي: وأنتم محدثون - بقرينة دلالة الحال، ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم - فلو لم يكن له مدخل في الوضوء، مع المدخلية في التيمم، لم يكن البدل بدلا. وقوله: فلم تجدوا ماء صريح في البدلية. وقيل: في الكلام شرط مقدر. أي: إذا قمتم إلى الصلاة. إن كنتم محدثين. وإن كنتم جنبا فاطهروا وهو قريب جدا. انتهى.

    وزعم بعضهم; أن الوجوب على كل قائم للصلاة كان في أول الأمر ثم نسخ. واستدل على ذلك بحديث عبد الله بن حنظلة المتقدم. ونظر فيه بحديث: (المائدة من آخر القرآن نزولا) وأجيب بأن الحافظ العراقي قال: لم أجده مرفوعا. هذا، وقال الزمخشري: لا يجوز أن يكون الأمر في الآية شاملا للمحدثين وغيرهم - لهؤلاء على وجه الإيجاب، ولهؤلاء على وجه الندب - لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية. وفي "الإنصاف": من جوز أن يراد بالمشترك كل واحد من معانيه على الجمع، أجاز ذلك في الآية. ومن المجوزين لذلك الشافعي - رحمه الله تعالى - وناهيك بإمام الفن وقدوته. وإذا وقع البناء على أن صيغة (أفعل) مشتركة بين الوجوب والندب، صح تناولها في الآية الفريقين المحدثين والمتطهرين. وتناولها للمتطهرين من حيث الندب، والله أعلم.

    الثالثة: قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": تمسك بهذه الآية من قال: إن الوضوء أول ما فرض بالمدينة، فأما ما قبل ذلك، فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة إنما فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، كما فرضت الصلاة. وأنه لم يصل قط إلا بوضوء قال: وهذا مما لا يجهله عالم.

    وقال الحاكم في "المستدرك": وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة. ثم ساق حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك! فقال: ائتوني بوضوء فتوضأ... الحديث.

    [ ص: 1881 ] قال ابن حجر: وهذا يصلح ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ. وقد جزم ابن الحكم المالكي بأنه كان قبل الهجرة، لا مندوبا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة، ورد عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في "المغازي" التي يرويها عن أبي الأسود - يتيم عروة - عنه; أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي. وهو مرسل; ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا. لكن قال: عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد، عن عقيل، عن الزهري، نحوه. لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق الليث عن عقيل موصولا، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة. انتهى.

    أي: وابن لهيعة يضعف في الحديث. الرابعة: قيل: في الآية دلالة على أن الوضوء لا يجب لغير الصلاة. وأيد بما رواه أبو داود والنسائي والترمذي عن عبد الله بن عباس; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟ فقال: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة. قال الترمذي: حديث حسن.

    وروى مسلم عن ابن عباس قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم. فأتى الخلاء. ثم إنه رجع فأتي بطعام، فقيل: يا رسول الله! ألا تتوضأ؟ فقال: لم أصل فأتوضأ.

    [ ص: 1882 ] وأما اشتراط الوضوء للطواف وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة ومس المصحف - عنه من أوجبه - فمن أدلة أخر مقررة في فقه الحديث.

    الخامسة: (وجوب غسل الوجه) والغسل: إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه، هذا هو المحكي عن أكثر الأئمة. زاد بعضهم: مع الدلك. وعن النفس الزكية: أن مجرد الإمساس يكفي وإن لم يجر. وحد الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولا. ومن الأذن إلى الأذن عرضا. وقد ساق بعض المفسرين هنا مذاهب، فيما يشمله الوجه وما لا يشمله، ومحلها كتب الخلاف.

    السادسة: (وجوب غسل اليدين): وهذا مجمع عليه; وأما المرفقان، تثنية مرفق (كمنبر ومجلس) موصل الذراع في العضد، فالجمهور على دخولهما في المغسول; وحكي عن زفر وبعض المالكية وأهل الظاهر عدم دخولهما. وسبب الخلاف أن المغيا ب (إلى) تارة يتضح دخوله في الغاية، وطورا لا، وآونة يحتمل.

    قال الزمخشري: (إلى) تفيد معنى الغاية مطلقا، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل فمما فيه دليل على الخروج قوله: فنظرة إلى ميسرة لأن الإعسار علة الإنظار، وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين، معسرا وموسرا، وكذلك: ثم أتموا الصيام إلى الليل لو دخل الليل لوجوب الوصال، [ ص: 1883 ] ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره، لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله تعالى: من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله; وقوله: إلى المرافق و: إلى الكعبين لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط. فحكموا بدخولها في الغسل، وأخذ زفر وداود بالمتيقن، فلم يدخلاها. انتهى.

    قال الرضي: الأكثر عدم دخول حدي الابتداء والانتهاء في المحدود. فإذا قلت: اشتريت من هذا الموضع إلى ذلك الموضع، فالموضعان لا يدخلان ظاهرا في الشراء. وجوز دخولهما فيه مع القرينة; وقال بعضهم: ما بعد (إلى) ظاهر الدخول فيما قبلها. فلا تستعمل في غيره إلا مجازا. وقيل: إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها نحو: أكلت السمكة إلى رأسها، فالظاهر الدخول وإلا فلا، نحو: أتموا الصيام إلى الليل. والمذهب هو الأول. ثم قيل: بأنها في الآية بمعنى (مع) كقوله تعالى: ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم قال: الرضي: والتحقيق أنها بمعنى الانتهاء. أي: تضيفوها إلى أموالكم، ومضافة إلى المرافق. انتهى.

    قال صاحب "النهاية": وقول من لم يدخل المرافق من جهة الدلالة اللفظية أرجح، وقول من أدخلها من جهة الأثر أبين، لأن في حديث مسلم مما رواه أبو هريرة: [ ص: 1884 ] أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد. ثم اليسرى، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق. ثم اليسرى كذلك. واحتج أهل المذاهب بحديث جابر: أنه صلى الله عليه وسلم كان يدير الماء على مرفقيه. قالوا: ودلالة الآية مجملة. وهذا بيان للمجمل. وبيان المجمل الواجب يكون واجبا. انتهى.

    وقال المجد ابن تيمية في "المنتقى": يتوجه من حديث أبي هريرة وجوب غسل المرفقين لأن نص الكتاب يحتمله، وهو مجمل فيه، وفعله صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل الكتاب، ومجاوزته للمرفق ليس في محل الإجمال، ليجب بذلك. انتهى.

    وأجابوا بأن حديث جابر رواه الدارقطني والبيهقي. وفي إسناده متروك. وقد صرح بضعفه غير واحد من الحفاظ. وحديث أبي هريرة فعل لا ينتهض بمجرده على الوجوب. وقولهم: (هو بيان للمجمل) فيه نظر. لأن (إلى) حقيقة في انتهاء الغاية - كما قدمنا - فلا إجمال. والله أعلم.

    السابعة: قال الرازي: يقتضي قوله تعالى: إلى المرافق تحديد الأمر، لا تحديد المأمور به. يعني أن قوله: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق أمر بغسل اليدين إلى المرفقين فإيجاب الغسل محدود بهذا الحد فبقي الواجب هو هذا القدر فقط، أما نفس الغسل فغير محدود بهذا الحد؛ لأنه ثبت بالأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة. انتهى.

    الثامنة: أشعر أيضا قوله تعالى: إلى المرافق أن ينتهى في غسل اليدين بها، ويبتدأ بالأصابع. قال الحاكم: وقد وردت السنة بذلك، وهو الذي عليه الفقهاء، ولدلالة لفظ (إلى) لأنها للغاية، وغاية الشيء آخره. وقالت الإمامية: السنة أن يبتدئ بالمرفق. وقالوا: إن (إلى) هنا بمعنى (من) قال الحاكم: هذا تقدير فاسد.

    التاسعة: ذهب الجمهور إلى أن تقديم اليمين على الشمال سنة، من خالفها فاته الفضل وتم وضوؤه. وذهب العترة والإمامية - كما في "البحر" للمهدي - إلى وجوبه. واحتج عليهم [ ص: 1885 ] بأن الآية لا تفيد ذلك، فمتى غسلهما مرتبا أو غير مرتب - قدم اليمنى أو اليسرى - فقد امتثل الأمر. وأجابوا بأن الدلالة على الوجوب من السنة، فقد روى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا لبستم وإذا توضأتم فابدءوا بأيامنكم» ! وأجيب: بأن الأمر للندب لقوله: إذا لبستم وإذا توضأتم، فقرن بينه وبين اللبس. فإذن يدل على وجوب التيامن في اللبس كما يدل عليه في الوضوء، وهم لا يقولون به.

    أيضا فقد روي عن علي عليه السلام أنه قال: ما أبالي بدأت بيميني أو بشمالي إذا أكملت الوضوء. رواه الدارقطني. وروى نحوه البيهقي وابن أبي شيبة.

    وروى أبو عبيد في الطهور: أن أبا هريرة كان يبدأ بميامنه، فبلغ ذلك عليا فبدأ بمياسره. ورواه أحمد بن حنبل عن علي قال الحافظ ابن حجر: وفيه انقطاع. وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا. وكذلك الحديث المقترن بالتيامن في اللبس، المجمع على عدم وجوبه، صالح لجعله قرينة تصرف الأمر إلى الندب. ودلالة الاقتران - وإن كانت ضعيفة - لكنها لا تقصر عن الصلاحية للصرف لاسيما مع اعتضادها بقول علي عليه السلام وفعله.

    العاشرة: ذهب بعض العترة إلى أنه لا مسح على الجبائر. ففي "الأحكام" من كتبهم: إذا جبر على جرح أو كسر وخشي نزع الجبائر ضررا، لا يشرع المسح. قال: لأن الآية تقتضي غسل اليد دون ما عليها. والجمهور منهم ومن غيرهم: أنه يمسح، لحديث جابر: إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده. رواه أبو داود والدارقطني. وصححه ابن السكن.

    [ ص: 1886 ] الحادية عشرة: (وجوب مسح الرأس):




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #292
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1887 الى صـ 1901
    الحلقة (292)



    والمسح إمساس المحل الماء بحيث لا يسيل، والباء في قوله تعالى: برءوسكم تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنه قيل: وألصقوا المسح برؤوسكم قال الزمخشري: وماسح بعض الرأس ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه. أي: فيكون الواجب مطلق المسح كلا أو بعضا - وأيا ما كان - وقع به الامتثال. والسنة الصحيحة وردت بالبيان، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة، أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه [ ص: 1887 ] ولم ينقض العمامة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة، أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر. وهذه هي الهيئة التي استمر عليهما صلى الله عليه وسلم. فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان صلى الله عليه وسلم يداوم عليها. وهي: مسح الرأس مقبلا ومدبرا. وإجزاء غيرها في بعض الأحوال. ولا يخفى أن الآية لا تفيد إيقاع المسح على جميع الرأس. كما في نظائره من الأفعال. نحو: ضربت رأس زيد، وبرأسه. وضربت زيدا وضربت يد زيد. فإنه يوجد المعنى اللغوي في جميع ذلك، بوجود الضرب على جزء من الأجزاء المذكورة. وهكذا ما في الآية. وليس النزاع في مسمى الرأس لغة، حتى يقال: إنه حقيقة في جميعه. بل النزاع في إيقاع المسح عليه. وعلى فرض الإجمال، فقد بينه الشارع تارة بمسح الجميع، وتارة بمسح البعض، بخلاف الوجه. فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال، بل غسله جميعا. وأما اليدان والرجلان فقد صرح فيهما بالغاية. فإن قلت: إن المسح ليس كالضرب الذي مثلث به. قلت: لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال (مسحت الثوب أو بالثوب. أو مسحت الحائط أو بالحائط) على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط. وإنكار مثل هذا مكابرة. كذا في "الروضة".

    [ ص: 1888 ] قال شمس الدين بن القيم في "الهدى": ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث واحد، أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة. ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة - فأما حديث أنس الذي رواه أبو داود: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة - فهذا مقصود أنس به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الرأس الشعر كله. ولم ينف التكميل على العمامة. وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره. فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه. انتهى.

    قال الشوكاني: ليس النزاع إلا في الوجوب. وأحاديث التعميم، وإن كانت أصح، وفيها زيادة وهي مقبولة - لكن أين دليل الوجوب؟ وليس إلا مجرد الفعل. وهو لا يدل على الوجوب. ثم قال: وبعد هذا، فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس وصحة أحاديثه. ولكن دون الجزم بالوجوب، مفاوز وعقاب.

    فصل

    وأما قوله تعالى: وأرجلكم إلى الكعبين فقرأه بالنصب نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب. وبالجر الباقون، ومن هاتين القراءتين تشعبت المذاهب في صفة طهارة الرجلين. فمن ذاهب إلى أن طهارتهما الغسل. ومن ذاهب إلى أنها المسح. ومن مخير بينهما. ولكل من هذه المذاهب حجج وتأويلات وأجوبة ومناقشات نسوق شذرة منها. فنقول: قال الأولون: قراءة النصب ظاهرها يفيد الغسل. وقراءة الجر ظاهرها يفيد المسح. إلا أنه لما وجد ما يرجح الغسل تأولنا ما أفادته قراءة الجر في الظاهر. والمرجح للغسل أمور.

    [ ص: 1889 ] منها ما في "الصحيحين" و "السنن" عن عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه، إما مرة وإما مرتين أو ثلاثا. على اختلاف رواياتهم. وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به.

    وفي "الصحيحين" عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره. فأدركنا وقد أرهقنا العصر. فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا. قال: فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار. مرتين أو ثلاثا. وكذلك هو في "الصحيحين" عن أبي هريرة. وفي "صحيح مسلم" عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أسبغوا الوضوء. ويل للأعقاب من النار» ، وروى البيهقي والحاكم، بإسناد صحيح، عن عبد الله بن الحارث بن جزء; أنه [ ص: 1890 ] سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» وروى الإمام أحمد وابن ماجه وابن جرير عن جابر بن عبد الله قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رجل رجل مثل الدرهم لم يغسله، فقال: «ويل للأعقاب من النار» . قال ابن كثير: ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة؛ وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما، أو أنه يجوز ذلك، لما توعد على تركه، لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل. بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف. وروى الإمام أحمد عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم، لم يصبها الماء. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء» . زاد أبو داود: والصلاة.

    وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: حدثنا عمرو بن عبسة قال: «قلت: يا رسول الله! أخبرني عن الوضوء، قال: ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر، إلا خرت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء [ ص: 1891 ] حين ينتثر، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء. ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله. ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء. ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمر الله إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء. ثم يقوم فيحمد الله ويثني بالذي هو له أهل، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» .

    قال أبو أمامة: يا عمرو! انظر ما تقول. سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أيعطى هذا الرجل كله في مقامه؟ قال عمرو بن عبسة: يا أبا أمامة! لقد كبر سني ورق عظمي واقترب أجلي. وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا. لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك..
    قال ابن كثير: وإسناده صحيح وهو في "صحيح مسلم" من وجه آخر، وفيه: ثم يغسل قدميه كما أمره الله. فدل على أن القرآن يأمر بالغسل. وهكذا روى أبو إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال: اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم. ومن ههنا يتضح لك المراد من حديث عبد خير عن علي، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما. إنما أراد غسلا خفيفا وهما في النعلين» . ولا مانع من إيجاد الغسل والرجل في نعلها. ويكون في هذا رد على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين. وهكذا ما رواه ابن جرير عن حذيفة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائما ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه. وهو حديث صحيح. وقد أجاب ابن جرير عنه: بأن الثقات الحفاظ رووه عن حذيفة: فبال قائما ثم توضأ ومسح على خفيه. قال ابن كثير: ويحتمل الجمع بينهما. بأن يكون في رجليه خفان وعليهما نعلان.

    [ ص: 1892 ] وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أوس بن أبي أوس قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى الصلاة» . ورواه أبو داود عنه بلفظ: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه» . ثم قال الجمهور: إن قراءة الجر محمولة على الجر الجواري. ونظيره كثير في القرآن والشعر. كقوله تعالى: عذاب يوم أليم و: (وحور عين) بالجر في قراءة حمزة والكسائي عطفا على: بأكواب وأباريق والمعنى مختلف؛ إذ ليس المعنى: يطوف عليهم ولدان مخلدون بحور عين. وكقولهم: جحر ضب خرب، وللنحاة باب في ذلك. حتى تعدوا، من اعتباره في الإعراب، إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك. وقد ساق شذرة من أشباهه ونظائره أبو البقاء هنا. فانظره. وما قيل بأن حرف العطف مانع من الجواز (زعما بأنه خاص بالنعت والتأكيد) مردود بأنه ورد في العطف كثيرا في كلام العرب. قال الشاعر:


    لم يبق إلا أسير غير منفلت وموثق في عقال الأسر مكبول


    فخفض (موثقا) بالمجاورة للمنفلت - وحقه الرفع عطفا على (أسير). وقال:


    فهل أنت - إن ماتت أتانك – راحل إلى آل بسطام بن قيس فخاطب


    [ ص: 1893 ] فجر (فخاطب) للمجاورة. وحقه الرفع عطفا على (راحل). وكفى في الرد قراءة (وحور) بالجر كما قدمنا. قالوا: وشرط حسن الجر الجواري عدم الإلباس مع تضمن نكتة. وهنا كذلك. فإن الغاية دلت أنه ليس بممسوح؛ إذ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة. والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيفه حتى كأنه مسح. قال الناصر في "الانتصاف": والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان، من حيث إن كل واحد منهما إمساس بالعضو. فيسهل عطف الغسول على المسوح من ثم - كقوله: متقلدا سيفا ورمحا. وعلفتها تبنا وماء باردا - ونظائره كثيرة. وبهذا وجه الحذاق. ثم يقال: ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب؟ وهلا أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاص به على الحقيقة؟ فيقال: فائدته الإيجاز والاختصار وتوكيد الفائدة - بما ذكره الزمخشري - أي: من أن الأرجل لما كانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه، فعطف على الرابع المسوح، لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصار في صب الماء عليها. ثم قال الناصر: وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلا: واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه كما هو المعتاد، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح. ونبه بهذا التشريك، الذي لا يكون إلا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جدا، على أن الغسل المطلوب في الأرجل، غسل خفيف يقارب المسح. وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة. انتهى.

    وأما من أوجب الجمع بين المسح والغسل فأخذا بالجمع بين القراءتين. ومراد من ذهب إلى [ ص: 1894 ] وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما. فحكاه من حكاه كذلك. ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء، وهو معذور. فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندراجه فيه. وإنما أراد ما ذكرته والله أعلم.

    ثم تأملت كلامه أيضا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله: (وأرجلكم) خفضا على المسح وهو الدلك، ونصبا على الغسل، فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه. انتهى.

    وأما من قال: الواجب هو المسح، فتمسك بقراءة الجر، وهو مذهب الإمامية. وأجابوا عن قراءة النصب بأنها مقتضية للمسح أيضا. وقد وقفت على كتاب "شرح المقنعة" من كتبهم فوجدته أطنب في هذا البحث، ووجه اقتضاء النصب للمسح بأن موضع الرؤوس موضع نصب لوقوع الفعل، الذي هو المسح عليه. قال: وعلى هذا لا ينكر أن يعطف الأرجل على موقع الرؤوس لا لفظها فينصب، والعطف على الموضع جائز مشهور في لغة العرب. ثم ساق الشواهد في ذلك وقال بعد: فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون القراءة بالنصب لا تقتضي الغسل، فلا تحتمل المسح. لأن عطف الأرجل على مواضع الرؤوس في الإيجاب توسع وتجوز. والظاهر والحقيقة يوجبان عطفها على اللفظ لا الموضع، قلنا: ليس الأمر على ما توهمتم، بل العطف على الموضع مستحسن في لغة العرب، وجائز لا على سبيل الاتساع والعدول عن الحقيقة. فالمتكلم مخير بين حمل الإعراب على اللفظ تارة، وبين حمله على الموضع أخرى.

    قال: وهذا ظاهر في العربية مشهور عند أهلها، وفي القرآن والشعر له نظائر كثيرة. ثم قال: على أنا لو سلمنا أن العطف على اللفظ أقوى، لكان عطف الأرجل على موضع الرؤوس أولى، مع القراءة بالنصب، لأن نصب الأرجل لا يكون إلا على أحد وجهين: إما بأن يعطف على الأيدي والوجوه في الغسل، أو يعطف على موضع الرؤوس فينصب، ويكون حكمها المسح. وعطفها على موضع الرؤوس أولى. وذلك أن الكلام إذا حصل فيه عاملان، أحدهما قريب والآخر بعيد، فإعمال الأقرب أولى من إعمال الأبعد. وقد نص أهل العربية على هذا في باب التنازع. انتهى. فتأمل جدلهم.

    [ ص: 1895 ] قال الحافظ ابن كثير: وقد روي عن طائفة من السلف بالمسح: فروى ابن جرير عن حميد قال: قال موسى بن أنس ونحن عنده: يا أبا حمزة! إن الحجاج خطبنا بالأهواز، ونحن معه. فذكر الطهور فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم. وإنه ليس شيء من ابنآدم أقرب من خبثه من قدميه؛ فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما. فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج. قال الله تعالى: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم

    قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما.

    قال ابن كثير: إسناده صحيح إليه.

    وروى ابن جرير أيضا عن عاصم عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسنة بالغسل. وإسناده صحيح أيضا.

    وأسند أيضا عن عكرمة عن ابن عباس قال: الوضوء غسلان ومسحتان.

    وكذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: وامسحوا برءوسكم وأرجلكم قال: هو المسح. ثم قال: وروى عن ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر محمد بن علي والحسن (في إحدى الروايات) وجابر بن يزيد ومجاهد (في إحدى الروايتين) نحوه. وروى ابن جرير عن أيوب قال: رأيت عكرمة يمسح على رجليه. وعن الشعبي قال: نزل جبريل بالمسح. ألا ترى أن التيمم، أن يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا؟

    [ ص: 1896 ] وأما من ذهب إلى التخيير، فقال: لما جاءت القراءة بما يوجب الغسل وبما يوجب المسح، دل على أنه مخير. قال في "الشفا": القراءتان لا توجبان الجمع، بل تثبتان التخيير.

    ولا يخفى أن ظاهر الآية صريح في أن واجبهما المسح. كما قال ابن عباس وغيره. وإيثار غسلهما في المأثور عنه صلى الله عليه وسلم، إنما هو للتزيد في الفرض والتوسع فيه حسب عادته صلى الله عليه وسلم، فإنه سن في كل فرض سننا تدعمه وتقويه. في الصلاة والزكاة والصوم والحج. وكذا في الطهارات كما لا يخفى، ومما يدل على أن واجبهما المسح، تشريع المسح على الخفين والجوربين. ولا سند له إلا هذه الآية. فإن كل سنة أصلها في كتاب الله، منطوقا أو مفهوما، فاعرف ذلك واحتفظ به، والله الهادي.

    فصل

    فيما قاله الصوفية - قدس الله سرهم - من أسرار طهارة هذه الأعضاء:

    فأما الوجه، فإنما وجب غسله لأن فيه أكثر الحواس الظاهرة التي ينتفع بالمحسوسات بواسطتها، فلا بد من تطهيره عن ظهور آثار حدثت عنها، ولسبق الإحساس على العمل، قدم ما فيه أكثر الحواس الظاهرة أي: غير السمع. ثم أمر بتطهير الآلة الفاعلية للأفعال، التي منها تلك الآثار - وهي الأيدي إلى المرافق - لأن العمل بالأصابع يحتاج إلى تحريك الكف التي لا تتحرك غالبا إلا بتحريك المرافق، ثم أمر بمسح الرأس لأنه جامع للحواس الباطنة، فأشبه جامع الحواس الظاهرة، وأخره عن غسل اليدين لأنه مخزن الصور المدركة بالحواس الظاهرة من أعماله وغيرهما. ولم يأمر بغسله لأنه يضر بصاحب الشعر، ولا بد منه في الزينة، لاسيما للمرأة، فخفف بالمسح. ثم أوجب غسل آلة السعي لمشابهة آلة العمل وهي الأرجل، ولما كانت حركتها توجب حركة جميع البدن، اقتصر على أدنى الغايات، أعني: الكعبين، لئلا تبطل فائدة تخصيص الأعضاء، وفي الفصل بين المغسولات بالممسوح إيماء إلى وجوب الترتيب، والسر فيه ما أشرنا إليه. كذا في تفسير "المهايمي".

    [ ص: 1897 ] وذكر الشعراني - قدس سره - في سر ذلك، أن الوجه به حصول المواجهة في حضرة الله تعالى عند خطابه، والشرع قد تبع العرف في ذلك، وإلا فكل جزء من بدن العبد - ظاهرا وباطنا - ظاهر للحق تعالى من العبد. أمر الله تعالى العبد بالتوبة فورا. مسارعة للتطهير من النجاسة المعنوية. لأن الماء لا يصل إلى القلب. فافهم.

    ثم وجه قول الجمهور بدخول المرفقين في اليدين بأنهما محل الارتفاق. وتكمل الحركة بهما في فعل المخالفات. ووجه قول زفر وداود، بأنهما لم يتمحضا للذراعين، لأنهما مجموع شيئين: إبرة الذراع ورأس العظمين، ثم وجه مسح جميع الرأس، بالأخذ بالاحتياط. فيمسح جميع محل الرياسة التي عند المتوضئ ليخرج عن الكبر الذي في ضمنها، ويمكن من دخول حضرة الله تعالى في الصلاة. فإن من كان عنده مثقال ذرة من كبر لا يمكن من دخوله الجنة يوم القيامة، كما ورد، إذ هي الحضرة الخاصة، وكذلك القول في حضرة الصلاة. ثم وجه غسل القدمين بمؤاخذة العبد بالمشي بهما في غير طاعة الله عز وجل، وكونهما حاملين للجسم كله. وممدين له بالقوة على المشي، فإذا ضعفا بالمخالفة أو الغفلة سرى ذلك فيما حملاه، كما يسري منهما القوة إلى ما فوقهما إذا غسل، فإنهما كعروق الشجرة التي تشرب الماء وتمد الأغصان بالأوراق والثمار. فتعين فيهما الغسل دون المسح، ثم ذكر سر من ذهب إلى وجوب الموالاة في طهارة أعضاء الوضوء؛ بأن الغالب على المتطهرين ضعف أبدانهم من كثرة المعاصي، أو الغفلات، أو الشهوات، وإذا لم يكن موالاة جفت الأعضاء كلها قبل القيام إلى الصلاة، مثلا. وإذا جفت فكأنها لم تغسل ولم تكتسب بالماء انتعاشا. ولا حياة تقف بها بين يدي ربها. فخاطبت ربها بلا كمال حضور ولا إقبال على مناجاته. هذا حكم غالب الأبدان، أما أبدان العلماء العاملين وغيرهم من الصالحين، فلا يحتاجون إلى تشديد في أمر الموالاة لحياة أبدانهم بالماء. ولو طال الفصل بين غسل أعضائهم. فيحمل قول من قال بوجوب الموالاة على طهارة عوام الناس. ويحمل قول من قال بالاستحباب على طهارة علمائهم وصالحيهم.

    [ ص: 1898 ] وسمعت سيدي عليا الخواص، رحمه الله تعالى، يقول: نعم قول من قال بوجوب الموالاة في هذا الزمان. فإن من لم يوجبها يؤدي قوله إلى جواز طول الفصل جدا. وزيادة البطء في زمن الطهارة، وفوات أول الوقت، كأن يغسل وجهه في الوضوء للظهر بعد صلاة الصبح. ثم يغسل يديه ربع النهار. ثم يمسح رأسه بعد زوال الشمس. ثم يغسل رجليه قبيل العصر. مع وقوع ذلك المتوضئ مثلا، في الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية والضحك والغفلة. وغير ذلك من المعاصي والمكروهات. أو خلاف الأولى إن كان ممن يؤاخذ به كما يؤاخذ بأكل الشهوات. فمثل هذا الوضوء، وإن كان صحيحا في ظاهر الشرع - من حيث إنه يصدق عليه إنه وضوء كامل - فهو قليل النفع لعدم حصول حياة الأعضاء به بعد موتها أو ضعفها أو فتورها. ففات بذلك حكمة الأمر بالموالاة في الوضوء - وجوبا أو استحبابا - وهي إنعاش البدن وحياته قبل الوقوف بين يدي الله تعالى للمناجاة. ثم لو قدر عدم وقوع ذلك المتوضئ، الذي لم يوال، في معصية أو غفلة في الزمن المتخلل بين غسل الأعضاء. فالبدن ناشف كالأعضاء التي عمتها الغفلة والسهو والملل والسآمة. فلم يصر لها داعية إلى كمال الإقبال على الله تعالى حال مناجاته.

    وقد كمل أسرار السنن بما يبهج، فلينظر في "ميزانه" رحمه الله تعالى.

    وفي كلام الله تعالى من الفوائد والأسرار واللطائف، ما تضيق عنه الأسفار.

    وقوله تعالى: وإن كنتم جنبا أي: بخروج مني أو التقاء ختانين: فاطهروا أي: بالماء، أي: اغتسلوا به. قال المهايمي: أي: بالغوا في تطهير البدن لأنه يتلذذ به الجميع تلذذا أغرقه في غير الله، فأثر فيه بالحدث: وإن كنتم جنبا: مرضى تخافون من استعمال الماء: أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أي: رجع من مكان البراز: أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا أي: اقصدوا: صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه تذليلا للعضوين الشريفين. وقد مر تفسير هذا وأحكامه في سورة [ ص: 1899 ] النساء ما يريد الله أي: ما يريد بالأمر بالطهارة للصلاة. أو بالأمر بالتيمم: ليجعل عليكم من حرج أي: ضيق في الامتثال أو في تحصيل الماء: ولكن يريد ليطهركم أي: عن الذنوب، أو ليجعلكم في حكم الطاهرين بالتذلل بالتراب. فإنه لما رفع التكبر فكأنما رفع الحدث الذي ينشأ عن أمثاله: وليتم نعمته عليكم أي: بشرعه ما هو مطهر لأبدانكم ومنعش لها مما لحقها، ومكفر لذنوبكم، أو ليتم برخصه إنعامه عليكم بتمكينكم من عبادته بكل حال، حتى حال الحدث: لعلكم تشكرون نعمته ورخصته فيثيبكم.

    وقد روى ابن جرير عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه» . ورواه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة مفصلا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [7] واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور .

    واذكروا نعمة الله عليكم بالهداية لهذا الدين القويم لتذكركم المنعم وترغبكم [ ص: 1900 ] في شكره: وميثاقه أي: عهده الوثيق: الذي واثقكم به أي: أكد عليكم بقوله: إذ قلتم أي: لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعنا وأطعنا حين بايعتموه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره: واتقوا الله أي: في نقض شيء من عهوده ولو بالقلب: إن الله عليم بذات الصدور أي: بخفياتها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [8] يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .

    يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله أي: مقتضى إيمانكم الاستقامة، فكونوا مبالغين في الاستقامة باذلين جهدكم فيها لله. وهي إنما تتم بالنظر في حقوق الله وحقوق خلقه فكونوا: شهداء بالقسط أي: العدل. لا تتركوه لمحبة أحد ولا لعداوة أحد: ولا يجرمنكم أي: لا يحملنكم: شنآن أي: شدة عداوة: قوم على ألا تعدلوا في حقهم. قال المهايمي: أي: فإنا لا نأمركم به من حيث ما فيه من توفية حقوق الأعداء. بل من حيث ما فيه من توفية حقوق أنفسكم في الاستقامة: اعدلوا هو أي: العدل -: أقرب للتقوى أي: لحفظ الأنفس أن تتجاوز حد استقامتها: واتقوا الله أي: أن تطلبوا حقوقه أو حقوق عباده ولو بطريق توهمون فيه العدل: إن الله خبير بما تعملون من الأعمال فيجازيكم بذلك. وقد ثبت في "الصحيحين" [ ص: 1901 ] عن النعمان بن بشير أنه قال: نحلني أبي نحلا. فقالت أمي: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءه ليشهده على صدقتي فقال: أكل ولدك نحلت مثله؟ قال: لا. فقال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، وقال: إني لا: أشهد على جور. قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة.

    قال بعض المفسرين: ثمرة الآية الدلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالقسط. يدخل فيه الشهادة بالعدل والحكم به. وكذلك الفتوى. وأن قول الحق لا يترك وجوبه بعدو ولا صديق. ولا يجوز اتباع الهوى.

    قال الزمخشري وفي هذا تنبيه عظيم على أن العدل إذا كان واجبا مع الكفار الذين هم أعداء الله، إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #293
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1902 الى صـ 1916
    الحلقة (293)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [9] وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم .

    وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات التي من جملتها العدل والتقوى: لهم مغفرة وأجر عظيم يعني ثوابا وافرا في الجنة.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [10] والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم

    والذين كفروا وكذبوا بآياتنا التي منها ما تلي من الأمر بالعدل والتقوى.

    أولئك أصحاب الجحيم أهل النار.
    ثم بين تعالى أن من مقتضى الإيمان ملازمة شكره على ذكر نعمه، فقال سبحانه:

    [ ص: 1902 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [11] يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون

    يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم أي: في حفظه إياكم عن أعدائكم: إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم أي: بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك: فكف أيديهم عنكم أي: منعها أن تمد إليكم، ورد مضرتها عنكم.

    قيل: الآية إشارة إلى ما روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها. وعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة. فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فسله. ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله عز وجل. قال الأعرابي مرتين أو ثلاثا: من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: الله. قال: فشام الأعرابي السيف. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي. وهو جالس إلى جنبه، ولم يعاقبه» .

    وقال معمر: كان قتادة يذكر نحو هذا، ويذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسلوا هذا الأعرابي. وتأول هذه الآية.

    وأخرج أبو نعيم في "دلائل النبوة" من طريق الحسن عن جابر بن عبد الله، «أن رجلا من محارب يقال له غورث بن الحارث قال لقومه: أقتل لكم محمدا: فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه في حجره فقال: يا محمد! أأنظر إلى سيفك هذا؟ قال: نعم. فأخذه فاستله وجعل يهزه ويهم به فيكبته الله تعالى. فقال يا محمد! أما تخافني؟ قال: لا. قال: أما تخافني والسيف في يدي؟ قال: لا. يمنعني الله منك. ثم غمد السيف ورده إلى رسول الله» . فأنزل الله الآية.

    [ ص: 1903 ] وقصة هذا الأعرابي ثابتة في "الصحيح". وأخرج ابن جرير عن عكرمة ويزيد بن أبي زيادة -واللفظ له- أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف ويهود بني النضير، يستعينهم في عقل أصابه. فقالوا: نعم. اجلس حتى نطعمك أو نعطيك الذي تسألنا، فجلس. فقال حيي بن أخطب لأصحابه: لا ترونه أقرب منه الآن. اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه. ولا ترون شرا أبدا، فجاءوا إلى رحى عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم. حتى جاء جبريل فأقامه من ثمت. فأنزل الله الآية. وروى نحوه ابن أبي حاتم.

    [ ص: 1904 ] قال ابن كثير: ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغدو إليهم، فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم. انتهى.

    وعلى هذه الروايات، فالمراد من قوله تعالى: اذكروا نعمة الله عليكم تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيهم، فإنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن.

    وذكر الزمخشري، ومن بعده، من وجوه إشارات الآية، ما كان بعسفان من حفظه تعالى لهم من أعدائهم، لما هموا بقتلهم عند اشتغالهم بصلاة العصر، بعد ما رأوهم يصلون الظهر. فندموا على أن لا أكبوا عليهم. فرد كيد أعدائهم إذ أنزل عليهم صلاة الخوف. انتهى.

    ولفظ الآية محتمل لذلك، بيد أني لم أره الآن مسندا عن أئمة الأثر.

    واتقوا الله أي: في رعاية حقوق نعمته ولا تخلوا بشكرها وعلى الله خاصة دون غيره فليتوكل المؤمنون فإنه الكافي في إيصال الخير ودفع الشر لمن توكل عليه.

    قال أبو السعود: والجملة تذييل مقرر لما قبله. وإيثار صيغة أمر الغائب. وإسنادها إلى المؤمنين، لإيجاب التوكل على المخاطبين بالطريق البرهاني، وللإيذان بأن ما وصفوا به عند الخطاب من وصف الإيمان، داع إلى ما أمروا به من التوكل والتقوى، وازع عن الإخلال بهما.

    بحث جليل في التوكل

    قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية - قدس الله سره - في بعض مصنفاته: قد ظن طائفة ممن تكلم في أعمال القلوب، أن التوكل لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة. بل ما كان مقدرا بدون التوكل، فهو مقدر مع التوكل. ولكن التوكل عبادة يثاب عليها من جنس الرضا بالقضا. وذكر ذلك أبو عبد الله بن بطة فيما صنفه في هذا الباب. وقول هؤلاء يشبه قول من قال: إن الدعاء لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة. بل هو عبادة يثاب عليها كرمي الجمار، وآخرون يقولون: بل الدعاء علامة وأمارة. ويقولون ذلك في جميع [ ص: 1905 ] العبادات، وهذا قول من ينفي الأسباب في الخلق والأمر، ويقول: إن الله يفعل عندها، لا بها. وهو قول طائفة من متكلمي أهل الإثبات للقدر - كالأشعري وغيره، وهو قول طائفة من الفقهاء والصوفية. وأصل هذه البدعة من قول جهم. فإنه كان غاليا في نفي الصفات وفي الجبر، فجعل من تمام توحيد الذات نفي الصفات، ففي تمام توحيد الأفعال نفي الأسباب. حتى أنكر تأثير قدرة العبد، بل نفى كونه قادرا، وأنكر الحكمة في التوكل والرحمة. وكان يخرج إلى الجذمي فيقول: أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ يعني أنه يفعل بمحض المشيئة بلا رحمة. وقوله في القدر، قد تقرب إليه الأشعري ومن وافقه من الطوائف. والذي عليه السلف والأئمة والفقهاء والجمهور وكثير من أهل الكلام إثبات الأسباب. كما دل على ذلك الكتاب والسنة، مع دلالة الحس والعقل. والكلام على هؤلاء مبسوط في مواضع أخر. والمقصود هنا الكلام على التوكل؛ فإن الذي عليه الجمهور أن المتوكل يحصل له بتوكله، من جلب المنفعة ودفع المضرة، ما لا يحصل لغيره. وكذلك الدعاء. والقرآن يدل على ذلك في مواضع كثيرة. ثم هو سبب عند الأكثرين، وعلامة عند من ينفي الأسباب: قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه والحسب: الكافي. فبين أنه كاف من توكل عليه. وفي الدعاء: يا حسيب المتوكلين! فلا يقال: هو حسب غير المتوكل كما هو حسب المتوكل، لأنه علق هذه الجملة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط، فيمتنع في مثل ذلك أن يكون وجود الشرط كعدمه. ولأنه [ ص: 1906 ] رتب الحكم على الوصف المناسب له. فعلم أن توكله هو سبب كونه حسيبا له، ولأنه ذكر ذلك في سياق الترغيب في التوكل، كما رغب في التقوى. فلو لم يحصل للمتوكل من الكفاية ما لا يحصل لغيره، لم يكن ذلك مرغبا في التوكل. كما جعل التقوى سببا للخروج من الشدة وحصول الرزق من حيث لا يحتسب. وقال تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فمدحوه سبحانه بأنه نعم الوكيل، والوكيل لا يستحق المدح إذا لم يجلب لمن توكل عليه منفعة ولم يدفع عنه مضرة. والله خير من توكل العباد عليه، فهو نعم الوكيل يجلب لهم كل خير ويدفع عنهم كل شر.

    وقال تعالى: واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا وقال: وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا فأمر أن يتخذ وكيلا ونهى أن يتخذ من دونه وكيلا، لأن المخلوق لا يستقل بجميع حاجات العبد، والوكالة الجائزة أن يتوكل الإنسان في فعل يقدر عليه، فيحصل للموكل بذلك بعض مطلوبه. فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله. وذاك الذي يوكله لا يفعل شيئا إلا بمشيئة الله وقدرته. فليس له أن يتوكل عليه، وإن وكله. بل يعتمد على الله في تيسير ما وكله فيه، فلو كان الذي يحصل للمتوكل على الله، يحصل وإن توكل على غيره، ويحصل بلا توكل، لكان اتخاذ بعض المخلوقين وكيلا أنفع من اتخاذ الخالق وكيلا. وهذا من أقبح لوازم هذا القول الفاسد. لأن التوكل على الخلق يشهد نفعه. وقال تعالى: يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين أي: الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين. فلو كانت كفايته للمؤمنين المتبعين للرسول - سواء اتبعوه أو لم يتبعوه - لم يكن للإيمان واتباع الرسول أثر في هذه [ ص: 1907 ] الكفاية. ولا كان لتخصيصهم بذلك معنى. وكان هذا نظير أن يقال: هو خالقك وخالق من اتبعك. ومعلوم أن المراد خلاف ذلك. وإذا كان الحسب معنى يختص بعض الناس، علم أن قول المتوكل: (حسبي الله) وقوله: ومن يتوكل على الله فهو حسبه أمر مختص لا مشترك. وأن التوكل سبب ذلك الاختصاص، والله تعالى إذا وعد على العمل بوعد أو خص أهله بكرامة، فلا بد أن يكون بين وجود ذلك العمل وعدمه فرق في حصول تلك الكرامة. وإن كان قد يحصل نظيرها بسبب آخر. فقد يكفي الله بعض من لم يتوكل عليه كالأطفال. لكن لا بد أن يكون للمتوكل أثر في حصول الكفاية الحاصلة للمتوكلين، فلا يكون ما يحصل من الكفاية بالتوكل حاصلا، وإن عدم التوكل، وقد قال تعالى: وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم فعقب هذا الجزاء والحكم لذلك الوصف والعمل، بحرف (الفاء) وهي تفيد السبب، فدل ذلك على أن ذلك التوكل هو سبب هذا الانقلاب بنعمة من الله وفضل. وأن هذا الجزاء جزاء على ذلك العمل. وفي الأثر: من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله. فلو كان التوكل لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة، لم يكن المتوكل أقوى من غيره. وقال تعالى: يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا وقال في أثناء السورة: ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا [ ص: 1908 ] فأمره سبحانه بتقواه واتباع ما يوحى إليه وأمره بالتوكل. كما جمع بين هذين الأصلين في غير موضع. كقوله: فاعبده وتوكل عليه وقوله: وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا وقوله: عليه توكلت وإليه أنيب وقوله: ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وقوله: هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب وقوله: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقوله في الفاتحة: إياك نعبد وإياك نستعين

    [ ص: 1909 ] وعلم القرآن مجتمع في الفاتحة في هذين الأصلين: عبادة الله والتوكل عليه. وإذا أفرد لفظ العبادة دخل فيه التوكل. فإنه من عبادة الله. كقوله: يا أيها الناس اعبدوا ربكم وقوله: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وإذا قرن به التوكل كان مأمورا به بخصوصه. وهذا كلفظ الإسلام والإيمان. والإيمان والعمل، ولفظ الصلاة مع العبادة ومع اتباع الكتاب. ولفظ الفحشاء والبغي مع المنكر. ونظائر ذلك متعددة، يكون اللفظ عند تجرده وإفراده يتناول أنواعا. وقد يعطف بعض تلك الأنواع عليه فيكون مأمورا به لخصومه. ثم قد يقال: إذا عطف لم يدخل في المعطوف عليه. وقد يقال: بل الأمر به خاص وعام، كما في قوله: وملائكته ورسله وجبريل وميكال وإذا كان الله أمره بالتوكل على الله، ثم قال: وكفى بالله وكيلا علم أن الله وكيل كاف لمن توكل عليه. كما يقال في الخطب والدعاء: الحمد لله كافي من توكل عليه. وإذا كان "كفى به وكيلا" فهذا مختص به سبحانه، ليس غيره من الموجودات كفى به وكيلا، فإن من يتخذ وكيلا من المخلوقين غايته أن يفعل بعض الأمور، وهو لا يفعلها إلا بإعانة الله، وهو عاجز عن أكثر المطالب، فإذا كان سبحانه وصف نفسه بأنه "كفى به وكيلا" علم أنه يفعل بالمتوكل عليه ما لا يحتاج معه إلى غيره، من جلب المنافع ودفع المضار، إذ لو بقي شيء لم يكن "كفى به وكيلا" وهذا نقيض قول من ظن أن المتوكل عليه لا يحصل له بتوكله جلب منفعة ولا دفع مضرة، بل يجري عليه من القضاء ما كان يجري لو لم [ ص: 1910 ] يتوكل عليه. والذين ظنوا، أصل شبهتهم أنهم لما أثبتوا أن الله إذا قضى شيئا فلا بد أن يكون، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ما سبق علمه فهو كائن لا محالة - صاروا يظنون ما يوجد بسبب يوجد بدونه، وما يوجد مع عدم المانع يوجد مع المانع. وهذا غلط عظيم ضل فيه طوائف: طائفة قالت: لا حاجة إلى الأعمال المأمور بها. بل من خلق للجنة فهو يدخلها وإن لم يؤمن. ومن خلق للنار فهو يدخلها وإن آمن ولم يكفر. وهذه الشبهة سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة والنار. قالوا: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: لا! اعملوا، فكل ميسر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فسييسر لعمل أهل الشقاء. وهذا المعنى قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في "الصحيح" في مواضع تبين أن ما سبق به الكتاب سبق بالأسباب التي تفضي إليه، فالسعادة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به سعيدا، والشقاوة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به شقيا. فالقدر تضمن الغاية وسببها. لم يتضمن غاية بلا سبب. كما تضمن أن هذا يولد له بأن يتزوج ويطأ المرأة، وهذا تنبت أرضه بأن يزرع ويسقي الزرع. وأمثال ذلك.

    وكذلك [ ص: 1911 ] في "السنن" أنه قيل له: يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ فقال: «هي من قدر الله» . فبين أن الأسباب التي تدفع بها المكاره هي من القدر، ليس القدر مجرد دفع المكروه بلا سبب. وكذلك قول من قال: (إن الدعاء لا يؤثر شيئا والتوكل لا يؤثر شيئا) هو من هذا الجنس، لكن إنكار ما أمر به من الأعمال أمر ظاهر، بخلاف تأثير التوكل. لكن الأصل واحد. وهو النظر إلى المقدور مجردا عن أسبابه ولوازمه. ومن هذا الباب: (أن المقتول يموت بأجله) عند عامة المسلمين. إلا فرقة من القدرية قالوا: إن القاتل قطع أجله. ثم تكلم الجمهور: لو لم يقتل؟ قال بعضهم: كان يموت لأن الأجل قد فرغ، وقال بعضهم: لا يموت لانتفاء السبب. وكلا القولين قد قال به من ينسب إلى السنة، وكلاهما خطأ. فإن القدر سبق بأنه يموت بهذا السبب لا بغيره. فإذا قدر انتفاء هذا السبب كان فرض خلاف ما في المقدور، ولو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب، أمكن أن يكون المقدور أنه يموت بغيره، ولو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب، أمكن أن يكون القدر أنه لا يموت. فالجزم بأحدهما جهل فيما تعددت أسبابه، لم يجزم بعدمه عند عدم بعضها، ولم يجزم بثبوته إن لم يعرف له سبب آخر. بخلاف ما ليس له إلا سبب واحد. مثل دخول النار، فإنه لا يدخلها إلا من عصى. فإذا قدر أنه لم يعص لم يدخلها. وقال تعالى: فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ ص: 1912 ] فأمره إذا عزم، أن يتوكل على الله; فلو كان التوكل لا يعينه على نيل ما عزم عليه، لم يكن لأمره به عند العزم فائدة، بين أنه هو سبحانه الناصر دون غيره وقال: وعلى الله فليتوكل المؤمنون فنهى عن التوكل على غيره، وأمر بالتوكل عليه ليحصل للمتوكل عليه النصر الذي لا يقدر عليه غيره. وإلا فالمتوكل على غيره يطلب منه النصر، فإن كان ذلك المطلوب لا يحصل منه لم يكن لذكر انفراده بالنصر معنى; فإنه على هذا القول: نصره لمن توكل عليه كنصره لمن لم يتوكل عليه. وهذا يناقض مقصود الآية. بل عند هؤلاء: قد ينصر من يتوكل على غيره ولا ينصر من يتوكل عليه، فكيف يأمر بالتوكل عليه دون غيره مقرونا بقوله: إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون وكذلك قوله تعالى: أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد - إلى قوله -: قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون فبين أن الله يكفي عبده الذي يعبده، الذي هو من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، الذي هو من عباده المخلصين، الذين هو من: عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا . ومثل هذا قوله: سبحان الذي أسرى بعبده وقوله: وأنه لما قام عبد الله يدعوه [ ص: 1913 ] وقوله: وإن كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا ونظائر ذلك متعددة. ثم أمره بقوله: قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون وقال تعالى: واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون وكذلك قال عن هود لما قال قومه: إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فهذا من كلام المرسلين، مما يبين أنه بتوكله على الله يدفع شرهم عنه. فنوح يقول: إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت الآية. فدعاهم، إذا استعظموا ما يفعله كارهين له، أن يجتمعوا ثم يفعلون ما يريدونه من الإهلاك. وقال: فعلى الله توكلت فلولا أنه بحقيقة هذه الكلمة - وهو توكله على الله - يعجزهم عما تحداهم به من مناجزته، لكان قد طلب منهم أن يهلكوه. وهذا لا يجوز، وهذا طلب تعجيز لهم. فدل على أنه - بتوكله على الله - يعجزهم عما تحداهم به، وكذلك هود، يشهد الله تعالى وإياهم أنه بريء مما يشركون بالله. ثم يتحداهم ويعجزهم بقوله: من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها يبين أنه توكل على من أخذ بنواصي الإنس وسائر الدواب. فهو يدفعكم عني لأني متوكل [ ص: 1914 ] عليه، ولو كان وجود التوكل كعدمه في هذا، لكان قد أغراهم بالإيقاع به، ولم يكن لذكر توكله فائدة، إذ كان حقيقة الأمر عند هؤلاء أنه لا فرق بين من توكل ومن لم يتوكل في وصول العذاب إليه. وهم كانوا أكثر وأقوى منه. فكانوا يهلكونه. وهو لو قال: فإن الله مولاي وناصري - ونحو ذلك - لعلم أنه مخبر أن الله تعالى يدفعهم، وإنما يدفعهم لإيمانه وتقواه، ولأنه عبده ورسوله. فالله مع رسوله وأوليائه، فإذا كان بسبب الإيمان والتقوى يدفع الله عن المؤمنين المتقين، علم أن العبد تقوم به أعمال باطنة وظاهرة، تجلب بها المنفعة وتدفع بها المضرة. والتوكل من أعظم ذلك. وعلم أن من ظن أن المقدور من المنافع والمضار، ليس معلقا بالأسباب. بل يحصل بدونها، فهو غالط. وكذلك من جعل ذلك مجرد أمارة وعلامة، لاقتران هذا بهذا، فقد أخطأ، فإن الله أخبر أنه فعل هذا بهذا في غير موضع من القرآن، في خلقه وأمره. كقوله: فأنـزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات وقوله: كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية وقوله: بما كنتم تعملون وأنكر على من ظن وجود الأسباب كعدمها في مثل قوله: أفنجعل المسلمين كالمجرمين وقوله: أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار أمثال ذلك. وهؤلاء يقولون بالجبر. قالوا: والأمر والنهي حقيقته أنه إعلام بوقوع العذاب بالعاصي بمحض المشيئة لا لسبب ونحوه، ولا بحكمة. فقلبوا حقيقة الأمر والنهي إلى الجبر. كما أبطلوا الأسباب [ ص: 1915 ] والحكمة. وأبطلوا قدرة العباد. وهم، وإن كانوا يردون على القدرية ويذكرون من تناقضهم ما يبين فساد قول القدرية، فقد ردوا باطلا بباطل، وقاتلوا بدعة ببدعة. كرد اليهود على النصارى والنصارى على اليهود مقالتهم في المسيح، وكلتا المقالتين باطلة، وكذلك تقابل الخوارج والشيعة في علي باطل، ونظائره متعددة. انتهى. فاحفظه ينفعك في مواضع كثيرة. وقوله تعالى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [12] ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل

    ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل كلام مستأنف مشتمل على ذكر بعض ما صدر عن بني إسرائيل - من الخيانة ونقض الميثاق - وما أدى إليه ذلك من التبعات، مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة حق الميثاق الذي واثقهم به. وتحذيرهم من نقضه. أو لتقرير ما ذكر من هم بني قريظة بالبطش وتحقيقه حسبما مر من الرواية ببيان أن الغدر والخيانة عادة لهم قديمة توارثوها من أسلافهم - أفاده أبو السعود.

    زاد الرازي: تقرير الإلزام بالتكليف بأنه سنة الله في الذين خلوا.

    وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا رئيسا. سمي بذلك لأنه يفتش حال القوم ويعلم دخيلة أمرهم: وقال الله أي: لهم. وفي الالتفات تربية المهابة وتأكيد ما يتضمنه الكلام من الوعد: إني معكم أي: بالعلم والقدرة والنصرة: لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي [ ص: 1916 ] أي: الذين يجيئون إليكم وعزرتموهم أي: أعنتموهم ونصرتموهم بالسيف على الأعداء وأقرضتم الله أي: بالإنفاق في سبيل الخير قرضا حسنا بلا من ولا طلب ربح دنيوي، من رياء وسمعة لأكفرن أي: لأمحون عنكم سيئاتكم ذنوبكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها أي: تطرد من تحت شجرها ومساكنها الأنهار أنهار الماء واللبن والخمر والعسل فمن كفر بعد ذلك أي: بعد أخذ الميثاق والإقرار به منكم فقد ضل سواء السبيل أي: واضح السبيل، الموصل إلى كل مطلب عال.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #294
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1917 الى صـ 1927
    الحلقة (294)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [13] فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين

    فبما نقضهم ميثاقهم [ الباء ] سببية و (ما) مزيدة لتأكيد الكلام وتمكينه في النفس. أي: بسبب نقضهم ميثاقهم. أو نكرة. أي: بشيء عظيم صدر منهم من نقضهم ميثاقهم المؤكد، الموعود عليه النصر والمغفرة والأجر العظيم لعناهم أي: أبعدناهم عن رحمتنا وجعلنا قلوبهم قاسية بحيث لا تلين لرؤية الآيات والنذر، ولا تتعظ بموعظة، لغلظها وقساوتها لغضب الله عليهم، وبقيت تلك القساوة واللعنة في ذريتهم: يحرفون الكلم أي: كلم الله في التوراة، بصرف ألفاظه أو معانيه عن مواضعه التي أنزلت.

    قال ابن كثير: أي: فسدت فهومهم، وساء تصرفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل. عياذا بالله من ذلك. قال أبو السعود: والجملة استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم. فإنه لا مرتبة أعظم مما [ ص: 1917 ] يصحح الاجتراء على تغيير كلام الله عز وجل، والافتراء عليه. وقيل: حال من مفعول (لعناهم).

    ونسوا حظا مما ذكروا به أي: تركوا نصيبا وافرا مما أمروا به في التوراة، ترك الناسي للشيء لقلة مبالاته بحيث لم يكن لهم رجوع عليه. أو من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولا تزال تطلع على خائنة منهم أي: خيانة. على أنها مصدر ك (لاغية وكاذبة). أو طائفة خائنة. يعني: أن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم، بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها. فلا تزال ترى ذلك منهم.

    قال مجاهد وغيره بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إلا قليلا منهم وهم المؤمنون منهم فاعف عنهم واصفح أي: لا تعاقبهم.

    قال ابن كثير: هذا موجب النصر والظفر. كما قال عمر: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وبهذا، يحصل لهم تأليف وجمع على الحق. ولعل الله يهديهم.

    ولهذا قال تعالى: إن الله يحب المحسنين يعني به الصفح عمن أساء؛ فإنه من باب الإحسان.

    تنبيه:

    قال بعض المفسرين: في هذا دلالة على جواز التحليف على الأمور المستقبلة. وأخذ الكفيل على الحق الذي يفعل في المستقبل. وفي قوله تعالى: فبما نقضهم ميثاقهم إلخ، دليل على تأكيد الميثاق، وقبح نقضه، وأنه قد يسلب اللطف المبعد من المعاصي. ويورث النسيان، ولهذا قال تعالى: ونسوا حظا مما ذكروا به وعن ابن مسعود: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية. انتهى.
    [ ص: 1918 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [14] ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون

    ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم بعبادة الله وحده، وأن لا يشركوا به شيئا، وحفظ شرعة عيسى عليه السلام. وإنما نسب تسميتهم نصارى إلى أنفسهم - دون أن يقال (ومن النصارى) - إيذانا بأنهم في قولهم: نحن أنصار الله . بمعزل من الصدق. وإنما هو تقول محض منهم. وليسوا من نصرة الله تعالى في شيء. أو إظهارا لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم. فإن ادعاءهم لنصرته تعالى يستدعي ثباتهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه. أفاده أبو السعود. قال الناصر في "الانتصاف": وبقيت نكتة في تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم. ولم يتفق ذلك في غيره. ألا ترى إلى قوله تعالى: وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه فالوجه في ذلك - والله أعلم - أنه لما كان المقصود في هذه الآية [ ص: 1919 ] ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى، ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة. وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بدعوى النصرة وقولها دون فعلها. والله أعلم.

    قال الشهاب الخفاجي: الموجود في كتب اللغة والتاريخ أن النصارى نسبت إلى بلدة (ناصرة) أي: التي حبل فيه المسيح وتربى فيها. ولذلك كان يدعى عليه السلام (ناصريا). ثم قال: فلو قيل في الآية: إنهم على دين النصرانية وليسوا عليها لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لما في الإنجيل من التبشير بنبينا صلى الله عليه وسلم - لكان أقرب من وجه التسمية الذي ذكروه.

    فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا أي: ألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة أي: يتعادون ويتباغضون إلى قيام الساعة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة، وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرق فرقا متباينة، يلعن بعضها بعضا، ويكفر بعضها بعضا وسوف ينبئهم الله يخبرهم الله في الآخرة بما كانوا يصنعون من المخالفة وكتمان الحق والعداوة والبغضاء. ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به. وهذا وعيد شديد بالجزاء والعذاب.

    لطيفة:

    تطرق البقاعي - رحمه الله تعالى - في "تفسيره" هنا إلى ذكر نقباء بني إسرائيل بأسمائهم، وأن عدتهم طابقت عدة نقباء النصارى - وهم الحواريون - كما طابقت عدة نقباء الأنصار [ ص: 1920 ] ليلة العقبة الأخيرة، حين بايع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار على الحرب، وأن يمنعوه إذا وصل إليهم، وقال لهم: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا - كما اختار موسى من قومه - فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وذكر البقاعي: أن بعث النقباء من بني إسرائيل كان مرتين: الأول لما كلم تعالى موسى في برية سيناء في اليوم الأول من الشهر الثاني من السنة لخروجهم من أرض مصر. وقد فصلت في الفصل الأول من سفر (العدد). والمرة الثانية: بعثوا لجس أرض كنعان. وفصلت أيضا في الفصل الثالث عشر من سفر (العدد) ثم ذكر البقاعي: أن نقباء اليهود في جس الأرض لم يوف منهم إلا يوشع بن نون وكالب بن يفنا، وأما نقباء النصارى، فخان منهم واحد - وهو يهوذا - كما مضى عند قوله تعالى: وما قتلوه وما صلبوه وأما نقباء الأنصار فكلهم وفى وبر بتوفيق الله تعالى.

    وقد اقتص البقاعي أسماء نقباء الفرق الثلاث، ولمعة من نبئهم. فانظره، والله أعلم.

    ثم خاطب تعالى الفريقين من أهل الكتاب إثر تشديد النكير عليهم بتحريف كتبهم ونبذهم الميثاق، ودعاهم إلى الحنفية حتى يكونوا على نور من ربهم. فقال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [15] يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين

    يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب أي: من نحو بعثته صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم في التوراة، وبشارة عيسى به، إظهارا للحق ويعفو عن كثير أي: مما تخفونه. لا يبينه. مما لا ضرورة في بيانه، صيانة لكم عن زيادة الافتضاح. أو يعفو فلا يؤاخذ. وفي هذه الآية بيان معجزة له صلى الله عليه وسلم. فإنه [ ص: 1921 ] لم يقرأ كتابا ولم يتعلم علما من أحد، فإخباره بأسرار ما في كتابهم إخبار عن الغيب، فيكون معجزا قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يريد القرآن. لكشفه ظلمات الشرك والشك. ولإبانته ما كان خافيا على الناس من الحق. أو لأنه ظاهر الإعجاز. أو النور، محمد صلى الله عليه وسلم لأنه يهتدى به، كما سمي سراجا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [16] يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم

    يهدي به الله من اتبع رضوانه أي: رضاه بالإيمان به سبل السلام أي: طرق السلامة والنجاة من عذاب الله ويخرجهم من الظلمات إلى النور أي: ظلمات الكفر والشبه إلى نور الإيمان والدلائل القطعية بإذنه أي: بتوفيقه وإرادته ويهديهم إلى صراط مستقيم وهو الدين الحق السوي في الاعتقادات والأعمال، العري عن الإفراط والتفريط فيها. ثم أشار إلى إفراط بعض النصارى في حق عيسى، وتفريطهم في حق الله جل شأنه فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [17] لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير

    لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم في هذه الآية وجهان:

    [ ص: 1922 ] الأول: إن ما أفادته من الحصر - وإن لم يصرحوا به - إلا أنه نسب إليهم لأنه لازم مذهبهم لأن معتقدهم مؤد إليه.

    قال الرازي: لأنهم يقولون: إن أقنوم الكلمة اتحد بعيسى عليه السلام. فأقنوم الكلمة إما أن يكون ذاتا أو صفة. فإن كان ذاتا فذات الله تعالى قد حلت في عيسى واتحدت بعيسى فيكون عيسى هو الإله على هذا القول. وإن قلنا: إن الأقنوم عبارة عن الصفة، فانتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول. ثم بتقدير انتقال أقنوم العلم عن ذات الله تعالى إلى عيسى، يلزم خلو ذات الله عن العلم. ومن لم يكن عالما لم يكن إلها. فحينئذ يكون الإله هو عيسى. على قولهم. فثبت أن النصارى - وإن كانوا لا يصرحون بهذا القول - إلا أن حاصل مذهبهم ليس إلا ذلك. انتهى.

    وبطلان الاتحاد معلوم بالبداهة.

    قال العلامة العضد في (الموقف الثاني): المقصد الثامن: الاثنان لا يتحدان. وهذا حكم ضروري. فإن الاختلاف بين الماهيتين والهويتين اختلاف بالذات فلا يعقل زواله. وهذا ربما يزاد توضيحه فيقال: إن عدم الهويتان فلا اتحاد، بل وحدث أمر ثالث غيرهما - وإن عدم أحدهما - فلا يتحد المعدوم بالموجود، وإن وجدا فهما اثنان كما كانا، فلا اتحاد أيضا. انتهى.

    الوجه الثاني: إنه عني بهذه الآية قوم يقولون بأن حقيقة الله هو المسيح لا غير.

    قال الزمخشري: قيل: كان في النصارى قوم يقولون ذلك. انتهى.

    قال الإمام الشهرستاني في "الملل والنحل" عند ذكر فرق النصارى:

    ومنهم اليعقوبية أصحاب يعقوب. قالوا بالأقانيم الثلاثة - كما ذكرنا - إلا أنهم قالوا: انقلبت الكلمة لحما ودما فصار الإله هو المسيح، وهو الظاهر بجسده بل هو هو. وعنهم أخبرنا القرآن الكريم: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم فمنهم [ ص: 1923 ] من قال: المسيح هو الله. ومنهم من قال: ظهر اللاهوت بالناسوت فصار ناسوت المسيح مظهر الحق. لا على طريق حلول جزء فيه. ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة بل صار هو هو. وهذا كما يقال: ظهر الملك بصورة الإنسان. أو ظهر الشيطان بصورة حيوان.. إلخ.

    وذكر الإمام الماوردي في "أعلام النبوة": إن أوائل النسطورية قالوا: إن عيسى هو الله. انتهى.

    وذكر الإمام ابن إسحاق في "السيرة": إن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا من النصرانية على دين ملكهم، مع اختلاف من أمرهم. يقولون: هو الله: ويقولون: هو ولد الله. ويقولون: هو ثالث ثلاثة - يعني هو تعالى وعيسى ومريم - وكذلك قول النصرانية. ثم قال: ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن.

    قل - أي: تبكيتا لهم، وإظهارا لفساد قولهم -: فمن يملك من الله شيئا أي: من يستطيع إمساك شيء من قدرته تعالى: إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم أي: يميته: وأمه ومن في الأرض جميعا أي: فضلا عن آحادهم. احتج بذلك على فساد قولهم. وتقريره: أن المسيح حادث بلا شبهة؛ لأنه تولد من أم. ولذا ذكرت الأم للتنبيه على هذا. ومقهور قابل للفناء أيضا كسائر الممكنات. ومن كان كذلك كيف يكون إلها؟

    قال أبو السعود: وتعميم إرادة الإهلاك للكل - مع حصول المطلوب يقصرها على المسيح - لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز، ببيان أن الكل تحت قهره تعالى وملكوته. لا يقدر أحد على دفع ما أريد به. فضلا عن دفع ما أريد بغيره. وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك. كما أنه أسوة لها فيما ذكر من العجز وعدم استحقاق الألوهية.

    [ ص: 1924 ] ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما من الخلق والعجائب - وهذا تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى. إثر بيان انتفائها عن غيره: يخلق ما يشاء جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبهة في أمر المسيح - لولادته من غير أب، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص - أي: يخلق ما يشاء من أنواع الخلق كما شاء بأب أو بغير أب...!

    قال السمرقندي: وإنما قال: يخلق ما يشاء لأن النصارى أهل نجران كانوا يقولون: لو كان عيسى بشرا كان له أب. فأخبرهم الله تعالى أنه قادر على أن يخلق خلقا بغير أب.

    والله على كل شيء من خلق الخلق، والثواب لأوليائه، والعقاب لأعدائه -: قدير
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [18] وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير

    وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه حكاية لما صدر عن الفريقين من الدعوى الباطلة. وبيان لبطلانها بعد بطلان ما صدر عن أحدهما. أي: قالوا: نحن من الله بمنزلة الأبناء من الآباء في المنزلة والكرامة. ونحن أحباؤه لأننا على دينه.

    قال ابن كثير: ونقلوا عن كتابهم أن الله قال لعبده إسرائيل: أنت ابني بكري. فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه. وقد رد عليه غير واحد ممن أسلم من عقلائهم. وقالوا: هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام. كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، يعني ربي وربكم. ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من النبوة [ ص: 1925 ] ما ادعوها في عيسى عليه السلام، وإنما أرادوا بذلك معزتهم لديه، وحظوتهم عنده...! انتهى.

    وقال الجلال الدواني في "شرح عقائد العضد": وما نقل عن الإنجيل - فعلى فرض صحته وعدم التحريف - يكون إطلاق الأب عليه بمعنى المبدأ. فإن القدماء كانوا يسمون المبادئ بالآباء. وأنت تعلم أن المتشابهات في القرآن وغيره من الكتب الإلهية كثيرة. ويردها العلماء بالتأويل إلى ما علم بالدليل. فلو ثبت ذلك لكان من هذا القبيل. انتهى. وقال الدهلوي في "الفوز الكبير": إن الله عز وجل شرف الأنبياء وتابعيهم في كل ملة بلقب المقرب والمحبوب. وذم الذين ينكرون الملة بصفة المبغوضية. وقد وقع التكلم في هذا الباب بلفظ شائع في كل قوم، فلا عجب أن يكون قد ذكر الأبناء مقام المحبوبين، فظن اليهود أن ذلك التشريف دائر مع اسم اليهودي والعبري والإسرائيلي. ولم يعلموا أنه دائر على صفة الانقياد والخضوع وتمشية ما أراد الحق سبحانه ببعثة الأنبياء لا غير. وكان ارتكز من هذا القبيل في خاطرهم كثير من التأويلات الفاسدة المأخوذة من آبائهم وأجدادهم، فأزال القرآن هذه الشبهات على وجه أتم. انتهى.

    قل فلم يعذبكم بذنوبكم أي: لو كنتم أبناءه وأحباءه لما عذبكم، لكن اللازم منتف إذ عذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ، واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياما معدودة.

    لطيفة:

    قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يرد عليه، فتلا عليه الصوفي هذه الآية: قل فلم يعذبكم بذنوبكم وهذا الذي قاله حسن. وله شاهد في "المسند" للإمام أحمد حيث قال: حدثنا ابن أبي عدي. [ ص: 1926 ] عن حميد، عن أنس قال: «مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، وصبي في الطريق. فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني! وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله! ما كانت هذه لتلقي ولدها في النار، قال: فخفضهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا، ولا يلقي الله حبيبه في النار» . قال ابن كثير: تفرد به أحمد. انتهى.

    وقال السمرقندي: في الآية دليل أن الله تعالى إذا أحب عبده يغفر ذنوبه ولا يعذبه بذنوبه. لأنه تعالى احتج عليهم فقال: فلم يعذبكم لو كنتم أحباء إليه؟ وقد قال في آية أخرى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ففيها دليل أنه لا يعذب التوابين بذنوبهم، ولا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيل الله: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص

    وقوله تعالى: بل أنتم بشر عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام، أي: لستم كذلك بل أنتم بشر: ممن خلق أي: من جنس من خلقه من غير مزية لكم عليهم: يغفر لمن يشاء لمن تاب من اليهودية والنصرانية: ويعذب من يشاء من مات على اليهودية والنصرانية: ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير أي: المرجع، مصير من آمن ومن لم يؤمن. فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
    [ ص: 1927 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [19] يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير

    يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم أي: ما أمرتم به وما نهيتم عنه على فترة من الرسل متعلق ب (جاءكم) أي: جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل، وانقطاع من الوحي. إذ لم يكن بينه وبين عيسى رسول. ومدة الفترة بينهما خمسمائة وتسع وستون سنة أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذف المضاف. أي: كراهة أن تعتذروا بذلك يوم القيامة، وتقولوا: ما جاءنا من رسول - بعد ما درس الدين - يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز. وينذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم. وقد كان اختلط في تلك الفترة الحق بالباطل - كما سنبينه -: فقد جاءكم بشير ونذير متعلق بمحذوف تنبئ عنه الفاء الفصيحة وتبين أنه معلل به. أي: لا تعتذروا (بما جاءنا) فقد جاءكم بشير أي بشير، ونذير أي نذير والله على كل شيء قدير من إرسال الرسل، والثواب لمن أجاب الرسل، والعقاب لمن لم يجبهم.

    قال البقاعي: وفي الختم بوصف القدرة، وإتباعه تذكيرهم ما صاروا إليه من العز بالنبوة والملك، بعد ما كانوا فيه من الذل بالعبودية والجهل، إشارة إلى أن إنكارهم لأن يكون من ولد إسماعيل عليه السلام نبي، يلزم منه إنكارهم للقدرة.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #295
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1928 الى صـ 1943
    الحلقة (295)



    تنبيه:

    قال ابن كثير: كانت الفترة بين عيسى ابن مريم - آخر أنبياء بني إسرائيل - وبين محمد [ ص: 1928 ] خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق. كما ثبت في "صحيح البخاري"، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أولى الناس بابن مريم ليس بيني وبينه نبي» . وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي يقال له خالد بن سنان. كما حكاه القضاعي وغيره. انتهى.

    وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": استدل به - يعني بحديث أبي هريرة - على أنه لم يبعث بعد عيسى أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم. وفيه نظر؛ لأنه ورد أن الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية - المذكورة قصتهم في سورة (يس) - كانوا من أتباع عيسى. وأن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين، وكانا بعد عيسى. والجواب: أن هذا الحديث يضعف ما ورد من ذلك. فإنه صحيح بلا تردد. وفي غيره مقال. أو المراد: أنه لم يبعث بعد عيسى نبي بشريعة مستقلة. وإنما بعث بعده، من بعث، بتقرير شريعة عيسى. وقصة خالد بن سنان أخرجها الحاكم في "المستدرك" من حديث ابن عباس، ولها طرق جمعتها في ترجمتها في كتابي في "الصحابة". انتهى.

    وقد ذكرت في كتابي "إيضاح الفطرة في أهل الفترة" في الباب الحادي عشر من كان في الفترة من الأنبياء على ما روي. فارجع إليه.

    قال ابن كثير: والمقصود من هذه الآية، أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، [ ص: 1929 ] وطموس من السبل، وتغير الأديان، وكثرة عباد الأوثان والنيران والصلبان. فكانت النعمة به أتم النعم، والحاجة إليه أمر عام، فإن الفساد كان قد عم جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد. إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين. كما روى أحمد عن عياض المجاشعي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم [ ص: 1930 ] فقال في خطبته: «وإن ربي، أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا. كل مال نحلته عبادي حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، ثم إن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم. عجميهم وعربيهم. إلا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك. وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظانا...» انتهى.

    وقال الأستاذ النحرير الشيخ محمد عبده مفتي مصر في "رسالة التوحيد" في بحث رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ما نصه: ليس من غرضنا في هذه الوريقات أن نلم بتاريخ الأمم عامة، وتاريخ العرب خاصة، في زمن البعثة المحمدية، لنبين كيف كانت حاجة سكان الأرض ماسة إلى قارعة تهز عروش الملوك، وتزلزل قواعد سلطانهم الغاشم، وتخفض من أبصارهم المعقودة بعنان السماء، إلى من دونهم من رعاياهم الضعفاء. وإلى نار تنقض من سماء الحق على أدم الأنفس البشرية لتأكل ما اعشوشبت به من الأباطيل القاتلة للعقول. وصيحة فصحى تزعج الغافلين، وترجع بألباب الذاهلين، وتنبه المرؤوسين إلى أنهم ليسوا بأبعد عن البشرية من الرؤساء الظالمين، والهداة الضالين، والقادة الغارين، وبالجملة تؤوب بهم إلى رشد يقيم الإنسان على الطريق التي سنها الإله: إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا . ليبلغ بسلوكها كماله، ويصل على نهجها إلى ما أعد في الدارين له. ولكنا نستعير من التاريخ كلمة يفهمها من نظر فيما اتفق عليه مؤرخو ذلك العهد، نظر إمعان وإنصاف.

    [ ص: 1931 ] كانت دولتا العالم (دولة الفرس في الشرق، ودولة الرومان في الغرب) في تنازع وتجالد مستمر، دماء بين العالمين مسفوكة، وقوى منهوكة، وأموال هالكة، وظلم من الإحن حالكة. ومع ذلك، فقد كان الزهو والترف والإسراف والفخفخة والتفنن في الملاذ بالغة حد ما لا يوصف في قصور السلاطين والأمراء، والقواد ورؤساء الأديان من كل أمة، وكان شره هذه الطبقة من الأمم لا يقف عند حد. فزادوا في الضرائب، وبالغوا في فرض الإتاوات، حتى أثقلوا ظهور الرعية بمطالبهم. وأتوا على ما في أيديها من ثمرات أعمالها، وانحصر سلطان القوي في اختطاف ما بيد الضعيف. وفكر العاقل، في الاحتيال لسلب الغافل، وتبع ذلك أن استولى على تلك الشعوب ضروب من الفقر والذل والاستكانة والخوف والاضطراب، لفقد الأمن على الأرواح والأموال. غمرت مشيئة الرؤساء إرادة من دونهم. فعاد هؤلاء كأشباح اللاعب. يديرها من وراء حجاب، ويظنها الناظر إليها من ذوي الألباب، ففقد بذلك الاستقلال الشخصي، وظن أفراد الرعايا أنهم لم يخلقوا إلا لخدمة ساداتهم وتوفير لذاتهم، كما هو الشأن في العجماوات مع من يقتنيها. ضلت السادات في عقائدها وأهوائها، وغلبتها على الحق والعدل شهواتها. ولكن بقي لها من قوة الفكر أردأ بقاياها. فلم يفارقها الذر من أن بصيص النور الإلهي، الذي يخالط الفطر الإنسانية، قد يفتق الغلف التي أحاطت بالقلوب، ويمزق الحجب التي أسدلت على العقول. فتهتدي العامة إلى السبيل، ويثور الجم الغفير على العدد القليل، ولذلك لم يغفل الملوك والرؤساء أن ينشئوا سحبا من الأوهام. ويهيئوا كسفا من الأباطيل والخرافات، ليقذفوا بها في عقول العامة. فيغلظ الحجاب، ويعظم الرين، ويختنق بذلك نور الفطرة. ويتم لهم ما يريدون من المغلوبين لهم.

    وصرح الدين، بلسان رؤسائه، أنه عدو العقل وعدو كل ما يثمره النظر. إلا ما كان تفسيرا لكتاب مقدس. وكان لهم في المشارب الوثنية ينابيع لا تنضب، ومدد لا ينفد.

    هذه حالة الأقوام كانت في معارفهم، وذلك كان شأنهم في معايشهم. عبيد أذلاء، [ ص: 1932 ] حيارى في جهالة عمياء، اللهم إلا بعض شوارد من بقايا الحكمة الماضية، والشرائع السابقة، آوت إلى بعض الأذهان، ومعها مقت الحاضر، ونقص العلم بالغابر، ثارت الشبهات على أصول العقائد وفروعها، بما انقلب من الوضع، وانعكس من الطبع، فكان يرى الدنس في مظنة الطهارة، والشره حيث تنتظر القناعة، والدعارة حيث ترجى السلامة والسلام. مع قصور النظر عن معرفة السبب، وانصرافه لأول وهلة إلى أن مصدر كل ذلك هو الدين. فاستولى الاضطراب على المدارك. وذهب بالناس مذهب الفوضى في العقل والشريعة معا. وظهرت مذاهب الإباحيين والدهريين في شعوب متعددة، وكان ذلك ويلا عليها، فوق ما رزئت به من سائر الخطوب. وكانت الأمة العربية قبائل متخالفة في النزعات، خاضعة للشهوات، فخر كل قبيلة في قتال أختها. وسفك دماء أبطالها، وسبي نسائها. وسلب أموالها. تسوقها المطامع إلى المعامع. ويزين لها السيئات، فساد الاعتقادات. وقد بلغ العرب من سخافة العقل حدا صنعوا أصنامهم من الحلوى ثم عبدوها. فلما جاعوا أكلوها. وبلعوا من تضعضع الأخلاق وهنا قتلوا فيه بناتهم تخلصا من عار حياتهن. أو تنصلا من نفقات معيشتهن. وبلغ الفحش منهم مبلغا لم يعد معه للعفاف قيمة.

    وبالجملة: فكانت ربط النظام الاجتماعي قد تراخت عقدها في كل أمة. وانفصمت عراها عند كل طائفة.

    أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم رجل منهم يوحي إليه رسالته؟ ويمنحه عنايته؟ ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم. التي أظلت رؤوس جميع الأمم؟ نعم، كان ذلك، وله الأمر من قبل ومن بعد. انتهى.

    ثم أشار إلى تفريطهم في أمر الله الوارد على لسان موسى، وتفريطهم في حقه مع حثه إياهم على شكر الله. ليسارعوا إلى امتثال أمره، فقال:
    [ ص: 1933 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [20] وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين

    وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم أي: التي هي فوق نعمه على من سواكم، فلا تفرطوا في أمره إذ لم يفرط في حقكم إذ جعل فيكم أنبياء أي: وهم أكمل الخلائق ومكملوهم، ولم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء وجعلكم ملوكا يعني: وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما كنتم في أيدي القبط مملوكين، فأنقذكم الله. فسمى إنقاذهم ملكا وآتاكم أعطاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين من أنواع الإكرام التي خصكم بها - كفلق البحر لهم، وإهلاك عدوهم، وتوريثهم أموالهم، وإنزال المن والسلوى عليهم، وإخراج المياه العذبة من الحجر، وإظلال الغمام فوقهم... - فمقتضى هذه النعم المبادرة إلى امتثال أوامر المنعم، شكرا له. ثم أخبر تعالى عن تحريض موسى عليه السلام لقومه على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس الذي استحوذ عليه الجبابرة، وأنهم نكلوا وعصوا أمره، فعوقبوا بالتيه لتفريطهم، فقال سبحانه مخبرا عن موسى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [21] يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين

    يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة يعني: أرض بيت المقدس التي كانت مقدسة بمساكنة من مضى من الأنبياء. ثم تلوثت بمساكنة الأعداء من جبابرة الكنعانيين. فأراد تطهيرها بإخراجهم وإسكان قومه التي كتب الله لكم أي: التي وعدكموها على لسان [ ص: 1934 ] أبيكم إبراهيم، بأن تكون ميراثا لولده بعد أن جعلها مهاجره ولا ترتدوا على أدباركم أي: لا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبنا وهلعا فتنقلبوا خاسرين أي: فترجعوا مغبونين بالعقوبة.
    [ ص: 1935 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [22] قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون

    قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين أي: متغلبين ليس لنا مقاومتهم وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها أي: من غير صنع من قبلنا؛ فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها فإن يخرجوا منها أي: بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها فإنا داخلون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [23] قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين

    قال رجلان هما يوشع بن نون وكالب بن يفنا من الذين يخافون أي: يخافون الله تعالى دون العدو، ويتقونه في مخالفة أمره ونهيه.

    وقال العلامة البقاعي: أي: من الذين يوجد منهم الخوف من الجبارين. ومع ذلك لم يخافا أنعم الله عليهما أي: بالتثبيت والثقة بوعده تعالى ومعرفة مقام أوامره تعالى: ادخلوا عليهم الباب أي: باب بلدهم، أي: باغتوهم وامنعوهم من البروز إلى الصحراء، لئلا يجدوا للحرب مجالا فإذا دخلتموه - أي: باب بلدهم -: فإنكم غالبون عليهم وعلى الله فتوكلوا أي: لا على قوة أنفسكم إن كنتم مؤمنين أي: بكمال قدرته ووعده النصر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [24] قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون

    قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا - أي: الجبابرة -: فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [25] قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين

    قال أي: موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد، على طريقة البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى: رب إني لا أملك أي: أحدا ألزمه قتالهم إلا نفسي وأخي هارون. قال المهايمي: أي: ومن يؤاخيني ويوافقني كهارون ويوشع وكالب فافرق أي: فاحكم بما يميز بين المحق والمبطل لتفرق بيننا وبين القوم الفاسقين أي: الخارجين عن أمرك، وهو في معنى الدعاء عليهم. وقد استجاب الله دعاءه، وفرق بأن أضلهم ظاهرا كما ضلوا باطنا. كما بينه بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [26] قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين

    قال فإنها أي: الأرض المقدسة محرمة عليهم أي: بسبب أقوالهم هذه [ ص: 1936 ] وأفعالهم. لا يدخلونها ولا يملكونها. ممن قال هذه المقالة أو رضيها أحد، فالتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد أربعين سنة يتيهون في الأرض أي: يترددون في البرية متحيرين في الأرض حتى يهلكوا كلهم، و (التيه) المفازة التي يتيه فيها سالكها فيضل عن وجه مقصده فلا تأس أي: تحزن على القوم الفاسقين أي: الخارجين من قيد الطاعات. قال العلامة البقاعي: ثم بعد هلاكهم أدخلها بنيهم الذين ولدوا في التيه. وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت على طلب الوفاء بها، وافتتحت بها، وصرح بأخذها عليهم في قوله: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل الآيات. وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعلونه معه، وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق، وترغيب لمن أطاع منهم، وترهيب لمن عصى. ومات في تلك الأربعين، كل من قال ذلك القول أو رضيه حتى النقباء العشرة. وكان الغمام يظلهم من حر الشمس. ويكون لهم عمود من نور بالليل يضيء عليهم. وغير هذا من النعم، لأن المنع بالتيه كان تأديبا لهم. لا غضب؛ إذ أنهم تابوا. ثم ساق البقاعي - رحمه الله - شرح هذه القصة من التوراة التي بين أيديهم بالحرق. ونحن نأتي على ملخصها تأثرا له، فنقول:

    جاء في سفر "العدد" في الفصل الثالث عشر: إن شعب بني إسرائيل لما ارتحلوا من حصيروت ونزلوا ببرية فاران، كلم الرب موسى بأن يبعث رجالا يجسون أرض كنعان. من كل سبط رجلا واحدا، وكلهم يكونون من رؤساء بني إسرائيل، فأرسلهم موسى وأمرهم أن ينظروا إلى الأرض. أجيدة أم رديئة؟ وإلى أهلها، أشديدون أم ضعفاء؟ قليلون أم كثيرون؟ وأن يوافوه بشيء من ثمرها. فساروا واجتسوا الأرض من برية صين إلى رحوب عند مدخل حماة، ثم رجعوا بعد أربعين يوما. وكان موسى وقومه في برية فاران في قاديش، فأروهم ثمر الأرض، وقصوا عليهم ما شاهدوه من جودة الأرض، وأنها تدر لبنا وعسلا. ومن [ ص: 1937 ] شدة أهلها وقوتهم وتحصن مدنهم; فاضطرب قوم موسى. فأخذ كالب - أحد النقباء - يسكتهم عن موسى ويقول: نصعد ونرث الأرض فإنا قادرون عليها. وخالفه بقية النقباء وقالوا: لا نقدر أن نصعد إليهم لأنهم أشد منا. وهولوا على بني إسرائيل الأمر وقالوا: شاهدنا أناسا طوال القامات، سيما بني عناق. فصرنا في عيوننا كالجراد. وكذلك كنا في عيونهم. فعند ذلك ضج قوم موسى ورفعوا أصواتهم وبكوا وقالوا: ليتنا متنا في أرض مصر أو في هذه البرية. ولا تكون نساؤنا وأطفالنا غنيمة للجبابرة. وخير لنا أن نرجع إلى مصر. وقالوا: لنقم لنا رئيسا ونرجع إلى مصر. فلما شاهد موسى ذلك منهم وقع هو وأخوه هارون على وجوههما أمام الإسرائيليين. ومزق، من النقباء، يوشع بن نون وكالب ثيابهما. وكلما بني إسرائيل قائلين: إن الأرض التي مررنا فيها جيدة، وإذا كان ربنا راضيا عنا فإنه يدخلنا إياها. فلا تتمردوا ولا تخافوا أهلها فسيكونون طعمة لنا. إذ الرب معنا. فلما سمع بنو إسرائيل كلام يوشع وكالب قالوا: ليرجما بالحجارة، وكاد حينئذ أن يحيق ببني إسرائيل العذاب الإلهي، لولا تضرع موسى إلى ربه بأن يعفو عنهم، كيلا يكونوا أحدوثة عند أعدائهم المصريين، فعفا تعالى عنهم. وأعلم موسى; أن قومه لن يروا الأرض التي أقسم عليها لآبائهم، وأنهم يموتون جميعا في التيه. إلا كالبا. فإنه لحسن انقياده سيدخل الأرض، وكذلك يوشع، وأعلمه تعالى أيضا بأن أطفال قومه الذين سيهلكون في التيه يكونون رعاة فيه أربعين سنة بعدد الأيام التي تجس النقباء فيها أرض الكنعانيين. كل يوم وزره سنة ليعرفوا انتقامه، عز سلطانه ثم هلك النقباء العشرة، الذين شنعوا لدى قومهم تلك الأرض، بضربة عجلت لهم. ثم هم قوم موسى بالصعود إلى الكنعانيين لما أخبرهم موسى بما أعلمه تعالى. فنهاهم موسى وقال لهم: لا فوز لكم الآن بالنصر الرباني، وإن فعلتم فإن العدو يهزمكم وتسقطون تحت سيفه. فتجبروا وصعدوا إلى رأس الجبل. فنزل العمالقة والكنعانيون عليهم وحطموهم، ثم بعد انقضاء الأربعين سنة فتحت الأرض المقدسة على يد يوشع، كما شرح في "سفره"، والله أعلم.

    [ ص: 1938 ] تنبيهات:

    الأول: قوله تعالى: أربعين سنة ظرف متعلق ب (يتيهون). واحتمال كونه ظرفا ل (محرمة) كما ذكره غير واحد - لا يصح إلا بتكلف; لما شرحناه من سياق القصة.

    الثاني: قال الحاكم: دل قوله تعالى: فلا تأس على القوم الفاسقين على أن من لحقه عذاب الله لا يجوز أن يحزن عليه لأن ذلك حكمه، بل يحمد الله إذا أهلك عدوا من أعدائه.

    الثالث: قال ابن كثير: ذكر كثير من المفسرين ههنا أخبارا من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين، وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم عليه السلام. وأن طوله ثلاثة آلاف ذراع. وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع. تحرير الحساب. وهذا شيء يستحيى من ذكره. ثم هو مخالف لما ثبت في "الصحيحين": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن» . ثم ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا، وأنه كان ولد زنية، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته. وهذا كذب وافتراء، فإن الله تعالى ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال: وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا وقال تعالى: فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين وقال تعالى: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وإذا كان ابن نوح، الكافر، غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق، نظر. والله أعلم.

    [ ص: 1939 ] الرابع: قال ابن كثير: تضمنت هذه القصة تقريع اليهود، وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجادلتهم ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم. هذا مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوهم، فرعون، من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون، لتقر به أعينهم (وما بالعهد من قدم). ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم، وظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ولا يسترها الذيل. وقال - رحمه الله - قبل ذلك: وما أحسن ما أجاب به الصحابة - رضي الله عنهم - يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين [ ص: 1940 ] استشارهم في قتال النفير الذين جاءوا لمنع العير الذي كان مع أبي سفيان. فلما فات اقتناص العير، واقترب منهم النفير، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في العدة والبيض واليلب. فتكلم أبو بكر - رضي الله عنه - فأحسن، ثم تكلم من الصحابة، من المهاجرين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أشيروا علي أيها المسلمون! وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار. لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ. فقال سعد بن معاذ: كأنك تعرض بنا يا رسول الله؟ فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته، لخضناه معك. ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا. إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء. لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك. فسر على بركة الله. فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه لذلك.

    وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: لقد شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون أنا صاحبه، أحب إلي مما عدل به. أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: والله! يا رسول الله! لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون . ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن يسارك، ومن بين يديك، ومن خلفك.

    [ ص: 1941 ] فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك. وسره ذلك.
    وهكذا رواه البخاري في "المغازي".

    الخامس: استنبط العمرانيون من هذه الآية أن من عوائق الملك حصول المذلة للقبيل، والانقياد لسواهم.

    قال الحكيم بن خلدون في "مقدمة العبر" في الفصل 19 تحت العنوان المذكور: إن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها. فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها، فما رئموا (ألفوا) للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة، ومن عجز عن المدافعة، فأولى أن يكون عاجزا عن المقاومة والمطالبة، واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام، وأخبرهم أن الله قد كتب لهم ملكها، كيف عجزوا عن ذلك، قالوا: إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها . أي: يخرجهم الله منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا، وتكون من معجزاتك يا موسى، ولما عزم عليهم لجوا وارتكبوا العصيان وقالوا له: فاذهب أنت وربك فقاتلا وما ذلك إلا لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة، كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها، وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد، وما رئموا من الذل للقبط أحقابا حتى ذهبت العصبية منهم جملة. مع أنهم [ ص: 1942 ] لم يؤمنوا حق الإيمان بما أخبرهم به موسى، من أن الشام لهم، وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم، بحكم من الله قدره لهم. فأقصروا عن ذلك وعجزوا، تعويلا على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة، لما حصل لهم من خلق المذلة. وطعنوا فيما أخبرهم به نبيهم من ذلك وما أمرهم به. فعاقبهم الله بالتيه. وهو أنهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة. لم يأووا فيها لعمران، ولا نزلوا مصرا، ولا خالطوا بشرا، كما قصه القرآن، لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه. ويظهر من مساق الآية ومفهومها: أن حكمة ذلك التيه مقصودة. وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلقوا به. وأفسدوا من عصبيتهم، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر، ولا يسام بالمذلة. فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب، يظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر، سبحان الحكيم العليم، وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية. وأنها هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة. وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله.

    ثم بين تعالى وخيم عاقبة البغي والحسد، في جزاء ابني آدم لصلبه. تعريضا باليهود. وأنهم إن أصروا على بغيهم وحسدهم فسيرجعون بالصفة الخاسرة في الدارين، فقال تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [27] واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين

    واتل عليهم أي: على هؤلاء البغاة الحسدة من اليهود وأشباههم نبأ ابني آدم هابيل وقابيل، ملتبسا بالحق أي: الصدق والصحة موافقا لما في كتبهم: [ ص: 1943 ] إذ قربا قربانا أي: ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسيكة أو صدقة. وكان هابيل راعي غنم، وقابيل يحرث الأرض. فقدم هابيل شيئا من أبكار غنمه ومن سمانها. وقدم قابيل شيئا رديئا من ثمر الأرض: فتقبل من أحدهما وهو هابيل: ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل: قال قابيل لهابيل: لأقتلنك على قبول قربانك: قال إنما يتقبل الله من المتقين أي: إنما أتيت من قبل نفسك، لانسلاخها من لباس التقوى. لا من قبلي. فلم تقتلني؟ وما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان; وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم!

    وعن عامر بن عبد الله: أنه بكى حين حضرته الوفاة: فقيل له: ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله يقول: إنما يتقبل الله من المتقين كذا في "الكشاف".

    وروى ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: يحبس الناس في بقيع واحد فينادي مناد: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر.

    قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة. فيمرون إلى الجنة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #296
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1944 الى صـ 1957
    الحلقة (296)


    القول في تأويل قوله تعالى:

    [28] لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين

    لئن بسطت أي: مددت: إلي يدك لتقتلني أي: ظلما: ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك أي: دفعا: إني أخاف الله رب العالمين أي: من أن أصنع كما تريد أن تصنع.

    [ ص: 1944 ] وفي "الصحيحين": عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل. فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه» . وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي في حديث سعد بن أبي وقاص قال: «قلت: يا رسول الله! أرأيت إن دخل بيتي وبسط يده ليقتلني؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن كابن آدم - وتلا -: لئن بسطت الآية» .

    [ ص: 1945 ] قال المهايمي في تفسير هذه الآية: أي: إني - وإن لم أكن في الدفع ظالما - أخاف الله أن يكره مني هدم بنيانه الجامع ليظهر فيه من حيث كونه رب العالمين. انتهى.

    وهو منزع صوفي لطيف.

    وقال أبو السعود: فيه من إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى، على أبلغ وجه وآكده، ما لا يخفى. كأنه قال: إني أخافه تعالى إن بسطت يدي إليك لأقتلك، أن يعاقبني. وإن كان ذلك مني لدفع عداوتك عني. فما ظنك بحالك وأنت البادئ العادي؟ وفي وصفه تعالى بربوبية العالمين تأكيد للخوف. قيل: كان هابيل أقوى منه. ولكن تحرج عن قتله واستسلم خوفا من الله تعالى. لأن القتل للدفع لم يكن مباحا حينئذ. وقيل: تحريا لما هو الأفضل، حسبما قال صلى الله عليه وسلم: «كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» . ويأباه التعليل بخوفه تعالى، إلا أن يدعى أن ترك الأولى عنده بمنزلة المعصية في استتباع الغائلة، مبالغة في التنزه. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [29] إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين

    إني أريد أي: باستسلامي لك وامتناعي عن التعرض لك: أن تبوء أي: ترجع إلى الله ملتبسا: بإثمي أي: بإثم قتلي: وإثمك أي: الذي كان منك قبل قتلي، أو الذي من أجله لم يتقبل قربانك: فتكون أي: بالإثمين: من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين قال الناصر في "الانتصاف": فأما إرادته لإثم أخيه وعقوبته فمعناه: إني لا أريد أن [ ص: 1946 ] أقتلك فأعاقب. ولما لم يكن بد من إرادة أحد الأمرين، إما إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه، وإما إثم أخيه بتقدير أن يستسلم - وكان غير مريد للأول، اضطر إلى الثاني، فلم يرد إذا إثم أخيه لعينه، وإنما أراد أن الإثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل - ولم تكن حينئذ مشروعة - فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه. وهذا، كما يتمنى الإنسان الشهادة. ومعناها أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه، وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله رجاء إثم الكافر بقتله ضمنا وتبعا. والذي يدل على ذلك; أنه لا فرق في حصول درجة الشهادة وفضيلتها بين أن يموت القاتل على الكفر وبين أن يختم له بالإيمان، فيحبط عنه إثم القتل الذي به كان الشهيد شهيدا. أعني بقي الإثم على قاتله، أو حبط عنه، إذ ذلك لا ينتقص من فضيلة شهادته ولا يزيدها، ولو كان إثم الكافر بالقتل مقصودا لاختلف التمني باعتبار بقائه وإحباطه، فدل على أنه أمر لازم تبع، لا مقصود. والله أعلم.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [30] فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين

    فطوعت له نفسه قتل أخيه أي: رخصت وسهلت له نفسه. والتصريح بأخوته لكمال تقبيح ما سولته نفسه. أي: الذي حقه أن يحفظه من كل من قصده بالسوء بالتحمل على نفسه: فقتله فأصبح من الخاسرين دينا، إذ صار كافرا حاملا للدماء إلى يوم القيامة. ودنيا، إذ صار مطرودا مبغضا للخلائق.

    وقد أخرج الجماعة - غير أبي داود - عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها. لأنه كان أول من سن القتل» . انتهى.

    ولما قتله لم يدر ما يصنع له من إفراط حيرته.
    [ ص: 1947 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [31] فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين

    فبعث أي: أرسل: الله غرابا فجاء: يبحث أي: يحفر بمنقاره ورجله متعمقا: في الأرض

    قال القتيبي: هذا من الاختصار. ومعناه: بعث غرابا يبحث التراب على ميت. وكذا رواه السدي عن الصحابة; أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا. فقتل أحدهما الآخر. فحفر له. ثم حثى عليه حثيا.

    ليريه الضمير المستكن إما لله تعالى أو للغراب. والظاهر، للقاتل أخاه: كيف يواري أي: يستر في التراب: سوءة أخيه أي: جسده الميت. وسمي سوأة لأنه مما يسوء ناظره: قال يا ويلتا كلمة جزع وتحسر، والألف فيها بدل من ياء المتكلم. والويل والويلة الهلكة: أعجزت أي: أضعفت عن الحيلة: أن أكون مثل هذا الغراب أي: الذي هو من أخس الحيوانات. والاستفهام للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب: فأواري أي: أغطي: سوءة أخي فأصبح أي: صار: من النادمين أي: على حيرته في مواراته حيث لم يدفنه حين قتله. فصار أجهل من الحيوانات العجم وأضل منها وأدنى.

    وفي " التنوير ": ولم يكن نادما على قتله.

    وقال أبو الليث عن ابن عباس: لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه.

    [ ص: 1948 ] تنبيهات:

    الأول: ظاهر الآية أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، وأنه تعلم ذلك من الغراب. ولا مانع من ذلك. إذ مثله مما يجوز خفاؤه. لاسيما والعالم، في أول طور النشأة، وأنه أول قتيل، فيكون أول ميت.

    ونقل الرازي احتمال أن يكون عالما بكيفية دفنه، قال: فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافا به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر، رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه. فواراه تحت الأرض، والله أعلم.

    الثاني: في الآية دلالة على أن الندم، إذا لم يكن لقبح المعصية، لم يكن توبة. قال الرازي: ندم على قساوة قلبه وكونه دون الغراب في الرحمة. فكان ندمه لذلك، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم.

    الثالث: الآية أصل في دفن الميت.

    الرابع: قال ابن جرير: زعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل، قال له الله: يا قابيل! أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري. ما كنت عليه رقيبا. فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض، الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك. فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها، حتى تكون فزعا تائها في الأرض. انتهى.

    الخامس: روى ابن جرير بسنده عن علي بن أبي طالب قال: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال:

    [ ص: 1949 ]
    تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح

    تغير كل ذي لون وطعم
    وقل بشاشة الوجه المليح


    فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام:


    أبا هابيل! قد قتلا جميعا وصار الحي كالميت الذبيح


    وجاء بشرة قد كان منها على خوف، فجاء بها يصيح


    أقول: قد اشتهر البيتان الأولان. وقد فند نسبتهما إلى آدم غير واحد.

    قال الزمخشري: روي أن آدم رثاه بشعر. وهو كذب بحت. وما الشعر إلا منحول ملحون. وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. انتهى.

    قال الشراح: (المليح) في النظم المذكور، إن رفع فخطأ. لأنه صفة الوجه المجرور، وإن خفض فإقواء وهو عيب قبيح، وإن كثر. وقول من قال (الوجه فاعل قل. وبشاشة منصوب على التمييز بحذف التنوين، إجراء للوصل مجرى الوقف) ألحن، وقيل: إن آدم عليه الصلاة والسلام رثاه بكلام منثور بالسرياني. فلم يزل ينقل إلى أن وصل إلى يعرب بن قحطان - وهو أول من خط بالعربية - فقدم وأخر وجعله شعرا عربيا. انتهى.

    قال الخفاجي. لا شك أن لوائح الوضع عليه رائحة لركاكته، لكن ما استصعبوه من الإقواء، وترك التنوين، ليس بصعب، لما في أشعار الجاهلية والشعراء من أمثاله. مع أنه قد يخرج بأنه نعت جرى على المحل. لأن الوجه فاعل المصدر، وهو (بشاشة).

    السادس: حكمة تخصيص الغراب كون الغراب دأبه المواراة.

    قال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء. فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم ذلك منه. انتهى.

    والغراب هو الطائر الأسود المعروف. وقسموه إلى أنواع. وفي الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم غير اسم غراب لما فيه من البعد. ولأنه من أخبث الطيور. والعرب تقول: أبصر من غراب، [ ص: 1950 ] وأحذر من غراب، وأزهى من غراب، وأصفى عيشا من غراب، وأشد سوادا من غراب، وهذا بأبيه أشبه من الغراب بالغراب. وإذا نعتوا أرضا بالخصب قالوا: وقع في أرض لا يطير غرابها. ويقولون: وجد تمرة الغراب، وذلك أنه يتبع أجود التمر فينتقيه. ويقولون: أشأم من غراب وأفسق من غراب. ويقولون: طار غراب فلان، إذا شاب رأسه.

    وغراب غارب على المبالغة. كما قالوا: شعر شاعر، وموت مائت. قال رؤبة:


    فازجر من الطير الغراب الغاربا


    قالوا: وليس شيء في الأرض يتشاءم به إلا والغراب أشأم منه. وللبديع الهمذاني فصل بديع في وصفه. ذكره في "المضاف والمنسوب" وأورد ما يضاف إليه الغراب ويضاف إلى الغراب. والأبيات في غراب البين كثيرة، ملئت بها الدفاتر.

    وحقق الإمام أبو عبد الله الشريف الغرناطي - قاضي غرناطة - في شرحه على "مقصورة حازم" أن غراب البين في الحقيقة هو الإبل التي تنقلهم من بلاد إلى بلاد.

    وأنشد في ذلك مقاطيع. منها:


    غلط الذين رأيتهم بجهالة يلحون كلهم غرابا ينعق


    ما الذنب إلا للأباعر إنها مما يشتت جمعهم ويفرق


    إن الغراب بيمنه تدنو النوى وتشتت الشمل الجميع الأينق


    [ ص: 1951 ] وأنشد ابن المنساوي لابن عبد ربه:


    زعق الغراب فقلت: أكذب طائر إن لم يصدقه رغاء بعير


    كذا في "تاج العروس" شرح القاموس.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [32] من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون

    من أجل ذلك أي: بسبب قتل قابيل هابيل ظلما: كتبنا أي: فرضنا وأوحينا: على بني إسرائيل وإنما خصوا بالذكر لأنهم أول من تعبدوا بذلك. وقوله تعالى: أنه من قتل نفسا بغير نفس أي: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص: أو فساد في الأرض أي: أو بغير فساد يوجب إهدار دمها - كالكفر مع الحراب، والارتداد، وقطع الطريق الآتي بعد، وزنا المحصن -: فكأنما قتل الناس جميعا أي: من حيث هتك حرمة الدماء، وسن القتل، وجرأ الناس عليه. أو من حيث إن قتل الواحد وقتل الجميع سواء، في استجلاب غضب الله تعالى والعذاب العظيم: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا أي: ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة. فكأنما فعل ذلك بالناس جميعا.

    والمقصود منه: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيبا عن التعرض لها، وترغيبا في المحاماة عليها: أفاده البيضاوي.

    وقال أبو مسلم في معنى الآية: من قتل وجب على المؤمنين معاداته. وأن يكونوا [ ص: 1952 ] خصومه، كما لو قتلهم جميعا. لأن المسلمين يد واحدة على من سواهم. ومن أحيا وجب موالاته عليهم، كما لو أحياهم. انتهى.

    وقيل للحسن البصري: هذه الآية لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إي والذي لا إله غيره كما كانت لهم. وما جعل دماءهم أكرم من دمائنا.

    أقول: القاعدة في ذلك; أن جميع ما يحكى في القرآن من شرائع الأولين وأحكامهم، ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه، فهو حق. وقد أوضح ذلك الإمام الشاطبي في "الموافقات" فانظره فإنه مهم. وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: جئت لأنصرك. وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين! فقال: يا أبا هريرة! أيسرك أن تقتل الناس جميعا إياي معهم؟ قلت: لا! فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا، فانصرف مأذونا لك، مأجورا غير مأزور. قال: فانصرفت ولم أقاتل.

    وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: «جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! اجعلني على شيء أعيش به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حمزة! نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها؟ قال: بل نفس أحييها. قال: عليك بنفسك» .

    [ ص: 1953 ] ولقد جاءتهم يعني: بني إسرائيل: رسلنا بالبينات أي: الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم، تأكيدا لوجوب مراعاته، وتأييدا لتحتم المحافظة عليه ثم إن كثيرا منهم أي: من بني إسرائيل: بعد ذلك أي: بعد ما كتبنا عليهم، وبعد مجيء الرسل بالآيات والزجر المسموع منهم: لمسرفون يعني: بالفساد والقتل. لا يبالون بعظمة ذلك.

    قال ابن كثير: هذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها. كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع، ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج، إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فدوا من أسروه، وودوا من قتلوه. وقد أنكر الله تعالى عليهم ذلك في (سورة البقرة) حيث يقول: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم الآيات.

    وقال الرازي: المقصود من شرح هذه المبالغة - يعني قوله تعالى: فكأنما قتل الآية. - أن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل، وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى. ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم في الواقعة التي ذكرنا أنهم عزموا [ ص: 1954 ] على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأكابر أصحابه - كان تخصيص بني إسرائيل في هذه القصة، في هذه المبالغة العظيمة، مناسبا للكلام ومؤكدا للمقصود. ولما ذكر الله تعالى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس ولا فساد - أتبعه ببيان الفساد المبيح للقتل بقوله سبحانه:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [33] إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم

    إنما جزاء أي: مكافأة: الذين يحاربون الله ورسوله أي: يخالفونهما ويعصون أمرهما: ويسعون في الأرض فسادا أي: يعملون في الأرض بالمعاصي وهو القتل وأخذ المال ظلما: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أي: أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى: أو ينفوا من الأرض أي: يطردوا منها وينحوا عنها. وهو التغريب عن المدن، فلا يقرون فيها: ذلك أي: الجزاء المذكور: لهم خزي ذل وفضيحة: في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم وهو عذاب النار.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [34] إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم

    إلا الذين تابوا أي: من المحاربين: من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم

    [ ص: 1955 ] وفي هذه الآية مسائل:

    الأولى - روى ابن جرير وأبو داود والنسائي عن ابن عباس، أنها نزلت في المشركين. وروى ابن جرير عن أبي، أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. وظاهر أنها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات. كما روى الشيخان وأهل السنن وابن مردويه وهذا لفظه: عن أنس بن مالك; أن ناسا من عرينة قدموا المدينة فاجتووها. فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ففعلوا فصحوا، فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي وساقوا الإبل. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم وألقاهم في الحرة. قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا، حتى ماتوا. ونزلت: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية. ولمسلم عن أنس قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 1956 ] أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء. وعند البخاري: قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وبعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.

    الثانية - زعم بعضهم أن الآية نزلت نسخا لعقوبة العرنيين المتقدمة.

    قال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد: ما كان سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا. فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك وعلمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو - يعني الأوزاعي - فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بلى. كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم. ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم. فرفع عنهم السمل. وروى ابن جرير أيضا في القصة عن سعيد بن جبير قال: فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد، قال: [ ص: 1957 ] ونهى عن المثلة، قال: «لا تمثلوا بشيء.» والنهي عن المثلة مروي في الصحيح والسنن.

    الثالثة - احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء، في ذهابهم إلى أن المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء. لقوله: ويسعون في الأرض فسادا وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال. فقد قيل: إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المنتهب. لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس. وقال الأكثرون: إن حكم من في البنيان والصحراء واحد، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء. لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه غالبا إلا بعض ماله; وهذا هو الصواب.

    حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتا فيقتله ويأخذ ما معه: إن هذه محاربة. ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول. ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #297
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1958 الى صـ 1976
    الحلقة (297)



    [ ص: 1958 ] وإنما كان ذلك محاربة، لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة، كلاهما لا يمكن الاحتراز منه، بل قد يكون ضرر هذا أشد، لأنه لا يدري به.

    وقيل: إن المحارب هو المجاهر بالقتال، وإن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي أمر الدم. والأول أشبه بأصول الشريعة.

    الرابعة - ظاهر الآية: أن عقوبة المحاربين المفسدين أحد هذه الأنواع. فيفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحا. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس، في الآية: من شهر السلاح في قبة الإسلام، وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله. وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء [ ص: 1959 ] والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك. كما رواه ابن جرير، وحكي مثله عن أنس.

    قال ابن كثير: ومستند هذا القول ظاهر. وللتخيير نظائر من القرآن. كقوله في جزاء الصيد: فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما وقوله في كفارة الترفه: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وقوله في كفارة اليمين: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة وهذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال [ ص: 1960 ] الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال.

    أخرج الشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض. وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن عطية عن ابن عباس بنحوه، وعن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء الخراساني نحو ذلك. وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة انتهى.

    وفي "النهاية" من فقه الزيدية: يرجع في المحارب إلى رأي الإمام، فإن كان له رأي قتله أو صلبه - لأن القطع لا يدفع المضرة - وإن كان لا رأي له لكنه ذو قوة قطعه من خلاف، وإن عدم القوة والرأي ضرب ونفي; وهذا معنى التخيير بين هذه الأمور، أنه يرجع إلى اجتهاد الإمام، على ما ذكر. انتهى.

    ورأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية فصلا مهما في المحاربين في كتابه "السياسة الشرعية" وقد مثلهم بقطاع الطريق الذين يعترضون الناس بالسلاح في الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرة، من الأعراب أو التركمان أو الأكراد أو الفلاحين أو فسقة الجند أو مردة الحاضرة أو غيرهم. ثم ساق رواية الشافعي المتقدمة عن ابن عباس وقال:

    هذا قول كثير من أهل العلم - كالشافعي وأحمد رضي الله عنهما - وهو قريب من قول أبي حنيفة - رحمه الله - ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله [ ص: 1961 ] مصلحة فيهم وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيهم. ويقطع من رأى قطعه مصلحة وإن كان لم يأخذ المال. مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال. كما أن منهم من يرى أنه إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا. والأول قول الأكثر. فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال، بإجماع العلماء. ذكره ابن المنذر. ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول. بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما، أو لخصومة، أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة. فإن هذا دمه لأولياء المقتول. إن أحبوا قتلوا. وإن أحبوا عفوا. وإن أحبوا أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص. وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس، فضررهم عام بمنزلة السراق. فكان قتلهم حد الله. وهذا متفق عليه بين الفقهاء. حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل. مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا، أو القاتل مسلما والمقتول ذميا أو مستأمنا. فقد اختلف الفقهاء: هل يقتل في المحاربة؟ والأقوى أنه يقتل للفساد العام حدا، كما يقطع إذا أخذ أموالهم. وكما يحبس بحقوقهم. وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة، فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له، فقد قيل: إنه يقتل المباشر فقط. والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة. والردء والمباشر سواء. وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين. فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل ربيئة المحاربين. والربيئة هو الناظور الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء.

    ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته. والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض، حتى صاروا ممتنعين، فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ويرد [ ص: 1962 ] متسريهم على قاعدتهم» . يعني: أن جيش المسلمين إذا تسرت منه سرية فغنمت مالا، فإن الجيش يشاركها فيما غنمت، لأنها بظهره وقوته تمكنت. لكن تنفل عنه نفلا. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل السرية، إذا كانوا في بدايتهم، الربع بعد الخمس. فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرت سرية، نفلهم الثلث بعد الخمس. وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية؛ لأنها في مصلحة الجيش. كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة والزبير يوم بدر، لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش. فأعوان الطائفة المتمنعة وأنصارها منها، فيما لهم وعليهم. وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه، مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية. كقيس ويمن ونحوهما، هما ظالمتان. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» . قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه أراد قتل صاحبه» . أخرجاه في "الصحيحين" وتضمن كل طائفة ما أتلفته الأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل. لأن الطائفة الواحدة المتمنع بعضها ببعض كالشخص الواحد. وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا - كما قد يفعله الأعراب كثيرا - فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء. كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. وهذا معنى قوله تعالى: أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف تقطع اليد التي يبطش بها، والرجل التي يمشي عليها، وتحسم يده ورجله [ ص: 1963 ] بالزيت المغلي ونحوه، لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه. وكذا تحسم يد السارق بالزيت. وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل. فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم، إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل، ذكروا بذلك جرمه، فارتدعوا. بخلاف القتل، فإنه قد ينسى. وقد يؤثر في بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف. فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله. وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا، ثم أغمدوه أو هربوا، وتركوا الحراب، فإنهم ينفون. فقيل (نفيهم) تشريدهم. فلا يتركون يأوون في بلد. وقيل: هو حبسهم. وقيل: هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو ذلك. والقتل المشروع ضرب الرقبة بالسيف ونحوه. لأن ذلك أوحى (أي: أسرع) أنواع القتل. وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة. وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح. وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» . رواه مسلم. وقال: «إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان» . وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم، وهو بعد القتل، عند جمهور العلماء. ومنهم من قال: يصلبون ثم يقتلون وهم مصلوبون. وقد جوز بعض الفقهاء قتلهم بغير السيف حتى قال: يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل.

    الخامسة: تتمة الآية. أعني قوله تعالى: ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم تدل على أن المحاربين يعاقبون في الدنيا والآخرة مطلقا. ولا يكون الحد المذكور طهرة لهم، ولو كانوا مسلمين.

    [ ص: 1964 ] قال السيوطي في "الإكليل": قال ابن الفرس: ظاهره أن عقوبة المحارب لا تكون كفارة له، كما تكون في سائر الحدود.

    وقال العارف الشعراني في "ميزانه": سمعت شيخنا، شيخ الإسلام زكريا رحمه الله يقول: لم يرد لنا أن أحدا يؤخذ بذنبه في الدنيا والآخرة معا، إلا المحاربين، لقوله تعالى: ذلك لهم خزي الآية.

    وقال ابن كثير: هذا يرجح رواية نزولها في المشركين. فأما أهل الإسلام ففي "صحيح مسلم" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخذ على النساء، ألا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يعضه بعضنا بعضا. فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى، ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارته، ومن ستره الله فأمره إلى الله. إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

    السادسة: دل قوله تعالى: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم على أن توبة المحاربين، قبل الظفر بهم، تسقط عنهم حد المحاربين المذكور في الآية. سواء كانوا مشركين أو مسلمين. وهو مروي عن علي وأبي هريرة والسدي وغيره. وقد قال الهادي: إذا تاب المحارب قبل الظفر به، سقط عنه كل تبعة من قتل أو دين، لعموم الآية.

    قال ابن كثير: أما على قول من قال: إنها في أهل الشرك فظاهر. أي: فإنهم إذا آمنوا قبل القدرة عليهم، سقط عنهم جميع الحدود المذكورة. فلا يطالبون بشيء مما أصابوا من مال أو دم. قال أبو إسحاق: جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم، ليكون ذلك داعيا لهم إلى الدخول في الإسلام. وأما المحاربون المسلمون، فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم تحتم القتل والصلب وقطع الرجل. وهل يسقط قطع اليد؟ فيه قولان للعلماء. وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة [ ص: 1965 ] كما روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة - وكان قد أفسد في الأرض وحارب - فكلم رجالا من قريش منهم: الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر؛ فكلموا عليا فيه فلم يؤمنه. فأتى سعيد بن قيس الهمداني، فخلفه في داره ثم أتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين! أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا - فقرأ حتى بلغ: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فقال: اكتب له أمانا. قال سعيد بن قيس: فإنه جارية بن بدر. وكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن مجالد عن الشعبي، فقال حارثة بن بدر:


    ألا أبلغا همدان إما لقيتها على النأي لا يسلم عدو يعيبها

    لعمر أبيها إن همدان تتقي الـ
    إله ويقضي بالكتاب خطيبها


    وروى ابن جرير - من طريق سفيان الثوري عن السدي، ومن طريق أشعث - كلاهما. عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى - وهو على الكوفة في إمرة عثمان رضي الله عنه - بعد ما صلى المكتوبة فقال: يا أبا موسى! هذا مقام العائذ بك. أنا فلان بن فلان المرادي. كنت حاربت الله ورسوله، وسعيت في الأرض فسادا، وإني تبت من قبل أن تقدروا علي. فقام أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان. وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا، وإنه تاب من قبل أن يقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير، (فإن يك صادقا فسبيل من صدق. وإن يك كاذبا تدركه ذنوبه). فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج فأدركه الله بذنوبه فقتله. ثم قال ابن جرير: حدثني علي، حدثنا الوليد بن مسلم، قال: قال الليث. وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني، وهو الآمر عندنا، [ ص: 1966 ] أن عليا الأسدي حارب وأخاف السبيل، وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة، فامتنع ولم يقدر عليه حتى جاء تائبا، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم فوقف عليه فقال: يا عبد الله! أعد قراءتها. فأعادها عليه. فغمد سيفه ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السحر. فاغتسل. ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصلى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه. فلما أسفر عرفه الناس فقاموا إليه. فقال أبو هريرة: صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم - في إمرته على المدينة في زمن معاوية - فقال: هذا علي جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال: فترك من ذلك كله. قال: وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر. فلقوا الروم. فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم. فاقتحم على الروم في سفينتهم. فهزموا منه إلى سفينتهم الأخرى. فمالت بهم وبه. فغرقوا جميعا.

    هذا، وفي تفسير بعض الزيدية - نقلا عن زيد والنفس الزكية والمؤيد بالله وأبي حنيفة ومالك والشافعي - أن توبة المحارب تسقط الحدود لله، دون حقوق بني آدم من قتل أو مال، لقوله تعالى: كتب عليكم القصاص في القتلى وقوله: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس [ ص: 1967 ] وقوله تعالى: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا وقوله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى ترد» ، وقوله عليه الصلاة والسلام «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» . قال في "شرح الإبانة": وروى زيد بن علي بإسناده إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام; أن قاطع الطريق، إذا تاب قبل أن يؤخذ وظفر به الإمام. ضمن المال واقتص منه. ثم قال: أما الكافر فلا خلاف أن توبته تسقط عنه جميع الحدود. انتهى.

    وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل.

    وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله.
    [ ص: 1968 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [35] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون

    يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا - أي اطلبوا -: إليه الوسيلة أي: القربة - كذا فسره ابن عباس ومجاهد وأبو وائل والحسن وزيد وعطاء والثوري وغير واحد. وقال قتادة: أي: تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه. وقرأ ابن زيد: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة . قال ابن كثير: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة، لا خلاف بين المفسرين فيه. وفي "القاموس وشرحه": الوسيلة والواسلة: المنزلة عند الملك والدرجة والقربة والوصلة. وقال الجوهري: الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير. والتوسيل والتوسل الواحد. يقال: وسل إلى الله تعالى توسيلا، عمل عملا تقرب به إليه، كتوسل. و (إلى) يجوز أن يتعلق ب (ابتغوا) وأن يتعلق ب (الوسيلة).

    قدم عليها للاهتمام به: وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون أي: بسبب المجاهدة في سبيله. وقد بين كثير من الآيات أن المجاهدة بالأموال والأنفس.

    تنبيه:

    ما ذكرناه في تفسير "الوسيلة" هو المعول عليه. وقد أوضحه إيضاحا لا مزيد عليه، تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة في "كتاب الوسيلة" فرأينا نقل شذرة منه؛ إذ لا غنى للمحقق في علم التفسير عنه.

    قال رحمه الله بعد مقدمات:

    إن لفظ الوسيلة والتوسل، فيه إجمال واشتباه، يجب أن تعرف معانيه ويعطى كل ذي حق حقه. فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه. وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك. ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه. فإن كثيرا من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، [ ص: 1969 ] حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب. فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وفي قوله تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه، هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات، فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك، سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا، فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب واستحباب. وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول. فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها، هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك.

    والثاني - لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله. وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة» . وقوله: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة» . فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 1970 ] خاصة. وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة. وأخبرنا أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله. وهو يرجو أن يكون ذلك العبد، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول صلى الله عليه وسلم. وأخبرنا أن من سأل له الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة. لأن الجزاء من جنس العمل. فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم. فإن الشفاعة نوع من الدعاء. كما قال: إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا. وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة، فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته. والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به. كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين. ومن يعتقدون فيه الصلاح. وحينئذ، فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين. ويراد به معنى ثالث لم ترد به السنة. فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء، فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته. والثاني: دعاؤه وشفاعته كما تقدم. فهذان جائزان بإجماع المسلمين. ومن هذا قول عمر بن الخطاب: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. أي: بدعائه وشفاعته. وقوله تعالى: وابتغوا إليه الوسيلة أي: القربة إليه بطاعته. وطاعة رسوله طاعته; قال تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين. وأما التوسل بدعائه وشفاعته - كما قال عمر - فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس، [ ص: 1971 ] ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس. فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس، علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته. بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له، فإنه مشروع دائما.

    فلفظ التوسل يراد به ثلاث معان:

    أحدهما: التوسل بطاعته. فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.

    والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته وهذا كان في حياته، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته.

    والثالث: التوسل به. بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته. فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته ولا في مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم. وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة. أو عن من ليس قوله حجة، وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا يجوز. ونهوا عنه حيث قالوا: لا يسأل بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك. قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى ب "شرح الكرخي" في باب الكراهة: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة. قال بشر بن الوليد: حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو إلا به. وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك. وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشه هو الله. فلا أكره هذا. وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام. قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز. لأنه لاحق للخلق على الخالق. فلا تجوز وفاقا.

    وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه - من أن الله لا يسأل بمخلوق - له معنيان: أحدهما هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى. وهذا بخلاف [ ص: 1972 ] إقسامه سبحانه بمخلوقاته: ك: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والشمس وضحاها والنازعات غرقا والصافات صفا - فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته، ما يحسن معه إقسامه. بخلاف المخلوق، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها. كما في "السنن" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك» . وقد صححه الترمذي وغيره. وفي لفظ: «فقد كفر» . وقد صححه الحاكم. وقد ثبت عنه في "الصحيحين" أنه قال: «من كان حالفا فليحلف بالله. وقال: لا تحلفوا بآبائكم فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» . وفي "الصحيحين" عنه أنه [ ص: 1973 ] قال: «من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله» . وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة، أو بما يعتقد هو حرمته - كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين وسراويل الفتوة وغير ذلك... - لا ينعقد يمينه، ولا كفارة في الحنث بذلك. والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد. وقد حكى إجماع الصحابة على ذلك. انتهى.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [36] إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم

    إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض

    من الأموال وغيرها: جميعا ومثله معه ليفتدوا به أي: ليفادوا به أنفسهم: من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم، وإنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه.

    [ ص: 1974 ] وقد روى البخاري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك: أن لا تشرك بي. فيؤمر به إلى النار» . ورواه مسلم وغيره بنحوه.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [37] يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم

    يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم دائم لا ينقطع. وهذا كما قال تعالى: كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها الآية.

    روى ابن مردويه عن يزيد بن صهيب الفقير، عن جابر بن عبد الله. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة» . قال: فقلت لجابر بن عبد الله، يقول الله: يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها قال: اتل أول الآية: إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به الآية. ألا إنهم الذين كفروا. [ ص: 1975 ] وقد روى الإمام أحمد ومسلم هذا الحديث من وجه آخر. عن يزيد الفقير عن جابر وهذا أبسط سياقا.

    [ ص: 1976 ] زاد ابن أبي حاتم: قال جابر: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قد جمعته قال: أليس الله يقول: ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ؟ فهو ذلك المقام، فإن الله تعالى يحبس أقواما بخطاياهم في النار ما شاء، لا يكلمهم، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم.

    ولما أوجب تعالى - في الآية المتقدمة - قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة - بين أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضا، فقال سبحانه:


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #298
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1977 الى صـ 1990
    الحلقة (298)



    القول في تأويل قوله تعالى:

    [38] والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم

    والسارق أي: من الرجال: والسارقة أي: من النساء: فاقطعوا أيديهما يعني يمين كل منهما، والمقطع الرسغ، كما بينته السنة: جزاء بما كسبا أي: يقطع الآلة الكاسبة: نكالا أي: عقوبة: من الله أي: على فعل السرقة المنهي عنه من جهته تعالى، لا في مقابلة إتلاف المال، فإنه غير السرقة. فلذلك لا يسقط بعفو المالك، بخلاف العفو عن المال. ولا يبالي فيه بعزة السارق، لأنه تعالى غالب على أمره يمضيه كيف يشاء، كما قال: والله عزيز أي: فلا يبالي - مع عزته الموجبة لامتثال أمره - عزة من دونه: حكيم في شرائعه، فيختل أمر نظام العالم بمخالفة أمره، إذ فيه نفع عام للخلائق.

    [ ص: 1977 ] وفي الآية مسائل:

    الأولى - قال أبو السعود: لما كانت السرقة معهودة من النساء كالرجال، صرح بالسارقة أيضا، مع أن المعهود في الكتاب والسنة إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال بطريقة الدلالة. لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر. انتهى.

    ولما كانت غلبة السرقة في الرجال، لقوتهم بدأ بالسارق. كما أن غلبة الزنى لما كانت في النساء لفرط شهوتهن - قال في آية الزنى: الزانية والزاني

    الثانية: - قال ابن كثير: روى الثوري بسنده إلى ابن مسعود، أنه كان يقرؤها: والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما. وهذه قراءة شاذة. وكان الحكم عند جميع العلماء موافقا لها لا بها، بل هو مستفاد من دليل آخر; وقد كان القطع معمولا به في الجاهلية فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى. كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه، وزيادات هي من تمام المصالح، ويقال: إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش، قطعوا رجلا يقال له (دويك) مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة، كان قد سرق كنز الكعبة، ويقال: سرقه قوم فوضعوه عنده.

    الثالثة: ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به، سواء كان قليلا أو كثيرا، لعموم هذه الآية: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما فلم يعتبروا نصابا ولا حرزا. بل أخذوا بمجرد السرقة.

    وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما أخاص أم عام؟ فقال: بل عام. وهذا يحتمل أن يكون موافقة لابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء، ويحتمل ذلك، فالله أعلم.

    [ ص: 1978 ] وتمسكوا بما ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» .

    وأما الجمهور فاعتبروا النصاب، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره.

    فعند الإمام مالك: النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة. فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه، وجب القطع. واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم. أخرجاه في "الصحيحين" قال مالك رحمه الله: وقطع عثمان رضي الله عنه في أترجة قومت بثلاثة دراهم. وهو أحب ما سمعت في ذلك.

    قال أصحاب مالك: ومثل هذا الصنيع يشتهر ولم ينكر. فمن مثله يحكى الإجماع السكوتي. وفيه دلالة على القطع في الثمار، خلافا للحنفية، وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم، وللشافعية في اعتبار ربع دينار، والله أعلم.

    وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار، أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدا، والحجة في ذلك ما أخرجه الشيخان من طريق الزهري عن عمرة عن عائشة [ ص: 1979 ] رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» . ولمسلم عنها أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا» . قال الشافعية: هذا الحديث فاصل في المسألة، ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما سواه. قالوا: وحديث ثمن المجن، وإن كان ثلاثة دراهم، لا ينافي هذا؛ لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهما. فهي ثمن ربع دينار فأمكن الجمع بهذا الطريق. ويروى هذا المذهب عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وبه يقول عمر بن عبد العزيز والليث والأوزاعي وإسحاق (في رواية عنه) وأبو ثور وداود الظاهري، رحمهم الله.

    وذهب الإمام أحمد وإسحاق (في رواية) إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد شرعي. فمن سرق واحدا منهما أو ما يساويه قطع، عملا بحديث ابن عمر وبحديث عائشة. ووقع في لفظ عند الإمام أحمد عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك. وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهما. وفي لفظ للنسائي: لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن. قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار. فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم، والله أعلم.

    وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه، وكذا سفيان الثوري، فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة. واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ثمنه عشرة دراهم، وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا ابن نمير وعبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: [ ص: 1980 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن» .

    وكان ثمن المجن عشرة دراهم. قالوا: فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن. فالاحتياط الأخذ بالأكثر، لأن الحدود تدرأ بالشبهات.

    وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما بلغ قيمة واحد منهما. يحكى هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي وأبي جعفر الباقر، رحمهم الله تعالى.

    وقال بعض السلف: لا تقطع الخمس إلا في خمس. أي: في خمسة دنانير أو خمسين درهما. وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله.

    وقد أجاب الجمهور - عما تمسك بها الظاهرية من حديث أبي هريرة: يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده - بأجوبة:

    أحدها - أنه منسوخ بحديث عائشة. وفي هذا نظر؛ لأنه لا بد من بيان التاريخ.

    والثاني - أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن. قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه.

    والثالث: - أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده. ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية حيث كانوا يقطعون في الكثير والقليل. فلعن السارق يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة.

    وقد ذكروا أن أبا العلاء المعري، لما قدم بغداد، اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار في ذلك شعرا فقال:


    يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار؟


    [ ص: 1981 ] وقد أجابه الناس في ذلك; فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله أنه قال: لما كانت أمنية، كانت ثمينة. ولما خانت هانت، ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة. فإن في باب الجنايات، ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار، لئلا يجنى عليها. وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب، ولهذا قال: جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم أي: مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك. كذا في تفسير ابن كثير.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس سره في كتابه "السياسة الشرعية": وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع. قال الله تعالى: والسارق والسارقة الآية.. ولا يجوز بعد ثبوت الحد عليه بالبينة أو الإقرار، تأخيره. لا بحبس ولا مال يفتدي به ولا غيره. بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها. فإن إقامة الحدود من العبادات كالجهاد في سبيل الله. وينبغي أن يعرف أن إقامة الحد رحمة من الله بعباده. فيكون الوالي شديدا في إقامة الحد، لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات، لا إشفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق. بل بمنزلة الوالد إذا أدب ولده. فإنه لو كف عن تأديب ولده، كما تستر به الأم رقة ورأفة، لفسد الولد. وإنما يؤدبه رحمة وإصلاحا بحاله. مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب. وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه. وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم وقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك. بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه، وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة. فكذلك شرعت الحدود. وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها، فإن من كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات، بجلب المنفعة لهم ورفع المضرة عنهم وابتغائه بذلك وجه [ ص: 1982 ] الله تعالى وطاعة أمره - ألان الله له القلوب وتيسرت له أسباب الخير. وكفاه العقوبة اليسيرة. وقد يرضى المحدود إذا قام عليه الحد. وأما إذ كان غرضه العلو عليهم وإقامة بأسه ليعطوه أو ليبذلوا له ما يريد من الأموال - انعكس عليه مقصوده.

    ويروى أن عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، قبل أن يلي الخلافة كان نائبا للوليد بن عبد الملك على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد ساسهم سياسة صالحة، فقدم الحجاج من العراق وقد سامهم سوء العذاب، فسأل أهل المدينة عن عمر: كيف هيبته فيكم؟ قالوا: ما نستطيع أن ننظر إليه هيبة له! قال: كيف محبتكم له؟ قالوا: هو أحب إلينا من أهلنا! قال كيف أدبه؟ قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة... قال: هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه! هذا أمر من السماء.

    وإذا قطعت يده حسمت، ويستحب أن تعلق في عنقه. فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى. فإن سرق ثالثا أو رابعا، ففيه قولان للصحابة ومن بعدهم من العلماء:

    أحدهما: تقطع أربعته في الثلاثة والرابعة، وهو قول أبي بكر، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه، والكوفيين وأحمد في إحدى الروايتين.

    والثاني: أنه يحبس. وهو قول علي رضي الله عنه والكوفيين وأحمد في روايته الأخرى. وتتمة مباحث السرقة مقررة في كتب السنة.

    الرابعة: قرأ الجمهور برفع (السارق والسارقة) على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: وفيما يتلى عليكم - أو فرض عليكم - السارق والسارقة، أي: حكمهما، أو الخبر قوله تعالى: فاقطعوا أيديهما والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط. إذ المعنى: الذي سرق والتي سرقت. وقرأ عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة الرفع؛ لأن الإنشاء لا يقع خبرا إلا بتأويل وإضمار، كذا اشتهر عن سيبويه.

    قال الناصر في "الانتصاف": المستقرأ من وجوه القراءات أن العامة لا تتفق فيها أبدا [ ص: 1983 ] على العدول عن الأفصح.

    وجدير بالقرآن أن يجري على أفصح الوجه، وأن لا يخلو من الأفصح، وما يشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل أحد إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها. وسيبويه يحاشي من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح واشتماله على الشاذ الذي لا يعد من القرآن. ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل. قال سيبويه في ترجمة "باب الأمر والنهي" بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب: وملخصها أنه متى بني الاسم على فعل الأمر، فذلك موضع اختيار النصب. ثم قال كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار فيها النصب: وأما قوله عز وجل: والسارق والسارقة الآية. وقوله: الزانية والزاني فاجلدوا فإن هذا لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثال قوله: مثل الجنة التي وعد المتقون ثم قال بعد: فيها كذا وكذا. يريد سيبويه تمييز هذه الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها. ووجه التمييز بأن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل. وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه. فلا يلزم فيه اختيار النصب.

    عاد كلامه قال: وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكره بعده. فذكر أخبارا وقصصا. فكأنه قال: ومن القصص: مثل الجنة. فهو محمول على هذا الإضمار. والله أعلم. وكذلك: [ ص: 1984 ] الزانية والزاني لما قال جل ثناؤه: سورة أنـزلناها وفرضناها قال في جملة الفرائض: الزانية والزاني - ثم جاء -: فاجلدوا . بعد أن مضى فيهما الرفع، يريد سيبويه: لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور بعد، بل بني على محذوف متقدم وجاء الفعل طارئا.

    عاد كلامه قال: كما جاء: وقائلة خولان فانكح فتاتهم. فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر; وكذلك: والسارق والسارقة وفيما فرض عليكم السارقة والسارق. فإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث. وقد قرأ ناس: والسارق والسارقة. بالنصب، وهو في العربية ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا الرفع.

    يريد سيبويه أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل غير معتمد على متقدم، فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع، حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم. وليس يعني أنه قوي بالنسبة إلى الرفع، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه من الباب الذي يختار فيه النصب، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه، والباب مع القراءتين مختلف؟ وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب. فالنصب أرجح من الرفع حيث ينبني الاسم على الفعل. والرفع متعين (لا أقول: أرجح) حيث بني الاسم على كلام متقدم.

    ثم حقق سيبويه هذا المقدر بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار. ولو كان كما ظنه الزمخشري، لم يحتج سيبويه إلى تقدير بل كان يرفعه على الابتداء، ويجعل الأمر خبره، فالملخص على هذا: أن النصب على وجه واحد، وهو بناء الاسم على فعل الأمر. والرفع على وجهين: أحدهما ضعيف؛ وهو الابتداء وبناء الكلام على الفعل. والآخر قوي بالغ كوجه النصب - وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق. وحيثما تعارض لنا وجهان [ ص: 1985 ] في الرفع، أحدهما قوي والآخر ضعيف، تعين حمل القراءة على القوي كما أعربه سيبويه رضي الله عنه. والله أعلم. انتهى.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [39] فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم

    فمن تاب أي: رجع من السراق إلى الله: من بعد ظلمه أي: سرقته: وأصلح أي: عمله: فإن الله يتوب عليه أي: يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة: إن الله غفور رحيم أي: مبالغ في المغفرة ولذلك يقبل توبته. وهو تعليل لما قبله.

    قال أبو السعود: وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم وتأييد استقلال الجملة.

    وكذا في قوله عز وجل:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [40] ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير

    ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض فإن عنوان الألوهية مدار أحكام ملكوتهما. والاستفهام لتقرير العلم. والمراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى على ما سيأتي من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه. أي: ألم تعلم أن له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما: يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء وتقديم التعذيب لأن السياق للوعيد. فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الزواجر: والله على كل شيء قدير ومنه التعذيب والمغفرة.

    [ ص: 1986 ] تنبيه:

    ذهب الجمهور إلى أن توبة السارق تسقط عنه حدود الله. وأما حق الآدمي من القطع ورد المال أو بدله فلا يسقط بتوبته.

    وقال أبو حنيفة: متى قطع، وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها. وقد بينت السنة أنه إن عفي عنه قبل الرفع إلى الإمام، سقط القطع.

    روى ابن ماجه عن ثعلبة الأنصاري: أن عمر بن سمرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني. فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا افتقدنا جملا لنا. فأمر به فقطعت يده. قال ثعلبة (أحد رجال السند): أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك. أردت أن تدخلي جسدي النار.

    وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو: أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا. يا رسول الله! إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها (يعني أهلها) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقطعوا يدها» . فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله؟! قال: «نعم، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك» . فأنزل الله عز وجل في سورة المائدة: فمن تاب من بعد ظلمه الآية.

    قال ابن كثير: وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت. وحديثها ثابت في الصحيحين [ ص: 1987 ] من رواية الزهري عن عائشة أن امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح. ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه. قال عروة: فلما كلمه أسامة فيها، تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتكلمني في حد من حدود الله؟ قال أسامة: استغفر لي يا رسول الله؟

    فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد. فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.

    ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك. وتزوجت.

    قالت عائشة: فكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجاتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
    وهذا لفظ مسلم. وفي لفظ له عن عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها. وعن ابن عمر قال: كانت امرأة مخزومية تستعير متاعا على ألسنة جاراتها وتجحده. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها. رواه الإمام أحمد. وأبو داود والنسائي، وهذا [ ص: 1988 ] لفظه. وفي لفظ له: إن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا بلال! فخذ بيدها فاقطعها.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [41] يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم

    يا أيها الرسول لا يحزنك نهي. قال أبو البقاء: والجيد فتح الياء وضم الزاي. ويقرأ بضم الياء وكسر الزاي من (أحزنني) وهي لغة. الذين يسارعون في الكفر أي: في إظهاره بما يلوح منهم آثار الكيد للإسلام ومن موالاة الكافرين: من الذين قالوا آمنا بأفواههم أي: بألسنتهم. متعلق ب (قالوا): ولم تؤمن قلوبهم وهم المنافقون، أي: لا تبال بهم فإني ناصرك عليهم: ومن الذين هادوا عطف على: من الذين قالوا وهم يهود بني قريظة، كعب وأصحابه: سماعون للكذب خبر لمحذوف، أي: هم سماعون. واللام إما لتقوية العمل، وإما لتضمين السماع معنى القبول، وإما لام كي، والمفعول محذوف; والمعنى: هم مبالغون في سماع الكذب الذي افترته أحبارهم أو في قبوله. أو سماعون أخباركم ليكذبوا عليكم بالزيادة والنقص إرجافا وتهويلا.

    [ ص: 1989 ] وفي " الإكليل ": أن قوله تعالى: سماعون للكذب يدل على أن سامع المحظور كقائله في الإثم.

    سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي: لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنه إفراطا في البغضاء. أي: قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك. قيل: هم يهود خيبر. والسماعون، بنو قريظة: يحرفون الكلم أي: كلم التوراة في الأحكام: من بعد مواضعه أي: التي وضعه الله عليها.

    قال ابن كثير: أي: يتناولونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. يقولون إن أوتيتم هذا أي: إن أوتيتم هذا المحرف المزال عن مواضعه من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام: فخذوه أي: اعملوا به فإنه الحق: وإن لم تؤتوه بأن أفتاكم الرسول بخلافه: فاحذروا أي: من قبوله، وإياكم وإياه! فإنه الباطل والضلال. قال ابن كثير: قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلا وقالوا: تعالوا نتحاكم إلى محمد. فإن حكم بالدية فاقبلوه. وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه.

    والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا. وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم. فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين. فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه. فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله. ويكون نبيا من أنبياء الله قد حكم بذلك.

    وقد وردت الأحاديث بذلك: فروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تجدون في شأن الرجم» ؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم؛ إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها. فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ [ ص: 1990 ] ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده فإذا آية الرجم. فقالوا: صدق، يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. فقال عبد الله بن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة. وأخرجاه في الصحيحين. وهذا لفظ الموطأ.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #299
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 1991 الى صـ 2002
    الحلقة (299)



    وروى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود. فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقالوا نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى! هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: لا، والله! ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم. ولكنه كثر في أشرافنا. فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه. وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع. فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم! إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه» . قال: فأمر به فرجم. قال: فأنزل الله عز وجل: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إلى قوله -: يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه . أي: يقولون: ايتوا محمدا. فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه. وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. قال الحافظ ابن كثير: انفرد بإخراجه مسلم [ ص: 1991 ] دون البخاري. وأبو داود والنسائي وابن ماجه. وكذلك روى أبو بكر الحميدي في "مسنده" نحوه في سبب نزولها عن جابر. وأبو داود أيضا، عن ابن عمر.

    ومن يرد الله فتنته أي: ضلالته: فلن تملك له من الله شيئا أي: في دفع ضلالته: أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم أي: من دنس الفتنة ووضر الكفر لانهماكهم فيهما. وإصرارهم عليهما، وإعراضهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية: لهم في الدنيا خزي أي: فضيحة وهتك ستر، بظهور نفاقهم بالنسبة للمنافقين. وذل وجزية وافتضاح، بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة بالنسبة لليهود: ولهم في الآخرة عذاب عظيم وهو النار.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [42] سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين

    سماعون للكذب أي: بالباطل. خبر لمحذوف. وكرر تأكيدا لما قبله وتمهيدا لقوله: أكالون للسحت أي: الحرام. وهو الرشوة كما قال ابن مسعود.

    قال الزمخشري: السحت كل ما لا يحل كسبه. وهو من (سحته) إذا استأصله. [ ص: 1992 ] لأنه مسحوت البركة. كما قال تعالى: يمحق الله الربا والربا باب منه. وقرئ: (السحت) بالتخفيف والتثقيل، و (السحت) بفتح السين على لفظ المصدر من (سحته)، و (السحت) بفتحتين، و (السحت) بكسر السين، وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. انتهى.

    وفي "اللباب": السحت كله حرام تحمل عليه شدة الشره. وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة ولا لآخذه مروءة ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه لا محالة. ومعلوم أن حال الرشوة كذلك. فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم. عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم.

    أخرجه الترمذي. وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

    قال ابن مسعود: الرشوة في كل شيء. فمن شفع شفاعة ليرد بها حقا أو يدفع بها ظلما. فأهدي بها إليه، فقبل، فهو السحت. فقيل له: يا أبا عبد الرحمن! ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم؟ فقال: الأخذ على الحكم كفر! قال الله تعالى: ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون

    فإن جاءوك يعني اليهود لتحكم بينهم: فاحكم بينهم لأنهم اتخذوك حكما: أو أعرض عنهم لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم، أي: فأنت بالخيار. وقد استدل بالآية من قال: إن الإمام مخير في الحكم بين أهل الذمة أو الإعراض عنهم. وعن بعض السلف: إن التخيير المذكور نسخ بقوله تعالى: وأن احكم بينهم بما أنـزل الله والتحقيق أنها محكمة، والتخيير باق.

    وهو مروي عن الحسن [ ص: 1993 ] والشعبي والنخعي والزهري، وبه قال أحمد. لأنه لا منافاة بين الآيتين. فإن قوله تعالى: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فيه التخيير. وقوله تعالى: وأن احكم بينهم بما أنـزل الله فيه كيفية الحكم، إذا حكم بينهم: وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا أي: فلن يقدروا على الإضرار بك، لأن الله تعالى عاصمك من الناس: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط أي: بالعدل الذي أمرت به، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل: إن الله يحب المقسطين أي: العادلين فيما ولوا وحكموا.

    روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن. وكلتا يديه يمين. الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [43] وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين

    وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه. مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذين يدعون الإيمان به.

    قال بعضهم: معنى: فيها حكم الله أي: في المسألة التي تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهو حكم الله بحسب اعتقادهم أو بحسب الحقيقة. قال: ووجود هذا الحكم الخاص فيها، لا ينافي القول بوجود أشياء أخرى كثيرة فيها محرفة. وسماها التوراة: إما باعتبار عرفهم. أو باعتبار أصلها، أو لاشتمالها على أشياء كثيرة من التوراة الحقيقية. ولولا ذلك ما صح أن تسمى بذلك، كالإنجيل، مع اعتقاد تحريفها وتبديلها وعدم صحة كثير من أجزائها وكتبها...اه.

    [ ص: 1994 ] ثم يتولون من بعد ذلك أي: من بعد البيان في التوراة، وحكمك الموافق لما في كتابهم: وما أولئك بالمؤمنين أي: بالتوراة كما يزعمون.

    قال الحاكم: وفي الآية دلالة على أنه لا يجوز طلب الرخصة بترك ما يعتقده حقا إلى ما يعتقده غير حق. وقوله تعالى: ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين يدل على أن التولي عن حكم الله يخرجه عن الإيمان.

    قال بعض الزيدية: إذا كره حكم الشرع وطلب المنع، هل ذلك يخرجه عن حكم الإيمان؟ وهذا ينبغي أن يفصل فيه، فيقال: إن اعتقد صحته، أو رأى له مزية أو تعظيما. أو استهان بحكم الإسلام، فلا إشكال في كفره. وإن لم يحصل ذلك منه، بل اعتقد أنه باطل خسيس، وأنه يعظم شرع الإسلام، ولكن يميل إلى هوى نفسه، فهذا لا يكفر على الظاهر. إذ الكفر يحتاج إلى دليل قاطع.

    وفي كلام الحاكم ما تقدم: أنه يخرجه عن الإيمان. فإن أوهم أنه حق أو أنه أصلح من شرع الإسلام، فهذا محتمل للكفر. لأنه كفر إبليس اللعين، بكونه اعتقد أن أمر الله تعالى له بالسجود لآدم، غير صلاح. لكونه خلقه من طين، وإبليس من النار. انتهى.

    ثم أشار تعالى إلى حالة اليهود الذين كانوا لا يبالون بالتوراة ويحرفونها، ويقتلون النبيين، بأنهم خالفوا ما أمرهم الله في شأنها من الهداية بها وصونها عن التحريف، فقال:
    [ ص: 1995 ] القول في تأويل قوله تعالى:

    [44] إنا أنـزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون

    إنا أنـزلنا التوراة فيها هدى أي: إرشاد إلى الحق: ونور أي: إظهار لما انبهم من الأحكام: يحكم بها النبيون من بني إسرائيل: الذين أسلموا أي: الذين كانوا مسلمين من لدن موسى إلى عيسى عليهم السلام. وسنذكر سر هذه الصفة: للذين هادوا وهم اليهود. و (هاد) بمعنى تاب ورجع إلى الحق.

    قال المهايمي: للذين هادوا أي: لا لمن يأتي بعدهم. ولم يختص بالحكم بها الأنبياء بل يحكم بها: والربانيون أي: الزهاد العباد: والأحبار أي: العلماء الفقهاء: بما استحفظوا من كتاب الله أي: بسبب الذي استودعوه من كتاب الله أن يحفظوه من التغيير والتبديل وأن يقضوا بأحكامه. والضمير في (استحفظوا) للأنبياء والربانيين والأحبار جميعا. ويكون الاستحفاظ من الله، أي: كلفهم حفظه. أو للربانيين والأحبار، ويكون الاستحفاظ من الأنبياء: وكانوا عليه شهداء أي: رقباء يحمونه من أن يحوم حوله التغيير والتبديل بوجه من الوجوه. أو بأنه حق وصدق من عند الله. فمعلمو اليهود وعلماؤهم الصالحون لا يفتون ولا يقضون إلا بما لم ينسخ من شريعتهم وما لم يحرف منها، لشيوعه وتداوله وتواتر العمل به.

    لطيفة:

    قال الزمخشري: قوله تعالى: الذين أسلموا صفة أجريت على النبيين على سبيل [ ص: 1996 ] المدح. كالصفات الجارية على القديم سبحانه. لا للتفصلة والتوضيح. وأريد بإجرائها التعريض باليهود، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث، وأن اليهودية بمعزل منها. انتهى.

    قال الناصر في "الانتصاف": وإنما بعثه على حمل هذه الصفة على المدح دون التفصلة والتوضيح، أن الأنبياء لا يكونون إلا متصفين بها. فذكر النبوة يستلزم ذكرها. فمن ثم حمله على المدح، وفيه نظر. فإن المدح إنما يكون غالبا بالصفات الخاصة التي يميز بها الممدوح عمن دونه. والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم. ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتصر على كونه رجلا مسلما؟ فإن أقل متبعيه كذلك. فالوجه - والله أعلم - أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها ولينوه بها إذا وصف لها عظيم القدر. كما يكون ثبوتها بقدر موصوفها. فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة قد يراد إعظام الصفة بعظم موصوفها. وعلى هذا الوصف جرى وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى: وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وأمثاله. تنويها بمقدار الصلاح. إذ جعل صفة الأنبياء. وبعثا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته. وكذلك قيل في قوله تعالى: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا فأخبر عن الملائكة المقربين، بالإيمان. تعظيما لقدر الإيمان وبعثا للبشر على الدخول فيه، ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة. وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلا. ولهذا قال: ويستغفرون للذين آمنوا يعني من البشر لثبوت حق الأخوة [ ص: 1997 ] في الإيمان بين الطائفتين فكذلك - والله أعلم - جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويها به. لقد أحسن القائل في أوصاف الأشراف، والناظم في مدحه صلى الله عليه وسلم:


    فلئن مدحت محمدا بقصيدتي فلقد مدحت قصيدتي بمحمد


    والإسلام، وإن كان من أشرف الأوصاف، إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حقه، إلا أن النبوة أشرف وأجل، لاستعمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة. فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة، في سياق المدح، لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز، وفي كلام العرب الفصيح، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى، لا النزول على العكس. ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله:


    شمس ضحاها هلال ليلتها در تقاصيرها زبرجدها!


    فنزل عن الشمس إلى الهلال، وعن الدر إلى الزبرجد في سياق المدح. فمضغت الألسن عرض بلاغته، ومزقت أديم صيغته. فعلينا أن نتدبر الآيات المعجزات، حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوها في البلاغة المعهود لها. والله الموفق.

    وقوله تعالى: فلا تخشوا الناس قال الزمخشري: نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإدهانهم فيها، وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم، أو خيفة أذية أحد من القرباء والأصدقاء.

    [ ص: 1998 ] وقال أبو السعود: خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات. وأما حكام المسلمين فيتناولهم النهي بطريق الدلالة دون العبارة. والفاء لترتيب النهي على ما فصل من حال التوراة وكونها معتنى بشأنها فيما بين الأنبياء عليهم السلام، ومن يقتدي بهم من الربانيين والأحبار المتقدمين عملا وحفظا. فإن ذلك مما يوجب الاجتناب عن الإخلال بوظائف مراعاتها والمحافظة عليها بأي وجه كان. فضلا عن التحريف والتغيير. ولما كان مدار جراءتهم على ذلك، خشية ذي سلطان أو رغبة في الحظوظ الدنيوية، نهوا عن كل منهما صريحا، أي: إذا كان شأنها كما ذكر فلا تخشوا الناس كائنا من كانوا، واقتدوا في مراعاة أحكامها وحفظها بمن قبلكم من الأنبياء وأشياعهم: واخشون في مخالفة أمري والإخلال بحقوق مراعاتها: ولا تشتروا أي: تستبدلوا: بآياتي أي: التي فيها، بأن تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم بدلا منها: ثمنا قليلا من الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس، فإنها - وإن جلت - قليلة مسترذلة في نفسها، لا سيما بالنسبة إلى ما فات عنهم بترك العمل بها: ومن لم يحكم بما أنـزل الله أي: كائنا من كان، دون المخاطبين خاصة، فإنهم مندرجون فيه اندراجا أوليا. أي: من لم يحكم بذلك مستهينا به، منكرا له كما يقتضيه ما فعلوه اقتضاء بينا: فأولئك هم الكافرون لاستهانتهم به. والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير، وتحذير عن الإخلال به أشد تحذير. حيث علق فيه الحكم بالكفر بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله تعالى. فكيف وقد انضم إليه الحكم بخلافه؟ لا سيما مع مباشرة ما نهوا عنه من تحريفه ووضع غيره موضعه، وادعاء أنه من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا. قاله أبو السعود.

    تنبيهات:

    الأول: في قوله تعالى: فلا تخشوا الناس دلالة على أن على الحاكم أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

    الثاني: في قوله تعالى: ولا تشتروا إلخ دلالة على تحريم الرشا على التبديل. [ ص: 1999 ] وكتمان الحق، وأن فعل ذلك، لغرض دنيوي من طلب جاه، أو مال - محرم.

    الثالث: في قوله: ومن لم يحكم بما أنـزل الله الآية. تغليظ في الحكم بخلاف المنصوص عليه، حيث علق عليه الكفر هنا، والظلم والفسق بعد.

    الرابع: ما أخرجه مسلم عن البراء: أن قوله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) . الثلاث الآيات في الكفار كلها. وكذا ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس: أنها في اليهود خاصة، قريظة والنضير - لا يناف تناولها لغيرهم، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكلمة: "من" وقعت في معرض الشرط فتكون للعموم.

    الخامس: كفر الحاكم بغير ما أنزل بقيد الاستهانة به والجحود له، هو الذي نحاه كثيرون وأثروه عن عكرمة وابن عباس.

    وروى الحاكم وابن أبي حاتم وعبد الرزاق عن ابن عباس وطاوس: أن من لم يحكم بما أنزل الله، هي به كفر، وليس بكفر ينقل عن الملة. كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ونحو هذا روى الثوري، عن عطاء قال: هو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. رواه ابن جرير.

    ونقل في "اللباب" عن ابن مسعود والحسن والنخعي: أن هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود وفي هذه الأمة، فكل من ارتشى وبدل الحكم فحكم بغير حكم الله، فقد كفر وظلم وفسق. وإليه ذهب السدي. لأنه ظاهر الخطاب. ثم قال: وقيل: هذا فيمن علم نص حكم الله ثم رده عيانا عمدا، وحكم بغيره. وأما من خفي عليه النص أو أخطأ في التأويل، فلا يدخل في هذا الوعيد.. انتهى.

    [ ص: 2000 ] وقال إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن": ظاهر الآيات يدل على أن من فعل مثل ما فعلوا - يعني اليهود - واخترع حكما يخالف به حكم الله، وجعله دينا يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور، حاكما كان أو غيره.

    السادس: روي سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات:

    أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس قال: إن الله أنزل: ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون و: أولئك هم الظالمون و: أولئك هم الفاسقون في الطائفتين من اليهود. وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا أو اصطلحوا على أن كل قتيل قتله العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتله الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق. فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويومئذ لم يظهر ولم يوطئهما عليه وهو في الصلح. فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا. فأرسلت العزيزة إلى الذليلة: أن ابعثوا لنا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان في حيين قط، دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنا إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وفرقا منكم. فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم. ثم ذكرت العزيزة فقالت: والله! ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منهم، ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم. فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه. إن أعطاكم ما تريدون حكمتوه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله وما أرادوا. فأنزل الله تعالى: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر [ ص: 2001 ] - إلى قوله -: الفاسقون ثم قال: فيهما، والله! نزلت، وإياهم عنى الله عز وجل. ورواه أبو داود بنحوه.

    وروى ابن جرير من طريق أخرى عن ابن عباس قال: إن الآيات في المائدة قوله: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم - إلى -: المقسطين إنما أنزلت في الدية في بني النضير وقريظة. وذلك أن قتلى بني النضير، وكان لهم شرف يؤدي الدية كاملة. وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية. فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم. فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء. ورواه أحمد وأبو داود والنسائي بنحوه.

    وروى ابن جرير أيضا عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنضير. وكانت النضير أشرف من قريظة. فكان إذا قتل القرظي رجلا من النضير قتل به. وإذا قتل النضيري رجلا من قريظة، ودي بمائة وسق من التمر. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة. فقالوا: ادفعوا إليه، فقالوا: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط . ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في "المستدرك" بنحوه. وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد. وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، كما تقدمت الأحاديث، وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد. فنزلت هذه الآيات في ذلك كله، والله أعلم. انتهى كلام ابن كثير.

    [ ص: 2002 ] وقد أسلفنا في "المقدمة" في بحث سبب النزول، ما يزيل الإشكال في تعدد السبب. فتذكر. ومما يقوي أن سبب النزول قضية القصاص - كما قال ابن كثير - قوله تعالى بعد ذلك:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [45] وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الظالمون

    وكتبنا عليهم فيها أي: فرضنا على اليهود في التوراة: أن النفس بالنفس أي: مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق: والعين مفقوءة: بالعين والأنف مجدوعا: بالأنف والأذن مقطوعة: بالأذن والسن مقلوعة: بالسن والجروح قصاص أي: ذات قصاص، أي: يقتص فيها إذا أمكن. كاليد والرجل والذكر ونحو ذلك وإلا - ككسر عظم وجرح لحم مما لا يمكن الوقوف على نهايته - فلا قصاص، بل فيه حكومة عدل.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #300
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,360

    افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


    تفسير "محاسن التأويل"

    محمد جمال الدين القاسمي
    سُورَةُ المائدة
    المجلد السادس
    صـ 2003 الى صـ 2018
    الحلقة (300)


    تنبيهات:

    الأول: هذه الآية مما وبخت به اليهود أيضا وقرعت عليه. فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس، وقد خالفوا حكم ذلك عمدا وعنادا. فأقادوا النضري من القرظي، ولم يقيدوا القرظي من النضري. وعدلوا إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار، ولهذا قال هناك: ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا. وقال ههنا - في تتمة الآية: فأولئك هم الظالمون لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر [ ص: 2003 ] الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه. فخالفوا وظلموا، وتعدوا على بعضهم بعضا - أفاده ابن كثير.

    الثاني - قوله تعالى: والعين بالعين والمعطوفات بعده، كلها قرئت منصوبة ومرفوعة، والرفع للعطف على محل: أن النفس بالنفس لأن المعنى: وكتبنا عليهم النفس بالنفس، إما لإجراء (كتبنا) مجرى (قلنا) وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك: (النفس بالنفس) مما يقع عليه (الكتب) كما تقع عليه (القراءة)، تقول: كتبت: الحمد لله، وقرأت: سورة أنزلناها. ولذلك قال الزجاج: لو قرئ: أن النفس بالنفس بالكسر لكان صحيحا. كذا في "الكشاف". وقد توسع الخفاجي في "العناية" في بحث الرفع - هنا - على عادته في النحويات فانظره إن شئت.

    روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين نصب النفس ورفع العين، قال الترمذي: حسن غريب. وقال البخاري: تفرد ابن المبارك بهذا الحديث.

    الثالث: استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا - إذا حكي مقررا ولم ينسخ; كما هو المشهور عن الجمهور، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي وأكثر أصحابه - بهذه الآية. حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة. رواه ابن أبي حاتم. وقد حكى الإمام أبو منصور بن الصباغ في كتابه "الشامل" اجتماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه.

    الرابع: قال ابن كثير: احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة. بعموم هذه الآية الكريمة. وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 2004 ] كتب في كتاب عمرو بن حزم: أن الرجل يقتل بالمرأة.

    [ ص: 2005 ] [ ص: 2006 ] [ ص: 2007 ] [ ص: 2008 ] وفي الحديث الآخر: المسلمون تتكافأ دماؤهم. وهذا قول جمهور العلماء. وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وحكي عن الحسن وعثمان البستي، ورواية عن أحمد، أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، بل يجب ديتها. وهكذا احتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على أن يقتل المسلم بالكافر الذمي، وعلى قتل الحر بالعبد. وقد خالفه الجمهور فيهما. ففي "الصحيحين" عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 2009 ] «لا يقتل مسلم بكافر» . وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة. إنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحر، ولا يقتل حر بعبد. وجاء في ذلك أحاديث لا تصح. وحكى الشافعي الإجماع. على خلاف قول الحنفية في ذلك. انتهى.

    وقال السيوطي في "الإكليل": في هذه الآية مشروعية القصاص في النفس والأعضاء والجروح بتقدير شرعنا. كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس: كتاب الله القصاص; استدل بعموم (النفس بالنفس) من قال بقتل المسلم بالكافر، والحر بالعبد، والرجل بالمرأة. وأجاب ابن الفرس بأن الآية أريد بها الأحرار المسلمون، لأن اليهود المكتوب ذلك عليهم في التوراة كانوا ملة واحدة ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر، وكانوا أحرارا لا عبيد فيهم، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم بين سائر الأنبياء. لأن الاستعباد من الغنائم. ولم تحل لغيره. وعقد الذمة لبقاء الكفار. ولم يقع ذلك في عهد نبي. بل كان المكذبون يهلكون جميعا بالعذاب. وأخر ذلك في هذه الأمة رحمة. وهذا جواب مبين.

    وقوله: والجروح قصاص استدل به في كل جرح قيل بالقصاص فيه - كاللسان والشفة وشجاج الرأس والوجه وسائر الجسد - وعلى أن نتف الشعر والضرب لا قصاص فيه، إذ ليس بجرح. انتهى.

    [ ص: 2010 ] وقال بعض الزيدية في "تفسيره": مذهب أئمة البيت ومالك والشافعي; أنه لا يقتل المسلم بالكافر. وقال أبو حنيفة: يقتل به، لا بالحربي ولا بالمستأمن من الحربيين أخذا بعموم الآية. قلنا: هي مخصصة بقوله في سورة الحشر: لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة وهذا يقتضي نفي المساواة عموما. قالوا: أراد (في الآخرة). قلنا قال الله: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا قالوا: ليس هذا على عمومه؛ فإن له أخذ الدين منه، وذلك سبيل. قلنا: قال صلى الله عليه وسلم: لا يقتل المؤمن بكافر. فعم. قالوا أراد بكافر حربي. بدليل أن في آخر الخبر: ولا ذو عهد في عهد. والمعنى: لا يقتل المؤمن ولا الكافر الذي عوهد، بالكافر الذي لا عهد له. قلنا: قد تمت الجملة الأولى وهي قوله عليه السلام: لا يقتل المؤمن بكافر. وأما قوله: ولا ذو عهد في عهد، فهذه جملة أخرى. يريد: لا يقتل ما دام في العهد. مع أن الحديث إن احتمل أنها جملة واحدة فالمراد: لا يقتل مؤمن بأحد من الكفار عموما. وكذلك المعاهد لا يقتل بأحد من الكفار عموما. فقامت الدلالة على أن المعاهد يقتل ببعض الكفار. وبقي المؤمن على عمومه. وما قلنا مروي عن علي عليه السلام وزيد. وهذه المخصصات تخصص ما ورد من العمومات في هذه المسألة. انتهى.

    [ ص: 2011 ] الخامس: عموم قوله تعالى: ( العين بالعين ) كعموم قوله تعالى: النفس بالنفس فما خصص ذلك العام، خصصه هنا، لكن ننبه على أطراف:

    منها -: أن اليسرى لا تؤخذ باليمنى، والوجه عدم المساواة.

    ومنها -: عين الأعور تؤخذ بعين الصحيح على ما نصه في "الأحكام"، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي لعموم الآية. وقال في "المنتخب" ومالك: لا تؤخذ، لأن نورها أكثر فتطلب المساواة. واحتجوا بأنه مروي عن علي عليه السلام وعمر وابن عمر وعثمان; قال في "الشرح": وكان الإمام يحيى لا يصحح هذه الرواية عن علي عليه السلام.

    ومنها -: في كيفية القصاص. فإن قلعت العين ثبت القصاص بالقلع. وإن ضرب حتى ذهب بصره ثبت القصاص. قال في "التهذيب": فقيل: بالقلع. وقيل: تحمى حديدة ثم تقرب من عينه.

    وأما قوله تعالى: والأنف بالأنف فالكلام في عمومه كما تقدم. ويذكر هنا تنبيه؛ وهو أن القصاص إنما يكون إذا استؤصلت. لأن ذلك كالمفصل، لا إذا قطع بعضها. والعموم في قوله تعالى: والأذن بالأذن أيضا كما تقدم. والقصاص: إذا قطعت من أصلها لا إذا قطع البعض. ولا تؤخذ أذن الصحيح بأذن الأصم.

    وكذا عموم قوله تعالى: والسن بالسن والقصاص: إذا قلع من أصله. ولا بد من المساواة. فلا يؤخذ الصحيح بالأسود ولا بالمكسور. ولا الثنية بالضرس. ونحو ذلك. كما لا تؤخذ اليمنى باليسرى.

    وأما قوله تعالى: والجروح فهذا فيما تمكن فيه المساواة، ويؤمن على النفس لتحرج الأمة.

    كذا في "تفسير بعض الزيدية". وتتمة فقه هذه الآية يرجع فيه إلى مطولات كتب السنة وشروحها.

    [ ص: 2012 ] وقوله تعالى: فمن تصدق أي: من المستحقين: به أي: بالقصاص. أي: فمن عفا عن الجاني. والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الترغيب: فهو أي: التصدق كفارة له أي: للمتصدق يكفر الله بها ذنوبه. وقيل: فهو كفارة للجاني، إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه. وهذا التأويل الثاني روي عن كثير من السلف. كما أخرجه ابن أبي حاتم. واللفظ محتمل. إلا أن الأخبار الواردة في فضل العفو تشهد للأول.

    وروى الإمام أحمد عن الشعبي; أن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به» . ورواه النسائي أيضا.

    وروى الإمام أحمد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أصيب بشيء من جسده فتركه لله، كان كفارة له.

    وروى الإمام ابن جرير عن أبي السفر قال: دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار. فاندقت ثنيته. فرفعه الأنصاري إلى معاوية. فلما ألح عليه الرجل قال معاوية: شأنك وصاحبك. قال وأبو الدرداء عند معاوية. فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده، فيهبه، إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة» . فقال الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي. فخلى سبيل القرشي. فقال له معاوية: مروا له بمال.

    [ ص: 2013 ] ورواه الإمام أحمد أيضا عن أبي السفر قال: كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار. فاستعدى عليه معاوية. فقال القرشي: إن هذا دق سني، فقال معاوية: كلا. إنا سنرضيه. قال: فلما ألح عليه الأنصاري. قال معاوية: شأنك بصاحبك - وأبو الدرداء جالس - فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده، فيتصدق به، إلا رفعه الله به درجة وحط عنه بها خطيئة» . قال: فقال الأنصاري: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم. سمعته أذناي ووعاه قلبي. يعني فعفا عنه الأنصاري. وهكذا رواه الترمذي وقال: غريب، ولا أعرف لأبي السفر سماعا من أبي الدرداء.

    ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الظالمون لأنهم حكموا بخلاف حكم الله العدل. وتقدم في أول التنبيهات الخمس، قريبا، سر التعبير ههنا ب (الظالمون) قبله ب (الكافرين) فتذكر.
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [46] وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين

    وقفينا أي: أتبعنا: على آثارهم يعني أنبياء بني إسرائيل: بعيسى ابن مريم أي: أرسلناه عقبهم: مصدقا لما بين يديه من التوراة أي: مؤمنا بها حاكما بما فيها: وآتيناه الإنجيل فيه هدى أي: إلى الحق: ونور أي: بيان للأحكام: ومصدقا لما بين يديه من التوراة أي: لما فيها من الأحكام. وتكرير ذلك لزيادة التقرير.

    [ ص: 2014 ] قال ابن كثير: أي: متبعا لها غير مخالف لما فيها، إلا في القليل. مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارا عن المسيح. أنه قال لبني إسرائيل: ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ولهذا كان المشهور من قول العلماء: إن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة. وهدى وموعظة أي: زاجر عن ارتكاب المحارم والمآثم: للمتقين أي: لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه. وتخصيص كونه هدى وموعظة بالمتقين؛ لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه.

    وقوله تعالى:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [47] وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الفاسقون

    وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه أمر مبتدأ لهم، بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها: دلائل رسالته عليه الصلاة والسلام، وشواهد نبوته. وقيل: هو حكاية للأمر الوارد عليهم. بتقدير فعل معطوف على (آتيناه): وقلنا: ليحكم أهل الإنجيل. وقرئ: (وليحكم) بالنصب على أن اللام (لام كي) أي: آتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم.

    قال بعض المحققين: وإنما خص أهل الإنجيل بالذكر، لبيان أن الإنجيل لم ينزله الله للأمم كافة وأن شريعته ليست باقية لكل زمان. لأن بعثة عيسى عليه السلام كانت خاصة بالأمة اليهودية.

    ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الفاسقون أي: الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل، التاركون للحق.

    [ ص: 2015 ] تنبيه:

    في هذه الآية والآيتين المتقدمتين من الوعيد ما لا يقادر قدره. وقد تقدم أن هذه الآيات -وإن نزلت في أهل الكتاب- فليست مختصة بهم، بل هي عامة لكل من لم يحكم بما أنزل الله، اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ويدخل فيه السبب دخولا أوليا.

    وفي "فتح البيان" في تفسير هذه الآيات مباحث نادرة سابغة الذيل. فلتراجع.

    ولما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، وأثنى عليها وأمر باتباعها، ثم ذكر الإنجيل ومدحه وأمر باتباعه - شرع في التنويه بالقرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم، فقال:
    القول في تأويل قوله تعالى:

    [48] وأنـزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنـزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون

    وأنـزلنا إليك الكتاب أي: الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتابا على الإطلاق. لحيازته جميع الأوصاف الكمالية لجنس الكتاب السماوي، وتفوقه على بقية أفراده، وهو القرآن الكريم. فاللام للعهد. أفاده أبو السعود.

    بالحق أي: الصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله: مصدقا لما بين يديه من الكتاب بيان ل (ما). و (اللام) للجنس. يعني: أنه يصدق جميع الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه من قبله. وإنما قيل: (لما قبل الشيء): هو بين يديه، لأن ما تأخر عنه [ ص: 2016 ] يكون وراءه وخلفه. فما تقدم عليه يكون قدامه وبين يديه: ومهيمنا عليه أي: مؤتمنا عليه وشهيدا وحاكما على ما قبله من الكتب.

    قال ابن جريج: القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل.

    فاحكم بينهم أي: بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك: بما أنـزل الله أي: بما بين الله لك في القرآن.

    قال في "الإكليل": هذا ناسخ للحكم بكل شرع سابق. ففيه أن أهل الذمة إذا ترافعوا إلينا يحكم بينهم بأحكام الإسلام. لا بمعتقدهم. ومن صور ذلك عدم ضمان الخمر ونحوه. انتهى.

    ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق نهي أن يحكم بما حرفوه أو بدلوه. اعتمادا على قولهم. ضمن: ولا تتبع معنى: (ولا تنحرف) فلذا عدي ب (عن) فكأنه قيل: ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم. أو التقدير: عادلا عما جاءك.

    لكل جعلنا منكم شرعة أي: شريعة موصلة إلى الله: ومنهاجا أي: طريقا واضحا في الدين، تجرون عليه. قال ابن كثير: هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد. كما ثبت في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات. ديننا واحد» . يعني [ ص: 2017 ] بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله. كما قال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت

    وقال أبو السعود: قوله تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا كلام مستأنف جيء به لحمل أهل الكتابين، من معاصريه صلى الله عليه وسلم، على الانقياد لحكمه بما أنزل إليه من القرآن الكريم. ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره من الكتابين، وإنما الذي كلفوا العمل بهما من مضى قبل نسخهما من الأمم السالفة. والخطاب بطريق التلوين والالتفات للناس قاطبة، لكن لا للموجودين خاصة، بل للماضين أيضا بطريق التغليب. والمعنى: لكل أمة كائنة منكم. أيها الأمم الباقية والخالية، جعلنا - أي: عينا ووضعنا - شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الأمة. لا تكاد أمة تتخطى شرعتها التي عينت لها. فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى عيسى عليهما السلام شرعتهم التوراة. والتي كانت من مبعث عيسى إلى النبي عليهما الصلاة والسلام شرعتهم الإنجيل. وأما أنتم أيها الموجودون فشرعتكم القرآن ليس إلا. فآمنوا به واعملوا بما فيه.

    وفي "الإكليل": استدل بهذه الآية من قال: إن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا.

    وبقوله: وكتبنا عليهم الآية. من قال: إنه شرع لنا ما لم يرد ناسخ. واستدل بالآية أيضا من قال: إن الكفر ملل لا ملة واحدة، ولم يورث اليهود من النصارى شيئا. انتهى.

    [ ص: 2018 ] قال النسفي: ذكر الله إنزال التوراة على موسى عليه السلام. ثم إنزال الإنجيل على عيسى عليه السلام. ثم إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وبين أنه ليس للسماع فحسب، بل للحكم به. فقال في الأول: يحكم بها النبيون وفي الثاني: وليحكم أهل الإنجيل وفي الثالث: فاحكم بينهم بما أنزل الله .

    ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة أي: جماعة متفقة على شريعة واحدة: ولكن ليبلوكم في ما آتاكم متعلق بمحذوف يستدعيه النظام. أي: ولكن جعلكم أمما مختلفة ليختبركم فيما أعطاكم من الشرائع المختلفة. هل تتركون ما ألفتم منها لما أحدث منها مذعنين له، معتقدين أن خلافه لها بمقتضى المشيئة الإلهية المبنية على أساس الحكم البالغة، والمصالح النافعة لكم في المعاش والمعاد؟ أو تزيغون عن الحق، وتتبعون الهوى، وتستبدلون المضرة بالجدوى، وتشترون الضلالة بالهدى؟ وبهذا اتضح أن مدار عدم المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء. بل العمدة في ذلك ما أشير إليه من انطواء الاختلاف على ما فيه مصلحتهم معاشا ومعادا، كما ينبئ عنه قوله تعالى: فاستبقوا الخيرات أي: إذا كان الأمر كما ذكر، فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين من العقائد الحقة، والأعمال الصالحة المندرجة في القرآن الكريم، وابتدروها انتهازا للفرصة وإحرازا لسابقة الفضل والتقدم. ففيه من تأكيد الترغيب في الإذعان للحق، وتشديد التحذير عن الزيغ، ما لا يخفى. أفاده أبو السعود.

    وقوله: إلى الله مرجعكم جميعا استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد. أي: مصيركم، ومعادكم - أيها الناس - إليه يوم القيامة: فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون أي: فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم، وعاملكم ومفرطكم في العمل. كذا في "الكشاف".

    فالإنباء مجاز عن المجازاة، وإنما عبر عنها به، لوقوعه موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الإنباء.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •