تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 19 من 19

الموضوع: أصول البلاغة النبوية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    155

    افتراضي أصول البلاغة النبوية

    الحمد لله،
    أحتاج تعليقاتكم - بارك الله فيكم.
    ---------------------------

    أصول البلاغة النبوية

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
    أما بعد،
    فقد كثرت في الأيام الأخيرة فلول الشانئين الأصاغر، المتعرضين لمقام الحبيب صلى الله عليه وسلم، بالعيب والثلب، وهم أحق به وأهله. وقد تجمعوا بقضهم وقضيضهم، وأجلبوا بخيلهم ورَجلهم، وستروا قبيح قصدهم، بمسوح من الحرية المزعومة طورا، وحق التعبير طورا آخر، وإن هو إلا الحقد المتأججُ أواره، منه استمداد فَعالهم، وإليه مرجع أقوالهم، وعليه مدار فكرهم – إن صح أن لأمثالهم فكرا !
    وقد قدح زنادَ ذاك الحقد – قديما ولا يزال – جهلٌ غُدافي الإهاب، هم فيه سادرون، قد غرقوا في غَمرته، بل عُجنوا من طينته، فهم منه في عَماية، حجبتهم عن الصواب، فلا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا.
    وقد قيل قديما: (المرء عدو ما يجهل).
    وإن من أعظم ما يجاهَد به هؤلاء الحاقدون المتربصون ويُجالَدون، أن تنصب أمام أعينهم الكليلة موائد العلم، بلألائها الفتان، ونورها البراق، لعلها تُفَتّق منهم تلك البصائر العشواء.
    على أهل العلم في هذه الأمة الفاضلة الخيرة، أن يعرضوا على الناس، صورة ذلك الحبيب المبعوث رحمة للعالمين، فيربطوا بين الخلق وبين هاديهم ومرشدهم، بوشيجة من المعرفة الوثيقة التي تثمر محبة صادقة، تنبت من بذرتها شجرة إيمان راسخ.
    ومن أراد سلوك هذا السبيل من دعاة الأمة وعلمائها – أعني سبيلَ التعريف بالحبيب عليه الصلاة والسلام – فلَيجدنّ من القول متسعا، بل لتتشعبن به فروع القول، حتى يحتاج إلى أرسان من قواعد المنهج، يضبط بها جماح الكلام.
    فإنك مهما شئت أن تلمس تجسيدَ خصلة من خصال الخير، أو صفة من صفات الكمال الإنساني، فإنك في رسول الله صلى الله عليه وسلم واجدُها في أبهى صورها، وأكمل حالاتها.
    وقد جعلت من وُكدي، أن أنهدَ إلى جانب من جوانب هذا الكمال البشري المتمثل في شخصية النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم؛ وهو جانب الفصاحة والبلاغة.
    وإن الهيبة لتسطو بالنفس، وتأخذ بتلابيبها لتأطرها عن ركوب هذا البحر الغطمطم الذي يخشى الضياع في خضمه !
    وإن الخشية لتتملك أرجاء الفؤاد حين يهم بسلوك هذا المهْيع الفسيح الشائك الذي لا تؤمن فيه العثرة والزلة !
    وكأني بك تسأل بإنكار: أحقا تبغي بألفاظك الكليلة أن تصف أشرف الألفاظ؟
    أم تُراك قد زينتْ لك جراءةُ نفسك أن تكلف يراعك الذليل من أمره شطط الكتابة عن خير ما خطه يراع؟
    أم لعلك تروم أن تحدثنا بكلماتك عن خير كلمات فاه بها رجل من البشر؟
    ولست متكلفا لسؤالك جوابا؛ غير أنني أقول: هي المحبة جدَحت لي يدُها كأسَ النطق، فكان ما كان مما تراه منثورا بين يديك الآن.

    مقدماتٌ ممهدات:
    يحسُن بي – قبل الشروع في اللب المقصود بالذات- أن أعرف بالأثافي الثلاثة التي يتركب منها عنوان المقال – أي: (أصول البلاغة النبوية) - إذ معرفة المركب فرع عن معرفة مفرداته.
    فلأبدأ بالثاني من هذه الأثافي، ولأُثن بالثالث، ولتكن (الأصول) ثالثتها.
    • البلاغة والفصاحة:
    اختلفت أقوال العلماء في تعريف هذين المصطلحين، وفي بيان الفرق بينهما) (.
    والذي استقر عليه كلام البلاغيين، أن كلا منهما يقع صفة لمعنيين: أولهما الكلام، وثانيهما المتكلم. فتقول: شعر فصيح أو بليغ، وشاعر فصيح أو بليغ. وتختص الفصاحة بكونها صفة للمفرد فيقال: لفظة فصيحة ولا يقال لفظة بليغة.
    وبعد هذا، فإن فصاحة المفرد، هي خلوصه من عيوب ثلاثة:
    o تنافر الحروف: وهو وصف في الكلمة ينشأ عنه ثقلها في اللسان، وصعوبة النطق بها، كلفظة (الهعخع).
    o الغرابة: بأن تكون الكلمة وحشية، غير ظاهرة الدلالة على المعنى، كلفظة جحْلَنجع، التي ذكرها أبو الهميسع في بعض رجَزه.
    o مخالفة الوضع: بأن تكون الكلمة مخالفة لما ثبت عن الواضع) (، كقول القائل (الأجلل) يريد (الأجل) ففك الإدغام مخالفا للقياس الصرفي.
    وزاد بعض البلاغيين، أن تخلص اللفظة من الكراهة في السمع، كلفظ (النقاخ) بمعنى الماء العذب. وفيه نظر، لأن في ذكر الغرابة غنية عن ذكر هذا العيب، لأن استكراه السمع للفظ إنما جاء من جهة وحشيته وغرابته.
    وأما فصاحة الكلام، ففي براءته من عيوب ثلاثة أيضا – وذلك بعد خلوص مفرداته من العيوب السابق ذكرها -:
    o تنافر الكلمات: وهو وصف في الكلمات مجتمعة، يوجب ثقلها على اللسان، وعسر النطق بها، كقول الشاعر: (في رفع عرش الشرع مثلك يشرع).
    o ضعف التأليف: وهو أن يكون الكلام مخالفا في تركيبه المشهور من قواعد النحو، كالإضمار قبل ذكر المرجع لفظا ومعنى وحكما، كما في قول الشاعر:
    (ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا من الناس، أبقى مجده الدهر مطعما)) (.
    o التعقيد: وهو أن يكون الكلام غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد، لخلل واقع فيه. وهو نوعان: لفظي ومعنوي. فالأول كقول الشاعر:
    وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه
    والثاني كقول العباس بن الأحنف:
    سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا وتسكب عيناي الدموع لتجمدا.
    وقد اشترط بعض العلماء في فصاحة الكلام، خلوصه من كثرة التكرار وتتابع الإضافات. وليس الأمر على إطلاقه، فقد يوجد من ذلك في الكلام الفصيح، بل في أفصحه، كما في قوله تعالى: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا)، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح: (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم). والمرجع في هذا إنما هو إلى ثقل اللفظ أو خفته على اللسان.

    هذا ملخص ما ذكره البلاغيون في هذا المبحث.
    لكن العمدة – عند التحقيق – إنما هي على لحظ تصرفات البلغاء في خطبهم ورسائلهم وقصائدهم، لا على هذه الضوابط الرياضية الصارمة؛ إذ الضوابط عصا الأعمى – فيما قيل) (.
    وقد كان العرب الأقحاح في الأعصار المتقدمة يرسلون الكلام على سجيتهم، فيجيء منه كلام بليغ تارة، وأقل بلاغة تارة أخرى. وكان الذوق العربي سليما من عوارض الهجنة، وآثار العجمة. فكان الاعتماد عليه في تمييز البليغ الفصيح من غيره.
    ثم جاء من بعدهم فقعّدوا وأصلوا، وكان في ذلك خير كثير. لكن بالغ المتأخرون في تتبع القواعد النظرية، والجمود على القوانين الجاهزة، وأهملوا التطبيق العملي، وإعمال الذوق اللساني البليغ.
    فلتكن نظرتنا إذن – في هذا البحث – نابعة من هذا الأصل الذوقي، ولنكن من القواعد على ذُكر، نتطلبها عند الحاجة إليها، حين يخوننا ذوقنا الهائم في سباسب العُجمة.

    • موضوع البحث:
    موضوع الكلام هو الأحاديث القولية الصحيحة المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    فلا يدخل في مبحثنا حديث فعلي، ولا تقريري، ولا حديث في صفة الحبيب صلى الله عليه وسلم. والأمر في هذا أظهر من أن يحتاج إلى بيان.
    ولا يدخل حديث في رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تردد أو شك. وهذا حال الأحاديث المعلولة التي تجاذبها حالا رفع ووقف) (.
    ولا يدخل كذلك حديث غير صالح للاحتجاج، لكونه ضعيفا أو موضوعا أو نحوهما.
    بل أزيد فأقول: لا ينبغي أن تدخل في بحثنا هذا الأحاديث المختلف في صحتها بين الحفاظ. لأن المقامَ مقامُ تأصيل وتقعيد، وهو لا يناسب مراتب الظنون، وإنما يحتاج إلى ثلج اليقين.
    وهذا الاحتراز الثالث عظيم الخطر، سامق الشأن. لكن أغلب المتكلمين في هذا الباب معرضون عنه في التطبيق، مع كونهم مجمعين على صحته عند التنظير.
    ولعل السبب في ذلك، تجاذب الاختصاصات العلمية. وذلك أن الباحثين في أبواب البلاغة عموما – والنبوية منها خصوصا – هم من أرباب اللغة والبيان، وليسوا من المحدثين والحفاظ.
    ولذلك كثر عنذهم الاستدلال بالأحاديث التي لا تصلح للاستدلال، لفقدها ركن الثبوت، وهو الأساس الذي يبنى عليه الاحتجاج.

    وقد يكون لهذا المأخذ – أي: ضرورة التأكد من ثبوت الأحاديث النبوية قبل الاستنباط منها - علاقة بإحجام جمع من العلماء عن الخوض في هذا الفن الرفيع.
    ولما كان القرآن قطعي الثبوت، تكلموا في إعجازه البلاغي، فأطابوا وأطنبوا. بل ما خرج علم البلاغة إلا من رحم الإعجاز القرآني) (. أما الكلام على البلاغة في الحديث النبوي، فلم يرق إلى نفس المرتبة ولا إلى قريب منها.
    على أن الفرق بين البلاغة النبوية والإعجاز القرآني ثابت ظاهر لا سبيل إلى طمسه. وهو ذاتُه الفرق بين المعجز وغير المعجز، والفاصل بين كلام الخالق وكلام المخلوق. وذلك أن كلام النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مهما ارتقى في درجات البلاغة، وتسامى إلى سماء الفصاحة، يبقى كلاما بشريا، تلفه مسحة الإنسانية، وتغلفه سرابيل الفناء البشري.
    أما القرآن الكريم، فلا تجد فيه حين تتذوق ألفاظه، وتتدبر معانيه، شيئا من حالات النفس الإنسانية، أو أثرا من تقلباتها. ولذلك تقف أمامه عاجزا متحيرا، تشعر بذل المخلوق وضعفه أمام عظمة الخالق سبحانه.
    ولذلك قال الجاحظ:
    (.. لأن رجلاً من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، لتبين له في نظامها ومخرجها، وفي لفظها وطبعها، أنه عاجز عن مثلها. ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها. وليس ذلك في الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين.
    ألا ترى أن الناس قد كان يتهيأ في طبائعهم، ويجري على ألسنتهم أن يقول رجل منهم: الحمد لله، وإنا لله، وعلى الله توكلنا، وربنا الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا كله في القرآن، غير أنه متفرق غير مجتمع؛ ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، على نظم القرآن وطبعه، وتأليفه ومخرجه لما قدر عليه، ولو استعان بجميع قحطان ومعد بن عدنان)) (.
    وفي معنى هذا قول الله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)) (.
    وهذا لب الإعجاز البلاغي القرآني، الذي لا مطمع لأبلغ البلغاء في متابعته فضلا عن مجاراته. ومَن تجشم عناء معارضته من أهل الشقاق، ما زاد على أن فضح نفسه، وأتى بما جعله هزؤا أبد الدهر) (. أما كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإنه - على بلوغه أعلى مراتب الفصاحة – فيه من آثار النفس الإنسانية ما يجعل البلغاء يطمعون في محاكاته، لما يلمسونه من الصلة البشرية بينهم وبينه.

    وأمر آخر له تأثير في هذا التفريق بين القرآن الكريم والبلاغة النبوية، وهو مسألة الرواية بالمعنى في الحديث. وهي مسألة عظيمة الشأن جدا، جديرة بأن تخصص لها وقفة يسيرة، تجلو غوامضها.
    وجماع الأمر فيها، أن الرواية بالمعنى ثابتة في طائفة من الأحاديث النبوية، حتى قال الثوري: (إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى)) (. لكن، لا يكون ذلك مانعا في الاستدلال بالحديث على الأصول العامة للبلاغة النبوية، وذلك للأوجه التالية:
    الوجه الأول: أن الأصل عند المحدثين الاعتناء بضبط ألفاظ الحديث، ومنهم من كان يتشدد في ذلك – على ما هو مقرر. فالرواية بالمعنى أمر عارض لا ينبغي أن يسوى بالأصل الثابت. يؤكده
    الوجه الثاني: وهو أن من قال من الحفاظ بجواز النقل بالمعنى، إنما قاله من باب التجويز العقلي، الذي لا يتنافى – في الغالب - مع وقوع عكسه. فالغالب على الظن أن الألفاظ الأصلية للنبي صلى الله عليه وسلم لم يطرأ عليها تبديل البتة، أو لم يساورها غير شيء من التبديل يسير.
    الوجه الثالث: أن الرواية بالمعنى – على فرض كونها محل اتفاق - لا تعم كافة أصناف الحديث. وإنما الغالب وقوعها في الأحاديث الطويلة. أما الأحاديث القصار، أو حِكم النبي صلى الله عليه وسلم وأمثاله، ونحو ذلك، فإن الرواة يحافظون على نصها، ولا يعدلون عنه، لانعدام الحاجة إلى ذلك.
    الوجه الرابع: أن التبديل الواقع في الحديث بسبب الرواية بالمعنى، إنما يكون في اللفظة الواحدة بعد اللفظة، أو في بعض دقائق التركيب، مع بقاء الهيكل العام للحديث، وهو – في الأعم الأغلب – موضع حكم الذوق بالبلاغة.
    الوجه الخامس: أن للمحدثين - خاصة منهم أهل العلل - طرقا خاصة يجمعون بها روايات الحديث الواحد، فيظهر من جمعها إن وقع في نص الحديث تصرف من الرواة أم لا. ثم إن كان الحديث مما اختلفت فيه ألفاظ رواته، من غير سبيل للترجيح بينها، فالمتعينُ تنكبُه في مبحثنا هذا.
    الوجه السادس: أن الشك المتطرق إلى بعض الأحاديث بسبب من احتمال الرواية بالمعنى، لا ينفي صحة الأصول العامة المأخوذة بطريق الاستفاضة والتواتر، من مجموع الأحاديث النبوية.
    وفي الجملة، فإن هذه المسألة – وإن صح عدّها سببا في تأخر بحث البلاغة النبوية مقارنة ببلاغة القرآن الكريم - لا ينبغي أن تصرف الباحث في الموضوع عن مراده.

    • خطوة نحو التأصيل:
    ليس المراد في هذا البحث أن يجمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم في صعيد واحد، ويستخرج ما فيه من أفانين البلاغة، وضروب الفصاحة. فذاك مقصد لا مطمع في إدراك عشر معشاره. وقد قارب بعضَه جمع من شراح الحديث، فأجادوا وأحسنوا.
    وإنما المراد وضع بعض الأصول العامة، والضوابط الإجمالية، التي تعين على فهم هذا الكلام البليغ، وتذوق حلاوته. وأعظِم به من مقصد جليل !
    وقد مضى آنفا ذكر بعض ألوان التأصيل، ويأتي من ذلك فنون أخرى – بإذنه تعالى.

    برهان البلاغة النبوية:
    وإذ وصل بنا الكلام إلى هذا الموضع، فلرُب متكئ على أريكته، منجدل في طينة غفلته، يحك عينيه ليطرد عنهما سمادير الوسَن، ثم يقول: قد حدثتنا طويلا عن هذه البلاغة النبوية، حتى لكأنها عندك من المسلمات؛ أفَتُرانا نسلم برأيك لمحض قولك؟
    وجوابي عن هذا – بعد أن أردد مع أبي الطيب قوله المأثور:
    وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
    من أوجه تأتيك فيما يلي:
    أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن نفسه بذلك، فقال (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي)) (.
    قَالَ الزهري) (: (وَبَلَغَنِي أَنَّ جَوَامِعَ الْكَلِمِ أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْأُمُورَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُكْتَبُ فِي الْكُتُبِ قَبْلَهُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْأَمْرَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ).
    وهل هذه البراعة في الجمع، والإعجاز في الإيجاز، وقلة اللفظ مع كثرة المعاني، إلا قمة ما تكون عليه بلاغة الكلام؟
    ولست أستدل في هذا المقام، ببعض الأحاديث التي يذكرها المتكلمون في هذا الباب، مع كونها لا تصح من جهة الإسناد.
    ومن ذلك:
    - ما جاء عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم دجن: (كيف ترون بواسقها؟). قالوا: ما أحسنها، وأشد تزاحمها. قال: (كيف ترون قواعدها؟). قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها. قال: (كيف ترون جونها؟). قالوا: ما أحسنه، وأشد سواده. قال: (كيف ترون رحاها استدارت؟). قالوا: نعم، ما أحسنها وأشد استدارتها. قال: (كيف ترون برقها؟، أخفوا، أو وميضا؟ أم يشق شقا؟). قالوا: يا رسول الله، بل يشق شقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحيا). فقال له رجل: يا رسول الله ما أفصحك، ما رأينا الذي هو أعرب منك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حق لي، وإنما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين؟)) (.
    - ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أني من قريش)) (.
    - وما جاء من حديث أبي سعيد مرفوعا، قال: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، أنا أعرب العرب، ولدتني قريش، ونشأتُ في بني سعد بن بكر، فأنى يأتيني اللحنُ)) (.
    - ومثله ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب بعض خطباء الوفود بكلام عذب فصيح، فقال له علي رضي الله عنه: (يا رسول الله نحن وأنت بنو أب واحد ونشأنا في بلد واحد، وإنك تكلم العرب بلسان ما يفهم أكثره. فقال: (إن الله عز وجل أدبني فأحسن تأديبي، ونشأت في بني سعد بن بكر)) (.
    ومن هذه البابة أحاديث أخرى تركت ذكرها اختصارا.
    والوجه الثاني: أن الصحابة الذين وصفوا منطقه عليه الصلاة والسلام، شهدوا له – وهم سادات الفصحاء، ومن معدن البلاغة والأدب – بتقدمه في هذا المضمار، بحيث لا يلحق غباره، ولا يدرك شأوُه.
    من ذلك ما أخرجه النسائي والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسرد الكلام كسردكم هذا، كان كلامه فصلا يبينه يحفظه كل من سمعه).
    وقد جاء بسند ضعيف من حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، طويل الفكرة، ليس له راحة، لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتح كلامه ويختمه بأشداقه. يتكلم بجوامع الكلم، فضل لا فضول ولا تقصير، دمث ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة، وإن دقت، لا يذم منها شيئا، لا يذم ذواقا ولا يمدحه)) (.

    والوجه الثالث: أن أكابر البلغاء أذعنوا للفصاحة النبوية، وجعلوها تاجا على رأس العربية، يشع نور لآلئها على أرجاء الكلام العربي كله.
    بل تخذوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم معينا ثرا يمتحون منه في مكاتباتهم ومخاطباتهم.
    والأمر في شرح هذا وتفصيله يطول جدا.
    فلأجتزئ بذكر كلام الأديب البليغ، مقدم أهل الصنعة، عمرو بن بحر الجاحظ في (البيان والتبيين)) (، حين يقول:
    (وأنا ذاكرٌ بعد هذا فَنّاً آخرَ من كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو الكلام الذي قلّ عدد حروفه وكثر عدد معانيه، وجَلَّ عن الصَّنعة، ونُزِّه عن التكلف، وكان كما قال اللّه تبارك وتعالى: قل يا محمد: "وما أنا مِنَ المتَكلِّفين "، فكيف وقد عابَ التشديق، وجانب أصحاب التقعيب، واستعمل المبسوطَ في موضع البسط، والمقصورَ في موضع القصر، وهَجَر الغريبَ الوحشيَّ، ورغِبَ عن الهجين السُّوقيّ، فلم ينطِقْ إلا عن مِيراثِ حكمَةٍ، ولم يتكلَّم إلا بكلامٍ قد حُفَّ بالعصمة، وشُيِّد بالتأييد، ويُسِّرَ بالتوفيق. وهو الكلامُ الذي ألقَى اللّه عليه المحبّةَ، وغشَّاهُ بالقَبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبَيْن حُسنِ الإفهام، وقلّة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقِلّةِ حاجة السامع إلى معاوَدته. لم تسقط له كلمة، ولا زَلّت به قَدَم، ولا بارَتْ له حجَّة، ولم يَقُم له خَصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذُّ الخُطَبَ الطِّوال بالكلِم القِصار ولا يَلتمِس إسكاتَ الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتجُّ إلا بالصِّدق ولا يطلب الفَلْج إلا بالحق، ولا يستعين بالخِلابة، ولا يستعمل الموارَبة، ولا يهمِز ولا يَلْمِز، ولا يُبْطِيءُ ولا يَعْجَل، ولا يُسْهِب ولا يَحْصَر، ثم لم يَسْمع الناسُ بكلامٍ قَطّ أعمَّ نفعاً، ولا أقصَدَ لفظاً، ولا أعدلَ وزناً، ولا أجملَ مذهباً، ولا أكرَم مطلباً، ولا أحسنَ موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح معنًى، ولا أبين في فحوَى، من كلامه صلى الله عليه وسلم كثيراً)) (.
    ثم قال:
    (قال محمَّد بن سلام: قال يونس بن حبيب: (ما جاءنا عن أحدٍ من روائع الكلام ما جاءنا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم).
    .. ولعلّ بعضَ من يتَّسِع في العلم، ولم يعرفْ مقاديرَ الكَلِم، يظُنّ أنّا قد تكلّفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد ما ليس عنده، ولا يبلُغه قدْرُه، كَلاَّ والذي حَرَّمَ التزيُّدَ على العلماء، وقبَّح التكلّف عند الحكماء، وبَهْرَجَ الكذَّابين عند الفقهاء، لا يظنّ هذا إلا من ضلَّ سعيُه)) (.
    والوجه الرابع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقامه الله تعالى في موضع البيان لكتاب الله عز وجل، وذلك إنما يناسب أعلى درجات البلاغة. قال الحليمي رحمه الله في الكلام على بيان النبي صلى الله عليه وسلم وفصاحته: (ولو لم يكن على ذلك دلالة سوى أن الله نصبه منصب البيان لكتابه، فقال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) لكان كافيا، فإنه لو لم يكن آتاه البيان، ولم يرقه فيه إلى أعلى الدرجات، لما رضيه لتبيين كتابه، والكشف عن معاني خطابه)) (.
    والوجه الخامس: أن العرب الخلص الذين عاش النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، وبث دعوته بين ظهرانيهم، لو علموا في فصاحته ما يعاب، أو ما يخالف أصول البيان والإعراب، لتعلقوا به، وبثوا ذلك في مجالسهم، واتخذوه سبة يتندرون بها في نواديهم؛ ولردوا عليه دعوته بسبب من ذلك، لأنهم من العرب الأقحاح الذين لا يستجيبون إلا لأفصحهم لسانا، وأظهرهم بيانا) (.
    فلما لم يوجد من ذلك شيء، ولو أقل من القليل، مع توفر الداعي، وقوة المقتضي، علمنا أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب قاطبة، لا يخالج النفس في ذلك أدنى شك أو شبهة.
    والوجه السادس: وهو الذي ينبغي أن يكون قبل الوجوه السابقة كلها، وينبغي أن يكون بعدها كذلك. وهي بينة إثبات أَكِل أمر الشهادة بها للذوق العربي السليم.
    إن القارئ لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يجد من حلاوتها في نفسه، ما تصغر معه كل حلاوة أدركها طول عمره؛ ومِن نورها في قلبه، ما تنشرح له أرجاء صدره.
    ومهما زدت من القراءة، وأكثرت من النظر في تلك الأحاديث، فإنك لن تجد في ذهنك ذرة من الملل أو السآمة، وإنما هو نور آخذ بحجزة نور، وضياء يتلوه ضياء.
    ولن تجد - في غير القرآن والحديث - هذه الخاصية العجيبة في شيء من الكلام، كائنا من كان مبدعه.

    سر البلاغة النبوية:
    وإذ قد برهنا على بلوغ الكلام النبوي أعلى مراتب الفصاحة، فلنا أن نسأل عن سر هذه البلاغة النبوية؟
    والحق، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتمعت فيه خلال كثيرة، ثقّفت لسانه، وزينت بيانه، وجعلته تاج الفصحاء، وسيد البلغاء.
    • وأول هذه الخلال نسبه الكريم. فإن قبيلتَه قريشا كانوا أفصح العرب لسانا، وأرقهم لفظا، وأبعدهم عن تلك اللهجات الرديئة التي وصمت غيرهم من قبائل العرب) (. وقد نشأ النبي عليه الصلاة والسلام في بني سعد بن بكر) (، وهم من أكرم العرب وأفصحهم، مع كونهم أهل بداوة رقيقة الحواشي، ليس فيها من جلافة الأعراب ما يكدر صفوها.
    وقد كانت حليمة السعدية من أوسطهم؛ والرضاع مؤثر في الطباع، كما قد قيل) (. ولم يختلط عليه الصلاة والسلام طول حياته الشريفة بقوم خارجين عن حدود رفعة البيان.
    وإذ قد اجتمع له صلى الله عليه وسلم أفضل ما ينشأ في كنفه فصيح قط، فلا جرم أن اعتلى سماك البيان اللغوي، وأتى منه بأفضل ما يطيقه إنسان.
    • وثانيها قلبه النقي التقي، المتجذر في الصفاء، والمتغلغل في الطهر. وهو قلب متصل بالله عز وجل، ينبض بأشرف المعاني، وأزكى الفكَر، فلا يزال يبعثها أرسالا بهية، إلى ذاك اللسان الفصيح، ليترجمها كلاما منمقا بديعا.
    • وثالثها عقل ذكي متوقد، وذهن حاد متوهج، وبصيرة نفاذة إلى بواطن الأمور. فلا يمر على خاطره إلا معنى جليل قد امتلك ناصية الصحة، وترفع عن سفساف الأفكار.
    • ورابعها لسان صقلته روائع البيان القرآني، فصار ذربا بأنصع الألفاظ، وأرشق التراكيب، وأحكم المعاني. وأعظِم بلسان يُدارس جبريل عليه السلام عجائب آيات التنزيل، ونفائس القرآن الكريم.
    • والخامس تأييد إلهي محكم، يعصمه من العيوب التي لا يخلو من الوقوع فيها غيره من الفصحاء. فتجد كلامه متناسقا في سموه، متوازيا في عليائه، لا ينزل في لحظة ما عن أعالي رتب البيان. وهذا لا يكون إلا بمدد من الوحي.
    ولذلك صح أن أزعم بثقة وثبات، أن البلاغة النبوية – رغم قصورها عن درجة الإعجاز القرآني - ليست متمحضة في الإنسانية، بل هي قبس من الوحي الإلهي.

    أصول البلاغة النبوية:
    ذكرت فيما سبق من الكلام، مباحث نافعة، قاربتُ فيها شيئا من التأصيل المجمل لفن البلاغة النبوية، وذلك بقدر ما تتسع له صفحات هذا المقال المختصر.
    وأنا الآن ساردٌ لك، جُملا من الأصول والأركان، يقوم عليها صرح البلاغة النبوية. ولست أزعم لنفسي أنني محيط بتلك الأصول إحصاء وعَدا، ولا أنني مستوف بحث ما سأذكره منها. ولكن حسبي من الدلالة ما أبان أوائل الطرُق، ويكفيني من در القلادة ما أحاط بالعنق.
    1- القصد والإيجاز:
    ومعناه أن تجتمع المعاني الكثيرة المقصودة من الكلام في الألفاظ القليلة، التي تقل عن العدد المتعارف عليه بين الناس في عادات خطابهم.
    وهو من معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت بجوامع الكلم)، وقد سبق إيراده.
    وقد سلم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم – بهذا القصد والإيجاز – من الانتشار المفضي إلى العي والخطل، ومن الإطناب المؤدي بالسامع إلى السآمة والملل.
    وإنك مهما قلّبت وجوه النظر في كلام البلغاء في تصاريف كلامهم، فلن تجد فيهم من يسلم من اللجإ إلى فنون من الإطناب والإطالة، وتشقيق الكلام، يستعين بها على بسط ما يبثه من المعنى.
    ولن تجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك شيئا. وإنما هو القصد الذي يحير الألباب، ويبهر العقول.

    وتأمل قوله عليه الصلاة والسلام، على سبيل المثال: (إنما الأعمال بالنيات)) (. ستجد في هذه الكلمات الثلاثة المختصرة في هذا التركيب اللطيف، ألوانا من العلوم، وأصنافا من المعاني) (، يحار أهل الفهوم في استنباطها.
    ومثله في الوجازة والجمع، أحاديث أخرى كثيرة، منها قوله عليه الصلاة والسلام:
    - الدين النصيحة) (.
    - الحلال بين، والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات.
    - إنما الصبر عند الصدمة الأولى.
    - المرء مع من أحب.
    - الناس معادن.
    - الظلم ظلمات يوم القيامة) (.
    وغيرها من مثل هذه الأحاديث القصار التي تخرج مخرج الحكمة الشاردة، والمثل السائر، والقاعدة العامة الشاملة لما لا يحصى من المفردات، كثير جدا في دواوين السنة النبوية) (.

    2- استيفاء المعنى:
    وإذا كان الإيجاز مطلبا بلاغيا ساميا، فإن تقصده كثيرا ما يفضي بأرباب الأدب والفصاحة، إلى لون من النقص والاضطراب، يخرج به الكلام سقيما مخَدجا.
    وأما في كلام سيد الفصحاء – صلى الله عليه وسلم – فإن الإيجاز ليس مخلا بالمعنى، وإنما هو ضرب من البراعة اللفظية، يكتمل رُواؤه باستيفاء المعنى المراد، حتى يخرج الكلام حسن التركيب والمظهر، تام المضمون والمخبر.
    وهذا أصل عظيم جدا، هو لب البيان النبوي، المعصوم من التقصير في الهداية والإرشاد. ولولاه لما كانت السنة النبوية الشريفة بهذه المثابة في تقرير الشرائع، وتحرير القواعد، ووضع الأصول والضوابط.

    ومن المثال على ذلك:
    - قول النبي صلى الله عليه وسلم في تعريف الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) (. وأنت لو شئت أن تبدل في هذه الكلمات المتناسقة، بزيادة أو نقص، لتكميل المعنى أو بسطه، لما تأتى لك ذلك إلا بحيث تخرج من حدود البيان العربي البليغ، إلى نوع من الثرثرة الممقوتة. فالمعنى – كما ترى – كامل منسجم، واللفظ ناصع منورق، مستو في فصاحته، لا عوج فيه ولا أمت.
    - وقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (: تأصيل عظيم لباب من أبواب الشرع جليل. ولست ترى فيه – على وجازته وحذف فضوله – نقصا في المعنى المقصود.
    وفي الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمثلة على هذا الأصل، الشيء الكثير. وأنا مكتف – على رغبة مني في البسط جامحة – باستعاذته صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل، والجبن والهرم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات) (.
    قال ابن القيم:
    (فجمع هذا الحديث الشريف في استعاذته صلى الله عليه وسلم أصول الشر وفروعه ومباديه وغاياته وموارده ومصادره وهو مشتمل على ثمان خصال كل خصلتين منها قرينتان)) (.
    وقس على هذا الدعاء غيره، فتدبره وأنعم النظر فيه، تر عجبا.

    3- نصاعة الألفاظ:
    ألفاظُ الحديث النبوي واضحة لكل أحد، خالصة من كل بشاعة، مبرأة من كل عيب وهجنة. اجتمع فيها ما أوردناه آنفا من شروط الفصاحة في المفرد، وزادت على ذلك، حتى استوت على عرش البيان، وتبوأت من البلاغة المحل الأسمى.
    ولا يشكل على ما قررنا، بعض ما يورده أهل الغريب من الألفاظ الوحشية المستعصية على الفهم، وذلك لأن كثيرا من هذه الألفاظ لم تصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما وردت في الأحاديث المرفوعة المروية في كتب السنة بالإسناد، فتتبعها أهل الغريب بالشرح البيان، ولم يتكلفوا عناء التثبت من صحتها، إذ لم يكن ذلك من مرامهم.
    وقسم آخر من هذه الألفاظ الصعبة، تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بها، بسبب من اختلاف أحوال المخاطبين. فقد كان منهم أعراب موغلون في البداوة، وأصحاب منعمون في رقة الحضارة، وكان منهم ملوك وسوقة، وصغار وكبار، ونساء ورجال. فخاطب كل طائفة من هؤلاء بما يوافق حاله.
    وهل البلاغة إلا مراعاة حال المخاطَب، لتحصل أعلى درجات الإفهام؟
    لكنه – صلى الله عليه وسلم – لم يخرج قط عن انتقاء الحر من اللفظ، الذي يتقبله السمع، ويستسيغه الذوق.
    وتأمل في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)) (.
    ألست تجد وقع هذه الألفاظ وهي تدغدغ سمعك، وتلامس شغاف قلبك، مع إيغالها برفق في وضوح المعنى، وسلاسة التركيب؟.

    4- موافقة مراد المخاطب:
    ويسوقنا الكلام في الأصل السابق سوقا حثيثا، فيسلمنا إلى عرض أصل آخر عظيم الخطر، وهو أن الكلام النبوي كان يتأقلم مع أحوال المخاطبين به، مع الاحتفاظ بالأصول الثابتة الأخرى.
    فهو إذ يخاطب ملكا من ملوك الأرض، تجده يقول: (سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)) (.
    وحين يخاطب بعض أطفال المسلمين يقول: (يا أبا عمير ما فعل النغير)) (.
    فتدبر ما في الحديث الأول من الفخامة والجزالة، حتى لكأن كلماته صواعق منزلة، تقرع رأس عظيم الروم؛ وما في ألفاظ الحديث الثاني من الرقة والحنان، حتى لكأنها تطرب فؤادك بعذوبتها.
    هذا، وقد ذكر بعض الأفاضل في هذا الباب، كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لوائل بن حجر: (إلى الأقيال العباهلة، والأرواع المشابيب، الحديث)، وكتابه إلى همدان: (إن لكم فراعها ووهاطها وعزازها، الحديث)، وقوله لبني نهد: (اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها، الحديث)، ونحو ذلك.
    وقد ضربت صفحا عن ذكر هذه الكتب والأحاديث، لأنها لا تصح من جهة الإسناد) (.

    5- عدم التكلف:
    وهذا الأصل متفرع عن مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم بكلامه البيان للنص القرآني، والإرشاد إلى خيري الدنيا والآخرة. وهذان الأمران لا يجتمعان مع التشدق والتفاصح.
    ولذلك لا يوجد في كلامه عليه الصلاة والسلام شيء من الصناعة اللفظية المتكلفة، وإنما كان يتكلم عن روية وسلاسة طبع.
    وحتى ما جاء في حديثه من السجع، فهو سجع بالغ السلاسة والعذوبة، ليس فيه خشونة الصناعة، بل ينسج على منوال الفواصل القرآنية، ويهتدي بضيائها، مع الفرق بين الكلامين كما سبق بيانه.

    6- الخلوص من العيوب البلاغية:
    كلامه عليه الصلاة والسلام مبرأ من الهنات البيانية التي لا يكاد يسلم منها متكلم. وإنك مهما استطعت، فلن تستطيع أن تجد في كلامه هجنة أو ضعفا؛ ومهما قدرت، فلن تقدر على أن تستخرج منه ركاكة أو إسفافا.
    وقد ترفّع كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن جفاء البداوة وغلظتها، وعن ضعف الحضارة وركاكتها. مع كونه أمسك من الأولى بأزمة جزالتها وفصاحتها، وغشي من الثانية بسرابيل رقتها وسجاحتها.
    فجاء كلاما جزلا في رقة، ومتينا في عذوبة، وقويا في لطف وبهاء.

    7- السبق إلى بعض التراكيب:
    وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم من البيان والفصاحة بهذا المحل الأسمى، الذي وصفته لك فيما سبق من الكلام، فليس بمستبعد أن يسبق أرباب البلاغة إلى تعبيرات لم يجارَ فيها، ولا تهيأ لغيره أن يحاكيها.
    فمما تفرد بالسبق إليه:
    - قوله صلى الله عليه وسلم: (حمي الوطيس)) (، أي: اشتدت الحرب.
    - وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)) (.
    - وقوله أيضا: (الحرب خدعة)) (.
    وقد أفرد الخفاجي هذا الباب بالتأليف، على ما ذكر في شرح الشفا.
    فهذا التفرد والسبق، مساهمة من النبي صلى الله عليه وسلم في الوضع اللغوي، بشقيه الإفرادي والتركيبي، وبلونيه الحقيقي والمجازي.
    ومن أحق بذلك من سيد الفصحاء – بأبي هو وأمي – صلى الله عليه وسلم؟


    وبعد، فهذا جهد المقل في وصف هذه البلاغة النبوية التي بذت فصحاء العرب!
    أردت لهذه الكلمات أن تكون شذرات منثورة، توقظ الوسنان، وتحرك الغافل. وأسأل الله تعالى أن ييسر لي – فيما يستقبل من الأيام - بسط ما ورد في هذا المقال مختزلا، وتفصيل ما ذكرته فيه مجملا.
    وحسبي الآن أن أكون قد طرقت بابا موصدا على أمثالي، ونفذت قليلا بذهن كليل، وفكر ضئيل، إلى تلك المعاني السامقة، والحقائق العالية.
    والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
    البشير عصام (أبو محمد)
    الرباط، يوم الخامس والعشرين
    من ربيع الأول من سنة 1428.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    155

    افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية

    على ملف...
    الملفات المرفقة الملفات المرفقة

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    510

    افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية

    أهلاً بالشيخ ومرحباً، وقد شرفتنا في هذا المجلس المبارك شرفك الله بطاعته.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,901

    افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية

    اهلا وسهلا ومرحبا بالشيخ الغالي .
    قل للذي لايخلص لايُتعب نفسهُ

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    155

    افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية

    جزاكم الله خيرا، أخوي الفاضلين.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    2,642

    افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية


    مرحباً بكم وأهلاً يا أبا محمد
    أحببت المبادرة بالترحيب، ثم العودة إلى الإفادة من موضوعكم

    يسرني متابعتك لصفحتي على الفيسبوك
    http://www.facebook.com/profile.php?...328429&sk=wall

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    7,156

    افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية

    حياكم الله شيخنا الفاضل

    شرفت مجلسنا ونورت منتدانا

    أسأل الله أن يبارك فيكم، ويجعل ما تقدمونه في ميزان حسناتكم
    صفحتي في تويتر : أبو مالك العوضي

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Mar 2007
    المشاركات
    914

    افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية

    بارك الله فيك ياشيخ.
    ومرحباً بك بين إخوانك في الله.
    ** قـال مـالـك رحمه الله: **
    (( إن حقا على من طلب العلم أن يكون عليه:
    وقار، وسكينة، وخشية، وأن يكون متبعا لآثار من مضى من قبله ))
    ============================== ==============================
    الشيخ العلامة المحدث / عبد الكريم بن عبد الله الخضير

    الشيخ العلامة المحدث / سعد بن عبد الله آل حميد

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    3,515

    افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية

    أهلاً بالشَّيخِ عِصَام ومرحبًا.

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    1,699

    افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية

    أهلا ومرحبا بالشيخ أبي محمد وشكر الله له حضوره وإتحافه .

  11. #11

    افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية

    شكر الله لك، وحفظك، ونفع بك

  12. #12

    افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية

    بسم الله الرحمن الرحيم.
    جزيت الجنة يا شيخ عصام، والظاهر أنك قليل المشاركة في هذا المنتدى مقارنة مع ملتقى أهل الحديث.

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    المشاركات
    403

    افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية

    حياكم الله شيخنا الفاضل والله إني أحبكم في الله ومقالكم رائع للغاية وكلامكم يأسر المستمع فلا يمل منه لكن به عيبا وهو أنك تحزن عند الانتهاء من القراءة وتتمنى لو طالت بك القراءة !
    وهناك بعض الاستفسارات شيخنا الفاضل :
    1 - أثرتم حفظكم الله قضية ( الرواية بالمعنى ) وكيف أنها كانت حجر عثرة أمام كثير من أهل اللغة والبلاغة من أن يخوضوا غمار كلام النبوة الرصين ، ولقد درستُ قضية الاستشهاد بالحديث الشريف وهل هو حجة لغوية أم لا ؟ فمنهم من أباح مطلقا ومنهم من منع مطلقا ومنهم من وضع شروطا للاحتجاج ومنها :
    أ - أن يكون الحديث في كتاب من كتب السنة الموثوقة .
    ب - أن يكون راويه ممن لا يجيز الرواية بالمعنى كابن سيرين رحمه الله وغيره .
    ج - أن يكون راويه يجيز الرواية بالمعنى ، لكن كلامه حجة كالشافعي رضي الله عنه .
    د - أن يكون الحديث من جوامع الكلم فهذه غالبا ما نقلت بلفظها .
    ه - أن يكون الحديث من الألفاظ التي يتعبد إلى الله بها كالأدعية والأذكار فهذه غالبا ما تنقل ألفاظها .
    و - أن يكون الحديث من العبارات التي لم يُسبق إليها النبي صلى الله عليه وسلم ك ( مات حتف أنفه ) ( حمي الوطيس ) ....إلخ
    ي - أن يكون الحديث من الأحاديث التي خاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم أقواما من العرب بلهجتهم كقوله : ( ليس من امبر امصيام في أمسفر ) ( بغض النظر عن الملاحظات حول شذوذ هذا الحديث ونحو ذلك )
    فما رأي فضيلتكم في هذه القضية ؟ لأنني كنت مشغولا ها منذ فترة ثم نسيتها إلى أن قرأتُ مقالكم الموقر .
    2 - قولكم - حفظكم الله - : " وأول هذه الخلال نسبه الكريم. فإن قبيلتَه قريشا كانوا أفصح العرب لسانا، " هل من بحث شامل حول هذه القضية ؛ لأني كنت قد قرأتُ في أحد الأبحاث الجامعية أن قبيلة قريش - مع فصاحتها -ليست حجة ، لما حدث في لغتها من تغير بسبب الخلطة بمن يأتون إلى مكة ؟
    وجزاكم الله خيرا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    المشاركات
    403

    افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عصام البشير مشاهدة المشاركة
    وقد قيل قديما: (المرء عدو ما يجهل).
    يشهد له قول الله تعالى في سورة يونس : " بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)" وقوله في سورة الأحقاف: " وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) "
    - قال القرطبي رحمه الله : " وقيل لبعضهم: هل في القرآن: من جهل شيئا عاداه ؟ فقال نعم ؟ قال الله تعالى: " وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم " ومثله " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه " (2) [ يونس: 39 ].

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    155

    افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية

    جزى الله خيرا إخوتي المشايخ الذين تدخلوا بالتعقيب والتشجيع.
    أخي الكريم العبادي
    وفقكم الله لمرضاته.
    قضية الاستشهاد بالحديث في النحو واللغة قد قتلت بحثا قديما وحديثا، وألفت فيها مؤلفات جامعة. فلن يزيدك رأيي المجرد فيها شيئا ذا بال.
    وتجد على هذا الرابط فوائد نفيسة:
    http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showth...E1%CD%CF%ED%CB

    أما القضية الثانية، فأنا فيها متبع للذين جزموا بأن قريشا أفصح العرب. وتجد تفصيل الكلام فيها في مزهر السيوطي، وفي شروح حديث (أنا أفصح العرب بيد أني من قريش). وغيرها من كتب اللغة.
    وأعتذر عن التفصيل، لأن ذلك يأخذ وقتا كثيرا.
    والله أعلم.

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    59

    Arrow رد: أصول البلاغة النبوية

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    تناول الأستاذ عصام أبو محمد المغربي -جزاه الله خيرا- موضوعا مفيدا، وقد قرأته بعناية وتركيز، وقد بعثت له بهذه الملاحظات في رسالة خاصة لأستبين بها إن كان هو عصام البشير الوزير السوداني، أم أنه آخر، ولأتيح له النظر في إمكانية تعديلها بنفسه، لأن موضوعه من المواضيع الجذابة المستطابة، كما أن أسلوبه لا يقل عن أسلوب بلديي إن لم يكن فوقه، وبعض هذه الأخطاء أخطاء طباعية خفيفة لا يكاد يخلو منها كتاب، وبعضها أحسب أنه من الأهمية بمكان، وجاء رده لينفي أنه عصام أحمد البشير -وزير الإرشاد السوداني السابق- بيد أنه لم يوافقني في أهم هذه الملاحظات، لذا رأيت أن أطرحها عسى أن يلمس المهم منها أذواق البعض فيوافقوني عليه، والملاحظات هي:-
    أولا: قوله: ((وزاد بعض البلاغيين، أن تخلص اللفظة من الكراهة في السمع، كلفظ (النقاخ) بمعنى الماء العذب. وفيه نظر، لأن في ذكر الغرابة غنية عن ذكر هذا العيب، لأن استكراه السمع للفظ إنما جاء من جهة وحشيته وغرابته)).
    فأقول: هذه أولى الملاحظات الهامة، فتعقبه لهذه الزيادة لا يسلم له، إذ ليس كل غريب في الألفاظ مستكره. وقد شرح علماء الغريب كثيرا من الألفاظ التي لا يستوحش من سماعها، بل هي مما يستطاب سمعه، فتقييد بعض البلاغيين المسألة بخلوص اللفظ من الكراهة تقييد معتبر، والمثال الذي أوردوه يدل على قوة تقييدهم، وأحسب أن زيادتهم في محلها، وأن الاعتراض عليها غير سليم.
    ثانيا: قوله: ((ولذلك كثر عنذهم الاستدلال))، خطأ طباعي طفيف، إذ أعجمت الدال المهملة.
    ثالثا: قوله: ((رحم الإعجاز القرآني))، وهذه أهم ملاحظة، فأحسب أنه من المناسب أن يستبدل لفظ (رحم)، وهو لفظ لا يحتمله القرآن، وأقترح تغييره إلى: ((مشكاة الإعجاز القرآني))، ولكن الأخ عصام قد حاول تبرير سلامة اللفظ ومناسبته، إلا أن تبريره لم يجد قبولا عندي، وما زلت أنفر من هذا اللفظ وأستبشعه جدا لكونه مرتبط بالقرآن.
    رابعا: قوله: ((بالشرح والبيان))، سقط منه حرف العطف، فأثبت: (بالشرح البيان)).
    خامسا: قوله: ((ليس فيه خشونة الصناعة))، أحسب أن المناسب: ((ليس فيه تكلف الصناعة)).
    وجزى الله الأستاذ عصام خيرا على هذا الطرح الممتاز.

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    155

    افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه
    أخي الكريم أبا أيوب
    وفقكم الله لمرضاته
    كنتم قد تفضلتم بإرسال رسالة خاصة، قلتم فيها ما يلي:
    وقد قرأت بتركيز ما سطره قلمكم ويسرني أن أكتب لكم هذه الملاحظات:
    أولا: قولكم: (وزاد بعض البلاغيين، أن تخلص اللفظة من الكراهة في السمع، كلفظ (النقاخ) بمعنى الماء العذب. وفيه نظر، لأن في ذكر الغرابة غنية عن ذكر هذا العيب، لأن استكراه السمع للفظ إنما جاء من جهة وحشيته وغرابته).
    اسمح لي بأن أقول: ليس كل غريب في الألفاظ مستكره. فزيادة بعض البلاغيين هنا أحسب أنها زيادة جيدة
    ثانيا: قولكم: (رحم الإعجاز القرآني)، أحسب أنه من المناسب أن تعيد النظر في لفظ (رحم)، وأقترح تغييره إلى: (مشكاة الإعجاز القرآني).
    ثالثا: الكلام المنسوب لسفيان: (هامش رقم عشرة)، أخرجه الترمذي في العلل الصغير، وأبو نعيم في الحلية مع اختلاف في السند.
    رابعا: قولكم (بالشرح والبيان)، سقط منه حرف العطف، فأثبت في مقالكم (بالشرح البيان).
    خامسا: قولكم: (ليس فيه خشونة الصناعة)، أحسب أن المناسب: (ليس فيه تكلف الصناعة).


    وقد أجبتكم بالتالي:

    أما عن ملحوظاتكم، فجوابها كما يلي:
    1- قضية الكراهة في السمع والغرابة، قضية مبحوثة منذ القدم، ولا يخلو منها كتاب من كتب البلاغة. ولست أنشط لاختصار كلامهم، إذ هو من الشهرة بالمكان الذي لا يخفى. ويكفيني قول صاحب التلخيص وهو من المتون المتداولة: (.. قيل: ومن الكراهة في السمع، نحو: (كريم الجرشى شريف النسب) وفيه نظر). فانظر شروحه عند هذا الموضع.
    2- لم يظهر لي في عبارة (رحم الإعجاز القرآني) ما يشكل، فهي استعارة تخييلية حسنة، جرت بها أقلام كثيرة.
    3- و4 - جزاكم الله خيرا.
    5- ما تؤديه لفظة (خشونة) من المعاني لا يتأتى في لفظ (تكلف). فالأول - في هذا السياق - لفظ أدبي حي، والثاني لفظ علمي جامد.


    وأزيد الآن البيان التالي:
    1- في قضية الكراهة والغرابة، أقول: قد أرشدتُكم آنفا إلى مواضع بحث هذه القضية. فأرجو أن تطلعوا عليها، ثم ليكن بحثكم للمسألة بعد ذلك منصبا على مناقشة ما ذكروه بشمول وإحاطة.
    وعلى كل حال، فإن ملحوظتكم هذه، انتقاد منكم لطائفة كبيرة من أهل البلاغة – إن لم يكن لجمهورهم – وأنا لا أعدو أن أكون متبعا لهم، مقتاتا من موائدهم. فلا يتوجه إلي شيء من الإنكار، إلا بالقدر الذي يتوجه إليهم مثله.

    2- في عبارة (رحم الإعجاز القرآني): هنا عِلمان اثنان هما: علم الإعجاز القرآني (وهو من العلوم القرآنية) وعلم البلاغة (وهو من علوم العربية). وقد نشأ الثاني من بين مباحث الأول.
    فشُبهت هذه العلاقة بين العلمين، بولادة الطفل من أمه، ثم أثبت للمشبه لازم من لوازم المشبه به – وهو الرحم إذ هو لازم للولادة – على سبيل الاستعارة التخييلية.
    والكلام هنا في (علم الإعجاز) وهو علم إنساني اجتهادي، لا في القرآن الذي هو كلام الله، فقولكم: (وهو لفظ لا يحتمله القرآن)، في غير محله.
    أما إن كان إنكاركم لأجل النفور من اللفظ أو استبشاعه، فتلك قضية ذوقية، لكل فيها وجهة هو موليها. فلا تثريب علي فيما اعتمْتُ من اللفظ.
    أما لفظ (المشكاة) الذي اقترحتموه فلا يؤدي الغرض المطلوب، إذ لا يتوجه تشبيه العلاقة بين العلمين، باقتباس النور من المشكاة، وإنما هو أقرب ما يكون بالولادة والتولد. فليتأمل.
    وقد تبين بما ذُكر، أنني لم (أحاول تبرير سلامة اللفظ ومناسبته) كما ذكرتم، إذ التبرير فرع الإقرار بالغلط، وهو ما لم يكن.

    3- لفظ (الخشونة): هو لفظ استعمله كثيرون في مثل هذا السياق، يحضرني منهم الرافعي – عليه رحمة الله - في مواضع. وأنتم لم تذكروا لإنكاركم تعليلا، ولا أقمتم عليه دليلا. فكيف السبيل إلى الذب عن النفس في مثل هذا؟
    وأنا لم يخف علي استعمال لفظ (تكلف)، فهو من الابتذال والشهرة بمكان، لكن الشأن في استعمال اللفظ الذي يؤدي الغرض الذي قصدته في نفسي، وتمثل في خاطري.
    جزاكم الله خيرا، ونفع بكم.
    والله أعلم.

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    59

    Arrow رد: أصول البلاغة النبوية

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    فقد اطلعت على تعليقكم الأخير، واسمح لي بأن أعلق على بعض أقوالكم فيه:
    أولا: قولكم: ((قضية الكراهة في السمع والغرابة، قضية مبحوثة منذ القدم، ولا يخلو منها كتاب من كتب البلاغة. ولست أنشط لاختصار كلامهم، إذ هو من الشهرة بالمكان الذي لا يخفى. ويكفيني قول صاحب التلخيص وهو من المتون المتداولة: (.. قيل: ومن الكراهة في السمع، نحو: (كريم الجرشى شريف النسب) وفيه نظر.
    فانظر شروحه عند هذا الموضع.
    فأقول وبالله التوفيق: أنا لم أطالبكم بالنشاط لاختصار كلامهم، حتى أستعين باختصاركم على فهم ما هو مسبوط ومشتهر، وإنما كان تعليقي واضحا، ولا يدل أبدا على عدم فهمي لكلامهم الذي قتل بحثا منذ القدم كما قلت.
    ثانيا: قولكم: ((في قضية الكراهة والغرابة، أقول: قد أرشدتُكم آنفا إلى مواضع بحث هذه القضية. فأرجو أن تطلعوا عليها، ثم ليكن بحثكم للمسألة بعد ذلك منصبا على مناقشة ما ذكروه بشمول وإحاطة.
    وعلى كل حال، فإن ملحوظتكم هذه، انتقاد منكم لطائفة كبيرة من أهل البلاغة – إن لم يكن لجمهورهم – وأنا لا أعدو أن أكون متبعا لهم، مقتاتا من موائدهم. فلا يتوجه إلي شيء من الإنكار، إلا بالقدر الذي يتوجه إليهم مثله)).
    وتعليقي هو: أولا جزاك الله خيرا على إرشادكم، ولكن! هل يفهم من كلامي أنني لم أطلع على ما ذكرت، حتى يتسنى لي مناقشة ما ذكروه بشمول وإحاطة؟! علما بأنني لم أستعرض معرفتي بالفن بقدر ما كنت أركز فقط على تعقبكم لما زاده بعض البلاغيين من خلوص اللفظ من الكراهة، لا سيما وقد مثلوا بلفظ (نقاخ)، وهو لفظ مستكره بالفعل، ولو عرض على أول من نطق به لكرهه ومجه، وتمنى أن لم يكن قد نطق به أصلا، حتى أضحى هذا اللفظ شاهدا قويا على رجاحة مذهب ذلك البعض من البلاغيين، وإن خالفهم جمهور أهل الفن كما ذكرت، وهذا يجعل زيادة ذلك البعض سليمة جدا، وفي مكانها، وعلى كل حال فيسعني ما وسعك من متابعة طائفة دون طائفة، فأنت الذي ذكرت: ((وزاد بعض البلاغيين: أن تخلص اللفظة من الكراهة في السمع، كلفظ (النقاخ) بمعنى الماء العذب)).
    وما زلت عند رأيي بأن الغرابة في اللفظ لا تعني الكراهة البتة. ولو اكتفيتَ بالشطر الثاني من كلامك، وهو قولك: ((وعلى كل حال، فإن ملحوظتكم هذه، انتقاد منكم لطائفة كبيرة من أهل البلاغة – إن لم يكن لجمهورهم – وأنا لا أعدو أن أكون متبعا لهم، مقتاتا من موائدهم. فلا يتوجه إلي شيء من الإنكار، إلا بالقدر الذي يتوجه إليهم مثله))، لكان حسنا، فكلامي في واقع الأمر -كما أسلفت- إنما كان أيضا موافقة لطائفة منهم دون أخرى، ولكان اكتفاؤكم بالشطر الثاني أجمل من الدلالة على المختصرات والإرشاد لمظان المعرفة التي دللت عليها، إذ أن الأمر لم يكن يحتاج هذا كله.
    أما قولكم: (رحم الإعجاز القرآني): هنا عِلمان اثنان هما: علم الإعجاز القرآني (وهو من العلوم القرآنية) وعلم البلاغة (وهو من علوم العربية). وقد نشأ الثاني من بين مباحث الأول.
    فهذا أيضا من المعارف الظاهرة الجلية، ولكنني ما زلت أحسب أن اختياركم لفظ (رحم) غير مناسب، والمسألة في نظري مثل الشبهات والحرام، فإذا كان بعض الكلام لا يناسب القرآن -كما وافقتم على ذلك- فإن علوم القرآن مثل حماه.
    أما لفظ الخشونة فالحكم فيه هو الذوق كما قلت، ولا أنازع في ذلك، فلكل ذوقه.
    وفيما يتعلق بتخريج كلام سفيان الثوري -رحمه الله- فقد قرأت مقالكم على ملف Word سُحب من الملف الأصل، وظهر فيه هامش (فارغ) على ما نسب لسفيان، ولم يتم تخريجه، فقمت بتخريجه وبعثت لكم به، فلما رجعت للملف الأصل لم يظهر لي ذلك الهامش، فأعرضت عن ذكره في تعليقي الأخير لكونه غير لازم، ذكرت ذلك حتى لا يظن أنه استطالة.
    ولا يسعني في الختام إلا أن أورد قول أبي سليمان الداراني -رحمه الله- ((لو أن المؤمن أعطى شهوته من الجوع لتفسخت أعضاؤه، وما في الأرض أحب إلي من أن أكفى المؤونة؛ فيحدث الرجل وأنا أسمع ولربما حدثني الرجل بالحديث وأنا أعلم به منه فأنصت له كأني ما سمعته، ولربما مشيت إلى الرجل وهو أولى بالمشي مني إليه، ولقد كنت أنظر إلى الأخ من إخواني فما يفارق كفي كفه [حتى] أجد طعم ذلك في قلبي)) فأسأل الله أن ينفع بما كتبتم، وما ستكتبون.

  19. افتراضي رد: أصول البلاغة النبوية

    جزاك الله خيرا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •