جزاكم الله خيرا وبارك فيكم
لعل في هذه النقول ما يشفي الغليل
وقد فصل شيخ الإسلام في هذه المسألة , وبين أن الإرادة تنقسم إلى عزم وقصد ؛ فالإرادة التي تسبق الفعل وتسمى عزما , وهذه تسبق الفعل , وأما الإرادة التامة التي تكون مع الفعل , وهي تسمى القصد فهذه لا تتأخر عن الفعل , وهذا هو القول الوسط في هذه المسألة .
فالأشاعرة قالوا الإرادة التامة قديمة ( وهي بمعنى القصد ) , والفعل حادث ! , وهذا مما خالفوا به المعقول حتى سخر منهم ابن رشد رحمه الله ؛ فكيف يتصور إرادة تامة قديمة وفعل حادث فهذا مناف للمعقول .
قال شيخ الإسلام : وإذا تبين أن الفعل مستلزم لحدوث المفعول , وأن إرادة الفاعل أن يفعل مستلزمة لحدوث المراد ؛ فهذا يبين أن كل مفعول وكل ما أريد فعله فهو حادث بعد أن لم يكن عموما , وعلم بهذا أنه يمتنع أن يكون ثم إرادة أزلية لشيء من الممكنات يقارنها مرادها أزلا وأبدا سواء كانت عامة لكل ما يصدر عنه أو كانت خاصة ببعض المفعولات .
ثم يقال أما كونها عامة لكل ما يصدر عنه فامتناعه ظاهر متفق عليه بين العقلاء ؛ فإن ذلك يستلزم أن يكون كل ما صدر عنه بواسطة أو بغير واسطة قديما أزليا ؛ فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء وهو مخالف لما يشهده الخلق من حدوث الحوادث في السماء والأرض وما بينهما من حدوث الحركات والأعيان والأعراض كحركة الشمس والقمر والكواكب وحركة الرياح وكالسحاب والمطر وما يحدث من الحيوان والنبات والمعدن .
وأما إرادة شيء معين فلما تقدم ولأنه حينئذ إما أن يقال ليس له إلا تلك الإرادة الأزلية , وإما أن يقال له إرادات تحصل شيئا بعد شيء ؛ فإن قيل بالأول فإنه على هذا التقدير يكون المريد الأزلي في الأزل مقارنا لمراده الأزلي فلا يريد شيئا من الحوادث لا بالإرادة القديمة ولا بإرادة متجددة لأنه إذا قدر أن المريد الأزلي يجب أن يقارنه مراده كان الحادث حادثا إما بإرادة أزلية فلا يقارن المريد مراده وإما حادثا بإرادة حادثة مقارنة له وهذا باطل لوجهين :
أحدهما : أن التقدير أنه ليس له إلا إرادة واحدة أزلية .
الثاني: أن حدوث تلك الإرادة يفتقر إلى سبب حادث والقول في ذلك السبب الحادث كالقول في غيره يمتنع أن يحدث بالإرادة الأزلية المستلزمة لمقارنة مرادها لها ويمتنع أن يحدث بلا إرادة لامتناع حدوث الحادث بلا إرادة فيجب على هذا التقدير أن تكون إرادة الحادث المعين مشروط بإرادة له وبإرادة للحادث الذي قبله وأن الفاعل المبدع لم يزل مريدا لكل ما يحدث من المرادات .
وهذا هو التقدير الثاني ؛ وهو أن يقال لو أراد أن يحصل شيئا بعد شيء فكل مراد له محدث كائن بعد أن لم يكن , وهو وحده المنفرد بالقدم والأزلية , وكل ما سواه مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن وعلى هذا التقدير فليس فيه إلا دوام الحوادث وتسلسلها وهذا هو التقدير الذي تكلمنا عليه ويلزم أن يقوم بذات الفاعل ما يريده ويقدر عليه , وهذا هو قول أئمة أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفلسفة بل قول أساطينهم من المتقدمين والمتأخرين .
فتبين أنه يجب القول بحدوث كل ما سوى الله سواء سمى جسما أو عقلا أو نفسا وأنه يمتنع كون شيء من ذلك قديما سواء قيل بجواز دوام الحوادث وتسلسلها وأنه لا أول لها أوقيل بامتناع ذلك وسواء قيل بأن الحادث لا بد له من سبب حادث أو قيل بامتناع ذلك وأن القائلين بقدم العالم كالأفلاك والعقول والنفوس قولهم باطل في صريح العقل الذي لم يكذب قط على كل تقدير وهذا هو المطلوب .
منهاج السنة (1|296-298)
وقال : و أيضا فلابد عند وجود المراد من سبب يقتضى حدوثه وإلا فلو كان مجرد ما تقدم من الإرادة والقدرة كافيا للزم وجوده قبل ذلك لأنه مع الإرادة التامة والقدرة التامة يجب وجود المقدور.
مجموع الفتاوى(6|231)
وقال :وهو سبحانه إذا أراد شيئا من ذلك فللناس فيها أقوال :
قيل الإرادة قديمة أزلية و احدة , و إنما يتجدد تعلقها بالمراد ونسبتها إلى الجميع واحدة و لكن من خواص الإرادة أنها تخصص بلا مخصص فهذا قول ابن كلاب و الأشعرى و من تابعهما , وكثير من العقلاء يقول إن هذا فساده معلوم بالاضطرار حتى قال أبو البركات ليس فى العقلاء من قال بهذا , و ما علم أنه قول طائفة كبيرة من أهل النظر و الكلام و بطلانه من جهات من جهة جعل إرادة هذا غير إرادة ذاك و من جهة أنه جعل الإرادة تخصص لذاتها و من جهة أنه لم يجعل عند وجود الحوادث شيئا حدث حتى تخصص أو لا تخصص بل تجددت نسبة عدمية ليست و جودا و هذا ليس بشيء فلم يتجدد شيء فصارت الحوادث تحدث و تتخصص بلا سبب حادث و لا مخصص .
و القول الثاني : قول من يقول بإرادة واحدة قديمة مثل هؤلاء لكن يقول تحدث عند تجدد الأفعال إرادات فى ذاته بتلك المشيئة القديمة كما تقوله الكرامية و غيرهم .
و هؤلاء أقرب من حيث أثبتوا إرادات الأفعال و لكن يلزمهم ما لزم أولئك من حيث أثبتوا حوادث بلا سبب حادث و تخصيصات بلا مخصص و جعلوا تلك الإرادة واحدة تتعلق بجميع الإرادات الحادثة و جعلوها أيضا تخصص لذاتها و لم يجعلوا عند وجود الإردات الحادثة شيئا حدث حتى تخصص تلك الإرادات الحدوث .
و القول الثالث: قول الجهمية و المعتزلة الذين ينفون قيام الإرادة به ثم إما أن يقولوا بنفي الإرادة أو يفسرونها بنفس الأمر و الفعل أو يقولوا بحدوث إرادة لا في محل كقول البصريين
و كل هذه الأقوال قد علم أيضا فسادها .
و القول الرابع : أنه لم يزل مريدا بإرادات متعاقبة فنوع الإرادة قديم و أما إرادة الشيء المعين فإنما يريده فى وقته .
و هو سبحانه يقدر الأشياء و يكتبها ثم بعد ذلك يخلقها فهو إذا قدرها علم ما سيفعله و أراد فعله في الوقت المستقبل لكن لم يرد فعله فى تلك الحال فإذا جاء و قته أراد فعله ؛ فالأول عزم , و الثاني قصد .
وهل يجوز و صفه بالعزم فيه قولان :
أحدهما : المنع كقول القاضي أبى بكر و القاضي أبى يعلى.
و الثاني : الجواز و هو أصح فقد قرأ جماعة من السلف {فإذا عزمت فتوكل على الله } بالضم و في الحديث الصحيح من حديث أم سلمة : ثم عزم الله لي . و كذلك فى خطبة مسلم: فعزم لي .
و سواء سمي عزما أو لم يسم ؛ فهو سبحانه إذا قدرها علم أنه سيفعلها في وقتها , و أراد أن يفعلها في وقتها؛ فإذا جاء الوقت فلا بد من إرادة الفعل المعين و نفس الفعل و لابد من علمه بما يفعله .
مجموع الفتاوى (16|301-304)
وقال : أما الإرادة فذكروا لها ثلاثة لوازم و الثلاثة تناقض الإرادة .
قالوا: أنها تكون و لا مراد لها بل لم يزل كذلك ثم حدث مرادها من غير تحول حالها , و هذا معلوم الفساد ببديهة العقل ؛ فإن الفاعل إذا أراد أن يفعل فالمتقدم كان عزما على الفعل و قصدا له فى الزمن المستقبل لم يكن إرادة للفعل في الحال بل إذا فعل فلابد من إرادة الفعل في الحال , و لهذا يقال الماضي عزم و المقارن قصد فوجود الفعل بمجرد عزم من غير أن يتجدد قصد من الفاعل ممتنع ؛ فكان حصول المخلوقات بهذه الإرادة ممتنعا لو قدر إمكان حدوث الحوادث بلا سبب ؛ فكيف و ذاك أيضا ممتنع في نفسه فصار الامتناع من جهة الإرادة و من جهة تعينت بما هو ممتنع في نفسه .
الثاني : قولهم أن الإرادة ترجح مثلا على مثل فهذا مكابرة بل لا تكون الإرادة إلا لما ترجح و جوده على عدمه عند الفاعل إما لعلمه بأنه أفضل أو لكون محبته له أقوى و هو إنما يترجح في العلم لكون عاقبته أفضل فلا يفعل أحد شيئا بإرادته إلا لكونه يحب المراد أو يحب ما يؤول إليه المراد بحيث يكون وجود ذلك المراد أحب إليه من عدمه لا يكون و جوده و عدمه عنده سواء .
الثالث: أن الإرادة الجازمة يتخلف عنها مرادها مع القدرة ؛ فهذا أيضا باطل بل متى حصلت القدرة التامة و الإرادة الجازمة وجب وجود المقدور و حيث لا يجب فإنما هو لنقص القدرة أو لعدم الإرادة التامة والرب تعالى ما شاء كان و ما لم يشأ لم يكن , و هو يخبر في غير موضع أنه لو شاء لفعل أمورا لم يفعلها كما قال {و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها }{ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } { ولو شاء الله ما اقتتلوا} فبين أنه لو شاء ذلك لكان قادرا عليه لكنه لا يفعله لأنه لم نشأه إذ كان عدم مشيئته أرجح في الحكمة مع كونه قادرا عليه لو شاءه .
مجموع الفتاوى (16|459)
وقال :فإن القائلين بتأخر مرادها ؛ إنما قالوا ذلك فرارا من القول بدوام الحوادث ووجود حوادث لا أول لها , وعلى هذا التقدير فيلزم حدوث العالم ؛ وإلا فلو جاز دوام الحوادث لجاز عندهم وجود المراد في الأزل , ولو جاز ذلك لم يقولوا بتأخر المراد عن الإرادة القديمة الأزلية مع ما في ذلك من ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح , وما في ذلك من الشناعة عليهم ونسبة كثير من العقلاء إلى أنهم خالفوا صريح المعقول .
فإنهم إنما صاروا إلى هذا القول لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها ؛ فاحتاجوا لذلك أن يثبتوا إرادة قديمة أزلية يتأخر عنها المراد ويحدث بعد ذلك من غير سبب حادث واحتاجوا أن يقولوا إن نفس الإرادة تخصص أحد المتماثلين على الآخر , وإلا فلو اعتقدوا جواز دوام الحوادث وتسلسلها لأمكن أن يقولوا بأنه تحدث الإرادات والمرادات ويقولون بجواز قيام الحوادث بالقديم ولرجعوا عن قولهم بأن نفس الإرادة القديمة تخصص أحد المثلين في المستقبل وعن قولهم بحدوث الحوادث بلا سبب حادث وكانوا على هذا التقدير لا يقولون بقدم شيء من العالم بل يقولون إن كل ما سوى الله فإنه حادث كائن بعد أن لم يكن .
منهاج السنة (1|392)
قال ابن رشد في الرد على ذلك : وما يقوله المتكلمون في جواب هذا ، من أن الفعل الحادث كان بإرادة قديمة ، ليس بِمُنج ولا مخلصٍ من هذا الشك ؛ لأن الإرادة غيرُ الفعل المتعلق بالمفعول . وإذا كان المفعول حادثاً فواجب أن يكون الفعل المتعلق بإيجاده حادثاً .
وسواء فرضنا الإرادة قديمةً أو حديثةً ، متقدمة على الفعل أو معه ، فكيفما كان ، فقد يلزمهم أن يجوِّزوا على القديم أحد ثلاثة أمور : إما إرادة حادثة وفعل حادث ،- وهذا لا يسلمون به - وإما فعل حادث وإرادة قديمة ،- وهذا لا يتصور - وإما فعل قديم وإرادة قديمة – وهذا مناف للمعقول - . والحادث ليس يمكن أن يكون عن فعل قديم بلا واسطة ، إن سلمنا لهم أنه يوجد عن إرادة قديمة .
ووضع الإرادة نفسها هي للفعل المتعلق بالمفعول شيءٌ لا يعقل , وهو كفرض مفعول بلا فاعل ؛ فإن الفعل غير الفاعل ، وغير المفعول ، وغير الإرادة . والإرادة هي شرط الفعل لا الفعل .
وأيضاً فهذه الإرادة القديمة يجب أن تتعلق بعدم الحادث دهراً لا نهاية له ، ، إذ كان الحادث معدوماً دهراً لا نهاية له. فهي لا تتعلق بالمراد في الوقت الذي اقتضت إيجاده إلا بعد انقضاء دهر لا نهاية له . وما لا نهاية له لا ينقضي ؛ فيجب ألا يخرج هذا المراد إلى الفعل ، أو ينقضي دهرٌ لا نهاية له وذلك ممتنع . وهذا هو بعينه برهام المتكلمين الذي اعتمدوه في حدوث دورات الفلك .
وأيضاً فإن الإرادة التي تتقدم المراد ، وتتعلق به بوقت مخصوص ، لا بد أن حدث فيها ، في وقت إيجاد المراد ، عزمٌ على الإيجاد لم يكن قبل ذلك الوقت ، لأنه إن لم يكن في المريد ، فـي وقت الفعل ، حالةٌ زائدة على ما كانت عليه في الوقت الذي اقتضت الإرادة عدم الفعل ، لم يكن وجود ذلك الفعل عنه في ذلك الوقت أولى من عدمه .
إلى ما في هذا كله من التشعيب والشكوك العويصة التي لا يتخلص منها العلماء المهَرَة بعلم الكلام و الحكمة ، فضلاً عن العامة . ولو كُلِّف الجمهور العلم من هذه الطرق لكان من باب تكليف ما لا يطاق .
الكشف عن مناهج الأدلة (30-31)
قلت : وقوله : وإذا كان المفعول حادثاً فواجب أن يكون الفعل المتعلق بإيجاده حادثاً . وهذا هو القول الصواب , وأن الأفعال تقوم بذات الله وهي من الصفات التابعة لمشيئته واختياره .
قلت : وقوله : وأيضاً فهذه الإرادة القديمة يجب أن تتعلق بعدم الحادث دهراً لا نهاية له ، ، إذ كان الحادث معدوماً دهراً لا نهاية له. فهي لا تتعلق بالمراد في الوقت الذي اقتضت إيجاده إلا بعد انقضاء دهر لا نهاية له . وما لا نهاية له لا ينقضي ؛ فيجب ألا يخرج هذا المراد إلى الفعل ، أو ينقضي دهرٌ لا نهاية له وذلك ممتنع . وهذا إلزام قوي من ابن رشد للأشاعرة , لأن الإرادة القديمة يستلزمها ما يستلزم الذات من الأولية , فهذا العدم إن كان متناهيا تنافى مع القول بالقدم , وإن لم يكن متناهيا لاستلزم أن لا يصدر الفعل لأن ما يتناهى لا ينقضي .
قال ابن رشد : وأما المقدمة القائلة إن الإرادة لا يكون عنها إلا مراد محدث ؛ فذلك شيء غير بين , وذلك أن الإرادة التي بالفعل ، فهي مع فعل المراد نفسه ، لأن الإرادة من المضاف . وقد تبين أنه إذا وجد أحد المضافين بالفعل وجد الآخر بالفعل ، مثل الأب والابن، وإذا وجد أحدهما بالقوة وجد الآخر بالقوة . فإن كانت الإرادة التي بالفعل حادثة فالمراد ولا بد حادث بالفعل وإن كانت الإرادة التي بالفعل قديمة فالمراد الذي بالفعل قديم . وأما الإرادة التي تتقدم المراد فهي الإرادة التي بالقوة ، أعني التي لم يخرج مرادها إلى الفعل ، إذ لم يقترن بتلك
الإرادة الفعل الموجب لحدوث المراد . ولذلك هو بين ، أنها إذ لم خرج مرادها أنها على نحو من الوجود لم تكن عليه قبل خروج مراها إلى فعل ، إذ كانت هي السبب في حدوث المراد بتوسط الفعل فإذن ،ـ لو وضع المتكلمون أن الإرادة حادثه لوجب أن يبكون المراد محدثاً ولا بد.
والظاهر من الشرع أنه لم يتعمق هذا التعمق مع الجمهور . ولذلك ولم يصرح لا بالإرادة قديمة ولا حادثه ، بل صرح بما الأظهر منه أن الإرادة حادثه وذلك في قوله تعالى:{إنما قولنا لشيء إذا أردنه أن نقول له كنت فيكون } [النحل:40]. وإنما كان ذلك كذلك لأن الجمهور لا يفهمون موجودات حادثة عن إرادة قديمة ، بل الحق أن الشرع لم يصرح في الإرادة لا بحدوث ولا بقدم ، لكون هذا من المتشابهات في حق الأكثر . وليس بأيدي المتكلمين برهان قطعي على استحالة قيام إرادة حادثة في موجود قديم ، لأن الأصل الذي يعولون عليه في نفي قيام الإدارة بمحل قديم هو المقدمة التي بينا وهي أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث .
الكشف عن مناهج الأدلة (39-40)
قلت : وقوله : وأما المقدمة القائلة إن الإرادة لا يكون عنها إلا مراد محدث فذلك شيء غير بين , وذلك أن الإرادة التي بالفعل ، فهي مع فعل المراد نفسه ، لأن الإرادة من المضاف . وقد تبين أنه إذا وجد أحد المضافين بالفعل وجد الآخر بالفعل ، مثل الأب والابن، وإذا وجد أحدهما بالقوة وجد الآخر بالقوة . فإن كانت الإرادة التي بالفعل حادثة فالمراد ولا بد حادث بالفعل , وإن كانت الإرادة التي بالفعل قديمة ؛ فالمراد الذي بالفعل قديم . وأما الإرادة التي تتقدم المراد فهي الإرادة التي بالقوة ، أعني التي لم يخرج مرادها إلى الفعل ، إذ لم يقترن بتلك الإرادة الفعل الموجب لحدوث المراد. وهذا قريب جدا من كلام شيخ الإسلام التفريق بين الإرادة التي تكون قبل الفعل والتي تسمى العزم والإرادة التي تكون مع الفعل والتي تسمى القصد , وهذه الأخيرة لا يتصور تأخرها عن الفعل .
وقال ابن رشد : ولذلك عرضت أشد حيرة تكون ن وأعظم شبهة ، للمتكلمين من أهل ملتنا ، أعني الأشعرية ؛ وذلك لما صرحوا أن الله مريد بإرادة قديمة ، وهذا بدعة كما قلنا ، ووضعوا أن العالم محدث ، قيل لهم : كيف يكون مراد حادث عن إرادة قديمة ؟ فقالوا : فقالوا : إن الإرادة القديمة تعلقت بإيجاده في وقت مخصوص وهو الوقت الذي وجد فيه .
فقيل لهم : إن كانت نسبة الفاعل المريد إلى المحدث ، وفي وقت عدمه ، هي بعينها نسبته إليه في وقت إيجاده ، فالمحدث لم يكن وجوده في وقت وجوده أولى منه غيره ، إذ لم يتعلق به ، في وقت الوجود ، فعل انتفى عنه في وقت العدم . وإن كانت مختلفة ، فهنالك إرادة حادثة ضرورة ، وإلا وجب أن يكون مفعول محدث عن فعل قديم . فإن ما يلزم من ذلك في الفعل ، يلزم في الإرادة .
وذلك أنه يقال لهم : إذا حضر الوقت ، وقت وجوده ، فوجد ، فهل وجد بفعل قديم أو بفعل محدث ؟ فإن قالوا : بفعل قديم ، فقد جوزوا وجود المحدث بفعل قديم . وإن قالوا : بفعل محدث ، لزمهم أن يكون هنالك إرداة محدثه. فإن قالوا : الإرادة هي نفس الفعل فقد قالوا محالاً ، فإن الإرادة هي سبب الفعل في المريد , ولو كان المريد إذا أراد شيئاً ما ، في وقت ما ، وجد ذلك الشيء عند حضور وقته ، من غير فعل منه بالإرداة المتقدمة ، لكان ذلك الشيء موجوداً عن غير فاعل.
وأيضاً فقد يظن أنه إن كان واجباً أن يكون عن الإرادة الحادثه مراد حادث ، فقد يجب أن يكون عن الإرادة القديمة مراد قديم ، وإلا كان مراد الإرادة القديمة والحادثه واحداً ، وذلك مستحيل .
الكشف عن مناهج الأدلة (94-95)
وقول ابن رشد : "فقيل لهم : إن كانت نسبة الفاعل المريد إلى المحدث ... " هي نفس مسألة الترجيح بلا مرجح المتقدمة كما تقدم .
وهو يلزمهم أنه ما من وقت يتصور فيه إيجاد المفعول الحادث عن تلك الإرادة القديمة , إلا وهو يتصور في وقت غير ذلك الوقت ؛ فتخصيص هذا الوقت دون سواه يحتاج إلى مرجح , وهذا من تناقضهم .
الله أعلم