تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: مقالة رائعة من مقدمة تحقيق (نيل الأوطار) للشيخ المحدث طارق بن عوض الله

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,901

    افتراضي مقالة رائعة من مقدمة تحقيق (نيل الأوطار) للشيخ المحدث طارق بن عوض الله

    مقالة رائعة من مقدمة تحقيق (نيل الأوطار) للشيخ المحدث طارق بن عوض الله


    الحمد لله وحده ...
    قد رأيت عمل الشيخ طارق بن عوض الله - حفظه الله - على كتاب نيل الأوطار ،
    حقيقة لم أر ما ادعاه بعض الإخوة من نفخٍ للكتاب ،
    فلا الخط كبير ، ولا الحواشي طويلة ، ولا الهوامش عريضة ، فأين النفخ ، وما النفخ ؟

    ثم إنني استللت من مقدمته على الكتاب هذا المقطع النفيس ،
    الذي تضمن أيضًا حكاية بعض طريقته في التعليق على الكتب أو تحقيقها ، وفيها الإجابة على شيء من التساؤلات التي أثارها بعض الأفاضل على الملتقى ،
    ===
    قال - حفظه الله - :
    لا شك أن تحقيق الأحاديث ، وتمييز ما صَحَّ مِنها وما لم يَصِحَّ ، عَمَلٌ عظيم ، وسُنةٌ ماضية ، وجهاد فقي سبيل الله عز وجل ، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر .
    وقد اختار الله عز وجل لهذا الأمر أئمة صادقين ، بالحق قائلين ، وبه عاملين ، وإليه داعين ، وللباطل مجتنبين ، وعنه مُحَذِّرين ؛ فجعلهم حراسًا للدِّين ، ينفون عنه تحريف الجاهلين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الغالين .
    فوضعوا لمن بعدهم أصولاً قويمة ، ميزوا بها بين الأحاديث المستقيمة والسقيمة ، وأظهروا في رواتها كل شريفة وذميمة ، تدينًا وتقربًا إلى الله عز وجل ، وذبًّا للكذب عن رسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا .
    ثم تبعهم بإحسان كثيرٌ مِن أهل العلم المتأخرين وبعضُ المعاصرين ، فساروا على دَربهم ، وضربوا على منوالهم ، واهتدوا بهديهم ، فأكملوا ما ابتدأوه ، وبينوا ما أهملوه ، وفصَّلوا ما أجملوه ، فبارك اللهُ في سعيهم ، ونفع بهم وبعلمهم .
    وها نحن اليوم ؛ نعيش في ظل نهضة علمية ، ظهر أثرها في نشر عدد كبير من كتب الحديث في جميع مجالاته ، كانت منذ أمدٍ بعيد حَبيسة المكتبات العامة والخاصة .
    وقد صاحب إخراج هذا الكَمِّ الهائل من كتب السُّنَّة تحقيقات وتعليقات وتخريجات لأحاديثها ورواياتها ، مِن أساتذة أفاضل ، وعلماء أجلاء ، وباحثين مجتهدين ، فازدادت هذه الكتب بأعمالهم رَوْنقًا وبهاءً ، فجزاهم الله خيرًا على ما قدموا وبينوا .
    غير أن هذا الخير قد شابه بعضُ الدَّخَن ، وهذه القوة قد أصابها بعض الوَهَن ، وهذه سنة الله الماضية ( فلن تجد لسنت الله تبديلًا ولن تجد لسنت الله تحويلاً ) [فاطر :43 ]
    فقد أبي الله أن يصح إلا كتابه ، والشيء إذا ما تم فهو إلى نقصان .
    وقد نظرت ، فإذا الأسباب التي من وراء ذلك كثيرة ، فرأيت أن أذكر ضوابط كلية لترشيد العمل ، والاستقامة على الطريق ، تصحيحًا للمسار ، ونصحًا لله ، ولرسوله ﷺ ، ولكتابه ، ولأئمة المسلمين ، وعامتهم ، فإن ذلك من الدين ، كما ثبت الحديث بذلك عن النبي ﷺ.
    وبالضرورة ، فإن هذه الضوابط ليست لوراق أو كتبي أو تاجر يستغل حاجة الناس للكتاب ، فيدفعه لبعض الأحداث ناسخين له نسخ ماسخ ، ومسودين حواشيه بما لا يرتبط إلى التحقيق بنسب ، ثم يخرجه أعجميًا ، لو رآه صاحبه لما عرفه ، ثم يعمد إلى إخفاء هذه ( الجريمة ) التي يسميها ( تحقيقًا ) بأن يرسم على طرة الكتاب : « تحقيق وضبط ومراجعة لجنة من المختصين بإشراف الناشر » ! ولو كان من بين هذه ( اللجنة ) متخصص واحد ، لصاح به ، ولبادر إلى إبراز اسمه.
    ثم الأعجب أن يكون الناشر – وهو تاجر لا شأن له بالعلم ولا معرفة عنده بالتحقيق – مشرفًا على « لجنةٍ من المختصين » !! أليس هذا قلبًا للموازين ، وتنكيسًا للأوضاع ، واستخفافًا بعقول الناس ؟! فإلى الله – لا إلى سواه المشتكى - .


    وليس هي أيضًا لـ (مخرب)، يُسمي نفسه (مخرجًا) ، يعمد إلى الروايات الحديثية، فيخرجها - بزعمه - فإذا به يعمد إلى الفهارس المطبوعة، فيجعل من حاشية الكتاب نسخة أخرى لها !!
    وهذه الضوابط جماعها في هذه الأمور :

    * التأني والتريث :
    فينبغي على الباحث أن يتريث في إصدار أحكامه على الأحاديث، وأن لا يتعجل ذلك، وهذا يستلزم أحيانًا أن يمضي الأيام الكثيرة والأزمنة البعيدة من أجل معرفة ما إذا كان الحديث محفوظًا أم اعتراه شيء من الخطأ والوهم.
    وهذا كان شأن كبار الحفاظ ، فقد قال الإمام الخطيب البغدادي : « من الأحاديث ما تخفى علته ، فلا يوقف عليها إلا بعد النظر الشديد ، ومضي الزمن البعيد » .
    ثم أسند عن الإمام علي بن المديني أنه قال : « ربما أدركت علة حديث بعد أربعين سنة ».
    وهذا بالضرورة، يستدعي عدم المسارعة إلى رد نقد النقاد، لمجرد عدم العلم بأدلتهم، إلا بعد البحث الشديد، واستفراغ الجهد في الوقوف على ما عليه اعتمد النقاد في نقدهم، فإن مثل هؤلاء النقاد لا يتكلمون بالمجازفة، ولا بالحدس.
    وما أروع ما ذكره ابن أبي حاتم، عن ابن أبي الثلج، أنهم كانوا يسألون ابن معين عن حديثٍ سنتين أو ثلاثة، فيقول ابن معين « هو باطل » ولا يدفعه بشيء، حتى وقفوا بعد ذلك على علته.
    ومن هنا، ندرك خطر الاغترار بظواهر الأسانيد، والاكتفاء بالظاهر من حال رواتها في الحكم على الأحاديث، وهذا هو الضابط الثاني.

    التتبع والسبر :
    فإن الباحث كلما أكثر من تتبع الأسانيد في الجوامع والمسانيد والأجزاء الحديثية، كلما كان بحثه أخصب وأنضج، وحكمه أقرب ما يكون من الصواب.
    فربما كان إسناد فيه ضعف، فمن قنع به، ولم يستوعب البحث عن غيره، فلربما كان للحديث إسناد أخر صحيح، أو يشهد للأول ويدل على حفظ الراوي له.
    ولربما كان إسناد ظاهره الصحة، فمن قنع به، واكتفى به، ولم يستوعب البحث عن غيره، فلربما كان للحديث إسناد آخر يُعلُّ ذاك الأول، ويدل على خطأ الراوي في الحديث.
    ولهذا؛ قال الإمام على بن المديني: « الباب إذا لم تجتمع طرقه، لم يتبين خطؤه » .
    فإن الاغترار بظواهر الأسانيد، ليس من شأن العلماء العارفين، ولا من شيمة النقاد المحققين، بل هو سمة المقصرين في تعلم العلم ومعرفة أغواره، وصفة العاجزين، عن مسايرة أهله، ومجاراة أربابه.
    ولله در الشيخ الألباني - رحمه الله - حيث قال بصدد حديث اغتر البعض بظاهر إسناده :
    « إن ابن حزم نظر إلى ظاهر السند، فصححه؛ وذلك مما يتناسب مع ظاهريته،
    أما أهل العلم والنقد، فلا يكتفون بذلك، بل يتتبعون الطرق، ويدرسون أحوال الرواة، وبذلك يتمكنون من معرفة ما إذا كان في الحديث علة أو لا ؛ ولذلك كان معرفة علل الحديث من أدق علوم الحديث، إن لم يكن أدقها إطلاقًا ...».
    وقال أيضًا:
    « إن الحديث الحسن لغيره، وكذا الحسن لذاته، من أدق علوم الحديث وأصعبها، لأن مدارهما على من اختلف فيه العلماء من رواته، ما بين موثق ومضعف، فلا يتمكن من التوفيق بينهما، أو ترجيح قول على الأقوال الأخرى، إلا من كان على علم بأصول الحديث وقواعده، ومعرفة قوية بعلم الجرح والتعديل، ومارس ذلك عمليًا مدة طويلة من عمره، مستفيدًا من كتب التخريجات، ونقد الأئمة النقاد، عارفًا بالمتشددين منهم والمتساهلين، ومن هم وسط بينهم، حتى لا يقع في الإفراط والتفريط، وهذا أمر صعب، قل من يصير له، وينال ثمرته، فلا جرم أن صار هذا العلم غريبًا بين العلماء، والله يختص بفضله من يشاء ».
    وما أحسن قول الحافظ ابن رجب، حيث قال بصدد حديث اتفق أئمة الحديث من السلف على إعلاله، واغتر بعض المتأخرين بظاهر إسناده؛ قال :
    « هذا الحديث ؛ مما اتفق أئمة الحديث من السلف على إنكاره على أبي إسحاق ... وأما الفقهاء المتأخرون، فكثير منهم نظر إلى ثقة رجاله، فظن صحته، وهؤلاء ؛ يظنون أن كل حديث رواه ثقة فهو صحيح، ولا يتفطنون لدقائق علم علل الحديث، ووافقهم طائفة من المحدثين المتأخرين؛ كالطحاوي والحاكم والبيهقي ».
    وأئمة الحديث ؛ حينما يعتبرون الراوية بغيرها ؛ لا يكتفون بالمرفوعات فحسب ؛ بل ينظرون أيضًا في الموقوفات التى تروى في الباب، فإن الحديث الذي روي مرفوعًا قد يكون الصواب فيه الوقف ، فبدون معرفة الموقوفات التى في الباب لا يتبين لنا أخطاء الرواة ، وكذلك المراسيل ، فبدون معرفتنا بالمراسيل التى تروى في الباب لا يتبين لنا خطأ من روى الحديث موصولاً والصواب أنه مرسل .
    ولهذا ؛ كان الإمام أحمد - عليه رحمة الله - ينكر على من لا يكتب من الحديث إلا المتصل، ويدع كتابة الأحاديث المراسيل، ويعلل ذلك: بأنه ربما كان المرسل أصح من حيث الإسناد، فيكون حينئذ علة للمتصل، فالذي لا يكتب المراسيل من الأحاديث تخفى عليه علل الأحاديث الموصولات خطأ.
    قال الميموني : تعجب إليَّ أبو عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل - ممن يكتب الإسناد ويدع المنقطع.
    ثم قال : « ربما كان المنقطع أقوى إسنادًا وأكثر ».
    قلت لأبي عبد الله : بينه لي ، كيف يكون ذلك ؟ قال : « تكتب الإسناد متصلاً وهو ضعيف ، ويكون المنقطع أقوى إسنادًا منه ، وهو يرفعه ثم يسنده ، وقد كتبه هو على أنه متصل وهو يزعم أنه لا يكتب إلا ما جاء عن النبى ﷺ ».
    قال الميموني : معناه : لو كتب الإسنادين جميعًا عرف المتصل من المنقطع، يعني: ضعف هذا وقوة هذا.
    وكذلك؛ كتابة الموقوفات؛ فقد يكون الحديث مما اختلف فيه الرواة؛ رفعه بعضهم، وأوقفه البعض الآخر، ويكون الصواب الوقف، فالذي لا يكتب من الحديث إلا المرفوع تخفى عليه علل الأحاديث المرفوعات خطأ.
    وإذا كانت كتابة الأحاديث المراسيل والأحاديث الموقوفات تفيد في معرفة علة الحديث - كما بينا - فهي أيضًا تفيد في تقوية الأحاديث، حيث تكون مختلفة المخرج عن الموصول أو الموقوف، وقد رأى أهل العلم صحة الحديث مرفوعًا وموقوفًا، أو موصولاً ومرسلاً، فإن تعدد الأسانيد للحديث الواحد يقوي بعضها بعضًا، ويشهد بعضها لبعض.
    ومن هنا؛ ندرك أهمية معرفة كل ما يروى في الباب من مرفوعات ومقوفات، وموصولات ومراسيل؛ حتى يستطيع الباحث أن يعتبر الرواية كما ينبغي، لينظر: هل الراوي تفرد بها أم لم يتفرد ؟ هل الراوي خالف فيها غيره أم لم يخالف ؟ هل الراوي وافقه غيره على ما روى أم لم يوافق ؟

    * في كنف الأئمة :
    ولما كان العلماء الحفاظ، هم أعلمَ الناس بالروايات، واختلافها، وأحفظَ الناس لها، وأعرفَ الناس بما يعتريها من العلل الظاهرة والخفية، وأضبطَ الناس للقواعد والأصول التى على أساسها تتميز الأحاديث، وأفقه الناس في تطبيقها وتنزيلها على الروايات والأسانيد ؛ كان من الضروري - والضروري جدًا - الرجوع إلى كتب علل الأحاديث المتخصصة، والبحث عن أقوال أهل العلم على الأحاديث، فإن بالوقوف على كلمة أو حرف يُنسب إلى إمام من أئمة علل الأحاديث، تحل مسائل معلقة، وتفتح أبواب مغلقة.
    وآفة الآفات، ومنشأ الخلل الحاصل من قبل بعض الباحثين، هو ممارسة تحقيق الأحاديث، والحكم على الأسانيد والمتون استقلالاً من دون الرجوع إلى أئمة العلم لمعرفة كيفية ممارساتهم العملية.
    فكما أن القواعد النظرية في هذا العلم تؤخذ من أهله المتخصصين فيه، فكذلك ينبغي أن يؤخذ الجانب العملي منهم؛ لا أن تؤخذ منهم فقط القواعد النظرية، ثم يتم إعمالها عمليًا من غير معرفة بطرائقهم في إعمالها وتطبيقها.
    فإن أهل مكة أعلم بشعابها، وأهل الدار أدرى بما فيه، وإن أفضل من يطبق القاعدة هو من وضعها وحررها، ونظم شرائطها، وحد حدودها.
    وليس هذا، جنوحًا إلى تقليدهم، ولا دعوة إلى تقديس أقوالهم، ولا غلقًا لباب الاجتهاد، ولا قتلاً للقدرات والملكات؛ بل هى دعوة إلى أخذ العلم من أهله، ومعرفته من أربابه، ودخوله من بابه وتحمله على وجهه.
    وما رجوع أهل العلم ونقاده، بعضهم إلى بعض، وسؤال بعضهم بعضًا عن الأحاديث والروايات - كما صنع الإمام مسلم، لما صنف كتابه « الصحيح » عرضه على علماء عصره، ليقولوا كلمتهم فيه - ، مع ما حباهم الله عز وجل به من النظر، وقوة في البحث، وصدق في الرأي؛ إلا مظهر من مظاهر معرفة أقدار العلماء، واحترام اختصاصهم.
    وما تجريح أئمة الحديث للمُصرِّ على الخطأ، وهو من بينوا له خطأه فيما يرويه،
    فلم يرجع عن خطئه، ولم يُبال بنقد النقاد، وأقام على روايته له آنفًا من الرجوع عنه؛
    إلا رسالة تهديد شديدة اللهجة لكل من تسول له نفسه أن يضرب بنقد النقاد عرض الحائط، ولا ينزله منزلته اللائقة به.
    ومن هنا؛ تكمن ضرورة معرفة أقوال أئمة الحديث في الحكم على الأحاديث تصحيحًا وتعليلاً، والحكم على الرواة تجريحًا وتعديلاً، فهم مصابيح الدجى، وأعلام الهدى.
    وأقوالهم، كثير منها مجموع في مظانه، فقد صنفوا في كل علم تصانيف جمعوا فيها الأحكام المتعلقة بهذا العلم، فعلم العلل ألفوا فيه كتب علل الحديث، وعلم الجرح والتعديل ألفوا فيه كتب الرجال ، وهذه - بحمد الله تعالى - متوفرة متيسرة.
    إلا أن كثيرًا من أقوال المحدثين قد ذكروها في غير مظانها، وأدخلوها في غير مواضعها الخاصة بها، فكان على من بعدهم ممن سار على نهجهم وضرب على منوالهم جمع أقوالهم تلك المتناثرة، ونظمها على مثل طرائقهم فتجمع أقوالهم في علل الأحاديث والجرح والتعديل على مثل طرائق المحدثين في جمع كل.
    ولقد اعتنى كثير من أهل العلم ممن اعتنى بجمع أقوال أئمة الحديث - بجمع أقوال المحدثين في الرواة بالجرح والتعديل في دواوين جامعة، كمثل « تهذيب الكمال » وفروعه، فصار الآن من اليسير جدًا على الباحث أن يقف على أقوال أئمة الحديث في الرواة.
    ولكن ذلك التيسير يفتقد الباحث عن أقوال أئمة الحديث المتعلقة بالحكم على الروايات بالتصحيح والتعليل ذلك أن أقوال أئمة الحديث في باب العلة لم تنل حظها من الجمع والترتيب كمثل ما نالت أقوالهم في الرجال بالتجريح والتعديل على الرغم من أن كلامهم في علل الحديث أدق وأغمض من كلامهم في الرجال.
    وعلى الرغم من كثرة الفهارس التى وضعت لأطراف الأحاديث وتنوعها، إلا أنها ما زالت عاجزة عن تيسير الوقوف على أقوال أئمة الحديث في باب العلة؛ ذلك لأن أحكام أئمة الحديث كثيرًا ما تجيء بعبارات مجملة أو مبهمة، فكثيرًا ما يقولون مثلاً: « فلان روى حديثًا منكرًا » ولا يسمون ذلك الحديث، أو « روى عن فلانٍ حديثًا منكرًا » ، ونحو هذه العبارات المجملة، وهى من الأهمية بمكان، ولا يمكن لأي مفهرس على أطراف الأحاديث أن يستخرجها، وإنما يمكن ذلك لمن له اعتناء بهذا الباب، وشدة تفتيش وتنقيب عن هذه الأحاديث؛ ليتم بعد ذلك تنزيل الأحكام عليها.
    ولصعوبة الوقوف على أقوال أهل العلم على الأحاديث قنع بعض الباحثين بأقوال بعض أهل العلم الذين خرجوا الحديث وحكموا عليه عقب تخريجه، ولم يتوسعوا في البحث عن أقوال الأئمة الآخرين الذين تناثرت أقوالهم في كتب التواريخ والرجال وكتب السؤالات والمسائل كالإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأمثالهما.
    بل إن بعضهم يتجاهل أحكام العلماء الذين خرجوا الحديث حاكمين عليه، ثم يستعيض عن ذلك إما بأحكامه هو على الأسانيد حكمًا ظاهريًا بناء على ظاهر إسناده،
    وإما اعتمادًا على أحكام بعض أهل العلم المتأخرين الذين عرفوا بالتساهل في الحكم على الأحاديث وعدم تتبع عللها وأسانيدها.
    ومن أعجب ما رأيته، رسالة ماجستير لبعض الطلبة في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، موضوعها « روايات الإمام البخاري في غير الصحيح، دراسة ونقدًا »، وقد لاحظت أن هذا الطالب، رغم تصريحه في مقدمة الرسالة بأنه حريص كل الحرص على تتبع أقوال أهل العلم على الأحاديث والرجال، إذا به في الرسالة لا تكاد تلمس هذا، فهو قليلاً ما يذكر أحكام أهل العلم على الأحاديث.
    وغالب الأحكام التى ذكرها، إما أنها لمن خرج الحديث كالترمذي والحاكم، أو لبعض من هو متساهل في التصحيح كالهيثمي في « مجمع الزوائد » ، فكل من له دراية بأحكام الهيثمي يلمس فيها التساهل، فضلاً عن كونه قلَّما يحكم حكمًا مفيدًا في حال الحديث، حيث إنه غالبًا ما يحكم على رواته فحسب بقوله - مثلاً - : « رجاله ثقات » أو نحو ذلك ، وهذا حكم على الراوي ، لا على الراوية ، إذ قد تكون الراوية مشتملة - مع ذلك - على علة قادحة من سقط، أو شذوذ، أو غير ذلك.
    وأما الرجال، فهو لا يكاد يتعدي حكم الحافظ ابن حجر رحمه الله في « التقريب »، والحافظ ابن حجر - على إمامته وعلمه - كيف يكتفي الباحث بقوله، ثم يوهم في المقدمة أنه « اجتهد في تتبع أقوال العلماء » أليس هذا من التشبع بما لم يعط ؟!
    يقول في المقدمة :
    «وأبنت عن درجة كل خبر من حيث الصحة والضعف، واجتهدت - أولاً - في تتبع أقوال العلماء والأئمة على الحديث، ثم ذكرت ما قيل في رواته ممن تُكُلم فيهم، مسترشدًا بأقوال جهابذة الحديث ونقاده؛ فإنهم القدوة في هذا الباب، والمعول عليهم فيه، وهو أمر تجدر العناية به أكثر من غيره ؛ لأنه الطريق الصحيح الذي لا معدل عنه لإثبات الأدلة الشرعية».
    وهذا الكلام - مع كونه حقًا في نفسه - إنما هو ادعاء من حيث تحقيقه وتطبيقه في الرسالة ، ويكفي لمعرفة ما في هذا الكلام من ادعاء، أنه هو نفسه كثيرًا ما يحذف حكم الإمام البخاري على الراوية التى اختارها لرسالته هذه، فبينما نجد الباحث يذكر الراوية من كتب البخاري - لا سيما «التاريخيين» - مجردة عن حكم البخاري عليها، إذا بالناظر في موضعها عند البخاري يجد البخاري نفسه قد نص على علة الحديث، ولكن الباحث حذف حكمه، ثم أخذ يحكم هو على الراوية بحكمه الخاص المبني على النظرة السطحية في إسنادها من غير استفادة من النظرة المتعمقة للإمام البخاري، والتى تمخض عنها هذا الحكم المحكم، الذي لم يعرج عليه الباحث، ولم يلتفت إليه.
    وإن من مظاهر عدم وفائه بهذا الذي وعد به: أنه قد نص في مقدمة رسالته على عدة قواعد، لم يسبق إليها، ولا له فيها سلف، فكيف يدعي من يبتدع في القواعد والأصول، إنه متبع في المسائل والفروع ؟!
    وهذه القواعد، قد مثل لبعضها بأمثلة، يظهر من تتبعها أن الباحث لا يعرف أحكام أهل العلم والنقد عليها على الرغم من كثرتها، حيث بنى أحكامه عليها بعيدًا عن أقوال أهل العلم، وبمنأًى عن أحكامهم.
    وأرى الاكتفاء بهذه الأمثلة التى ذكرها لهذه القواعد، فإن فيها خير دليل على عدم اكتراثه واهتمامه بأحكام أهل العلم، وعلى عدم صدقه في ادعائه أنه اجتهد في تتبعها والتفتيش عنها.
    فمن قواعده التى ابتدعها من نفسه، قال:
    "إذا وجدت في الإسناد راويًا وثقة بعضهم ـ حتى وإن ذكره ابن حبان وحده في الثقات ـ ، وقال عنه بعضهم: مجهول، اعتبرت الإسناد حسنًا".
    وهذه قاعدة من كيسه، لا تعرف عن أحد من أهل العلم؛ فإن ابن حبان معروف بتوثيق المجاهيل، فتوثيقه لا يتعارض مع تجهيل غيره، بل يؤكد كون الراوي مجهولاً، وإنه من المجاهيل الذين ملأ ابن حبان كتابه بهم، بل وصرح في بعضهم بأنه لا يعرفه، ولا يعرف أباه.
    وقد قال الإمام ابن عبد الهادى في كتابه "الصارم المنكي": "وقد علم؛ أن ابن حبان ذكر في هذا الكتاب الذي جمعه في الثقات عددًا كثيرًا وخلقًا عظيمًا من المجهولين، الذين لا يعرف هو ولا غيره أحوالهم، وقد صرح ابن حبان بذلك في غير موضوع من هذا الكتاب".
    ثم ذكر بعض المواضع التى أشرت إليها في التعليق السابق عن كتاب "الثقات" لابن حبان، ثم قال:
    "وقد ذكر ابن حبان في هذا الكتاب خلقًا كثيرًا من هذا النمط، وطريقته فيه: أنه يذكر من لم يعرفه بجرح وإن كان مجهولاً لم يعرف حاله، وينبغي أن يتنبه لهذا، ويعرف أن توثيق ابن حبان للرجل بمجرد ذكره في هذا الكتاب من أدنى درجات التوثيق" أ هـ.
    وقال الحافظ ابن حجر في "اللسان" (1/14):
    "وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على
    العدالة إلى أن يتبين جرحه؛ مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في "كتاب الثقات" الذي ألفه؛ فإنه يذكر خلقًا ممن ينص أبو حاتم وغيره على أنهم مجهولون" أ هـ.
    والعجب، أن الباحث قال بعقب ذلك :
    "مقتديًا في ذلك بالإمام الترمذي"!
    وهذه طامة أخرى؛ فإن الإمام الترمذي حيث يحسن بعض أحاديث مجهولي الحال
    أو المستورين، إنما يحسنها حيث تعضدها شواهد تؤيد معناها، لا أنه يحسن أحاديث هؤلاء مطلقًا وإن كانت مما تفردوا به.
    ومع ذلك؛ فهل وفى الباحث بهذا الذي اشترطه على نفسه، أم هى خطب منبرية،
    لا علاقة بينها وبين ما في صلب الرسالة؟!
    إن الباحث قد أشار إلى خمسة أحاديث، ذكر أنه أعمل فيها هذه القاعدة، سأكتفى بالنظر في حديثين فقط منها، لننظر: هل صدق الباحث فيما وعد به، أم أخلف وعده؟!
    فالحديث الأول، وهو برقم (1775) عنده:
    وهو حديث: ركانة، أنه صارع النبى صلى الله عليه وسلم وأنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس".
    فهذا الحديث؛ لم يحسن الترمذي إسناده، بل صرح بضعفه، وهو إن كان حسن شيئًا في الحديث، فهو راجع إلى المتن ـ بما أنضم إليه من شواهد ــ لا إلى السند.
    فقد قال الترمذي ( 17 / 84 ):
    "هذا حديث حسن غريب، وإسناده ليس بالقائم، ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني،
    ولا ابن ركانة".
    فأنت ترى أن الترمذي لا يحكم على السند بالحسن، فكيف يفهم من صنيعه أن المجهول حديثه حسن عند الترمذي إن وثقه موثق، وإن كان توثيقه من مثل ابن حبان
    الذي عرف بتوثيق المجاهيل؟!
    بل كل من عنده مسحة من علم، يعلم حق العلم، أن الترمذي لا يقصد بالتحسين ها هنا الإسناد.
    أولاً: لأنه صرح بأن الإسناد ليس بالقائم.
    ثانيًا: أنه صرح بأنه لا يعرف راويين من رواته.
    فهل يتصور من عنده ولو قليل من العلم، أن الترمذي يحكم على هذا السند بالحسن، وهو يعلم أنه مشتمل على مجهولين، وقد صرح هو بنفسه بضعف السند.
    إن العلماء الذين قالوا: إن الترمذي يحسن رواية المستور ونحوه، إنما قصدوا أنه يحسنها بالشواهد والمتابعات التى تجئ لها، لا أنها عنده حسنة بانفرادها، هذا ما لم يقله أحد من أهل العلم نعلمه.
    فكيف والبخاري ـ وهو الذي يعلق الباحث على روايته ــ قد صرح في الموضع الذي روى فيه الرواية بمثل تصريح الإمام الترمذي، فقال في "التاريخ الكبير" (1/82):
    " إسناده مجهول، لا يعرف سماع بعضه من بعض".
    فها هو الإمام البخاري ـ وهو شيخ الترمذي، وعلى يديه تعلم الترمذي، وهو صاحب الحديث الذي يعلق عليه الباحث ـ، يصرح بمثل تصريح الترمذي بأن "إسناده مجهول"، أما أن المتن حسن لما جاءه من شواهد تأخذ بيده وتشد من عضده، فهذا أمر آخر، ولا يستلزم تحسين الإسناد، كما لا يخفى.
    ومن العجائب ــ والعجائب جمة ــ أن "أبا الحسن العسقلانى" هذا، لم يوثقه أحد،
    ولا حتى ابن حبان، وقد سبق تصريح البخاري والترمذي بجهالته؟!
    والأعجب؛ أن الباحث أشار عند ترجمته له إلى ترجمته في "التقريب" و "التهذيب" كلاهما لابن حجر العسقلانى، والناظر في هذين الكتابين لا يجد فيهما أى توثيق، معتبر
    أو غير معتبر، بل لا يجد إلا قول الحافظ ابن حجر في "التقريب": "مجهول".
    وأما "التهذيب"، فليس فيه سوى أنه يروى عن ابن ركانة، وعنه محمد بن ربيعة!!
    وابن حبان نفسه قد صرح في "الثقات" في موضعين بأنه لا يعتمد على هذا الإسناد، وإنه إسناد فيه نظر.
    فلما ترجم لابن ركانة، قال (5/360):
    "يروي عن أبيه في مصارعة النبى صلى الله عليه وسلم أياه ... إلا أني لست بالمعتمد على إسناده " !
    فابن حبان رغم أنه وثق ابن ركانة بإدخاله إياه في الثقات ، صرح بأن هذا الحديث على وجه الخصوص لا يعتمد على إسناده، فماذا ينفع توثيق ابن حبان له، والحديث ـ الذي هو موضوع البحث ـ قد نفض ابن حبان نفسه يده منه؟!
    ولما ترجم ابن حبان لركانة أبيه في الصحابة، قال (3/103):
    "يقال: إنه صارع النبى صلى الله عليه وسلم ، وفى إسناد خبره نظر"!!
    هذا؛ وقد ضعف إسناده أيضًا الحافظ ابن السكن، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (3/287).
    وأيضًا؛ الإمام الذهبي؛ فقد ذكر هذا الحديث في "الميزان"، في ترجمة ابن ركانة،
    ثم قال (3/546):
    "لم يصح حديثه، انفرد به أبو الحسن، شيخ لا يدرى من هو".
    فها هو إسناد الحديث، وها هم رواته، اتفق المحدثون على أن الإسناد ليس بالقائم، ولا بالمعتمد عليه، واتفقوا أيضًا على جهالة أحد رواته، وهو "أبو الحسن العسقلانى"، والأكثر على جهالة "ابن ركانة" أيضًا، وابن حبان رغم أنه تساهل فوثقه، إلا أنه لم يتساهل في إسناد روايته، وصرح بأنه إسناد غير مقبول عنده، ولا هو بالمعتمد؛ فأين هذا كله مما صنعه الباحث وادعاه من قبله؟!
    والحديث الثانى، وهو برقم (2622) عنده:
    وهو حديث: أبي عامر العقدي، عن سليمان بن سفيان المدني، عن بلال بن يحيى بن طلحة، عن أبيه، عن جده، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربى وربك الله".
    انشغل الباحث بترجمة بلال بن يحيى بن طلحة ومن فوقه في الإسناد، ثم حكى عن الترمذي أنه حسنه، وإنما قال الترمذي: "حسن غريب"، فإما أنه حسنه لشواهده، أو أنه أراد بالتحسين الحسين المعنوى فقط.
    ومع ذلك؛ فقد غفل الباحث عن علة الحديث الحقيقية، وهى تفرد سليمان بن سفيان هذا به، وهذا الرجل اتفق أهل العلم على تضعيفه، وصرح بعضهم بأن حديثه هذا على
    وجه الخصوص حديث منكر.
    وهذه أقوال أهل العلم فيه، وفى حديثه هذا:
    قال عباس الدورى، عن يحيى بن معين (1102): "يروي عنه أبو عامر العقدي حديث "الهلال"، وليس بثقة".
    وقال ابن الجنيد (479): "سمعت يحيى بن معين يقول: سليمان بن سفيان المديني الذي روى عنه أبو عامر العقدي: حديث طلحة، عن النبى صلى الله عليه وسلم في رؤية الهلال؛
    ليس بشئ".
    وقال ابن أبي خثيمة، عن يحيى بن معين: "ليس بشئ".
    وحديث الهلال، هو حديثنا هذا، فهذا إنكار من ابن معين لهذا الحديث،
    وتضعيف لراويه.
    وقال علي بن المديني: "روى أحاديث منكرة".
    وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث، يروي عن الثقات أحاديث مناكير".
    وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه، فقال "منكر الحديث، روى عن عبد الله
    بن دينار ثلاثة أحاديث، كلها ـ يعني: مناكير ـ، وإذا روى المجهول المنكر عن المعروفين فهو كذا" ــ كلمة ذكرها.
    وقال النسائي والدولابي: "ليس بثقة".
    وقال يعقوب بن شيبة: "له أحاديث مناكير".
    وكذلك؛ ضعفه ابن عدي (3/1121 – 1122)، والعقيلى (2/135 – 136) والدارقطني، وابن الجوزي، والذهبي، وابن حجر.
    حتى ابن حبان الذي أدخله في "ثقاته" (6/384) لم يسكت، بل قال: "وكان يخطئ".
    ومثل هذا؛ كيف ينسب إلى ابن حبان توثيقه له بإطلاق، وهو قد صرح بأنه "وكان يخطئ".
    ومن يخطئ على قلة رواياته فهو تالف، كما أشار إلى ذلك الإمام أبو زرعة الرازي، فهو لا يستحق أن يكون ثقة، ولا أن يحتج بحديثه، فكيف وقد صرح غير واحد من أهل العلم بأن أحاديثه تلك القليلة مناكير؟ بل كيف وابن معين والعقيلي وابن عدي والذهبي (2/209) قد أنكروا حديثه هذا بخصوصه؟!!
    فهذا هو حال هذا الحديث عند أئمة الحديث، وهذا حال راويه، فأين هذا من صنيع الباحث،بل أين صنيعه هذا من قاعدته التى ابتدعها من قبل نفسه، ولم يوف بها ولا التزمها.
    بل أين هذا من قاعدته الأخرى التى نص عليها أيضًا، فقال:" إذا كان في الإسناد راوٍ أو أكثر ذكره ابن حبان في الثقات وضعفه غيره اعتبرته ضعيفًا "
    وهذا لم يوثقه ابن حبان التوثيق المطلق بل أشار إلى مافيه من ضعف - كما سبق - ، وضعفه سائر أهل العلم وأنكر بعضهم حديثه هذا بعينه ؟!!
    ومن قواعده التي ابتدعها أيضًا قال :
    "إذا وجدت في الإسناد راويًا ـ أو أكثرـ، قال عنه ابن حجر: "مقبول"، ولم أجد من وثقه أو ضعفه، اعتبرته حسنًا".
    وهذه أيضًا؛ من القواعد التى أخرجتها له الأرض من أفلاذ أكبادها؛ فقد صرح ابن حجر نفسه أن من يقول فيه: "مقبول" لا يكون محتجًا بانفراده، حتى يتابع.
    قال في مقدمة "التقريب":
    "من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، إليه الإشارة بلفظ: "مقبول" حيث يتابع، وإلا فلين الحديث".
    فهذا النص من الحفاظ ابن حجر نفسه، يدل على أن من يقول فيه: "مقبول" لا يكون محتجًا به بانفراده، وإنما ذلك حيث يتابع، فإذا لم يتابع وبقي متفردًا كان حديثه لينًا؛ فأين
    هذا من صنيع الباحث؟
    ومع ذلك؛ فإن الباحث لا يلتزم هذا الذي اشترطه على نفسه أيضًا؛ ففى الحديث السابق ـ أعنى: حديث "رؤية الهلال"، ترجم الباحث لبعض رواته، وهو "بلال بن يحيى بن طلحة" ـ شيخ سليمان بن سفيان المدني ــ، فنقل عن الحافظ ابن حجر أنه قال فيه: "لين"، ومع ذلك حسن الحديث!!
    ويكفى هذا المثال هنا، وإلا فالأمثلة كثيرة، أرى من إضاعة الوقت الانشغال بها.
    ومن هنا؛ ندرك أن هؤلاء الباحثين لا يحسنون إلا تزيين مقدمات الرسائل التى يسمونها (علمية)، وتحسينها، وإخراجها بصورة مبهرة، مهما اشتملت على تدليس وتلبيس، فالقارئ لها يتوهم أن تحت العمة فيلًا، وأن تحت القبة شيخًا!
    أما جوهر الرسالة، فهو بمعزل عن مقدمتها، لا يربطهما سبب، ولا يوصلهما نسب.
    فهذا هو مستوى هذه الرسائل، وهذا هو مستوى هؤلاء الطلبة، فهل يمكن أو يصح أن يعتمد عليهم وعلى أعمالهم؟ فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    الأصول والاصطلاحات :
    وحيث بأن لنا أهمية الرجوع إلى أئمة الحديث للتفقه بفقههم، والتفهم بمفهمهم، كان من الضرورى معرفة أصول الأئمة ومناهجهم واصطلاحاتهم.
    فإن مذاهب النقاد للأحاديث غامضة دقيقة، فربما أعلَّ بعضهم حديثًا استنكره، بعلة غير قادحة في الأصل، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر، وحجتهم في هذا أن عدم القدح بتلك العلة مطلقًا، إنما بني على أن دخول الخلل من جهتها نادر، فإذا اتفق أن يكون المتن منكرًا، يغلب على ظن النقاد بطلانه، فقد يحقق وجود الخلل، وإذ لم يوجد سبب له إلا تلك العلة، فالظاهر أنها هى السبب، وأن هذا من ذاك النادر الذي يجئ الخلل فيه من جهتها.
    وبهذا يتبين أن ما يقع ممن دونهم من التعقيب بأن تلك العلة غير قادحة، وأنهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث مع وجودها فيها، إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق، اللهم إلا أن يثبت المتعقب أن الخبر غير منكر.
    من ذلك: أنه قد يعل بعض أهل العلم حديثًا بأن فلانًا دلسه، وقد لا يكون هذا الراوي معروفًا بالتدليس، وإنما يقصد ذلك العالم أن هذا الراوي وقع منه التدليس في هذا الحديث بعينه، وإن لم يكن معروفًا به.
    من ذلك: أن الترمذي ذكر في "الجامع" حديث عمر بن على المقدمي، عن هشام بن عروةـ عن أبيه عن عائشة، أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان، ثم قال:
    "وقد روى مسلم بن خالد الزنجي هذا الحديث عن هشام بن عروة. ورواهُ جريرُ عن هشام أيضًا. وحديث جرير يقال: تدليس ، دلس فيه جرير ؛ لم يسمعه من هشام بن عروة".
    وفسر ذلك في "العلل" فحكى عن البخاري، أنه قال : "قال محمد بن حميد: إن جريرًا روى هذا في المناظرة، ولا يدرون له فيه سماعًا".
    ومن ذلك أيضًا: أن أبا حاتم الرازي أعل حديثًا بتدليس الليث بن سعد فيه ، فقال:
    "… ولم يذكر أيضًا الليث في هذا الحديث خبرًا، ويحتمل أن يكون سمعه من غير ثقة ودلسه".
    وقال أبو حاتم أيضًا في حديث آخر:
    "لم يحدث بهذا أحد سوى ابن عيينة عن ابن أبي عروبة، لو كان صحيحًا لكان في مصنفات ابن أبي عروبة، ولم يذكر ابن عيينة في هذا الحديث [الخبر]، وهذا أيضًا مما يوهنه".
    فتعقبه بعض المعاصرين بأن ابن عيينة أحد جبال الحفظ، ولا يضره كون الحديث ليس في مصنفات ابن أبي عروبة، وبأنه إن لم يصرح بالسماع لا يضره؛ لأنه لا يدلس إلا عن ثقة، كما قال ابن حبان وغيره.
    وهذا التعقب؛ ليس بشيء، وهو يدل على عدم فهم مراد الإمام من إعلاله.
    فهب أن سفيان لم يخطئ في هذا الحديث عن ابن أبي عروبة، لكن ما دمنا قد تحققنا أن الحديث ليس في مصنفات ابن أبي عروبة، فهو إذا لم يحدث به من كتاب، وإنما حدث به حفظًا، وابن أبي عروبة كان قد اختلط كما هو معلوم، وابن عيينة لم يذكروا أنه ممن أخذ عنه قبل الاختلاط فالظاهر أنه أخذ عنه بعده، وعليه يكون ابن أبي عروبة قد حدث ابن عيينة بهذا الحديث ــ إن كان ابن عيينة حفظه ــ في حال اختلاطه، من حفظه وليس من كتابه، وهذا وحده يكفي في الطعن في الحديث.
    ثم إنه ليس هناك تعارض بين قول أبي حاتم الرازى وقول ابن حبان البستي؛
    فإن قول البستي إنما هو حكم عام فيما يدلسه ابن عيينة بأنه لا يكون إلا عن ثقة، بينما قول أبي حاتم إنما هو حكم خاص بهذا الحديث، ولا يعارض الحكم الخاص بالحكم العام، بل يحمل العام على الخاص.
    فمن أراد أن يدفع تلك العلة الخاصة، لا يكفيه أن يأتى بالحكم العام، لأن أبا حاتم
    ـ وأمثاله من النقاد ـ لا تخفى عليه القاعدة العامة، بل لابد حينئذ من الإتيان بدليل خاص تدفع به تلك العلة الخاصة، وذلك بأن يأتي بتصريح بالسماع أو ما يدل عليه في موضع آخر، شريطة أن يكون ذلك محفوظًا عن ابن عيينة، وليس شاذًا.
    والقول في ذلك كالقول في أخطاء الثقات، فإن الثقة إذا وهمه إمام حافظ ناقد في حديث معين، وأعل الحديث بتفرده به، لا يصلح لمن دونه أن يدفع ذلك الإعلال بمجرد أن هذا الراوي ثقة، وأن تفرده مقبول في الأصل.
    فإن ثقة هذا الراوي لا تخفى على مثل هذا الإمام، بل قد يكون هو نفسه يوثقه،
    ولكنه حيث وثقه إنما حكم عليه حكمًا عامًا، وحيث خطأه في ذلك الحديث المعين فإنما هذا حكم خاص يتعلق بهذا الحديث المعين، فلا يدفع الحكم الخاص بالحكم العام، بل يحمل العام على الخاص فيقال هو ثقة إلا أنه أخطأ في هذا الحديث .
    ومن أراد أن يدفع خطأه في هذا الحديث المعين يلزمه أن يأتي بدليل خاص يدل على ذلك كأن يـأتي بمتابعة كافية للدلالة على براءته من عهدة الحديث والله أعلم .
    وربما يطلقون بعض الاصطلاحات على غير معناها المتقرر والمتعارف عليه؛ كمثل مصطلح "الحسن"، فإن بعض أهل العلم يستعمله في موضع "الغريب" أو "المنكر"، على عكس معناه المتقرر، والذي يقتضي ثبوت الحديث.
    وقد قال إبراهيم بن يزيد النخعي "كانوا يكرهون إذا اجتمعوا، أن يخرج الرجل أحسن حديثه، أو أحسن ما عنده".
    قال الحافظ الخطيب البغدادي شارحًا له: "عنى إبراهيم بالأحسن الغريب، لأن الغريب غير المألوف يستحسن أكثر من المشهور المعروف، وأصحاب الحديث يعبرون عن المناكير بهذه العبارة".
    ومن ذلك: مصطلح "الاعتبار"؛ فإن "الاعتبار" عند أئمة الحديث؛ له معنيان:
    المعنى الأول: أنهم يطلقون لفظ "الاعتبار" بمعنى الاستشهاد والاستئناس والاعتضاد والتقوية.
    وهذا هو المعنى الذي درج عليه العلماء المتأخرون، بحيث إنهم لا يكادون يستعملون "الاعتبار" إلا على هذا المعنى، فيقولون: "هذا الحديث يصلح للاعتبار"، أو: "هذا الإسناد يصلح للاعتبار" أو: "هذا الراوي يصلح حديثه للاعتبار" يقصدون: أنه ليس ضعفه شديدًا، بل ضعفه ضعف محتمل، يمكن أن يتقوى بغيره أو يستشهد له بما رواه غيره ممن هو مثله أو أقوى منه.
    وحيث يقولون: "فلان لا يصلح للاعتبار" أو" فلان لا يعتبر به"، إنما يريدون تضعيفه الضعف الشديد، بحيث يكون حديثه غير صالح للاستشاهد، ولا للاعتضاد.
    المعنى الثانى: أنهم يطلقون لفظة "الاعتبار" ويقصدون به الاختبار، بصرف النظر عن حال الراوي: هل ضعفه شديد أو ضعفه هين؟
    فعلماء الحديث ــ عليهم رحمة الله ــ يكتبون أحاديث الرواة؛ لينظروا فيها، ثم يعرضوها على أحاديث الثقات، لينظروا: هل أحاديث هؤلاء الرواة مستقيمة، أم لا؟ فإن وجدوا أحاديثهم موافق لأحاديث الثقات أو غالبها، عرفوا أنهم ثقات، وبقدر مخالفتهم للثقات أو تفردهم عنهم بما ليس له أصل من أحاديثهم، بقدر ما يعرفون ضعف حفظ هؤلاء الرواة، وهذا يسمونه أيضًا بـ "الاعتبار".
    بل أحيانًا يطلقون "الاعتبار" على أحاديث الرواة الذين ضعفهم ضعف شديد، بمعنى أنهم يكتبون أحاديثهم، ليعرفوها وليعرفوا ضعف رواتها، حتى إذا ما سئلوا عن هذه الأحاديث، أو عن هؤلاء الرواة، أجابوا بما يعرفون.
    فإذا؛ "الاعتبار" ها هنا بمعنى: "المعرفة"، أو بمعنى "الاختبار"، اختبار أحاديث الراوي".
    وإنما يميز ذلك بالسياق، كمثل ما جاء في "الإرشاد" للخليلي (1/177 - 187)، حيث قال بصدد حديثه عن بعض روايات الكذابين:
    "وأن جماعة كذابين رووا عن أنس ولم يروه ، كأبي هدبة إبراهيم بن هدبه، ودينار، وموسى الطويل، وخراش، وهذا وأمثاله لا يدخله الحفاظ في كتبهم، وإنما يكتبون اعتبارًا، ليميزوه عن الصحيح".
    و"الاعتبار" هنا بمعنى "المعرفة"، لا "الاستشهاد".
    ومن ذلك: قصة دخول الإمام أحمد بن حنبل على يحيى بن معين ــ عليهما رحمة الله ــ وهما بصنعاء، حيث كان ابن معين يكتب صحيفة أبان بن أبي عياش عن أنس، وهو يعلم أنها موضوعة، ليعرفها، حتى إذا جاء كذاب فجعل "ثابتا" مكان "أبان" يعرف ذلك ويميزه، وهى قصة مشهورة.

    شرائط الكتب :
    إن أئمة الحديث ــ عليهم رحمة الله تعالى ـ لم يصنفوا هذه الكتب الحديثية جزافًا، بل كل مصنف لهم لمصنفه فيه شرط التزمه، وغاية نشدها؛ فكان إخراج الحديث في مصنف ما، على وجه ما، كالإشارة من مصنفه إلى حال هذا الحديث عنده من حيث الصحة والضعف.
    ومن هنا؛ ندرك الخطأ الذي يقع فيه بعض الباحثين؛ حيث يخرجون الحديث من كتب متعددة، غير ملتفتين إلى الفائدة التى أسداها إليهم صاحب الكتاب بإخراجه الحديث فيه.
    فدلالة الاحتجاج بالحديث في "الصحيحين" على صحته، وتلقى العلماء له بالقبول؛ حيث لا يكون ثمة تعقب من بعض الحفاظ؛ لا ينبغي لا ينبغي أن تهمل، بل على الباحث الاستفادة من هذه الدلالة، وتلك الفائدة، فلا يعامل أحاديث "الصحيحين" معاملته لغيرها.
    ودلالة إخراج الحديث في كتب الأصول، كـ "السنن الأربعة" و "الموطأ"
    و "المسند" لأحمد ــ أيضًا ــ لا ينبغي إهمالها.
    بل من أهل العلم من يرى أن من علامات ضعف الحديث خلو هذه الكتب منه.
    وإخراج الحديث في ترجمة رواية المتفرد به في كتب الضعفاء مثل: "الكامل" لابن عدي، و"الضعفاء"، للعقيلي، و "المجروحين" لابن حبان؛ يدل على ضعف الرواية دلالة واضحة جلية؛ لأن هؤلاء الأئمة إنما يخرجون في ترجمة الراوي بعض أحاديثه المنكرة؛ ليستدلوا بذلك على ضعفه، فكانت هذه الأحاديث، من هذه الأوجه ـ خاصة مهما كانت متونها ثابتة من أوجه أخرى ـ، عند هؤلاء المصنفين غاية في النكارة؛ حيث إنهم لم يضعفوها فحسب، بل استدلوا على ضعف راويها المتفرد بها.
    وقد قال ابن عدي في مقدمة كتابه : " .. وذاكر لكل رجل منهم مما رواه ما يضعف من أجله، أو يلحقه بروايته له اسم الضعف؛ لحاجة الناس إليها".
    وقال الحافظ ابن حجر: "من عادة ابن عدي في "الكامل"، أن يخرج الأحاديث التى أنكرت على الثقة، أو على غير الثقة".
    وكثيرًا ما يتبرأ ابن حبان في "المجروحين" من تلك الأحاديث التى يخرجها في كتابة، ويصرح بأنه ما دفعه إلى إخراجها إلا الرغبة في بيان الضعفاء وبيان أحاديثهم المنكرة.
    يقول في المقدمة: "إنما نملي أسامى من ضعف من المحدثين، وتكلم فيه الأئمة المرضيون.. ونذكر عند كل شيخ منهم من حديثه ما يستدل به على وهنه في روايته تلك".
    ويقول أيضًا: "وإنى لا أحل أحد روى عنى هذه الأحاديث التى ذكرتها في الكتاب
    إلا على سبيل الجرح في روايتها على حسب ما ذكرنا".
    وكرر هذا المعنى في غير ما وضع من كتابه.
    * * *
    فهذه ضوابط كلية، لابد وأن يراعيها الباحث في الأحاديث عمومًا، وفى أى موضع تعرض فيه للحديث، سواء كان معلقًا على كتاب من كتب التراث، أو كان باحثًا في الحديث ومتعرضًا للحكم عليه غير متقيد بالتعليق على كتاب معين وسواء قصد في عمله الإسهاب والإطناب أو اكتفى بالإيجاز والاختصار.
    إلا أن المعترض للأحاديث والحكم عليها حال كونه معلقًا على كتاب معين من كتب التراث ينبغي عليه أيضًا أن يراعي أمورًا أخرى، أرى من الضروري عدم إغفالها، وهذه الأمور يلاحظ الناظر في الأعمال التى نشرت لي ، وهنا أحب أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى هذه الأمور، وإلى طريقتي التى أتبعها في تخريج الأحاديث والحكم عليها في غضون تحقيق الأحاديث والحكم عليها في غضون تحقيق كتاب من كتب التراث، ليكون ذلك واضحًا لديه، سواء في عملى في هذا الكتاب أو في غيره من الكتب السابقة أو اللاحقة إن شاء الله تعالى.
    وهذه الطريقة، أستطيع أن ألخصها في عدة نقاط :
    قل للذي لايخلص لايُتعب نفسهُ

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,901

    افتراضي رد: مقالة رائعة من مقدمة تحقيق (نيل الأوطار) للشيخ المحدث طارق بن عوض الله

    الأولى :



    أن التخريج لابد وأن يناسب موضوع الكتاب، فإذا كان الكتاب من كتب علل الحديث، برز في التخريج صناعة العلل والتوسع في النظر في الأسانيد وبيان ما فيها من اختلاف وغيره، سواء كان ذلك في الإسناد أو في المتن، وسواء كان ما في الإسناد منها مؤثرًا في المتن أم لا، وسواء كان ذلك خاصًا برواية بعينها،أم شاملاً أحاديث الباب؛ وهكذا.



    والكتاب الذي يتناول جزئيات من علل الأحاديث، يكون تعليقي منصبًا على هذه الجزئيات، من غير توسع في دراسة بقية جزئيات البحث في هذه الأحاديث، إلا إذا كان لذلك ضرورة.



    والتعليق على هذه الكتب وأمثالها، لابد وأن يراعى فيه إبراز الأسانيد واختلافها وأخطاء الرواة فيها أو في متونها، ولا يكتفى بالمتون وشواهدها؛ لأن هذه الكتب ليس من وظيفتها جمع المتون بقدر بيان الأسانيد ومخارجها وأخطاء الرواة فيها وفى متونها، فقد يكون المتن محفوظًا لكنه بهذا الإسناد خاصة غير محفوظ.



    وهذا المسلك واضح جدًا في تعليقي على كتاب "المنتخب من العلل للخلال" فالكتاب عبارة عن أسئلة سئل عنها الأمام أحمد، تتعلق ببعض جزئيات علل الأحاديث، فأجاب رحمه الله بما يكون فيه جواب عن هذه الأسئلة الجزئية فكان من المناسب أن تكون تعليقاتي على هذه المواضع في نفس موضوعها من غير خروج عن المقصود، فليس كل فائدة توضع في كل موضع، وإنما لكل مقام مقال.



    ولا يفوتنا بهذه المناسبة أن نشيد بتعليقات الدكتور/ محفوظ الرحمن زين الله رحمه الله على "مسند البزار" و "العلل" للدارقطني، فهو لا يذكر في تعليقاته كل الأسانيد المتعلقة بمتن الحديث، وإنما يبرز الإسناد أو الوجه الذي تناوله المؤلف في كلامه، وربما ذكر ما يفيد هذا الوجه من حديث الإعلال، فجاءت تعليقاته كما ينبغي، وكما ينتظر الباحث في هذه الكتب وأمثالها.



    وأيضًا؛ إذا كنت بصدد التعليق على كتب من كتب علوم الحديث ومصطلحه، وبطبيعة الحال فإن هذه الكتب تشتمل على أحاديث، يسوقها مؤلفوها للتمثيل على هذه الأنواع الحديثية التى تشتمل عليها هذه الكتب، فإن تعليقي على هذه الكتب ينصب على خدمة الجانب الاصطلاحى والتقعيدي الذي هو موضوع هذه الكتب، فلا أشتعل ـ ولا أشغل القارئ معى ــ بتخريج هذه الأحاديث وعزوها إلى مصادرها، بقدر ما أشغله بإبراز محل الشاهد من هذا المثال أو ذاك، أو بمدى صلاحية هذا المثال لهذا النوع من عدم صلاحيته، أو بإبراز أمثلة أخرى توضح المسألة، وما شابه ذلك.



    وهذا واضح جدًا في عملى في كتاب "تدريب الراوي" فتراني في الأعم الأغلب أكتفي بعزو الأحاديث إلى من أخرجها من دون الحكم عليها بصحة أو ضعف ، إذ ليس ذكر الأحاديث في هذا الكتاب الغرض منه بيان صحيحها من ضعيفها، وإنما الغرض التمثيل بها على أنواع الأحاديث التى هى موضوع الكتاب.



    ولذا؛ قد أتوسع في التعليق على بعض الأحاديث دون بعض حيث يكون هناك داع إلى التوسع بما يخدم الغرض الذي من أجله سيق الحديث في الكتاب، وليس لمجرد الانتفاء، أو لما يعتري الإنسان من نشاط وفتور.



    فقد يقع في الكتاب حديث قد مثل به على نوع من أنواع الحديث، ثم يترجح لدى عدم صلاحية هذا المثال لهذا النوع، فترانى أتوسع في الكلام على الحديث وأسانيده بما يوضح ما أذهب إليه من عدم صلاحيته كمثال لهذا النوع، وليس لمجرد تميز الحديث إن كان صحيحًا أو ضعيفًا.



    من ذلك: حديث: "شيبتني هود وأخواتها" فقد حكم عليه بعض أهل العلم بالاضطراب، وجعله مثالاً للحديث المضطرب، ولما نظرت في طرقه وأسانيده، وجدت الحديث غير صالح لهذا النوع، لأنه لم تتحقق فيه صفته ولا شروطه، فكان لزامًا عليَّ بيان ذلك، ولا يكون إلا بالتوسع في سوق طرقه وبيان ما فيها من علل، مستعينًا على ذلك بأقوال أهل العلم عليها، وهى طرق كثيرة، فجاء بحثي في نحو عشر صفحات، انفصلنا فيه عن كون الحديث الراجح فيه الإرسال، وليس هو من المضطرب بمعناه الاصطلاحي.



    وليس من شك أنه بحث طويل وتعليق كبير إذا ما قورن بطريقتي في التعليق على عامة الكتاب، والسبب ــ كما سبق ــ هو قناعى بحاجة هذا الموضع إلى الإسهاب والإطناب، دون غيره، وليس غير ذلك من الأسباب التى قد يتوهمها البعض.



    الثانية :



    أن التخريج لابد وأن يناسب طبيعة سوق المؤلف صاحب الكتاب المعلق عليه لهذه الأحاديث، فما ساقه مساق الاحتجاج يختلف عما ساقه مساق الاستشهاد والاعتضاد، وما ساقه محتجًا به في العقائد والأحكام يختلف عما ساقه في فضائل الأعمال، فقد جرت عادة العلماء بالتساهل في هذا الأخير، ما لم يكن موضوعًا أو منكرًا أو ساقطًا.



    وعلى ضوء هذا :



    فإن وجدت صاحب الكتاب قد فرغ من إثبات الحكم بأدلته الشرعية من القرآن



    أو السنة الصحيحة أو الإجماع، ثم رأيته توسع في سوق أحاديث تعضد ما ذهب إليه وأثبته، وكانت هذه الأحاديث فيها من الضعف ما فيها؛ فإننى عادة لا أتوسع في تخريجها أو في



    ذكر عللها؛ لأن المؤلف لا يعتمد عليها، وإنما هو فقط يستشهد بها، ومعلوم أن باب



    الاستشهاد يتسامح فيه ما لا يتسامح في الأصول، وقد أشير إلى ما في إسنادها من ضعف



    إشارة سريعة، بقولى مثلا: "إسناده ضعيف"، أو بأن أذكر بعض أقوال أهل العلم التى تفيد هذا.



    وهذه عادة أهل العلم؛ فإنهم إذا ما ساقوا الحديث مساق الاستشهاد، فغالبًا ما يسكتون عن علته، بناء على أن معناه مؤيد بأدلة أخرى، وقد يكونون إنما ساقوا مثل هذه الروايات من باب حشد الأدلة لا غير.



    وهذا يظهر في تعليقى على كتاب "فتح البارى" لابن رجب، وأيضًا "سبل السلام" للصنعاني.



    على أن في هذين الكتابين أمرين آخرين أحب أن أبرزهما:



    الأول: وهو أن هذين الإمامين كثيرًا ما يحكمان على الأحاديث، سواء بحكمهما الخاص، أو بالنقل عن غيرهما من أهل العلم، فحينئذ لا أجدني في حاجة إلى ذكر أقوال أهل العلم، اللهم إلا إشارة، كأن أشير إلى كتاب من كتب التخريج أو العلل توسع في دراسة طرق هذا الحديث، وإلا اكتفيت بعزو الحديث إلى مخرجيه.



    فلا تجدنى ــ إن شاء الله تعالى ــ أذكر في التعليق شيئًا قد سبقني صاحب الكتاب



    إلى ذكره أو أنقل شيئًا عن أهل العلم قد سبقني هو إلى نقله، اللهم إلا أن يقع ذلك سهوًا أو نسيانًا، أو يكون صاحب الكتاب قد اختصره، وأتيت أنا به تمامًا، حيث كان في تمامه فائدة.



    الثاني: أنني سلكت في هذين الكتابين مسلك خدمة الكتاب لا خدمة العلم، بمعنى أنني جعلت عملي فيهما منحصرًا في ضبط الكتابين وتصحيحهما، مع عزو أحاديثهما إلى مخرجيها، وكذلك ما استطعت الرجوع إلى مصدره من النصوص والأقوال التى تضمنها الكتابان؛ فهذه خدمة للكتاب نفسه، وليست خدمة للعلم عامة.



    لقد أردت أن يكون عملي في مثل هذه الكتب للمسلمين كلهم، وليس لطائفة دون طائفة، ولا لفئة دون فئة، فأنكرت ذاتي، فلم أجعل نفسى حائلاً بين القارئ والكتاب، ولم أفرض رأيي، بل جعلت الكتاب بين يدي القارئ مصححًا مضبوطًا مخدومًا بتوثيق مادته والاكتفاء بالتنبيه على ما لابد من التنبيه عليه.



    وهذا هو المسلك نفسه الذي سلكته في تحقيق كتاب الطبرانى "المعجم الأوسط"، وهو نفسه الذي أسلكه في عامة الكتب الكبيرة والتى لا يناسبها كثرة الحواشي، والتوسع



    فى التعليق.



    وهو نفسه المسلك الذي سلكته في تحقيق "نيل الأوطار" وإن كنت قد توسعت في بعض المواضع حيث دعت الضرورة إلى ذلك، على نحو ما سبق بيانه.



    الثالثة :



    وهى تتعلق بأعمالي التى يكون دورى فيها التجميع والترتيب والتأليف، فليعلم القارئ الكريم أن هذا الدور في غاية الصعوبة وتحقيق مخطوط أيسر بكثير من مثل هذا؛ لأن هذه الأعمال أقوم فيها بمثل ما أقوم به في تصحيح المخطوط؛ لأنني قبل أن أرتب هذه المادة أصححها، وغالبًا ما يكون تصحيحي لها اجتهادًا واعتمادًا على المراجع الأخرى، وليس اعتمادًا على أصل خطي.



    وهذا الترتيب لهذه المادة يتطلب جهدًا كبيرًا، شرحت بعضه في بعض مقدماتي على بعض هذه الأعمال، لكن اكتفي هنا بذكر مثال يوضح هذا:



    فكتابي "الجمع والتوضيح لمرويات الإمام البخاري وأحكامه في غير الجامع الصحيح" من الكتب التى أرهقتني جدًا في الترتيب؛ فإننى قد التزمت فيه ترتيب "الجامع" للإمام الترمذي، والإمام الترمذي إنما يخرج الحديث في "جامعه" في باب يختاره هو، مهما كان الحديث صالحًا لأن يخرج في أبواب أخرى، فكان المطلوب مني ـ أو ما يقتضيه شرطي ـ ، أن أتتبع هذا الحديث في "جامع الترمذي"، لأنظر في أى موضع ساقه الترمذي، وهذا فيه من المشقه ما فيه؛ لكثرة الأحاديث، فقد بلغت قرابة (4500) حديث.



    ثم إن الكثير من هذه الأحاديث لم يخرجه الترمذي، فكان دوري البحث في كتاب الترمذي عن أقرب باب يصلح أن يدخل هذا الحديث فيه، وهكذا.



    وهذا كله في الأحاديث التى يذكر الإمام البخاري متنها، لكن ماذا يكون ظنك



    بهذا الجم الغفير من الأحاديث التى أشار إليها البخاري إشارة ولم يذكر متونها، كان لابد



    من أن أبحث أولاً عن متونها في بطون الكتب، وهو أمر صعب جدًا؛ لأن معطيات البحث إسنادية لا متنية ـ كما ترى ـ ومعلوم كم تكون صعوبة البحث عن حديث معطيات البحث عنه بهذا الشح.



    فهذا الجهد الجهيد، جهد غير منظور ولا مرئي، فالقارئ عندما يطالع الكتاب



    لا يدري كم بذلك المؤلف من جهد حتى يضع هذا الحديث هنا، وهذا الباب هنا وهذا الباب هناك، ثم إذا ما نظر في الحاشية ووجد مادة التخريج محدودة استهان بالعمل ولم يقدره قدره!



    هذا هى طريقتي التى أتبعها في أعمالي بينتها للضرورة، فإن كان في مسلكي من خطأ فجزى الله خيرًا أخًا كريمًا نصحني في الله تعالى وأرشدني إلى جادة الصواب، وإن كان في مسلكي إصابة فهو فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، ليس لي فيه حول ولا قوة.



    وصلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وصحبه وسلم.
    قل للذي لايخلص لايُتعب نفسهُ

  3. #3

    افتراضي رد: مقالة رائعة من مقدمة تحقيق (نيل الأوطار) للشيخ المحدث طارق بن عوض الله

    جزاك الله خيرا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •