بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فهذا بحث مختصر مبسط في دليل من الأدلة المختلف فيها وهو دليل الاستحسان أحببت أن أسهل فيه الفهم للإخوة الكرام حسب قدرتي وحسب علمي القاصر في هذا الباب وأسأل الله أن ينفعني به وينفع به قارئه :
أولاً : تعريفه لغةً واصطلاحاً :
الاستحسان لغةً : مأخوذ من الحسن وهو ضد القبح ، واستحسن الشيء أي عده حسناً .
والاستحسان اصطلاحاً عرف بعدة تعريفات ومنها :
1 – تعريف أبي الحسن الكرخي من الحنفية حيث عرفه بقوله : ( هو العدول عن حكم في مسألة بمثل حكمه في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى منه )
وهذا يوجب كون العدول عن العموم إلى الخصوص ، والمنسوخ إلى الناسخ استحساناً ، وهو ليس كذلك .
2 – تعريف القاضي أبي يعلى من الحنابلة حيث عرفه بقوله : ( ترك الحكم إلى حكم هو أولى منه ) .
3 – تعريف أبي الحسين البصري المعتزلي : ( ترك وجهٍ من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه هو أقوى منه، وهو حكم طارئ على الأول ) وقد مال إلى ترجيح هذا التعريف الفخر الرازي والآمدي .
خرج بقوله ( غير شامل شمول الألفاظ ) العدول من العموم إلى القياس لكونه لفظاً شاملاً .
وخرج بقوله ( وهو حكم طارئ على الأول ) ما يعبر عنه الأحناف بقولهم ( تركنا الاستحسان بالقياس ) لأن القياس الذي تركوا له الاستحسان ليس في حكم الطاريء بل هو الأصل ولذلك لم يصفوه بأنه استحسان وإن كان أقوى في ذلك الموضع مما تركوه .
4 - وذكر الغزالي وابن قدامة للاستحسان ثلاثة معان:
أ - أنه ما يستحسنه المجتهد بعقله.
ب - أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة، ولا يقدر على إبرازه وإظهاره.
ج - العدول بحكم المسألة عن نظائرها بدليل خاص من القرآن أو السنة ( وهذا هو تعريف الكرخي السابق ، وبه عرفه الطوفي أيضاً )
5– تعريف المالكية فيما ذكره ابن خويز منداد : ( هو العمل بأقوى الدليلين ) .
6- تعريف الشاطبي : ( هو الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي )
7– تعريف ابن العربي : ( هو إيثار ترك مقتضى الدليل، والترخيص على طريق الاستثناء لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته ) نقله عنه الشاطبي .
8– تعريف الشيرازي : ( هو ترك القياس بما يستحسنه الإنسان برأي نفسه من غير دليل )
فظهر بهذا أن الأصوليين ذكروا للاستحسان معنيين وهما :
الأول : العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص أقوى ( وهذا هو التعريف المختار للمعنى الصحيح ) .
الثاني : ما يستحسنه المجتهد برأيه من غير دليل ( وهذا هو المعنى الباطل للاستحسان ) .
وبسبب هذا الخلاف في التعريف وقع النزاع في قبول الاستحسان أو رده .
ثانياً : آراء الأئمة الأربعة في الاستحسان :
1 - الإمام أبو حنيفة :
يعتبر الإمام أبو حنيفة أشهر من احتج بالاستحسان وأكثر الأئمة استعمالاً له ، والمشهور عند الحنفية أن الاستحسان عند أبي حنيفة هو الاستحسان المستند إلى دليل المعارض للقياس وهذا ما قرره أتباعه .
بينما ينسب إليه كثير من الشافعية أن الاستحسان الذي يحتج به هو ما يستحسنه المجتهد بعقله ، ولا شك أن هذه النسبة تخالف المأثور عنه في أقواله وتخالف ما نسبه إليه أتباعه وهم أعلم بمذهبه من غيرهم .
2 – الإمام مالك :
وقد اختلف المالكية في النقل عن مالك في الاحتجاج بالاستحسان على قولين :
الأول : أنه لا يحتج به وهذا ظاهر كلام ابن الحاجب المالكي حيث يقول : ( الاستحسان قال به الحنفية والحنابلة وأنكره غيرهم )
الثاني : أنه يحتج به وهذا ما نقله عنه ابن خويز منداد والقرافي والشاطبي بل ذكر الشاطبي في الاعتصام عن مالك قوله : ( الاستحسان تسعة أعشار العلم )
ووما ذكره القرافي من الفروع التي أفتى فيها مالك بالاستحسان تضمين الصناع المؤثرين في الأعيان بصفتهم ، وتضمين الحمالين للطعام والإدام دون غيرهم من الحمالين .
3 – الإمام أحمد :
قد نقل الحنابلة _ كالقاضي أبي يعلى وأبي الخطاب وابن قدامة وابن تيمية وابن النجار _ عن الإمام أحمد قوله بالاستحسان في كثير من المسائل فمن ذلك :
أ - قال في رواية الميموني : " أستحسن أن يتيمم لكل صلاة والقياس أنه بمنزلة الماء يصلى به حتى يحدث أو يجد الماء " .
ب- وقال في رواية بكر بن محمد _ فيمن غصب أرضا فزرعها _ : " الزرع لرب الأرض وعليه النفقة وهذا شيء لا يوافق القياس ولكن أستحسن أن يدفع إليه نفقته " .
ج - وقال في رواية المروذي : " يجوز شراء أرض السواد ولا يجوز بيعها فقيل له كيف يشترى ممن لا يملك فقال القياس كما تقول ولكن هو استحسان " .
د - وقال في رواية صالح _ في المضارب إذا خالف فاشترى غير ما أمره به صاحب المال _ : " فالربح لصاحب المال ولهذا أجرة مثله إلا أن يكون الربح يحيط بأجرة مثله فيذهب وكنت أذهب إلى أن الربح لصاحب المال ثم استحسنت "
وأما ما نقله أبو طالب عنه من قوله : " أصحاب أبى حنيفة إذا قالوا شيئا خلاف القياس قالوا نستحسن هذا وندع القياس فيدعون ما يزعمون أنه الحق بالاستحسان وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه " فقال القاضي ابو يعلى : ظاهر هذا إبطال القياس ، لكن قال أبو الخطاب هذا محمول على الاستحسان بغير دليل .
4 – الإمام الشافعي :
اشتهر عن الإمام الشافعي رده للاستحسان وتشنيعه على من قال به كما في كتاب الرسالة وكتاب الأم بل إنه ألف كتباً سماها ( إبطال الاستحسان ) ومن ذلك :
أ – قوله : ( من استحسن فقد شرع )
ب – وقوله في الرسالة : ( الاستحسان تلذذ )
ج – وقوله في الرسالة : (والاجتهاد لا يكون إلا على مطلوب والمطلوب لا يكون أبداً إلا على عين قائمة تُطلب بدلالةٍ يُقصد بها إليها أو تشبيهٍ على عين قائمة وهذا يبين أن حراماً على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسانُ الخبرَ )
د – وقوله في الرسالة : ( ولو جاز تعطيلُ القياس جاز لأهل العقولِ من غير أهل العلم أن يقولوا فيما ليس فيه خبر بما يحضرهم من الاستحسان وإن القول بغير خبر ولا قياس لَغَير جائز )
هـ وقوله في الأم : ( باب إبطال الاستحسان : وكل ما وصفت مع ما أنا ذاكر وساكت عنه اكتفاء بما ذكرت منه عما لم أذكر من حكم الله ثم حكم رسول الله ، ثم حكم المسلمين دليل على أن لا يحوز لمن استأهل أن يكون حاكما أن مفتيا أن لا يحكم ولا أن يفتي إلا من جهة خبر لازم وذلك : الكتاب ثم السنة أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه أو قياس على بعض هذا ولا يجوز له أن يحكم ولا يفتي بالاستحسان واجبا ولا في واحد من هذا المعاني )
و – وقوله في الأم : (فجعل عليهم طلب الدلائل على شطر المسجد الحرام فقال :﴿ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾ وكان معقولا عن الله عز وجل أنه إنما يأمرهم بتوليه وجوههم شطره بطلب الدلائل عليه لا بما استحسنوا ولا بما سنح في قلوبهم ولا خطر على أوهامهم بلا دلالة جعلها الله لهم )
إلى غير ذلك من النصوص عن الإمام رحمه الله والتي تفيد رده للاستحسان والتشنيع على من عمل به لكنا وجد الإمام رحمه الله يفتي بالاستحسان أحياناً ، وأحياناً يستحسن بعض المسائل ويعبر عنها بقوله استحب بدل استحسن مع انهما في الحقيقة سواء كما قال السرخسي .
ومن الفروع التي عمل فيها الشافعي بالاستحسان ما يلي :
1 – الاستحلاف على المصحف حيث يقول كما في الأم : ( وقد كان من حكام الآفاق من يستحلف على المصحف وذلك عندي حسن )
2 – العمرة في أشهر الحج حيث سئل عنها فقال : ( حسنة أستحسنها وهي أحب منها بعد الحج لقول الله عز وجل : ﴿ فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ﴾ ولقول رسول الله :" دخلت العمرة في الحج " )
3 – وضع المؤذن أصبعيه في أذنيه حال الآذان حيث يقول : ( وحسن أن يضع أصبعيه في أذنيه )
4 – وقال في دفع زكاة الفطر قبل العيد بيومين : ( هذا حسن واستحسنه لمن فعل )
5 - أنه استحسن في المتعة في حق الغنى أن يكون خادما وفي حق الفقير مقنعة وفي حق المتوسط ثلاثين درهما .
6 - أنه استحسن في خيار الشفعة أن تكون ثلاثة أيام .
7 - أنه نص في أحد أقواله أنه يبدأ في النضال بمخرج السبق إتباعاً لعادة الرماة قال أصحابه هو استحسان .
وأما ما استحسنه بلفظ الاستحباب فمن ذلك :
1 – قوله : ( وإذا أسلم المشرك أحببت له أن يغتسل ويحلق شعره : فإن لم يفعل ولم يكن جنبا أجزأه أن يتوضأ ويصلي )
2 – وقوله : ( وأقل ما يكفي فيما أمر بغسله أن يأخذ له الماء ثم يجريه على الوجه واليدين والرجلين فإن جرى الماء بنفسه حتى أتى على جميع ذلك أجزأه وإن أمر به على يده وكان ذلك بتحريك له باليدين كان أنقى وكان أحب إلي ) .
4 – وقوله : ( وأحب للرجل أن يسمي الله عز وجل في ابتداء وضوئه فإن سها سمى متى ذكر وإن كان قبل أن يكمل الوضوء وإن ترك التسمية ناسيا أو عامدا لم يفسد وضوؤه إن شاء الله تعالى )
5 – وقوله : ( ولا أحب للمتوضئ أن يزيد على ثلاث وإن زاد لم أكرهه إن شاء الله تعالى ) .
6 – وقوله : ( قلما جن إنسان إلا أنزل فإن كان هذا هكذا اغتسل المجنون للإنزال وإن شك فيه أحببت له الاغتسال احتياطا ولم أوجب ذلك عليه حتى يستيقن الإنزال )
7 – وقوله : ( وأحب للمؤذن أن لا يتكلم حتى يفرغ من أذانه فإن تكلم بين ظهراني أذانه فلا يعيد ما أذن به قبل الكلام كان ذلك الكلام ما شاء ) .
8 – وقوله : ( وإذا أذن الرجل أحببت أن يتولى الإقامة )
9 – وقوله : ( وأحب أن يكون المؤذنون كلهم خيار الناس لإشرافهم على عوراتهم وأمانتهم على الوقت )
10 – وقوله : ( فأحب رفع الصوت للمؤذن وأحب إذا اتخذ المؤذن أن يتخذ صيتا وأن يتحرى أن يكون حسن الصوت فإنه أحرى أن يسمع من لا يسمعه ضعيف الصوت وحسن الصوت )
11 – وقوله : ( أحب أن يقرأ المصلي بعد أم القرآن سورة من القرآن فإن قرأ بعض سورة أجزأه فإن اقتصر على أم القرآن ولم يقرأ بعدها شيئا لم يبن لي أن يعيد الركعة ولا أحب ذلك له )
والأمثلة في هذا كثيرةٌ جداً .
5 – الإمام أبو محمد بن حزم :
قال ابن حزم : ( الحق حق وإن استقبحه الناس ، والباطل باطل وإن استحسنه الناس ، فصح أن الاستحسان شهوة واتباع للهوى وضلال، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان)
وقال أيضاً: (من المحال أن يكون الحق فيما استحسنا دون برهان ؛ لأنه لو كان ذلك لكان الله تعالى يكلفنا مالا نطيق ، ولبطلت الحقائق )
وقد ألف ابن حزم _ رحمه الله _ كتابا سماه : ( ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان )
خلاصة ما سبق : أن الأئمة الأربعة يحتجون بالاستحسان وإن كانوا يتفاوتون في التوسع في الاحتجاج به فأكثرهم استعمالا له أبو حنيفة وأتباعه ، ثم أحمد وأتباعه ، ثم مالك واتباعه ، ثم الشافعي وأتباعه .
ثالثاً : سبب ما ورد من خلاف بين أبي حنيفة والشافعي في الاستحسان :
يذكر الأصوليون أن سبب هذا الخلاف يعود إلى أمرين :
الأول : تحديد المراد بالاستحسان فالاستحسان عند أبي حنيفة يشمل الاستحسان بالنص والإجماع والضرورة والرأي ، والشافعي لا يرد الاستحسان بالنص والإجماع والضرورة إنما ينكر الاستحسان بالرأي ، ويرى أنه عمل بلا دليل ، وهذا ما أشار إليه البخاري في كشف الأسرار .
الثاني : أن أبا حنيفة يرى أن الاستحسان يخصص العلة ، والشافعي يمنع من تخصيص العلة ، وإلى هذا أشار الفخر الرازي في المحصول فيكون الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي هو في الاستحسان بالقياس .
وعليه فلا خلاف بين الأئمة الأربعة في حجية الاستحسان بالنص ، أو الإجماع ، أو الضرورة ؛ لأنه بالاتفاق يترك القياس بهذه الأمور الثلاثة .
كما لا خلاف بينهم في مجرد التسمية ؛ لأن التسمية شرعية وردت في النصوص ومن ذلك :
قوله تعالى : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وقوله تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم وقوله تعالى : وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ، وفي الحديث _ والصواب وقفه على ابن مسعود ررر _ : " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن "
ويكون الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي هو في الاستحسان بالقياس فقط .
رابعاً : انواع الاستحسان :
النوع الأول : استحسان النص :
وهو أن يترك العمل بمقتضى القياس لدليل من الكتاب أو السنة ومن أمثلة ذلك :
- حكم الوصية : القياس يأبى جواز الوصية لأنها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت والموت مزيل للملك فتقع الإضافة إلى زمان زوال الملك فلا يتصور وقوعه تمليكا فلا يصح إلا أنهم استحسنوا جوازها بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تبارك وتعالى : يوصيكم الله في أولادكم إلى قوله تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين
فشرع الميراث مرتبا على الوصية فدل أن الوصية جائزة وقوله سبحانه وتعالى : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض ندبنا سبحانه وتعالى إلى الإشهاد على حال الوصية فدل أنها مشروعة .
وأما السنة فما روي أن سعد بن أبي وقاص ررر كان مريضا فعاده رسول الله فقال : يا رسول الله أوصي بجميع مالي ؟ فقال : لا ، فقال : بثلثي مالي ؟ قال : لا قال : فبنصف مالي ؟ قال : لا قال : فبثلث مالي ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " الثلث والثلث كثير إنك إن ندع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " متفق عليه .
- جواز السلم : القياس يأبى جواز السلم باعتبار أن المعقود عليه معدوم عند العقد لكنه ترك بالنص وهو الرخصة الثابتة في السنة أنه : " رخص في السلم " وفي الحديث : " من أسلم فليسلم في كيل معلوم .. " الحديث
النوع الثاني : استحسان الإجماع :
وهو أن يترك العمل بمقتضى القياس لدليل الإجماع ومن أمثلة ذلك :
- الاستصناع : القياس يأبى جواز الاستصناع ؛ لأنه بيع المعدوم كالسلم بل هو أبعد جوازا من السلم لأن المسلم فيه تحتمله الذمة لأنه دين حقيقة و المستصنع عين توجد في الثاني و الأعيان لا تحتملها الذمة فكان جواز هذا العقد أبعد عن القياس عن السلم
لكنه جاز ؛ لأن الناس تعاملوه في سائر الأمصار من غير نكير فكان إجماعاً منهم على الجواز فيترك القياس .
النوع الثالث : استحسان الضرورة :
وهو أن يترك العمل بمقتضى القياس لدليل الضرورة ومن أمثلة ذلك :
- الحكم بطهارة الآبار والحياض بعدما نجست فإن القياس يأبى جوازه لأن ما يرد عليه النجاسة يتنجس بملاقاته .
لكن حكم بطهارتها للضرورة المحوجة إلى ذلك لعامة الناس فإن الحرج مدفوع بالنص .
- وكذلك جواز عقد الإجارة فإنه ثابت بخلاف القياس لحاجة الناس إلى ذلك فإن العقد على المنافع بعد وجودها لا يتحقق ؛لأنها لا تبقى زمانين فلا بد من إقامة العين المنتفع بها مقام الإجارة في حكم جواز العقد لحاجة الناس إلى ذلك .
النوع الرابع : استحسان العرف :
وهو أن يترك العمل بمقتضى القياس لدليل العرف ومن أمثلة ذلك :
- استئجار الحمام بأجرة معينة دون تحديد كمية الماء ومدة المكث فالقياس يمنع من جواز ذلك لجهالة الكمية والمدة لكنهم استحسنوا ترك هذا القياس ؛ لأن الجهالة المذكورة لا تفضي إلى المنازعة والخصومة لتعارف الناس على ذلك .
- وكذا في الشركة إذا سافر أحدهما بالمال و قد أذن له بالسفر أو قيل له اعمل برأيك أو عند إطلاق الشركة فالقياس أن لا ينفق شيئا من ذلك على نفسه أو طعامه ؛ لأن الإنفاق من مال الغير لا يجوز إلا بإذنه نصا لكن ترك القياس لاستحسان العرف فله أن ينفق من جملة المال على نفسه في الاستئجار والطعام ونحوهما من رأس المال ؛ لأن عادة التجار الإنفاق من مال الشركة و المعروف كالمشروط .
النوع الخامس : استحسان القياس الخفي :
وهو أن يترك العمل بمقتضى القياس ( الضعيف سواء كان ظاهراً أو خفياً ) لدليل القياس الخفي القوي الأثر ومن أمثلة ذلك :
يقول السرخسي في بيانه : ( ثم كل واحد منهما _ أي القياس والاستحسان _ نوعان في الحاصل فأحد نوعي القياس : ما ضعف أثره وهو ظاهر جلي ، والنوع الآخر منه ما ظهر فساده واستتر وجه صحته وأثره ، وأحد نوعي الاستحسان : ما قوي أثره وإن كان خفياً ، والثاني ما ظهر أثره وخفي وجه الفساد فيه ، وإنما يكون الترجيح بقوة الأثر لا بالظهور ولا بالخفاء لما بينا أن العلة الموجبة للعمل بها شرعا ما تكون مؤثرة وضعيف الأثر يكون ساقطا في مقابلة قوي الأثر ظاهرا كان أو خفيا ، وبيان ما يسقط اعتباره من القياس ؛ لقوة الأثر الاستحسان الذي هو القياس المستحسن في سؤر سباع الطير فالقياس فيه النجاسة اعتبارا بسؤر سباع الوحش بعلة حرمة التناول وفي الاستحسان لا يكون نجسا ؛ لأن السباع غير محرم الانتفاع بها فعرفنا أن عينها ليست بنجسة ، وإنما كانت نجاسة سؤر سباع الوحش باعتبار حرمة الأكل ؛ لأنها تشرب بلسانها وهو رطب من لعابها ولعابها يتجلب من لحمها وهذا لا يوجد في سباع الطير ؛ لأنها تأخذ الماء بمنقارها ثم تبتلعه ومنقارها عظم جاف والعظم لا يكون نجسا من الميت فكيف يكون نجسا من الحي ، وتأيد هذا بالعلة المنصوص عليها في الهرة فإن معنى البلوى يتحقق في سؤر سباع الطير لأنها تنقض من الهواء ولا يمكن صون الأواني عنها خصوصا في الصحارى وبهذا يتبين أن من ادعى أن القول بالاستحسان قول بتخصيص العلة فقد أخطأ ؛ لأن بما ذكرنا تبين أن المعنى الموجب لنجاسة سؤر سباع الوحش الرطوبة النجسة في الآلة التي تشرب بها وقد انعدم ذلك في سباع الطير فانعدم الحكم لانعدام العلة )