بسم الله الرحمن الرحيم
رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري


لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلّ اإِذَا اهْتَدَيْتُمْ

يقول المولى تبارك وتعالى في سورة المائدة
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ

ويقول المولى تبارك وتعالى في سورة السجدة
ولو شئنا لآتينا كلّ نفسٍ هداها ولكن حقّ مني القولُ لأملأنّ جهنم من الجنةٍ والناس أجمعين

البعض من الناس يفسر هاتين الآيتين على عكس معناهما, وسنأتي بتفسير موجز وجيز لمعنى كل آية كريمة بُغية فهمها الفَهم الصحيح حتى لا نستشهد بآيات بعيدة المعنى عن تأويلها الحقيقي , فنكون قد أوّلنا آيات القرآن الكريم على غير تأويلها

ففي الآية الكريمة الكريمة الأولى مثلا , هناك البعض من الناس يظنّ : أنه طالما هو على الهدى , فليس مُطالبٌ بأن يأمر بالمعروف أو ينهَ عن المنكر, ولكنّ معنى الآية يختلف كليا عن هذا الظنّ , اقرأ قوله جلّ وعلا مرة أخرى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ بأَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ

انّ شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله فسّر هذه الآية الكريمة بما يلي: إذا ضلّ انسان بعد أن أمرتموه بالمعروف، ونهيتموه عن المنكر ووقع منه ضلال، فلا يضركم ضلاله بعد ذلك شيئا؛ وإثمه إنما يعود لنفسه لأنه لم يسمع النصيحة أو يأخذ بها, أما إذا لم يأمر بالمعروف ولم ينهَ عن المنكر فتكون آية سورة العصر، انّ الانسان لفي خسر وتكون الإنسان في خسارة واقعة لأنه رأى منكراً ولم ينهَ عنه, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي أخرجه الامام مسلم رحمه الله

مَنْ رأى منكراً فليُغيّرهُ بيده, فانْ لمْ يستطعْ فبلسانه, فان لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الايمان.

وهذا الحديث الشريف يدلنا على أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض ربّاني مطالبٌ به كل من يشهد لله بالوحدانية ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة, وبالكتاب الكريم على أنه دستور الأمة, فان عجز عن التغيير باليد ينتقل الى اللسان, فيذكر العاصي بعقاب الله عزوجل, وذلك على الوجه الذي يجده مناسبا, اذ لكل شريحة من شرائح المجتمع طريقة في التخاطب, فليس خطاب الطفل كالكبير, ولا الطاعنُ بالسنّ كالشاب, فيجب أن يتوافق النصح مع طبيعة المعصية المرتكبة وطبيعة صاحبها, ان نحن وصلنا الى احتواء هذه النقطة في أسرنا, سهل علينا احتواءها في مجتمعنا الذي هو صورة مكبرة عن مجتمع الأسرة.

ولايُقصد من هذه الآية ما يقوله بعض الناس: أنه طالما أننا على الهدى والاستقامة فلا يضرنا ان أمرنا بالمعروف أو نهينا عن المنكر؛ وبمعنى آخر يظن بعض الناس طالما أنهم اهتدوا في أنفسهم فهذا يكفيهم , مع أنّ الواحد منهم قد تجده مواظبا على الصلوات الخمس وفي المسجد الا أنّ من يعولهم لا يصلون, وهذا هو الخطأ يكمن في فهمهم للحديث الشريف: كلكم راعٍ وكلكمْ مسئولٌ عنْ رعيته.. فالله سبحانه وتعالى سيسأل كل منا عن أبناءه وبناته ونساءه, فمعنى قوله عزوجل ليس أنه لا يضركم من ضلّ اذا لم تأمرون بالمعروف ولم تنهون عن المنكر, ولكن معنى قول الله جل وعلا أنه : اذا وجد مؤمن في ابنٌ أو ابنةٌ او زوجةٌ أو حتى اخٌ له في الاسلام على معصية أو ضلال أو واقع في بعض المعاصي , فعلى ذلك المؤمن أن يقدّم النصيحة للعاصي بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر , اذا هو حقا فعل ذلك ولم يفلح في نصحه, وبقي ذاك العاصي على ضلاله وغيّه وفجوره رغم كل محاولاته, عندها هذا المؤمن الناصح الأمين لأخيه تبرأ ذمته أمام الله عزوجل لأنه في هذه الحالة يكون قد عمل ما في بوسعه ولكنه لم يفلح في اقناع العاصي بالكفّ عن عصيانه, أما أن يأتي أحدنا, ويرى من يعول, او أخيه أو جاره على معصية ويلتزم الصمت من باب وأنا مالي , أو من اعتقاده بأنه قد يزعجهُ نصحه, فهنا لا تبرأ ذمة المؤمن أمام الله, بل سيُسألُ عن تقاعسه ذاك أمام الله عزوجل في يوم مقداره خمسين ألف سنة, لماذا؟ لأنّ الله عزوجل ما أرسل الرسل الا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والمؤمنون سفراء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في تبليغ رسالة الله عزوجل الى يوم القيامة, لأنه طالما أنك آمنت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا وبالقرآن اماما وكتابا, فأنت مكلّفٌ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لا يشملنا قول الله تعالى في سورة المائدة 78 -79

لُعنَ الذينَ كفروا مِنْ بني اسرائيل على لسانِ داوودَ وعيسى ابنُ مريمَ ذلك بما عصوْا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهوْنَ عنْ مُنكرٍ فعلوهُ, لبئسَ ماكانوا يفعلون

لأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم
من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار

وتكمن الخطورة في التقاعس عن آداء هذا الواجب التفريط والاعتياد على المنكر بحيث يصل الى حد فقدان السيطرة عليه كما هو يحدث هذه الأيام في مجتمعات الاسلام والتي وصلت المعصية فيه الى حد العلن, فنجد الآباء والأمهات يرونَ أبناءهم وبناتهم في غيٍّ وضلالٍ ولا يأمرونهم بمعروف أو ينهونهم عن منكر بحجة الحرية وحجة أننا في عصر يختلف عن العصور السابقة مع أنّ القرآن الكريم والهدي النبوي المبارك نزل ليصلح لكلّ زمانٍ ومكان, فالربُّ واحدٌ, والقرآنُ واحدٌ, والنبيُّ واحدٌ, والاسلام جزء لا يتجزأ بين القديم والحاضر الى قيام الساعة.

نعم هو التفريط من الآباء والأمهات في أن نشأ جيلٌ لا مباليٌ, وستسألُ الآباء والأمهات عن هذا الواجب الذي هو أمانة, والأمانة عرضها الله عزوجلّ على السموات والأرض والجبال فأبت حملها, فحملها الانسان وظلم بها, والظالم هنا اما أن يكون منافقا أو مشركاً بالله عزوجل والعياذ بالله, لأن الله عزوجل يتوب على المؤمنين المُذعنين لأمر الله عزوجل, ونسألُ الله عزوجل أن يجعلنا من هؤلاء المؤمنين انه وليُّ ذلك والقادر عليه, وهذا ما تجلى في قوله تعالى في آيتين كريمتين ختم بهما سورة الأحزاب بقوله عزوجل:

انّا عرضْنا الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ والجبالِ فأبيْنَ أنْ يحْمِلْنَها وأشفقْنَ عليها وحمَلها الانسانُ, انّهُ كانَ ظَلوماً جَهولاً * ليُعذّبَ اللهُ المنافقينَ والمنافقاتِ والمشركينَ والمشركاتٍ ويتوبَ اللهُ على المؤمنينَ والمؤمنات, وكان اللهُ غفرواً رحيماً.

اذاً, إذا لم نأمر نحن اخوة وأخوات الاسلام بالمعروف ولم ننْهَ عن المنكر فلنْ تبرأ ذممنا امام الله؟ لأنّ من شروط كمال ايمان الإنسان وكمال هدايته أن يكون هذا الانسان آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، وإذا لم يأمر بالمعروف ولم ينْهَ عن المنكر لم يكُن مهتديا ؛ ولهذا جعله الله جل وعلا من الخاسرين في الدنيا والآخرة كما في قوله تعالى في سورة العصر

وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر

يقول الامام ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه السورة العظيمة: أنّ العصر الذي أقسم الله عزوجل به هو الزمان الذي فيه حركات بني آدم من خير وشر, فأقسم الله عزوجل بذلك على أنّ الانسان في خسران وهلاك , وقد استثنى المولى تبارك وتعالى فئة من جنس الانسان عن هذا الخسران وهي: الذين آمنوا بقلوبهم, وعملوا أعمالا صالحة بجوارحهم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) , وتواصوا بالحق: وهو آداء الطاعات على أكمل وجه, وترك المحرمات, وتواصوا بالصبر: أي تحملوا المصائب والأقدار وصبروا عليها, وصبروا على أذيّةِ العباد نتيجة أمرهم اياهم بالمعروف ونهيهم اياهم عن المنكر, تماما كما صبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى كفار ومشركي قريش, وكما صبر على أذى أهل الطائف وغيرهم صلوات ربي وسلامه عليه, وكنما صبر المؤمنون على أذى المشركين وعذابهم اياهم في سبيل الله كبلال بن رباح وآل ياسر وغيرهم من الصحابة الأجلاء رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

وقال الإمام الشافعي رحمه الله في هذه السورة العظيمة
لو ما أنزل الله على خلقه حُجّةً إلا هذه السورة لكفتهم

وقد شرح ابن القيم كلام الإمام الشافعي رحمهما الله في كتابه مفتاح السعادة شرحاً وافياً، وبيّن رحمه الله أن هذه الآية مشتملة أربعة أمور عليها يقوم الدين كله وهي: الايمان , والعمل الصالح , والتواصي بالحق , والتواصي بالصبر, وقد بنيت هذه الأمور الأربعة على العلم في الدرجة الأولى , والعلم هو معرفة الحق , ولا يعلم الحق الا المؤمن , فالمؤمن وحده يعلم أنّ الله حق , وأن وعد الله حق , وأنّ رسوله صلى الله عليه وسلم حق , وأنّ الملائكة عليهم السلام حق , وأنّ النبيين صلوات الله وسلامه عليهم جميعا حق , وأنّ النار حق , وانّ الجنة حق , وانّ القبر حق نعيمه وعذابه , واذا علم المؤمن كل هذه الحقائق عليه أن يعمل بمقتضاها , فيدعو الناس الى ذلك ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر حتى وان جافاه الناس , لأنّ الأمر بالمعروف والنهي فريضة سنسأل عنها جميعا , ومن يعتقد ا،ّ الايمان بالله وحده دون عمل يكفي , لا يكون قد استوعب القرآن الكريم الذي قرن العمل الصالح في جميع آيات الايمان , ومن يتصفح القرآن الكريم يجد أنّ كل كلمة ايمان مقرونة بعمل صالح, فالعلم والعمل أمران متلازمان لا ينفصلان أبدا, وهذا المعنى تجلى قوله عزّ وجلّ وعملوا الصالحات , اي يعملوا بها ويدعون الناس اليها, ومعنى وتواصوا بالحق: اي يصبروا على العلم والعمل والتعليم, وهذه الأمور الأربعة اذا اتمها الانسان كما أمره الله تعالى يكون قد استكمل الايمان ونجا من الخسران المبين نتيجة لايمانه بذلك, ونتيجة لنصحه لغيره

لقد أقسم الله عزوجل بالعصر أي بالدهر كله, والزمن والوقت, أقسم بأن الانسان في خسارة وهلاك , الا من رحم ربي وتمسك بعرى الايمان والتزم شريعة الله عزوجل , وهم القائمون على العمل الصالح , الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.

أما عن الخسران المبين في الدنيا والآخرة فقد بيّنه الله عزوجل لنا في آيات كثيرة في القرآن الكريم نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر: كقوله تعالى في سورة خواتيم الكهف

قل هلْ نُنّبِّئكُمْ بالأخسرين أعمالا* الذين ضلّ سعيُهُمْ في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا* أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقاءه فحبطت أعمالُهُمْ فلا نقيمُ لهمْ يوم القيامة وزنا* ذلك جزاؤُهمْ جهنمُ بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هُزُواً

وهذه الآيات الكريمات تخصّ كل مَنْ عبَدَ الله على غير طريقة مرضية , أو وهو مخطىء فيها , ويكون عمله مردود وهو لا يدري يحسبُ أنه مُصيب فيه ويعتقدُ انّ عمله مقبول , ذلك انّ من يعمل اعمالا باطلة على غير شربعة مشروعة, أومرضية ومقبولة يكون من الذين يحسبون أنفسهم أنهم يحسنون صنعا, أي يعتقدون أنهم علىشيء وما هم في الحقيقة على شيء, يعتقدون بمدح الناس لهم على انهم مقبولون ومحبوبون ولكنهم عند الله عزوجل ليسوا كذلك , فالقبول من الله عزوجل وليس من الناس , فكل من عمل عملا باطلا وعلى غير شريعة الله عزوجل وعلى غير مرضاته عزوجل , وعلى غير موافقة أعماله لشرع الله عزوجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يكون يجوم حول من وصفهم الله عزوجل بالأخسرين أعمالا ما لم يصلحوا ما أفسدوه قبل الممات, وكل أمر لا يوافق الكتاب والسنة يدخل في عموم هذه الآية الكريمة, فلينظر كل منا الى عمله وطريقة معيشته, هل هي توافق الكتاب والسنة؟ فان وجد أنها لا توافق فليصحح عقيدته قبل أن ياتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة.
وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم وفي مقدمتهم سعد بن أبي وقاص أنها نزلت في الحرورية وهم فئة تدّعي الاسلام , وكانوا ينقضون عهد الله من ميثاقه , وقد سماهم سعد رضي الله عنهم بالفاسقين نسبة لقوله تعالى في سورة البقرة 26- 27
وما يُضلُّ بهِ الا الفاسقين * الذين ينقضونَ عهْدَ اللهِ من بعدِ ميثاقه, ويقطعون ما أمر الله به ,أنْ يُوصل ويفسدون في الأرض, اولئكَ همُ الخاسرون

وكثير من الناس يعتقد أنّ هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى , وهذا الاعتقاد خطأ, هي لم تنزل فيهم لسبب بسيط وهو: أنّ اليهود أساساً كذّبوا النبي صلى الله عليه وسلم , والنصارى أيضا كفروا بالجنة وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب

الآية الثانية في الخسران في الدنيا والآخرة قوله تعالى في سورة الحج 11
ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَان المبين.

والحرف هنا هو الشك والارتياب , أي ان وجد الواحد منا نفسه في بحبوحةمن العيش والصحة استقرّ على عبادته, وان أصابته محنة وابتلاء من الله عزوجل نجده وقد تولى وهجر العبادة , او توانى فيها عن ذي قبل , وقد نزلت هذه الآية الكريمة في ناس من الأعراب كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون في الاسلام , فان رجعوا الى بلادهم ووجدوا عام غيث وخصب قالوا: انّ ديننا هذا لصالح فتمسكوا به, وان وجدوا عام جدوبة وعام قحطقالوا: ما في ديننا هذا خير, ولعلّ ما حدث مع الأعراب يحدث في كل زمان ومكان, حيث نجد كثير من الناس يلجئون الى الله عزوجل رافعين أكف الضراعة والابنتهال والالتزام بشعائرهم الدينية يسألون الله قضاء لهم حاجاتهم, ومت قضيت نجدهم قد عادوا الى ماكانوا عليه, فهؤلاء والله أعلم هذه الآية تشملهم لأنها تصبُّ في نفس أسباب نزولها.

والآية الثالثة في الخسران المبين في الآخرة, من يخسر في الآخرة نفسه وماله وأهله، كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة كقول الله جل وعلا:
إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ

وهذا القول الكريم كقوله تعالى في سورة أخرى:
انَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ َخسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ

وكما نجد في سورة العصر بانّ الانسان في خسران دائم, وقد استثنى الله عزوجل أربع فئات من هذا الخسران اتصفت بصفات جليلة , وكلها تؤدي الى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين وهي في قوله تعالى
إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر

أي الذين آمنوا بأركان الإيمان التي بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم , وأوصى المؤمنون بعضهم بعضا بالحق، وهذا دليل على أن الإنسان في نفسه قد عمل الحق؛ لأنه عمل به اولا، وهذا يدل على أن هناك أمرا بالمعروف , واوصىبعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله عزوجل , والصبر على محارم الله عزوجل , والصبر على التواصي بالحق فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدعون الى الله عزوجل, ورغم أنّ التواصي بالحق والتواصي بالصبر من العمل الصالح اساسا, الا أن الله عزوجل قد خصّه بالذكر لشدة حصول الغفلة منكثير من الناس عن فعل العمل الصالح , وكما قلنا أنّ بعض الناس يظنون أنهم طالما هم أنفسهم يسرون على هدى الله عزوجل ويفعلون الصالحات أنّ هذا يكفيهم, وهذا الخلط الذي يقع فيه الكثير من الناس, ولهذا قال تعالى: وتوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر.
اذن: لا يخرج الانسان من هذه الخسارة، إلا إذا أمر بمعروف، ونهى عن منكر, كقوله تعالى
ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ, ولعلّ هذه الآية الكريمة انذار لكل من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر على أنه ليس بمهتد , وكقوله تعالى في سورة آل عمران 10 كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ

وكما روى البخاري ومسلم من حديث أبي تميم بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم

و في حديث رواه الامام الترمذي رحمه الله من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال عليه الصلاة والسلام
والذي نفسي بيده لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهُوُنَّ عن المنكر أو ليُوشكّنَّ الله عز وجل أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم

من هذه الأيات الكريمات وهذه الأحاديث الشريفة نستنتج أنه ليس من الدين بشيء من يقول عبارة "وأنا مالي" , لأننا كلنا مأمورون أن نكون دعاة الى الله عزوجل , وكلنا مأمورون بتصحيح سلوكيات الناس وأخطاءهم ابتداء من اصلاح الفرد لنفسه ومن يعول الى اصلاح المجتمع برمته, واذا صلح الفرد صلح المجتمع كله.

وأما قوله تعالى في سورة السجدة 13
ولو شئنا لآتينا كلّ نفسٍ هُداها ولكنْ حقّ مني القولُ لأملأنّ جهنم من الجنةٍ والناس أجمعين

في هذه الآية الكريمة يخبرناالله سبحانه وتعالى وهو القاهر فوق عباده بأنه لو شاء أن يجعل كل الأنفس الحية من انس وجن مؤمنة به ومطيعة له لفعل , ولكنّ الله عزوجل قدّر بأنّ تكون هناك مخلوقات قابلة للايمان وأخرى للكفر, مخلوقات يصدر منها الطاعة وأخرى يصدرُ منها العصيان , وذلك بمحض ارادتها واختيارها أي أنها مُخيّرة في ذلك وليست مُجبرة كما يدّعي البعض , فالله عزوجل أمر الانس والجن بأوامر ونهاهم عن نواهٍ , وبيّن لهم عوامل الخير وعوامل الشر وترك لهم حرية الاختيار , وهذا من عدله سبحانه وتعالى وأنه ليس بظلام للعبيد, فمن أطاع الله عزوجل فيما أمر دخل الجنة, ومن عصاه فيما عنه نهى وزجر دخل النار, تماما كقوله تعالى في سورة النازعات 37- 41:
فأما من طغى وآثرَ الحياةَ الدنيا* فانّ الجحيمَ هيّ المأْوى * وأمّا منْ قامَ مقامَ ربّهِ ونهى النفسَ عن الهوى* فانّ الجنةَ هيَ المأوى

وهذا المعنى تحقّق في أكثر من سورةٍ في القرآن الكريم

وكما قال صلى الله عليه وسلم: كلّ أمتي يدخلون الجنة الا من أبى, قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني فقد دخل الجنة, ومن عصاني فقد أبى.

وشيءٌ طبيعىٌّ من أمن بالله عزوجل وأطاعه ورسله أدخله الجنة,ومن كفر وعصى أدخله النار وذلك بعد الحسابالدقيق على ما قدموا فى دنياهم والانس والجن هم المخلوقات الحرّة المختارة

ولا يجوز أن نفهم من هذه الأية أن الله هو الذى تحكّمَ فينا وجعانا عصاة والله أراد لنا ذلك, فكيف يعذبنا على ما أقترفنا؟ هذا كلام خطأ وفيه كفر, نعم ! انّ الله خلقنا وخلق معنا الاستعداد للايمان والكفر بارادتنا, بيّن لنا طريق الخير , وبيّن لنا طريق الشر, وجعل لنا الاختيار, وهديناه النجدين * أي بيّنا للانسان طريق الخير وطريق الشر بواسطة رسلنا والكتب السماوية المنزلة عليهم.

فالانسان مسيّر في كلّ شيء , الا في أمر الطاعة والمعصية فهو مخيّر

يقول الله تعالى في مستهل التغابن : هو الذى خلقكمْ فمنكمْ كافر ومنكم مؤمنْ
وفي مستهل سورة الانسان: انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا
وفي سورة الكهف 28: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

ولو أنّ الله هدى كل نفس الى الايمان من مولدها الى مماتها, اذن فما حاجة ارسال الرسل لهداية الناس الى الخير؟ وما حاجة أوامر الطاعة أوالنهي عن المعصية؟ من هذا المنطلق نقول: انّ من يدّعي بأنّ الله عزوجل يتحكّم في هداية البشر, أو أنه سبحانه وتعالى كتب على هذا الانسان الشقاء من قبل أن يولد , يكون هذا المدّعي قد افترى على الله عزوجل, ويكون قد كفر بالقرآن الكريم القائل في سورة يس 45
ألم أعهدْ اليكُمْ يا بني آدمَ أنْ لا تعبدوا الشيطان , انهُ لكم عدُوٌّ مُبينٌ * وأنِ اعبُدوني, هذا صِراطٌ مُستقيم* ولقدْ أضلَّ منكمْ جِبِلاًّ كثيراً , أفلمْ تكونوا تعقلون

وهذه الآية صريحة وواضحة وضوح الشمس بأنّ الله عزوجل أمرنا بألا نعبد الشيطان ولكن عصبنا أمر الله عزوجل, واتبعنا الشيطان الذي ألقى بنا الى التهلكة

انّ نظام الحياة الدنيا لا يصلح له الا من يتأتى منه أن يقول : نعم وأن يقول : لا , وذلك هو الانس والجن بما منحوا من عقل وحرية واختيار , وبما جاءهم من وحى يرشد الى الصواب .

وأختم حديثي بأصدق الحديث كلام الله تعالى , والتي انْ تمعنا معناها أدركنا ما أمرنا الله به وما عنه نهانا وزجر, وأدركنا بأنّ الله ليس بظلاّم للعبيد

انّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والاحسانِ وايتاءِ ذي القُربى وينهىَ عنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبغي بعظُكُمْ لعلَّكُمْ تذكّرون



والله تعالى أعلم بغبه