بمناسبة الذكرى السابعة للاحتلال الأمريكي للعراق أنقل لكم هذه المقالة التي كتبت من قرابة عام تعليقا على جريمة من جرائم الاحتلال الأمريكي هناك.


-----

قبلَ أيَّام طيَّرت وسائل الإعلام خبرًا يُثلج صدورَ المهتمِّين بحقوق الإنسان؛ إذ أصدرت محكمةُ دولة القانون والعدل، والحريَّة والمدنيَّة، راعية الحريَّة حولَ العالَم، والمسؤولة عن إلْزام البشريَّة بمراعاة حقوق الإنسان في رُبوع الأرض مِن أقصاها إلى أقصاها، التي تُنفق الملايين والمليارات مِن أجل هذه الغاية النبيلة، وتخوض الحروبَ، وتُجيِّش الجيوش في سبيل ذلك؛ لا ريبَ أنَّكم عرفتم هذه الدولة (فهل يخفى القمر؟!) إنَّها قِبلةُ الحريَّة والمدنية، والإخاء والمساواة (أمريكا المفخمة)!!

أمَّا حكم المحكمة، فمع عظيم فرحِ عُشَّاق الحرية وحقوق الإنسان في أرجاء المعمورة به؛ إلاَّ أنَّه كان قاسيًا على المتَّهَم، بل قد يصل إلى كونه جائرًا عليه عند بعض سَدَنة حقوق الإنسان في الغرب، ولعلَّ المتَّهَم سيستأنف هذا الحُكمَ أمام محكمة أخرى.

لقد حكمتْ محكمة دولة العدل والقانون بالسجن مدى الحياة على الجُندي الأمريكي الذي اغتصب فتاةً عراقيَّة، ثم قتلها مع أختها ووالديهما، ثم قام مع زملائه بحرْق جُثثهم لإخفاء الجريمة!!

لم تحابِ المحكمةُ ولم تجامل، ولم تنظرْ إلى عِرْق ولا دِين ولا لَون - كما هي عادة سدنة الحريَّة - فالناس في دولة "الحرية والقانون" سواسيةٌ كأسنان المُشْط، فأوقعتْ بالمتهم هذا الجزاءَ العظيم، والعقابَ الأليم الذي يستحقُّه، ولم تَرْحم دُموعَه وتوسلاتِه، وأنَّه فعل هذا في ساعة"شيطان"!! ولا نظرتْ إلى أنَّ هذا المتهم "المسكين" سيُحرم مِن الحريَّة والخروج والولوج، وسيقبع في السِّجن يقضي بقية حياته في التفرُّج على التلفاز، وممارسة" كرة السَّلة" مع السُّجناء.

ولم ترحمْ توسلاتِ عائلته الذين سيُفارقهم هذا الجنديُّ، ولن يرونه إلاَّ في الزيارات، ولم تلتفتْ إلى معارضات الدِّفاع، وسعيه في تخفيف هذا الحُكم القاسي جدًّا جدًّا في حقِّ رجل ذهب إلى بلاد العالَم النامي في مَهمَّة إنسانيَّة شريفة مقدَّسة: "ضبط أسلحة الدَّمار الشامل"، التي ابتلعها العراقيُّون فلم يوجد لها أثر، أو في "محاربة الإرهابيِّين"، الذين نصب جيشُ الحريَّة العراقَ فخًّا لهم ليصطادَهم فيه، أو "تحرير العِراق من الاستبداد والفاشية"، بحسب ما أعلنه "بطريرك الحرية": بوش المُفدَّى!!

لم تلتفتْ محكمة دولة "القانون والحرية" إلى أيٍّ من هذه الاعتبارات، وجعلت أُذنًا من طين، وأخرى من عجين - كما يقول المصريُّون - بل ستُوصي أيَّ محكمة أخرى غيرها – إن استأنف الدِّفاعُ الحُكم - بهذه الشدَّة والحزم، حتى وإن أحضر الدِّفاع شهادةً طبيَّة يُثبت فيها أنَّ هذا الجنديَّ "المسكين" كان يُعاني من حالة نفسيَّة من اليأس والإحباط منتشرة بين الجنود الأمريكيِّين؛ "جنود الحريَّة وحقوق الإنسان" تدفع بعضَهم إلى قتْل نفسه أو غيره، وأنَّ مردَّ ذلك إلى السُّلوك الإرهابي الذي ينتهجه العراقيُّون الإرهابيُّون الذين ما برحوا يُفجِّرون أنفسهم في أوساط "جنود الحرية وحقوق الإنسان"، ممَّا يدعو إلى ضرورة وجود شيءٍ من "الرحمة"، و"الإنسانيَّة" في معاملة مَن يرتكب جرائم "تعذيب"، أو" قتل"، أو "اغتصاب".

ويتبنَّى هذه الاتجاهَ طائفةٌ من سدنة الحرية وحقوق الإنسان، وحُجَّتُهم: أنَّ هؤلاء الجنودَ الأمريكيِّين وإن كانوا رسلَ حرية وإخاء وحقوقٍ إنسانية، إلاَّ أنَّهم بشرٌ، وليسوا ملائكة، فلا بدَّ من أخذ هذا بعين الاعتبار، حتى لا يصل "الإسراف" في إقامة العدالة وتطبيق القانون على كلِّ أحدٍ - وإن كان جنديًّا أمريكيًّا نبيلاً يؤدِّي مهمَّةً مقدَّسة في إخراج الدول المتخلِّفة من ظلمات الاستبداد والقهر إلى نور الحُريَّة والمساواة والعدل .

لا يصلُ الإسراف إلى الجور على هؤلاء الجنود "الأبرياء"، "المخلِصون للحرية" الذين دفع الآلافُ منهم أرواحَهم رخيصةً، لا مِن أجل "بترول"، ولا " أطماع سياسية"، ولا "هيمنة عالمية"، ولا "أوامر صِهْيَونيَّة"، ولا "لحماقات أو تهوَّرات بوشيَّة"؛ بل مِن أجل عيون "الحرية"، و"حقوق الإنسان"، فقط لا غير!! وهل في الوجود مَن يدفع حياتَه رخيصة هكذا؟!

فأعلى ما سمع به الثقلانِ أنَّ أشخاصًا يدفعون أرواحَهم ثمنًا لتحرير بلادهم من المستعمرين، أو تضحية في سبيل دِينهم كما يفعله المسلمون – الإرهابيُّون! - أمَّا مِن أجل حرية الآخرين في العالَم النامي، وحقوق الإنسان المتخلِّف فحسبُ، فهذا لا يقوم به إلاَّ أبناءُ دولة الحريَّة، وحقوق الإنسان "أمريكا المفخَّمة"!!

لكن مِن المستبعَد أن تلتفت محاكمُ دولة العدل والقانون إلى وجهةِ النظر هذه، وليس هذا خوفًا من تشويه صورة "راعية الحرية وحقوق الإنسان" أمام العالَم، وظهورها بمظهر المتغاضية عن أخطاء جنودِها وبَنِيها، فدولةُ القانون والحرية لا تلتفت إلى هذا قدرَ أُنملة، بل مرادُها تحقيق العدالة مِن أجل العدالة ذاتِها، لا لأيِّ سبب آخر!!

وحكم "محكمة دولة القانون والحرية" يُعطي رسالةً واضحة، ومباشرةً إلى كلِّ جندي أمريكي تُسوِّل له نفسُه الإقدامَ على مِثل هذه الأفعال الشائنة.

نعم، لن يكون حُكمُ السِّجن مدى الحياة إلاَّ في حقِّ مَن: اغتصب امرأة، وقتل أربعة أشخاص، ثم حرَّق جُثثَهم؛ لكنْ هناك عقوباتٌ أخفُّ من ذلك في حقِّ مَن اغتصب فحسب، أو قتل أربعةَ أشخاص فما دون فحسبُ، أو اغتصب، وقتل أربعة أشخاص، لكن لم يحرِّق الجُثث، بل تركها محترمة بعدَ القتل!! فلكلِّ مَن يفعل ذلك جزاءٌ قد يصل إلى السِّجن بِضعَ سنين، مع الطرد من الخِدمة المقدَّسة في الجيش النبيل "جيش الحرية وحقوق الإنسان"!!

وأظنُّ أنَّ على بني جلدتنا في "الشرق المتخلف" من علمانيِّين وحداثيِّين ويساريِّين وتنويرين وحقوقيِّين أن يُقيموا "قداسًا حقوقيَّا" بهذه المناسبة ليعرِّفوا دُولَهم المتخلِّفة – التي تُعاني محاكمُها من المحاباة في الأقضية، أو الجَور فيها بتطبيق أحكام القِصاص والإعدام وما أشبه - كيف يكون احترامُ القانون وفرضُه على الجميع، ورعاية حقوق الإنسان في وقت واحد.

فقد جمع هذا الحُكم الصادر عن محكمة "دولة العدل والقانون والحرية" بين محاكمةِ جنديٍّ من دولة عُظمَى وتقديمه للعقاب، مع الترقِّي والتمدُّن واحترام حقوق الإنسان في محاكمته؛ إذ لم يصلِ الحُكم إلى البطش القانوني في "الشرق المتخلِّف" الذي يسمُّونَه "حكم الإعدام"!!

وليكنْ شعارُهم المرفوع "يحيا العدل"، "تحيا الحرية"، "تحيا حقوق الإنسان"، "تحيا راعية العدل والحرية وحقوق الإنسان حول العالَم"، "تحيا أمُّ الحرية"، "تحيا أُمُّنا أمريكا"!!


-------------
مقالة لأخيكم نشرتها الألوكة على هذا الرابط
http://www.alukah.net/Culture/0/6097/