بسم الله الرحمن الرحيم
وبه تعالى نستعين
قبل الكلام على معنى الأبيات ومرادها؛ يحسن التقديم بمقدمة في أصل الكلام الذي من أجله أُستشهد بالأبيات حوله؛ فأقول وبالله التوفيق:
بعد أن تكلم الشيخ ابن أبي العز رحمه الله تعالى عن الكلام على أقسام التوحيد الصحيح؛ أتبعه بالكلام حول تقسيم من قسم التوحيد إلى خلاف المعهود؛ وهم المتصوفة والباطنية الذين بدلوا وغيروا وشطحوا؛ فقال:
(... فلا يلتفت إلى قول من قسم التوحيد إلى ثلاثة أنواع؛ وجعل هذا النوع _ وهو توحيد الألوهية _ توحيد العامة، والنوع الثاني توحيد الخاصة؛ وهو الذي يثبت بالحقائق، والنوع الثالث توحيد قائم بالقدم؛ وهو توحيد خاصة الخاصة...).
فهذا هو أساس شطحهم ومخالفتهم، وهو الذي جعلهم يقعون فيما يخالف العقيدة الصحيحة التي قررها السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.
فهم جعلوا التوحيد _ وإن اختلفت بعض ألفاظهم وتعبيراتهم؛ لكنها تصب من معين منتن واحد _ ثلاثة أقسام بحسب ما قادهم إليه شطحهم هذا وتمسكم بالشيطان وحباله:
فالنوع الأول: توحيد العامة (وهو الذي يصح بالشواهد؛ والشواهد عندهم = الرسالة).
النوع الثاني: توحيد الخاصة (وهو الذي يثبت بالحقائق؛ وهو: إسقاط الأسباب الظاهرة والصعود عن منازلات العقول وعن التعلق بالشواهد).
النوع الثالث: توحيد خاصة الخاصة (وهو توحيد قائم بالقدم؛ اختصه الحق لنفسه واستحقه وألاح منه لائحاً إلى أسرار طائفة من صفوته؛ وأخرسهم عن نعته، وأعجزهم عن بثه).
وهذا التقسيم هو عين ما قسم به الإمام الهروي نفسه التوحيد في كتابه الذي ألفه في هذا الباب؛ فانظره فيه مع زيادة أيضاً في التوضيح تركناها خشية الإطالة.
فقد قال كتابه (منازل السائرين) تحت الباب الأخير: باب التوحيد:
(والتوحيد على ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: توحيد العامة الذي يصح بالشواهد. والوجه الثاني: توحيد الخاصة وهو الذي يثبت بالحقائق. والوجه الثالث: توحيد قائم بالقدم وهو توحيد خاصة الخاصة.
فأما التوحيد الأول: فهو شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؛ هذا هو التوحيد الظاهر الجلي الذي نفى الشرك الأعظم، وعليه نصبت القبلة، وبه وجبت الذمة، وبه حقنت الدماء والأموال، وانفصلت دار الإسلام من دار الكفر، وصحت به الملة للعامة؛ وإن لم يقوموا بحق الاستدلال بعد أن سلموا من الشبهة والحيرة والريبة بصدق شهادة صححها قبول القلب.
هذا توحيد العامة الذي يصح بالشواهد؛ والشواهد هي الرسالة والصنائع، يجب بالسمع، ويوجد بتبصير الحق، وينمو على مشاهدة الشواهد.
وأما التوحيد الثاني: الذي يثبت بالحقائق؛ فهو توحيد الخاصة، وهو إسقاط الأسباب الظاهرة والصعود عن منازعات العقول وعن التعلق بالشواهد؛ وهو أن لا تشهد في التوحيد دليلا ولا في التوكل سببا ولا للنجاة وسيلة، فتكون مشاهدا سبق الحق بحكمه وعلمه، ووضعه الأشياء مواضعها، وتعليقه إياها بأحايينها، وإخافة إياها في رسومها، وتحقق معرفة العلل، وتسلك سبيل إسقاط الحدث؛ هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء ويصفو في علم الجمع ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع.
وأما التوحيد الثالث: فهو توحيد اختصه الحق لنفسه، واستحقه بقدره، وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته، وأخرسهم عن نعته، وأعجزهم عن بثه، والذي يشار به إليه على ألسن المشيرين = أنه إسقاط الحدث، وإثبات القدم، على أن هذا الرمز في ذلك التوحيد علة لا يصح ذلك التوحيد إلا بإسقاطها.
هذا قطب الإشارة إليه على ألسن علماء هذا الطريق وإن زخرفوا له نعوتا، وفصلوه فصولا، فإن ذلك التوحيد تزيده العبارة خفاء، والصفة نفورا، والبسط صعوبة، وإلى هذا التوحيد شخص أهل الرياضة وأرباب الأحوال، وله قصد أهل التعظيم وإياه عني المتكلمون في عين الجمع، وعليه تصطلم الإشارات ثم لم ينطق عنه لسان ولم تشر إليه عبارة، فإن التوحيد وراء ما يشير إليه مكون، أو يتعاطاه حين، أو يقله سبب.
وقد أجبت في سالف الزمان سائلا سألني عن توحيد الصوفية بهذه القوافي الثلاث:
ما وحد الواحد من واحد***إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته ***عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ***ونعت من ينعته لأحد) انتهى
فانظر إلى هذا الكلام في هذا الباب الأخير الذي قد ذمه عليه الأئمة ذماً ليس بالهين؛ فقد أفسد كتابه كله بهذا الباب الأخير.
قال ابن القيم رحمه الله: (ولعمر الله؛ لقد كان في غنية عن هذا الباب، وعن هذه التسمية، ولقد أفسد الكتاب بذلك).
قال ابن أبي العز رحمه الله منتقداً هذا التقسيم وراداً عليه:
( فملة إبراهيم التوحيد، ودين محمد ما جاء به من عند الله قولا وعملا واعتقادا، وكلمة الإخلاص هي شهادة أن لا إله إلا الله، وفطرة الإسلام هي ما فطر الله عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له، والاستسلام له عبودية وذلا وانقيادا وإنابة، فهذا هو توحيد خاصة الخاصة الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء؛ قال تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين}.
وكل من له حس سليم، وعقل يميز به، لا يحتاج في الاستدلال إِلَى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم البتة، بل ربما يقع بسببها في شكوك وشبه يحصل له بها الحيرة والضلال والريبة، فإن التوحيد إنما ينفع إذا سلم قلب صاحبه من ذلك، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به.
ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا أنه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة؛ ينتهي إلى الفناء الذي يشمّر إليه غالب الصوفية، وهو درب خطر، يفضي إلى الإتحاد.
انظر إلى ما أنشد شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى حيث يقول:
ما وحد الواحد من واحد***إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته ***عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ***ونعت من ينعته لأحد
وإن كان قائله رحمه الله لم يرد به الإتحاد؛ لكن ذكر لفظا مجملا محتملا جذبه به الاتحادي إليه، وأقسمَ بالله جهد أيمانه أنه معه، ولو سلك الألفاظ الشرعية التي لا إجمال فيها كان أحق، مع أن المعنى الذي حام حوله لو كان مطلوبا منا لنبه الشارع عليه ودعا الناس إليه وبينه، فإن على الرسول البلاغ المبين، فأين قال الرسول: هذا توحيد العامة، وهذا توحيد الخاصة، وهذا توحيد خاصة الخاصة؟ أو ما يقرب من هذا المعنى! أو أشار إلى هذه النقول والعقول حاضرة!.
فهذا كلام الله المنزل على رسوله، وهذه سنة الرسول، وهذا كلام خير القرون بعد الرسول، وسادات العارفين من الأئمة، هل جاء ذكر الفناء فيها، وهذا التقسيم عن أحد منهم؟.
وإنما حصل هذا من زيادة الغلو في الدين، المشبه لغلو الخوارج، بل لغلو النصارى في دينهم) انتهى.
فلذلك كان هذا الأمر منهم جعلاً للحلول نهاية التحقيق والتوحيد؛ وهو أن يكون الموحدِّ هو الموحَّد؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
(حتى أن كثيراً من أكابر شيوخ المعرفة والتصوف يجعلون هذا نهاية التحقيق والتوحيد؛ وهو أن يكون الموحِّد هو الموحَّد) ثم ساق الأبيات السابقة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر راداً على كلام الهروي رحمه الله:
(أما التوحيد الأول الذي ذكره؛ فهو التوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب؛ وبه بعث الله الأولين والآخرين من الرسل.
والقرآن كله مملوء من تحقيق هذا التوحيد والدعوة إليه، وتعليق النجاة والفلاح واقتضاء السعادة في الآخرة به، ومعلوم أن الناس متفاضلون في تحقيقه، وحقيقته: إخلاص الدين كله لله، والفناء في هذا التوحيد مقرون بالبقاء؛ وهو أن تثبت إلاهية الحق في قلبك وتنفي ألاهية ما سواه، فتجمع بين النفي والإثبات؛ فتقول: لا إلا الله، فالنفي هو الفناء، والإثبات هو البقاء، وحقيقته: أن تفنى بعبادته عمن سواه، ومحبته عن محبة ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه...
وأما التوحيد الثاني الذي ذكره وسماه: توحيد الخاصة؛ فهو الفناء في توحيد الربوبية؛ وهو أن يشهد ربوبية الرب لكل ما سواه، وأنه وحده رب كل شيء ومليكه، والفناء إذا كان في توحيد الألوهية؛ وهو أن يستولي على القلب شهود معبوده وذكره ومحبته حتى لا يحس بشيء آخر.. فصاحب هذا الفناء إذا غُلِبَ في ذلك فهو معذور لعجزه عند غلبة ذكر الرب على قلبه عن شعوره بشيء آخر، كما يعذر من سمع الحق فمات،أو غشي عليه، وكما عذر موسى عليه السلام لما صعق حين تجلى ربه للجبل.
وليس هذا الحال غاية السالكين، ولا لازماً لكل سالك، ومن الناس من يظن أنه لابد لكل سالك منه؛ وليس كذلك، فنبينا صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون هم أفضل؛ وما أصاب أحدا منهم هذا الفناء، ولا صعق، ولا موت عند سماع القرآن.
ومن الناس من يجعل هذا الفناء هو الغاية التي ينتهي إليها سير العارفين، وهذا أضعف من الذي قبله... فهذا ونحوه كفر، لكن إذا زال العقل بسبب يعذر فيه الإنسان كالنوم والإغماء لم يكن مؤاخذا بما صدر عنه في حال عدم التكليف، ولا ريب أن هذا من ضعف العقل والتمييز.
وأما الفناء الذي يذكره صاحب المنازل؛ فهو الفناء في توحيد الربوبية، لا في توحيد الألوهية، وهو يثبت توحيد الربوبية مع نفي الأسباب والحكم كما قول القدرية المجبرة كالجهم بن صفوان ومن اتبعه والأشعري وغيره.
وشيخ الإسلام وإن كان رحمه الله من أشد الناس مباينة للجهمية في الصفات؛ وقد صنف كتابه (الفاروق) في الفرق بين المثبتة والمعطلة، وصنف كتاب (تكفير الجهمية)، وصنف كتاب (ذم الكلام وأهله) وزاد في هذا الباب حتى صار يوصف بالغلو في الإثبات للصفات؛ لكنه في القدر على رأي الجهمية نفاة الحكم والأسباب، والكلام في الصفات نوع؛ والكلام في القدر نوع، وهذا الفناء عنده لا يجامع البقاء،فإنه نفي لكل ما سوى حكم الرب بإرادته الشاملة التي تخصص أحد المتماثلين بلا مخصص.
وهذا الذي قالوه ممتنع عقلاً محرم شرعا، ولكن المقصود هنا بيان قولهم، ولهذا قال شيخ الإسلام في توحيدهم _ وهو التوحيد الثاني _ إنه: (إسقاط الأسباب الظاهرة)، فإن عندهم لم يخلق الله شيئا بسبب؛بل يفعل عنده لا به.
قال: (والصعود عن منازعات العقول، والتعلق بالشواهد، وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا، ولا في التوكل سببا، ولا في النجاة وسيلة)؛ وذلك لأن عندهم ليس في الوجود شيء يكون سبباً لشيء أصلا، ولا شيء جعل لأجل شيء، ولا يكون شيء بشيء.
ولهذا قال: (فيكون مشاهدا سبق الحق بحكمه وعلمه) أي: يشهد أنه علم ما سيكون وحكم به؛ أي: أراده وقضاه وكتبه، وليس عندهم شيء إ لا هذا، وكثير من أهل هذا المذهب يتركون الأسباب الدنيوية ويجعلون وجود السبب كعدمه، ومنهم قوم يتركون الأسباب الأخروية؛ فيقولون: إن سبق العلم والحكم أنا سعداء فنحن سعداء، وإن سبق أنا أشقياء فنحن أشقياء، فلا فائدة في العمل.
ومنهم من يترك الدعاء بناء على هذا الأصل الفاسد، ولا ريب أن هذا الأصل الفاسد مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة الدين، ومخالف لصريح المعقول ومخالف للحس والمشاهدة.
وقول القائل: (يسلك سبيل إسقاط الحدث) إن أراد أني أعتقد نفي حدوث شيء فهذا مكابرة وتكذيب بخلق الرب وجحد للصانع، وإن أراد أني أسقط الحدث من قلبي فلا أشهد محدثاً _ وهو مرادهم _ فهذا خلاف ما أمرت به، وخلاف الحق،بل قد أمرت أن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأشهد حدوث المحدثات بمشيئته بما خلقه من الأسباب، ولما خلقه من الحكم، وما أمرت أن لا أشهد بقلبي حدوث شيء قط.
وقول القائل: (يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل) إن أراده أنه يبقى على الوجه المأمور به بحيث يشهد أن الحق هو المحدث لكل ما سواه بما أحدثه من الأسباب ولما أراده من الحكمة؛ فهذا حق، وإن أراد أنى لا أشهد قط مخلوقا، بل لا أشهد إلا القديم فقط؛ فهذا نقص في الإيمان والتوحيد والتحقيق، وهذا من باب الجهل والضلال، وهذا إذا غلب على قلب العبد كان معذورا، أما أن يكون هذا مما أمر الله به ورسوله؛ فهذا خلاف الكتاب والسنة والإجماع.
ولما كان هذا مرادهم قال: (هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء ويصفو في علم الجمع ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع)؛ فإن المراد بالجمع: أن يشهد الأشياء كلها مجتمعة في خلق الرب ومشيئته، وأنها صادرة بإرادته، لا يرجح مثلا عن مثل، فلا يفرق بين مأمور ومحظور، وحسن وقبيح، وأولياء الله وأعدائه.
والوقوف عند هذا الجمع هو الذي أنكره الجنيد وغيره من أئمة طريق أهل الله، أهل الحق، فإنهم أمروا بالفرق الثاني؛ وهو أن يشهد مع هذا الجمع أن الرب فرق بين ما أمر به وبين ما نهى عنه، فأحب هذا وأبغض هذا، وأثاب على هذا وعاقب على هذا، فيحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويشهد الفرق في الجمع والجمع في الفرق، لا يشهد جمعا محضا ولا فرقا محضا.
وأما قوله: (ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع) فسيأتي، وهؤلاء شربوا من العين التي شرب منها نفاة القدر، فإن أولئك الذين قالوا الأمر أنف؛ قالوا إذا سبق علمه وحكمه بشيء امتنع أن يأمر بخلافه ووجب وجوده، وفي ذلك إبطال الأمر والنهي، لكن أولئك كانوا معظمين للأمر والنهي، فظنوا أن إثبات ما سبق من العلم والحكم ينافيه، فأثبتوا الشرع ونفوا القدر.
وهؤلاء اعتقدوا ذلك أيضا؛ لكن أثبتوا القدر ونفوا عمن شاهده أن يستحسن حسنة يأمر بها أو يستقبح سيئة ينهى عنها، فأثبتوا القدر وأبطلوا الشرع عمن شاهد القدر، وهذا القول أشد منافاة لدين الإسلام من قول نفاة القدر.
قال: (وأما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصه الحق لنفسه واستحقه بقدره..) إلى آخر كلامه وقد تقدم حكايته؛ فهؤلاء هم الذين أنكر عليهم أئمة الطريق كالجنيد وغيره حيث لم يفرقوا بين القديم والمحدث، وحقيقة قول هؤلاء الإتحاد والحلول الخاص من جنس قول النصارى في المسيح؛ وهو أن يكون الموحِّد هو الموحَّد ولا يوحد الله إلا الله، وكل من جعل غير الله يوحد الله فهو جاحد عندهم؛ كما قال: (ما وحد الواحد من واحد) أي: من واحد غيره، (إذ كل من وحده جاحد) فإنه على قولهم هو الموحِّد والموحَّد؛ ولهذا قال: (توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد) يعني: إذا تكلم العبد بالتوحيد وهو يرى أنه المتكلم فإنما ينطق عن نعت نفسه فيستعير ما ليس له فيتكلم به، وهذه عارية أبطلها الواحد، ولكن إذا فنى عن شهود نفسه وكان الحق هو المتكلم على لسانه حيث فنى من لم يكن وبقي من لم يزل فيكون الحق هو الناطق بنعت نفسه لا بنعت العبد، ويكون هو الموحد وهو الموحد، ولهذا قال: (توحيده إياه توحيده) أي: توحيد الحق إياه؛ أي نفسه هو توحيده هو لا توحيد المخلوقين له؛ فإنه لا يوحده عندهم مخلوق، بمعنى أنه هو الناطق بالتوحيد على لسان خاصته، ليس الناطق هو المخلوق، كما يقوله النصارى في المسيح: إن اللاهوت تكلم بلسان الناسوت.
وحقيقة الأمر: أن كل من تكلم بالتوحيد أو تصوره وهو يشهد غير الله فليس بموحد عندهم، وإذا غاب وفنى عن نفسه بالكلية فتم له مقام توحيد الفناء الذي يجذبه إلى توحيد أرباب الجمع؛ صار الحق هو الناطق المتكلم بالتوحيد، وكان هو الموحد وهو الموحد لا موحد غيره.
وحقيقة هذا القول لا يكون إلا بأن يصير الرب والعبد شيئا واحدا وهو الإتحاد؛ فيتحد اللاهوت والناسوت، كما يقول النصارى: إن المتكلم بما كان يسمع من المسيح هو الله، وعندهم أن الذين سمعوا منه هم رسل الله وهم عندهم أفضل من إبراهيم وموسى.
ثم يقال: إن أريد بهذا اللائح أن يكون الرب نفسه هو الموحد لنفسه في قلوب صفوته لاتحاده بهم أو حلوله فيهم؛ فهذا قول النصارى، وهو باطل شرعا وعقلا.
وإن أريد أنه يعرف صفوته من توحيده ومعرفته والإيمان به ما لا يعرفه غيرهم؛ فهذا حق، لكن ما قام بقلوبهم ليس هو نفس الرب الخالق تعالى؛ بل هو العلم به، ومحبته، ومعرفته، وتوحيده.
وقد يسمى المثل الأعلى، ويقال له: المثال الحبي، والمثال العلمي.
فقول القائل: (إسقاط الحدوث) إن أراد به أن المحدث عدم؛ فهذا مكابرة، وإن أراد به إسقاط المحدث من قلب العبد وأنه لم يبق في قلبه إلا القديم؛ فهذا إن أريد به ذات القديم فهو قول النسطورية من النصارى، وإن أريد به معرفته والإيمان به وتوحيده أو قيل مثله أو المثل العلمي أو نوره أو نحو ذلك؛ فهذا المعنى صحيح، فإن قلوب أهل التوحيد مملوءة بهذا لكن ليس في قلوبهم ذات الرب القديم وصفاته القائمة به.
وأما أهل الاتحاد العام فيقولون: ما في الوجود إلا الوجود القديم، وهذا قول الجهمية.
وأبو إسماعيل لم يرد هذا؛ فإنه قد صرح في غير موضع من كتبه بتكفير هؤلاء الجهمية الحلولية الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان، وإنما يشير إلى ما يختص به بعض الناس
ولهذا قال: (ألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته).
والإتحاد والحلول الخاص وقع فيه كثير من العباد والصوفية وأهل الأحوال فإنه يفجؤهم ما يعجزون عن معرفته وتضعف عقولهم عن تمييزه فيظنونه ذات الحق، وكثير منهم يظن أنه رأى الله بعينه، وفيهم من يحكي مخاطباته له ومعاتباته وذاك كله إنما هو في قلوبهم من المثال العلمي الذي في قلوبهم بحسب إيمانهم به.
وإنما المقصود هنا أن كثيرا من السالكين يرد عليه من الأحوال ما يصطلمه حتى يظن أنه هو الحق وأن الحق فيه، أو أن الحق يتكلم على لسانه، أو أنه يرى الحق أو نحو ذلك، وإنما يكون الذي يشاهدونه ويخاطبونه هو الشيطان، وفيهم من يرى عرشا عليه نور ويرى الملائكة حول العرش، ويكون ذلك الشيطان وتلك الشياطين حوله وقد جرى هذا لغير واحد) انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية باختصار.
وقال الملا علي القاري: (وأما ما أنشده شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله الأنصاري في محض التوحيد وصرف التفريد في كتابه منازل السائرين حيث قال:
ما وحد الواحد من واحد *** إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته *** عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده *** ونعت من ينعته لأحد
فليس فيه إلا أنه لا يعرف الله ما سواه؛ وحاشاه أن يريد به الاتحاد ليتشبث به الاتحادي ويقسم بالله جهد أيمانه أنه معه، وهذا دأب أهل الباطن أنهم يروجون مذهبهم بانتسابه إلى بعض أهل الحق عند الجهال ممن لا تمييز له بين الأقوال، كالشيعة ينتسبون إلى الإمام جعفر الصادق وهو بريء منهم ومتنزه عنهم عند من يعرف مقامه ويتبين له مرامه حين يسمع كلامه، وكالملحدين يتعلقون بأشعار العطار والحافظ ومير قاسم الأنوار وأمثالهم من أرباب الأسرار، وكما أن المبتدعة كلهم يستدلون على مدعائهم بالآيات القرآنية وبعض الأحاديث النبوية) انتهى
وقد تركت أضعاف أضعاف هذا من كلام الأئمة وأهل العلم في بيان هذا الكلام منه رحمه الله قديماً وحديثا، وما ذكر هو الزبدة والخلاصة والحق الذي ليس بعده قول.
فالحمد لله رب العالمين.