قال شيخ المالكية ، والملقب بمالك الصغير في الرسالة : وأنه تعالى فوق عرشه المجيدِ بذاته ، وأنه في كل مكان بعلمه
بلغ من غربة الدين ، وغربة أهلها ، وذهاب أعلامها أن بعض المتعصبة كفر إمام المالكية وشيخ المذهب ابن أبي زيد رحمه الله تعالى من أجل إثباته الفوقية لله تعالى ، وزعم أن إثبات الفوقية كفر بالله !! وأن ذلك بإجماع الأمة المحمدية
وللأسف جاء من ينتصر لابن أبي زيد ويدفع في نحر هذا الجاهل تكفيره لأئمة الإسلام وأعلام السنة والحديث ، فكان محصل دفاعه أن ابن أبي زيد ليس بكافر وإنما هو من أهل الأهواء الضلال ، ومذهب مالك عدم تكفير أهل الأهواء !!
قال البرزلي في النوازل 6 / 200 : وسئل عز الدين ما تقول في قول ابن أبي زيد :وأنه فوق عرشه المجيد بذاته ، وهو في كل مكان بعلمه ؟ هل يفهم منه القول بالجهة أم لا ؟ وهل يكفر معتقدها أم لا ؟
فأجاب : بأن ظاهر ما ذكره القول بالجهة لأنه فرق بين كونه على العرش وبين كونه مع خلقه بعلمه ، والأصح أن معتقد الجهة لا يكفر ، لأن علماء المسلمين لم يخرجوهم عن الإسلام بل حكموا لهم بالإرث من المسلمين وبالدفن في مقابرهم ، وتحريم دمائهم وأموالهم ، وإيجاب الصلاة عليهم ، وكذا سائر أرباب البدع ، لم يزل الناس يجرون عليهم أحكامهم ، وكذا سائر أحكام الإٍلام ، ولا مبالاة لمن كفرهم لمراغمته لما عليه الناس ، انتهى كلام عز الدين .
قال البرزلي : وبلغ هذا بعض من ينتسب للطلب!!! فقال : هذا كفر ، والقائل به كافر لأن من اعتقد الجهة في حق الله تعالى جل وعلا فهو كافر بإجماع ، ومن توقف في تكفيره فهو كافر ، فعورض هذا الطالب في ذلك بما وقع بين الأئمة من الاختلاف في تكفير أهل الأهواء أو ما قاله القاضي في الشفاء وغيره من جريان الخلاف في المشبهة وغيرهم ، وما ذكره ابن التلمساني في عين المسألة من الخلاف فلم يقبل شيئا من هذا ، واستدل لنقله الإجماع في المسألة بالحلولية ، وجعلها أنها في عين جواب عز الدين وإن الحلولية كفر بالإجماع .
فبالله عليك أيها السني الموحد ، أترى غربة للدين أعظم من هذه الغربة ، أفي تكفير ابن أبي زيد !؟ أم في تعداده ضمن أهل الأهواء والضلالة !!
وإذا صح لنا أن ابن أبي زيد كافر أو ضال على أقل الأحوال ، فمن المهتدي إذا ، ومن هو على الصراط المستقيم ، أتباع الغزالي أم أتباع الجويني !!! إنا لله وإنا إليه راجعون .
قال البرزلي : وأجاب بعض المفتين عن كلام هذا الطالب بما نصه : الصحيح قول الشيخ عز الدين ولا إجماع في المسألة ، وهو أن الخلاف فيها على وجه آخر وهو أن المشبهة هل عرفوا الله أم لا . الله اكبر !! إذا كان ابن أبي زيد لا يعرف ربه !! أفتعرفونه أنتم ، وههنا تسكب العبرات ، ويناح على الإسلام وغربة السنة وأهلها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله فيما أصاب أمتنا ، وحسبنا الله فيمن تطاول على ابن أبي زيد وأعلام الإسلام .
وقد صدق أبو الحسن الكرجي الشافعي رحمه الله حين ذكر عقائد الأئمة الأربعة ثم قال : إن في النقل عن هؤلاء ، إلزاما للحجة على كل من ينتحل مذهب إمام يخالفه في العقيدة ، فإن أحدهما لا محالة يضلل صاحبه أو يبدعه أويكفره ، فانتحل مذهبه مع مخالفته له في العقيدة مستنكر والله شرعا وطبعا ( مجموع ابن قاسم 4/176 )
وهذه الجملة من كلام ابن أبي زيد رحمه الله أكثر المتأخرين على تحريفها ، ونقل معناها عما أراده واضعها
فممن افتنن في التحريف الدكتور أحمد نور سيف في تحقيقه لكتاب شرح القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله لمقدمة ابن أبي زيد ، فجعل ( المجيد ) خبرا ثانيا لإن ، أو خبرا لمبتدأ محذوف تقديره : ( هو ) يعود على رب العزة جل جلاله ، ، قال والجار والمجرور متعلقان بهذا المقدر ، لا بما تعلق به الظرف أي فوق ، قال والمعنى : أن مجده وعظمته ذاتية لا مكتسبة بالعرش ولا بغيره .
كل هذا لأجل أن ينفي هذا المتكلم عن الله تعالى الفوقية التي أجمع على إثباتها أهل الإسلام ، وتواترت النقول بها عن الإمام مالك وأئمة المالكية رحمهم الله تعالى ، وصنيعه هذا له فيه سلف من الجهمية كما حرف بعضهم قول الله تعالى ( الرحمن على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الأرض ) قال : الوقف على ( الرحمن على العرش ) ثم زعم أن ههنا وقفا ، ثم قال واستأنف الله الآية بقوله ( استوى له ما في السماوات وما في الأرض ) وكل هذا لينفي الاستواء عن الكريم الرحمن جل جلاله
والجواب عنه أن يقال :
إن أعلم الناس بكلام ابن أبي زيد رحمه الله تلامذته وطلابه الذين تلقوا عنه وأخذوا العلم والدين والمذهب شفاها منه ، ودرسوا العقيدة التي كتبها على يديه ، وهؤلاء قد شرحوا عقيدة شيخهم وأستاذهم ، وأبانوا مراده رحمه الله تعالى فيما أشكل من ألفاظها ، وقد أقروا هذه الكلمة ، وأن الله تعالى ( فوق عرشه بذاته ) ومنهم :
العلامة أبو بكر محمد بن موهب المالكي توفي سنة 406 هـ ، وهو من أخص تلامذة ابن أبي زيد كما قاله القاضي عياض رحمه الله ( المدارك ترتيب المدارك 7 / 188 ) قال ابن موهب رحمه الله شارحا الرسالة : ( ثم بين أن علوه فوق عرشه إنما هو بذاته ، لأنه تعالى بائن عن جميع خلقه بلا كيف ، وهو في كل مكان بعلمه لا بذاته ، لا تحويه الأماكن وأنه أعظم منها ، وقد كان ولا مكان .... ) ، نقله عنه الحافظ الذهبي في كتاب العلو ص 264
ومنهم الإمام المقرئ المحدث الحافظ أبو عمر الطلمنكي الأندلسي ( توفي سنة 429 هـ ) الذي قال عنه الذهبي : كان من بحور العلم ، وقد أخذ عن ابن أبي زيد كما نص على ذلك الذهبي ، وقال عنه ابن بشكوال : كان سيفا مجردا على أهل الأهواء والبدع قامعا لهم ، قال رحمه الله : وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ مَعْنَى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ : أَنَّ ذَلِكَ عِلْمُهُ وَأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ بِذَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَيْفَ شَاءَ . قاله في كتاب الوصول إلى معرفة الأصول ، نقله عنه الذهبي في كتاب العلو ص 246 .
ومنهم القاضي عبد الوهاب المالكي فقد نقل الإمام أبو بكر محمد بن الحسن الحضرمي المرادي المالكي القيرواني _ ترجمته في الصلة لابن بشكوال 2 / 604 تاريخ الإسلام للذهبي وفيات 481 _ 490_ في رسالته التي سماها ( الإيماء إلى مسألة الاستواء ) أقوال الناس واختلافهم في الاستواء ، فقال : القول السادس : قول الطبري وابن أبي زيد والقاضي عبد الوهاب وجماعة من شيوخ الحديث والفقه ، وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر رضي الله عنه وأبي الحسن ، وحكاه عنه أعني القاضي أبي بكر القاضي عبد الوهاب نصا ، وهو أنه سبحانه مستو على العرش بذاته ، وأطلقوا في بعض الأماكن فوق عرشه . نلقه عن الحضرمي المرادي الإمام القرطبي في الأسنى شرح أسماء الله الحسنى ( 2 / 123 ) ، وكذا الحافظ الذهبي رحمه الله في العلو ص 261 ، وكذا شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية
والحضرمي هذا إمام من الأئمة كذا وصفه القرطبي والذهبي ، وقال أبو الحسن المقرئ : كان رجلا نبيها عالما بالفقه وإماما في أصول الدين ، وله في ذلك تصانيف حسان مفيدة ، وله حظ وافر من البلاغة والفصاحة ، وفاته سنة 489 هـ
والملاحظ في شرح القاضي لكلام ابن أبي زيد عدم الاعتراض على لفظة ابن أبي زيد
وأيضا ممن فهم من كلام ابن أبي زيد إرادة الفوقية والعلو العز بن عبد السلام كما سبق ، فقد سئل عن قول ابن أبي زيد وأنه فوق العرش المجيد بذاته ، وهو في كل مكان بعلمه ؟ فقال : ظاهر ما ذكره ابن أبي زيد القول بالجهة ، لأنه فرق بين كونه على العرش وبين كونه مع خلقه بعلمه . ( نوازل البرزلي 1/ 385 )
والعجب أن هذا الدكتور قال هذا الكلام معلقا على شرح القاضي عبدالوهاب رحمه الله على عقيدة ابن أبي زيد ، فلا هو بعقيدة صاحب الرسالة عالم ، ولا بعقيدة الشارح كذلك
والله الهادي لا هادي سواه .