قال شيخ الإسلام:
"
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ إقَامَةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسَاجِدِ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَأَجَلِّ الْقُرُبَاتِ وَمَنْ فَضَّلَ تَرْكَهَا عَلَيْهَا إيثَارًا لِلْخَلْوَةِ وَالِانْفِرَادِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجَمَاعَاتِ أَوْ جَعَلَ الدُّعَاءَ وَالصَّلَاةَ فِي الْمَشَاهِدِ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ فَقَدْ انْخَلَعَ مِنْ رِبْقَةِ الدِّينِ وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ . { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } . وَلَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهَا وَاجِبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ أَوْ عَلَى الْكِفَايَةِ أَوْ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَقِيلَ : هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَقَطْ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَيُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد . وَقِيلَ : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَجَّحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَقِيلَ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا صَلَّى مُنْفَرِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ؟ أَحَدُهُمَا لَا تَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَد ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ عَنْهُمْ وَبَعْضِ مُتَأَخِّرِيهِم ْ كَابْنِ عَقِيلٍ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ .
وَالثَّانِي تَصِحُّ مَعَ إثْمِهِ بِالتَّرْكِ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ ."
نقل شيخ الإسلام هنا موضع الاتفاق وموضع الخلاف عن الأئمة وله كلام كثير في المسألة منه:
"
مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ ؛ إمَّا فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ وَإِمَّا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . وَالْأَدِلَّةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَمْ يُوجِبْهَا فَإِنَّهُ يُذَمُّ مَنْ دَاوَمَ عَلَى تَرْكِهَا حَتَّى إنَّ مَنْ دَاوَمَ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ الَّتِي هِيَ دُونَ الْجَمَاعَةِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ عِنْدَهُمْ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فَكَيْفَ بِمَنْ يُدَاوِمُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ ؟ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَيُلَامُ عَلَى تَرْكِهَا فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ حُكْمٍ وَلَا شَهَادَةٍ وَلَا فُتْيَا مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ الَّتِي هِيَ دُونَ الْجَمَاعَةِ فَكَيْفَ بِالْجَمَاعَةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ."
فالمسألة والله أعلم من الخلاف السائع بين العلماء وأما حكاية الإجماع فهو استدلال ممن يقول بالوجوب على قوله وهو إجماع ظني في مقابل من نقل الخلاف من العلماء قال فيه شيخ الإسلام نفسه:
"
وَإِذَا نَقَلَ عَالِمُ الْإِجْمَاعِ وَنَقَلَ آخَرُ النِّزَاعَ : إمَّا نَقْلًا سُمِّيَ قَائِلُهُ ؛ وَإِمَّا نَقْلًا بِخِلَافٍ مُطْلَقًا وَلَمْ يُسَمَّ قَائِلُهُ فَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ نَقْلًا لِخِلَافٍ لَمْ يَثْبُتْ ؛ فَإِنَّهُ مُقَابِلٌ بِأَنْ يُقَالَ وَلَا يَثْبُتُ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ بَلْ نَاقِلُ الْإِجْمَاعِ نَافٍ لِلْخِلَافِ وَهَذَا مُثْبِتٌ لَهُ وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي . وَإِذَا قِيلَ : يَجُوزُ فِي نَاقِلِ النِّزَاعِ أَنْ يَكُونَ قَدْ غَلِطَ فِيمَا أَثْبَتَهُ مِنْ الْخِلَافِ : إمَّا لِضَعْفِ الْإِسْنَادِ ؛ أَوْ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ قِيلَ لَهُ : وَنَافِي النِّزَاعِ غَلَطُهُ أجوز ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ لَمْ تَبْلُغْهُ ؛ أَوْ بَلَغَتْهُ وَظَنَّ ضَعْفَ إسْنَادِهَا وَكَانَتْ صَحِيحَةً عِنْدَ غَيْرِهِ ؛ أَوْ ظَنَّ عَدَمَ الدَّلَالَةِ وَكَانَتْ دَالَّةً فَكُلُّ مَا يَجُوزُ عَلَى الْمُثْبِتِ مِنْ الْغَلَطِ يَجُوزُ عَلَى النَّافِي مَعَ زِيَادَةِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْخِلَافِ . وَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ عَامَّةُ الْخِلَافِ ؛ فَإِنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ لَا سِيَّمَا فِي أَقْوَالِ عُلَمَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ : مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ ؛ هَذِهِ دَعْوَى الْمَرِيسِيَّ وَالْأَصَمِّ ؛ وَلَكِنْ يَقُولُ : لَا أَعْلَمُ نِزَاعًا وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَذْكُرُونَ الْإِجْمَاعَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمَا يُفَسِّرُونَ مُرَادَهُمْ : بِأَنَّا لَا نَعْلَمُ نِزَاعًا وَيَقُولُونَ هَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي نَدَّعِيه . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِجْمَاعِ الَّذِي قُوبِلَ بِنَقْلِ نِزَاعٍ وَلَمْ يُثْبِتْ وَاحِدٌ
مِنْهُمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ نَقْلُ مُثْبِتِ النِّزَاعِ عَلَى نَافِيهِ وَلَا نَافِيهِ عَلَى مُثْبِتِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْضًا أَنْ يُقَدِّمَهُ عَلَى النَّصِّ وَلَا يُقَدِّمَ النَّصَّ عَلَيْهِ بَلْ يَقِفُ لِعَدَمِ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عِنْدَهُ ؛ فَإِنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ الْمُثْبِتُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يُعَارِضْهُ إجْمَاعٌ يَعْمَلُ بِهِ وَيَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إلَى مُثْبِتِ الْإِجْمَاعِ وَالنِّزَاعِ فَمَنْ عُرِفَ مِنْهُ كَثْرَةُ مَا يَدَّعِيه مِنْ الْإِجْمَاعِ وَالْأَمْرِ بِخِلَافِهِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ إثْبَاتُ إجْمَاعٍ عُلِمَ انْتِفَاؤُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ عُلِمَ مِنْهُ فِي نَقْلِ النِّزَاعِ أَنَّهُ لَا يَغْلَطُ إلَّا نَادِرًا لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عُلِمَ مِنْهُ كَثْرَةُ الْغَلَطِ . وَإِذَا تَضَافَرَ عَلَى نَقْلِ النِّزَاعِ اثْنَانِ لَمْ يَأْخُذْ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَهَذَا يَثْبُتُ بِهِ النِّزَاعُ بِخِلَافِ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ تَضَافَرَ عَلَيْهِ عَدَدٌ لَمْ يُسْتَفَدْ بِذَلِكَ إلَّا عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِالنِّزَاعِ وَهَذَا لِمَنْ أَثْبَتَ النِّزَاعَ فِي جَمْعِ الثَّلَاثِ وَمَنْ نَفَى النِّزَاعَ مَعَ أَنَّ عَامَّةَ مَنْ أَثْبَتَ النِّزَاعَ يَذْكُرُ نَقْلًا صَحِيحًا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَلَيْسَ مَعَ النَّافِي مَا يُبْطِلُهُ"انته مجموع الفتاوى 19/271.